|
المخرج البولندي تادوش كانتور ومسرح الموت
يزن البدر
مخرج مسرحي
(Yazan Bader)
الحوار المتمدن-العدد: 6339 - 2019 / 9 / 2 - 22:29
المحور:
الادب والفن
1- المخرج تادوش كانتور: في سن الخامسة والسبعين توفي المسرحي والفنان التشكيلي ومصمم السينوغراف تادوش كانتور المولود سنة 1915 ببولندا وكانت وفاته سنة 1990 نهاية شكل من أشكال التجريب في الفن عموما وفي المسرح خصوصا. فقد اعتبره النقاد الاكثر تجديدا باعتباره "يقف على النقيض من الثيمات والقوالب الثابتة لأنساق الإبداع وضد برمجة العمل الفني وضد تقسيم الفن إلى زُمر فنية سلفية". ولم يكن بلوغه درجة التجديد قفزة في مسيرته الفنية بل إنه انطلق من الطابع الرمزي الذي يجعل المتفرج جزءًا من عملية الإبداع لأن عليه تفكيك شفرة الرمز إلى الطابع التعبيري الذي وجد فيه سبيلا للتعبير المباشر دون واسطة الرمز، عن بؤس الواقع وظلامته. لذلك تتردد في عناوين مسرحياته لفظة "الموت" ترددا لافتا للنظر: "الصف الميت"، "لن أعود أبدا"، "فلْيمت الفنانون" وتُعرف هذه المسرحية أيضا بـــ"دع الفنانين يموتون"... ويرى بعض النقاد أن "تاديوش كانتور لم يؤمن إلا بالموت - الذي لم يكن الصف الميت سوى صورة فاقعة عنه- لذلك كان من الطبيعي أن يوصف يوم رحيله بأنه من أكبر المتشائمين في زماننا، وأن يقال عنه أنه برحيله في ذلك اليوم إنما حقق حلم حياته". وهو بهذا التشاؤم في أعماله لا يختلف كثيرا عن بعض التوحيديين في الثقافة العربية والثقافة الغربية مهما اختلفت طرق تعبيرهم. لقد سمى "كانتور" مسرحه مسرح الموت والحب، ولكن رغم ان حضور الموت في التسمية واضحا فإن حضور الحب المقابل له ، ليس حضور النقيض لأن الحب الحاضر في أغلب مسرحياته هو نعي لفقدان الحب، فهو بكاء على أطلال حب مفقود في عالم الإنسان المهدد بالموت في كل لحظة. فالحب بالنسبة إليه "أشبه بالموت السعيد، حبّ يكنّه للمضطهدين والمحكومين بالموت والجنود المهزومين كافة". لم تقتصر مسيرة كانتور على المسرح فقط، بل تعددت مجالات الإبداع عنده في حقول الفنون المختلفة، لكنها متواصلة ومتشابكة بحيث يشكل ذلك التعدد الابداعي بين حقول الفنون المختلفة ملمحا مهما في نسقه التجريبي. فوظف كثيرا من الفنون الأخرى في فن المسرح فكان مسرحه قائما على إيقاع متغيرات الفن الحديث وخاصة الصيغ التشكيلية الجديدة للأشكال المسرحية غير التقليدية التي ابتدعها فنانو البصريات والبوب آرت. فهذا التنوع والتناقض يجعل من كلية الوحدة المشهدية وحدة كولاجية اصطلح عليها بالواقعة (الهابننغ). وقد أراد من خلالها كسر الحدود الفاصلة بين واقع الحياة والممارسة الفنية، ليجعل من وقائع اللحظة في الحياة وهو الحدث، حدثا جماليا. لذلك يرى بعض النقاد أن مسرحه يقودنا "بعيدا عن المسرح الدرامي فهو كون ثري من أشكال الفن ما بين المسرح والحدوث والأداء والتصوير والنحت وفن الأشياء وفن الفضاء وأخيرا وليس آخرا التأمل المستمر في النصوص النظرية والكتابات الشعرية والمانيفستو". ولكن ولعه بالعرض وتداخل الفنون فيه لغاية تجريبية، لم يلغ قيمة النص المسرحي. ف كانتور يتعامل مع النص لاستكشاف فضائه الدرامي وتظهر لحظة التوتر الدرامي جلية، لذلك يقول "ليس علينا أن نترجم النص الأدبي، ليس علينا أن نتقاطع معه، الوسيلة الوحيدة هي استخراج التوتر الدرامي منه". وفي هذه المهمة راوح "كانتور" بين الممثل الشخصية والممثل الدمية وهو ما سنراه في قسم الإشكالية من هذا البحث. أما بالنسبة للديكور والإعدادات المسرحية فيتجه "كانتور" باتجاه المسرح الفقير، فهو "قد لفظ منذ البداية مفهوم مصطلح الديكور الذي يُعَدُّ نوعا من الصور التوضيحية للعمل المسرحي، وبالتحديد ترجمة للنص المسرحي، الذي يعد بدوره من أسوأ تقاليد المسرح"، وكذلك فعل كانتور مع الزي المسرحي فقد أخرجه من المحاكاة. فالزي المسرحي عنده لا يجسد جسد الشخصية، بل يشوهه ويكسبه طابع الغرابة واللامألوفية، فيتجه في أزيائه نحو "ذلك الاتجاه الذي يتخلق فيه شكل الأزياء، فتكون ذاتها بذاتها عبر الاستخدام، عندما يلفها القدم فتأتي أزياؤه ملابس عسكرية بالية من مخلفات الحرب او مخلفات الحضارة الصناعية". وعلى النقيض من ذلك كانت الإضاءة والموسيقى والمؤثرات الصوتية عند "كانتور" متأثرة بموقفه السلبي من الإيهام بالواقع، وكذلك افتقار المسرح إلى الآليات، اضطر كانتور إلى الاختزال. فجاءت الإضاءة كاشفة لا إيهامية، محايدة، تحدد اشتغالها بثنائية الظل والضوء، وكانت الموسيقى والمؤثرات الصوتية في الغالب إيقاعية بالطرق على المواد من قبل الممثلين، أو بأصواتهم أو بسحب المواد أو الاهتزاز أو غير ذلك. 2- إشكالية من مسرح "كانتور": الممثل الدمية والممثل الإنسان وعلاقتهما بمسرح الموت عند "كانتور" ان الأداء القريب من اللاأداء كما يسميه "كانتور" يجعل الممثل جزءا لا يزيد قيمة عن باقي عناصر العرض، ثم هو قد انتزع دور البطولة الذي كان منسوبا للممثل، ليوزعه بالتساوي على الأشياء والممثلين. ومن هذا المنطلق، يمكن أن نقول إنَّ تشييء الممثل (بمعنى جعله شيئا) هي محكومة بمشيئة المخرج واختياره، فهي عملية مقصودة تطرح منذ البدء تساؤلا إشكاليا: هل اختيار الممثل الدمية وارتباطه بالممثل الشخصية له علاقةٌ بما سماه "كانتور" نفسه "مسرح الموت والحب"؟ لعل السبيل لمعالجة هذه الإشكالية، هي الانطلاق من الممثل الشخصية والممثل الدمية لنرى تجلياتهما على مسرح "كانتور"، لم يكن للممثلين في مسرح "كانتور" دور كبير في أن يكون لهم تصور جاهز وأداء جاهز مسبق فقد تعامل مع ممثلين هواة جعلهم أشبه بــ"دمية الماريونيت" عند "كريج" حيث يتحول الممثل إلى "مانيكان"، فكانتور هو الذي يعلم الممثلين و"يشكلهم وفق ما يرى هو، إنهم مجرد منفذين" ، فيكونون بذواتهم محمولات فكرية وجمالية "بعيدا عن الأداء الذاتي للشخصيات، بل إنه يخضع لأسلوب يتسم بطابعه الذي يقف بالمرصاد ضد الواقعية". فـ"الممثلون الآدميون الضعفاء يصبحون جزءا من بنية خشبة المسرح الكاملة". وهذا المزج الذي اختاره "كانتور" مستوحى من اطلاعاته المسرحية ومشاهداته، فيعلق بنفسه على مسرح كريكوت الذي يراه مكونا من "مسارين متوازيين هما: هنا، النص المصفى من بنية الحكي المصطنعة، وهناك، مسار الحدث المشهدي المستقل للمسرح النقي". إن أداء الممثل عند "كانتور" هو مقاربة ذاتيه للحدث تتحول إلى ما يسميه "حالة اللاأداء"، فيكون العرض المسرحي عندها "في مرحلة تدمير تقليدية الممثل وطرق أدائه المصطنع، واختفاء مشاعره المبالغ فيها، للوصول إلى الحد الأقصى من حذف الأفعال الزائدة، والأحداث عديمة القيمة". ويمكن أن نفهم هذا التوجه أكثر، إذا علمنا أن مبدأ العرض المسرحي عند كانتور هو عبارة عن تجميعات مختارة من المواد الواقعية، فيكون الواقع "مجموعة من المواد الجاهزة تأتي من هذا الواقع، وهي ليست بالنسبة للفنان منفذة أو جاهزة، وإنما هي متواجدة أو مختارة". وعلى هذا الأساس لا تكون البطولة في أعمال "كانتور" بطولةَ الممثل بل من خصائص مسرحه: "إضفاء البطولة على أشياء ومواد الحدث المشهدي بوجه عام، فالخشب والحديد والقماش والكتب والأدوية والأشياء المثيرة للاهتمام تكتسب صفة واحدة ملمسية مميزة" وتشترك مع الممثل لتكون عناصر العرض كلها هي عناصر البطولة. اعتمد "كانتور" في مسرحه على الممثل الدمية ووظفه توظيفا دلاليا يخدم المعنى حيث اشتهرت مسرحياته "بتماثيل المانيكان الأقرب إلى الحجم الطبيعي التي يحملها الممثلون معهم" وليست الدمى مجرد ديكور يعتمده المخرج بل هي تصور ورؤية في الوجود. فـــ "بالنسبة لكانتور تشبه هذه التماثيل هوية الإنسان الأولى المنسية "أنا الذاكرة" الخاصة به التي يظل يحملها معه". هي إذن جزء من العملية الإبداعية تعكس رؤية وهي لا تختلف في شيء عن الممثل الشخصية من حيث الوظيفة والقيمة في العرض، "لكنَّ أهميتها تتجاوز هذا، فقد تحولت خشبة المسرح في نوع من التبادل بين الكائنات البشرية (التي تمثل في أغلب الأحيان مثل الدمى) والدمى الميتة (التي تبدو كما لو كان الأطفال يحركونها". إن حضور الممثل الدمية والممثل الشخصية في مسرح "كانتور" يمثل تواصلا بين عالم الموت وعالم الحياة، وإذا ما أضفنا إلى هذا الاحتمال فكرة حضور ألفاظ الموت في أغلب مسرحياته، ربما انتهينا إلى استنتاج أكثر وضوحا وهو أن "كانتور" كان واعيا بهزيمة الإنسان في هذا الكون وأنه ليس إلا "مفعولا به"، لذلك نراه كثيرا ما يُنهي مسرحياته إلى الهزيمة وهي في نهاية المطاف ليست هزيمة الدراما على الركح بل هزيمة الإنسان في هذا العالم الموحِش المؤلم، الذي يعيشه الكائن الحي مترقبا لحظة الموت، لأنه يمكننا تجنب الحياة ولكن لا يمكننا أن نتجنب الموت. وفي هذا الصدد، يقول الكاتب النرويجي إبسن "إذا كان الموت راصدا فالطمأنينة حمق". بقي أنه لا بد من الإشارة إلى أن حضور الممثل الدمية والممثل الشخصية عند "كانتور" ليس إنكارا لدور الممثل أو استنقاصا من قيمته بقدر ما كان تمثيلا لرؤية في الوجود تقوم على أنَّ البعد الفاني في الإنسان هو سبب مأساته. فالإنسان عند الموت مادة جماد وهي الحالة الأكثر طبيعية في تصور "كانتور" لذلك كانت عملية "التشييء" التي تحدثنا عنها شكلا من أشكال التأكيد على مقولة الفناء التي تترصد النفس البشرية وتأكيدا أيضا على شبح الموت الذي أفسد على "كانتور" حياته كما يقول النقاد، حتى اعتبره البعض متشائما بامتياز في كل أعماله المسرحية، وقد أرجع بعض النقاد هذا التشاؤم إلى الطفولة التي عاشها "كانتور" فهو من مواليد 1915 أي زمن الحرب العالمية الأولى. وحين شب، وجد نفسه في الحرب العالمية الثانية وهما حربان كفيلتان بأن تنشئا عند الإنسان خوفا من الآخر، خوفا من مجهول، خوفا من لحظة الموت المفاجئة، ولعل الرجوع إلى أدبيات تلك الفترة يمكننا عدم تجاهل هذا العامل. فقد ظهرت كتابات تشاؤمية أثناء تلك الفترة وبعدها، وقد تشكل هذا التشاؤم في الأعمال الفنية من خلال ما سماه "كانتور" مسرح الموت والحب" لكن لم يكن الحب سوى الوجه الآخر، لأنه الحب المفقود في زمن ضياع إنسانية الإنسان بصفة عامة، وخاصة في بولندا التي شهدت صراعا داميا مقيتا بين الإرث الكاثوليكي والوافد الاشتراكي الجديد في القرن العشرين.
#يزن_البدر (هاشتاغ)
Yazan_Bader#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مكانة اللغة العربية وفرص العمل بها في العالم..
-
اختيار فيلم فلسطيني بالقائمة الطويلة لترشيحات جوائز الأوسكار
...
-
كيف تحافظ العائلات المغتربة على اللغة العربية لأبنائها في بل
...
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
الإبداع القصصي بين كتابة الواقع، وواقع الكتابة، نماذج قصصية
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|