إدريس لكريني
كاتب وباحث جامعي
(Driss Lagrini)
الحوار المتمدن-العدد: 1550 - 2006 / 5 / 14 - 07:09
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
كان اندلاع الحرب العالمية الثانية بمثابة مؤشر قوي على فشل عصبة الأمم, ولذلك كان الأمل معقودا على منظمة الأمم المتحدة التي تأسست في أعقاب خروج العالم مثقلا بتداعيات الدمار التي خلفتها هذه الحرب, لتسهم بشكل كبير في تجنيب الإنسانية ويلات الحروب والنزاعات.
وإذا كانت هذه المنظمة قد حاولت الاستفادة من هفوات الماضي, وعملت جاهدة ومنذ تأسيسها التركيز على جانب المحافظة على السلم والأمن الدوليين كأسمى وأهم أهدافها، فإنها اصطدمت في سبيل تحقيق ذلك بالعديد من الإكراهات والمعيقات الأمر الذي أضحت معه بحاجة إلى إصلاح شامل.
ففي عالم خلفت فيه الحروب – خاصة الحربين العالميتين الأولى والثانية - خسائر جسيمة في الأرواح والطبيعة والمعمار..، جعلت هذه الهيئة من حفظ السلم والأمن الدوليين أهم مرتكز لوجودها (الفقرة الأولى من المادة الأولى للميثاق). ومن أجل تحقيق هذا المطلب العالمي الملح, نهجت – وبناء على ميثاقها- مسلكين, الأول: ذو طابع وقائي ويتلخص في العمل على منع الأسباب المهددة للسلم والأمن الدوليين، وتوفير المناخ الدولي الملائم والمناسب لخلق علاقات دولية ودية, يطبعها التعاون والإخاء و"جعل هذه الهيئة مرجعا لتنسيق أعمال الأمم وتوجيهها نحو إدراك هذه الغايات المشتركة" ( الفقرة الرابعة من المادة الأولى من الميثاق)، وتبني مجموعة من المبادئ التي ألزمت بها المنظمة نفسها وأعضاء المجتمع الدولي (المادة الثانية من الميثاق الأممي) من قبيل: المساواة في السيادة بين الدول وتنفيذ الالتزامات الدولية بحسن نية وفض النزاعات بوسائل سلمية وعدم التهديد باستخدام القوة أو استخدامها فعلا في العلاقات الدولية وتقديم العون للأمم المتحدة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول.
والثاني: ذو طابع علاجي، ويتلخص في تدخل المنظمة بأجهزتها (الجمعية العامة، محكمة العدل الدولية، مجلس الأمن، الأمانة العامة) في حل المنازعات القائمة بشكل سلمي أو بشكل زجري بواسطة المجلس.
غير أن ظروف الحرب الباردة ألقت بظلالها عل هذه المنظمة, حيث انتقل الصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي إلى داخل هذه المنظمة وبخاصة على مستوى استعمال حق الاعتراض بصورة مكثفة من طرف الجانبين, الأمر الذي منعها من تحمل مسؤولياتها المرتبطة بحفظ السلم والأمن الدوليين بالشكل الذي جعل العديد من المنازعات والقضايا تدار خارج هذه المنظمة, وهو الأمر الذي أفرز عدة أزمات خطيرة كادت في مجملها أن تعصف بالأمن والسلم الدوليين وتدخل العالم في متاهات حرب نووية مدمرة.
ورغم ما بذلته هذه المنظمة من جهود وبخاصة على مستوى تفعيل دور الجمعية العامة في حفظ السلم والأمن الدوليين بعد صدور قرار الاتحاد من أجل السلم الذي مكنها من تولي مسؤوليات المجلس في حالة حؤول استعمال حق الاعتراض دون قيامه بواجباته المرتبطة بحفظ السلم والأمن الدوليين رغم وجود حالة تستدعي التدخل, وكذلك من خلال عمليات الأمم المتحدة لحفظ السلم, فإن هذه الجهود ظلت محدودة وهزيلة مقارنة مع حجم التحديات والمخاطر التي واجهت المجتمع الدولي بشماله وجنوبه.
ولذلك فعندما انهار الاتحاد السوفييتي وانتهت الحرب الباردة وما تلاه من تبشير ب"نظام دولي جديد", ساد اعتقاد قوي بلغ حد اليقين بأن زوال المتغيرات ستسهم بشكل كبير في تفعيل العديد من بنود الميثاق الأممي التي ظلت معطلة زهاء نصف قرن, وستنعكس إيجابا على أداء هذه المنظمة باتجاه مقاربتها للقضايا والأزمات الدولية بشكل أكثر عدالة وفعالية.
غير أن الممارسة الدولية في هذا الشأن أثبتت بما لا مجال للشك فيه أن تفعيل الأمم المتحدة جاء بشكل منحرف وفي مواجهة الضعفاء فقط,, فالولايات المتحدة التي استفادت كثيرا من غياب الاتحاد السوفييتي عن الساحة الدولية, احتكرت اتخاذ القرارات الحاسمة في هذه المنظمة, بل ووجهتها بالشكل الذي بدت معه آلية من آليات تنفيذ السياسة الخارجية الأمريكية.
فمجلس الأمن الذي اعتبره الميثاق الأممي المسؤول الرئيسي عن حفظ السلم والأمن الدولي تحول بفعل هذه الهيمنة إلى وسيلة لترهيب الشعوب والاعتداء على الدول التي لا تساير المصالح الأمريكية.
ولنا في المنطقة العربية نموذجا حيا وصارخا لهذه الممارسات: فالقضية الفلسطينية التي طرحت أمام هذه المنظمة منذ تأسيسها وعلى الرغم من الترسانة القانونية المهمة التي صدرت بصددها, إلا أنها ظلت دون قيمة بفعل التواطؤ الأمريكي مع إسرائيل وجعل الفيتو الأمريكي وسيلة لحماية هذه الدولة المعتدية حتى من التنديد بممارساتها اليومية في مواجهة الفلسطينيين. وفي حرب الخليج الثانية التي تحركت فيها المنظمة بشكل غير معهود, تبين أن قرارات المجلس تجاوزت المشروعية الدولية بعدما تحول دور العقوبات من إخراج العراق من الكويت إلى تدمير دولة وتجويع شعب بكامله.
وفي قضية لوكربي تبين الأزمة لم تكن سوى وسيلة لتصفية الولايات المتحدة لحساباتها مع النظام الليبي, حيث حولها مجلس الأمن من قضية قانونية إلى سياسية توارت معها كل الضوابط القانونية, وفي أزمة الصومال التي تمخضت عن انهيار مؤسسات الدولة وما تلاها من تدخل للأمم المتحدة في هذا البلد العربي باسم إعادة الأمل وتقديم المساعدات الإنسانية للشعب الصومالي, تورطت قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام التي كانت تتشكل في غالبيتها من القوات الأمريكية في الصراع بشكل مفضوح, بالشكل الذي أسهم في تأجيج الصراع بين مختلف الفصائل الصومالية.
وفي العدوان الأمريكي الأخير على العراق ظهر مدى الارتباك والضعف الذي وصلت له هذه المنظمة بحيث لم تستطع الحؤول دون حدوث هذا الغزو, بل ولم تستطع حتى إدانته فيما بعد.
وفي مقابل ذلك أصدرت القرار 1551 الذي يدعو إلى سحب القوات الأجنبية "السورية" من لبنان, رغم عدم إبداء هذا البلد رسميا لانزعاجه من هذا التواجد ورغم أن ذلك يتناقض ومبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول المنصوص عليه في ميثاق هذه المنظمة..
ولعل هذه الوضعية المأساوية التي وصلت إليها هذه المنظمة في السنوات الأخيرة تذكر بالوضعية التي عاشتها عصبة الأمم في نهاية الثلاثينيات من القرن المنصرم.
حقيقة أن المجتمع الدولي استفاد في الماضي من المحطات والأزمات الدولية دروسا جعلته يبتدع ويطور وسائل جديدة لحفظ السلم (تأسيس عصبة الأمم عقب نهاية الحرب العالمية الأولى, وتأسيس الأمم المتحدة عقب نهاية الحرب العالمية الثانية) غير أنه لم يستفد قط من المحطات الدولية الحاسمة التي مر بها في السنوات الأخيرة: انهيار الاتحاد السوفييتي, حرب الخليج الثانية, احتلال العراق.. بالشكل الذي جعل الأمم المتحدة بعيدة كل البعد عن التفاعل مع محيطها والاستجابة للتحديات والمخاطر التي تفرضها للمرحلة.
فتشكيلة المجلس(العضوية الدائمة وحق الفيتو) لازالت تعكس موازين القوى عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية أكثر منها توازنات اليوم وبخاصة بعد ظهور أقطاب دولية جديدة كاليابان وألمانيا والهند..وتزايد أعضاء المنظمة بشكل لافت..
ولازالت هذه المنظمة تفتقد لإرادة مستقلة عن إرادة القوى الدولية الكبرى بالشكل الذي يشكك في صفتها الدولية وفي مصداقيتها.
إن الأمم المتحدة وبالنظر إلى التحديات الدولية المشتركة والوضعية المزرية التي وصلت إليها, تظل بحاجة إلى إصلاح فعال يترجم مصلحة العالم بشماله وجنوبه بالشكل الذي يجعل منها منظمة لحفظ السلم والأمن الدوليين بالفعل.
ولذلك نرى لزاما تعديل الميثاق باتجاه عقلنة استعمال حق الاعتراض أو إلغائه، ثم فتح العضوية الدائمة أمام فاعلين دوليين جدد في إطار من التمثيل القاري العادل, ثم خلق توازن بين جميع أجهزة المنظمة وإعمال رقابة على نشاط المجلس من قبل محكمة العدل الدولية والجمعية العامة مع إشراك هذه الأخيرة بشكل فاعل في كل الإجراءات المرتبطة بحفظ السلم والأمن الدوليين في صورتها الزجرية والودية ومنح محكمة العدل الدولية ولاية جبرية ومنح قراراتها الصفة الإلزامية.
هذا مع تشكيل جيش تابع للمنظمة مع تزويده بكافة الإمكانيات المالية والتقنية والعسكرية للقيام بمهامه على أحسن وجه.
والحقيقة أن هذه المنظمة إذا لم تسارع في إصلاح نفسها في هذه الظرفية الدولية المتميزة سيكون مصيرها الانهيار حتما مثلما حدث لعصبة الأمم.
#إدريس_لكريني (هاشتاغ)
Driss_Lagrini#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟