|
العود الأبدي ديانة مشركة وميتافيزيقا مادية ؟بعض التساؤلات حول قراءة كارل لوفيث وقانون العود الأبدي
الحسن علاج
الحوار المتمدن-العدد: 6327 - 2019 / 8 / 21 - 16:38
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
العود الأبـــــــــدي ديانة مشركة وميتافيزيقا مادية ؟ بعض التساؤلات حول قراءة كارل لوفيث للعود الأبدي
تنظيم الفكر النيتشوي بحسب كارل لوفيث وقانون العود الأبدي باتريك فوتلينغ ترجمة : الحسن علاج لعل ما يميز كارل لوفيث Karl Lovith) ( ، من بين قراء نيتشه ، هو أنه يعتبر واحدا من الشراح القلائل ، الذين انشغلوا تحديدا بتماسك التفكير النيتشوي ، والتساؤل حول صيغة التنظيم الداخلي لفكره . إن أحد الأفضال الكبرى لعمله ، يرتبط بالتأكيد برفض مزدوج : رفض الانصياع للرغبة المألوفة جدا لمقاربة المتن النيتشوي ، اعتمادا على شبكة قراءة مشكلة مُقدما ، كانت ستفرض عليه ، على وجه الاحتمال ، عقلنة خارجية ؛ على أنه أيضا رفض التقيد بمماثلة الحكمي بالحماسي ، وحتى بالمفكك ، ومن ثم فكرة نسق ، وحتى بالمفكك ومن ثم فكرة نسق من جوامع الكلم الذي ينبري لوفيث بالدفاع عنه . ففي هذا المجال يعتبر بالنسبة إلينا مجالا غاية في الخصوبة ، بغاية إقامة حوار معه . وبالفعل فإن المطالبة بالتماسك أشد ما تكون حاضرة لدى نيتشه ، ثم إن نقد أشكال التنظيم العام ، التي تمت ممارستها بشكل أكثر شيوعا من قبل التقليد الفلسفي ، لا تعني إطلاقا المنافحة عن المفكك . الأصالة الثانية لكارل لوفيث ترتبط بمحاولته العثور على مفتاح ذلك التماسك ، الذي نادرا ما تمت مساءلته ، ضمن الدور المركزي الذي سوف يلعبه فكر العود الأبدي ؛ وفي واقع الحال ، فإن لوفيث يرجع الوظيفة ال" مُوحِّدة " وحتى الشبه نسقية لتفكير نيتشه ، إلى " فكر الأفكار" : مما لا جدال فيه أن كتاباته تتكون من أقوال مأثورة aphorisme) ( متطورة إجمالا ، فهو يملك مشاريع إجمالية ، تضم كل الشذرات ، وهذا بالضبط لأنها تطمح ثم إن التأويل النسقي وحقيقة حتى العدول عنه : مذهب العود الأبدي . ففي مذهب العود الأبدي ـ تجربته النهائية ـ فقط ، تمكن مجموع تلاحق تجاربه من الانصهار ، عبر منطق نسق ، في " مذهب " 1 ". إذا كان مذهب العود الأبدي يبنين ، كما يقر لوفيث بذلك ، بدقة مجموع فكر نيتشه ، ومع ذلك ، فإن ذلك المذهب المبنين ، يطرح للشارح مشكلة عويصة للتنظيم الداخلي : ترتبط الصعوبة بتعدد صيغ تقديم المذهب ، ذات طبيعة جد مختلفة في كل مرة يفقد فيها المرء الأمل بإيجاد وحدة حقيقية ، وحتى ربما شكلا للتماسك . ينبغي الاعتراف بأن كارل لوفيث ، بدون منازع ، له فضل مواجهة تلك الصعوبة دون أن يجد لها حلا ، بشكل متصنع ، عبر استبعاد غير متوقع ، على وجه التقريب ، لواحدة من تلك المسودات المنافسة . تبذل الفلسفة النيتشوية للعود الأبدي للمثيل قصارى جهدها من أجل جرد أنماط الخطاب التي يتم عبرها ، وصف أو نقل فكر العود الأبدي . وحول تلك النقطة ، أصالة جديدة ، يقترح كارل لوفيث قراءة مركبة نسبيا ، تنفصل بشكل واضح جدا عن الترجمة الشارحة التي لا يزال تفوقها يتوسع حتى الوقت الراهن . في الواقع ، في حين أن أغلبية المعلقين تعارض تقديما ذا خاصية أخلاقية ( العود الأبدي ك" فكر تهذيبي " ) بتقديم ذي ميزة علمية ( العود الأبدي كمذهب كوني ) ، يبتدئ لوفيث بتمييز الخطاب الشعري عن الخطاب النظري مثل قوى موجهة أساسية . إن التقديم الشعري للعود الأبدي هو ذلك [ التقديم ] الذي تمنحه خطابات زرادشت في هكذا تكلم زرادشت : بمعنى تقديم بواسطة المحكيات الاستعارية paraboles) ( ، لكنه ليس تقديما لشيء آخر من خلال المحكي الاستعاري . ففي هذا الخطاب ذي الوضع الأصلي ، يمتزج الكلام مع موضوعه ، الكينونة . الكينونة ذاتها تصبح كلمة verbe) ( ، وهذا يفترض بالنسبة للوفيث أن ديونيزوس هو من يتكلم من خلال نيتشه . تقود تلك القراءة لوفيث إلى المعضلة التالية : هل يعتبر نيتشه في الحقيقة تجسيدا للإله ، أو ببساطة الممثل الهزلي لمثاله 2 ؟ بمناسبة العمل الحالي ، سوف لن ننشغل بالمظهر الأول لعقيدة العود الأبدي ؛ سوف نكتفي بالإشارة إلى أن فهمها [العقيدة] يفترض توضيحا سابقا لقانون الخطاب الشعري كما يفهمه نيتشه ويمارسه ، لاسيما في هكذا تكلم زرادشت . لكن بالرغم من الوضع المتقدم الذي يخص به نيتشه هكذا تكلم زرادشت ، لابد من الإشارة إلى أنه لم يقتنع بذلك النقل من خلال الصورة ثم إنه ، إضافة إلى ذلك ، شعر بالحاجة إلى ابتكار شكل آخر لتقديم فكر الأفكار ، شكل نظري غارق في الكلاسيكية ، أو مثلما قال لوفيث " [شكل] تجريدي " . فحول ذلك التأويل الثاني لمذهب العود الأبدي سوف نجنح إليه بشكل خاص جدا . إن السمة الرئيسة للتقديم الثاني هو غياب الوحدة . وبالفعل ، فإن الخطاب النيتشوي يعتبر خطابا مزدوجا ، أو بالأحرى فهو لا يمتلك سوى وحدة ثنائية ، ومن أجل تمييز عنصري ذلك التقديم فقد استعمل كارل لوفيث الصيغ الأكثر إدهاشا لل"ديانة الملحدة " و" ميتافيزيقا مادية " : " ينبغي أن نضع على قدم المساواة أن المحكي الاستعاري للعود الأبدي هو محكي استعاري مزدوج : فمن جهة ، [محكي استعاري ] لل" جاذبية الأخلاقية " والذي من خلاله فقد وجود الإنسان أهدافه وقع على هدف فيما وراءه ؛ ومن جهة أخرى ، " عمل " علمي : الكينونة ـ بالقرب ـ من الذات l’étre – auprès – de – soi) ( ، بدون هدف ، لعالم القوى . فهو [يقدم نفسه] مثل إثبات حقيقة عالم طبيعي ـ دون أن يكون ذلك مرغوبا فيه يمثل هذه الطريقة وليس أخرى ـ عاملا على استبدال الكوزمولوجيا القديمة بالعلم الطبيعي الحديث . إن إمكانية تحليل مزدوج ، مثل ديانة ملحدة وكميتافيزيقا طبيعية ، بين بأن المذهب في شموله هو وحدة لقسمة ، تلك التي [القسمة] توجد بين الوجود العدمي للإنسان المنفصل عن الإله والمسلَّم به الوضعي للطاقة المادية 3 . " ساهم كارل لوفيث إذن ، في الإقرار بأن المرمى النهائي لنيتشه سوف يكون بلا قيد ولا شرط هو إعادة تشييد " الرؤية الماقبل سقراطية للعالم 4 " ، على أنه بفضل تلك النوعية تم إنجاز تلك المحاولة في صميم الحداثة الغربية ، بمعنى في قلب ثقافة توسم بميسم المرحلة النهائية للعدمية . ينتج عن ذلك في تصور لوفيث نتيجتان سوف تفسران إخفاق نيتشه الذي لا مفر منه . بالإضافة إلى ذلك فإن ذلك التشييد ( للرؤية ما قبل السقراطية ) هو إحياء : ففيما يخص الإنسان ، فهو يسعى إلى مقاومة تقويض معنى الوجود ، فقدان معناه الناتج عن انهيار المسيحية وموت الإله . وفيما يخص ال" كوسموس " ، فإن تلك الرؤية الماقبل سقراطية للعود الأبدي تم " تحديثها " من قبل نيتشه ، بحسب عبارات كارل لوفيث : وبهذا المعنى فهي [الرؤية] تسعى إلى الارتكاز على النظرية الفيزيائية المعاصرة ، وعلى الخصوص " في بعض الشذرات ، حول مبادئ الديناميكا الحرارية . كان ينبغي حينئذ التحقق من الإخفاق المزدوج لمشروع نيتشه . إخفاق بادئ ذي بدء على مستوى كل اتجاه من اتجاهات التحليل ـ الديانة الملحدة والميتافيزيقا الطبيعية ـ : " ظل نيتشه خاضعا للعدمية وإلى النزعة الوضعية لعصره " ، أو مرة أخرى ، كما يؤكد لوفيث ذلك في صيغة مدهشة : " يظل نيتشه فيلسوفا هاويا ، والمؤسس الديني ، " كائنا مقاوما للمرض وإرادة القوة " 5 " . كما يتم تسجيل إخفاق عميق جدا على مستوى تمفصل لحظتي فكر العود الأبدي : " إن مجهوداته من أجل جمع ذينك المجالين المنفصلين ولو أنهما متماسكان في عمق جديد ـ [مجال] الكمية المعادلة لطاقة العالم الحديث ، الطبيعي ، و[مجال] الطاقة العدمية للوجود الحديث ـ ، مع ربطهما في حدود الحرية الحرة ، عبر القانون المعادل على الدوام للعالم الدائري ، فإنها تظل جهودا عديمة الفائدة . يبدو أن هذا الاختيار موفق في التركيز الشعري للمحكي الاستعاري ، في حين أنه في النقاش التجريدي فإن ذلك الكل يتوحد شعريا يتفكك إلى جزءين " . وهكذا فإن فكر العود الأبدي كان سيبدو متناقضا ، وقد ينكسر حول هذا الصراع بين الإنسان ، مع إراداته وأهدافه ، والعالم . صعوبات قراءة كارل لوفيث : الدين الملحد لنعتكف ، من الآن فصاعدا ، وتحديدا على برهنة كارل لوفيث ، وقبل كل شيء على التقديم ال"ديني " ، الذي لا يتردد كارل لوفيث في نعته بال" إنجيل الملحد " : بأي معنى يمكن الكلام عن " استبدال ملحد بدين " ؟ أولا ففي ذلك تم حدوث فقدان معنى الإنسان مع فقدان الثقة بالدين ، ومن ثم الدخول في العدمية ، واحتياج نيتشه إلى منح مركز ثقل جديد للحياة البشرية . وسوف يجعل هذا المعنى الحياة الفردية حياة أبدية ، مستبدلا الفكرة المسيحية عن الخلود . وهو ما يسوغ إذن للوفيث الحديث هنا عن الدين ، وهو حقيقة أن نيتشه يُعلِّم " ينبغي عليك " جديدة : فهو يستبدل ال" ينبغي عليك " الدينية القديمة ( [ينبغي عليك ] المسيحية ، بالنسبة للثقافة الأوروبية ) بال" ينبغي عليك " المنتمية إلى " أريد " ، تبعا لاصطلاح لوفيث . إن المظهر الديني ، أو الأخلاقي ـ الديني ، لذلك الوعظ كان يبدو بوضوح في الاقتضاء النيتشوي الذي يقارنه لوفيث بأمر جازم جديد 6 :التصرف بطريقة تجعل المرء يسعى إلى تكرار فعله لعدد لا حصر له من المرات ، أو إذا شئنا القول ، تبعا لصياغة مختلفة ، أن يعيش المرء كل لحظة بطريقة مشابهة ، تجعله يرغب على الدوام في عودته . يتعلق الأمر إذن بالنسبة لنيتشه ، بتعليم تأبيد الوجود البشري ، يصبح سريع الزوال تحت وقع فكر موت الإله . سوف يقترح نيتشه إدن غاية جديدة للحياة البشرية ، بعيدا عن كل إحالة على الإله : إن فكر العود الأبدي ، بحسب هذا المنظور ، يمتلك دلالة تاريخية ، ثم إن تلك الزمنية التي يعتنقها [فكر العود الأبدي] سوف تمسي في المجموع تناقضا مع الأبدية التي يطرحها المنظور الثاني ( التقديم ال" كوني " ) . يضاف إلى ذلك ، فإن " مبتغى" مستقبل ، ضرورة ابتكار الجديد متناقض مع فكرة مسار دائري للعالم . ليست الأبدية في المنظور ال" ديني " والإلحادي ، سوى هدف ، مبتغى ، وليست واقعة كما يفرضها المنظور الكوزمولوجي ، ففي سياق مشابه ، إن رغبة المرء في مجاوزة ذاته لم يعد لذلك أي معنى . وهو السبب الذي من أجله ، في نظر كارل لوفيث ، كان نيتشه يرغب في أن يكون هراقليط ، على أنه لم يتوصل إلى ذلك حقيقة : لأنه بذل قصارى جهده لبلوغ حكمة هيراقليط ابتداء من عالم فقد أهدافه ، عالم العدمية الحديثة : كان نيتشه يرغب في أن يكون إغريقيا ( ما بعد سقراطيا) بيد أنه سوف يظل حتما حديثا 7 . ومع ذلك فإن الجزء الأول من قراءة لوفيث يصطدم ، كما يبدو لنا ، بسلسلة صعوبات جمة، إن معاملة نيتشه مثل " مؤسس ديني " ، بحسب النص الذي سبقت الإشارة إليه ، وخاصة بالتأكيد على أن هذا المؤسس للدين يظل " كائنا مقاوما للمرض ولإرادة القوة " ، يشرح كارل لوفيث الإحالة النيتشوية إلى الدين شرحا حرفيا ، كي يرد ضده التحليل الذي يقترحه عن القس المسيحي . ثمة سلسلة نصوص لنيتشه ، والحالة هذه ، يظهر أنها تمنع مقارنة غير متوقعة جدا : " من يتكلم في تلك الصفحات ليس " نبيا " ، و لا أي واحد من أولئك الهجُن [المركبين] من المرض وإرادة القوة الذين يطلق عليهم [صفة] " مؤسسي الدين " . [...] من يتكلم في تلك الصفحات ليس متعصبا ، لا يتم "التبشير " ، لا يتم الالتزام بال"إيمان 8 . " تسلك النصوص الأخرى نفس الاتجاه ، وعلى الخصوص [نص] ما بعد الوفاة التالي : " هل أتكلم مثل أحد الأشخاص تحت وقع وحي ؟ إنكم لا تملكون إذن سوى احتقاري ولا تستمعون إلي ! ـ هل ستكونون مثل أولئك الذين لا يزالون في حاجة إلى آلهة ؟ ألا يشعر عقلكم بالتقزز بتغذية نفسه بطريقة مجانية جدا ، حقيرة جدا 9 ؟ " ثانيا ، يميل لوفيث إلى قراءة العود الأبدي في ذلك السياق المحدد كإرادة لتأبيد الشخصية الفردية : لكن نصوص نيتشه لا تسلك هذا الاتجاه : على خلاف الانشغال بالكل ، بتجانسه ووحدته المتضامنة التي تعبر عن نفسها في فكر العود الأبدي : إن ابتغاء لحظة ما ، هو حتما ابتغاء الكل ـ ومن ثم الأهمية القصوى لل" حظة الرائعة " ، وذلك بحسب صيغة [كتاب] المعرفة المرحة للبرهة المثالية التي ـ لأنه يتم الرغبة في بعثها ـ تسوغ وتنقذ كلية الوجود ، ليس فقط [إنقاذ] الحياة الفردية . تميل قراءة لوفيث ، بفضول كبير ، هنا إلى تجريد ما يعمل عليه فكر الأفكار على إعادة دمجه خلافا لذلك في كلية : التضامن السرمدي للحظات الكل . وللمرء أن يتساءل إن كان هذا التشوه لا يصدر عن الإرادة المفرطة ، لأنه من المبالغ أن نجعل من المسيحية المضادة دافعا كافيا لتفسير تحليلات نيتشه . وسوف يسعى المرء بدون أدنى أي شك إلى التساؤل ، في تلك الظروف ، إذا ما كان انتقاد المسيحية يشكل جيدا عمق إشكالية نيتشه ، أو أنها ليست مظهرا بسيطا من بين [مظاهر] أخرى لتفكيره . هام جدا : يهمل لوفيث وبشكل خاص ، كما يبدو لنا ، مظاهر راسخة للتحليل النيتشوي للأديان : بمعنى خاصيتها التربوية ، المجددة ، لها أهمية كبرى أكثر من المسألة النظرية لحقيقة عقائدها . من الأهمية بمكان والحالة هذه ، ملاحظة أن نيتشه يؤكد بالتحديد ، في هذا المنظور ، على القوة التهذيبية والإصطفائية للعود الأبدي ، التي تحمل صفة Zuchtender Gedanke) ) ـ فكر ينتج Zuchtung) ) ، يهذب ، بالمعنى الذي يعطيه نيتشه لهذه العبارة : التكوين والتحديد التدريجي لنموذج إنسان متميز ، محدد من خلال البنية الخاصة لنسقه الغريزي . سوف تكون لنا عودة لهذه المسألة قريبا جدا .
أخيرا ، فإن لوفيث ينزع إلى تجريد النمذجة لمنظور التقديم ، ثم إنه يتجاهل الحقيقة بالغة الأهمية التي لا يخصص نيتشه تحديدا امتيازا حصريا لهذا الأخير [منظور التقديم] . على خلاف ذلك تماما ، وكما يحدث ذلك في الغالب لدى نيتشه ، فإن المقارنة مع الأديان ليست سوى جزئية ، ثم إنها توجد محددة ومستبدلة بنماذج أخرى . من أجل توضيح منطق تحليله ، وفي الواقع فإن النموذج الذي يستخدمه نيتشه يعتبر نموذجا فنيا ، كما تشهد على ذلك على سبيل المثال الشذرة الأساسية 11[165] لسنة 1881 : " إننا نرغب على الدوام في إحياء عمل فني ما ! على المرء أن يشكل حياته لدرجة أن تحدوه الرغبة نفسها أمام كل جزء من أجزائه ! ذلكم هو الفكر الجوهري ! وفي النهاية فإن مذهب التكرار لكل ما وُجد سوف يتطور ، منذ توطيد المنزع إلى ابتكار شيء ما تلك العقيدة ، يتكاثر أضعافا مضاعفة مع كثير من البأس10 ! " إن السكر الفني ، الإحساس بالقوة المعززة التي يوجهها بحسب نيتشه النشاط الفني تنزع إلى تكرار التجربة . سوف يكون من العدل إذن الكلام هنا عن تحريض على العيش تبعا لمنطق الفن ، أو عن جعل الوجود جميلا ، بدلا من كرازة دينية بالمعنى الدقيق . صعوبات التقديم ال"علمي " للعود الأبدي : الميتافيزيقا الطبيعية سوف نقوم في الوقت الراهن بدراسة الجانب الآخر للعقيدة ، أعني التقديم ال"علمي " للعود الأبدي : الميتافيزيقا الطبيعية . تطرح هذه القراءة ، بادئ ذي بدء ، مشكلة جوهرية كبيرة لم يجد لوفيث ـ بشكل غير متوقع ـ لها حلا : إنها ترتبط بإسقاط القيمة المعرفية للعلم . تظل النظريات الفيزيائية تأويلات ، إنها ليست مختلفة تماما عن التأويلات الأخرى : إن الفقرات 14 أو 22 من [كتاب] ماوراء الخير والشر لا تترك مجالا للشك بهذا الموضوع . إن فكرة إثبات الفلسفة بالعلم من وجهة نظر الحقيقة تعتبر استحالة في اصطلاحات نيتشه . تلك هي الأطروحة التي يدافع عنها لوفيث . بعمق أكبر ، ثمة مشكلة شبيهة تطرح نفسها كذلك على العود الأبدي تعتبر مثل نظرية فيزيائية أو علمية ، نظرا للرفض الكلي لمفهوم المعرفة ، بناء على ذلك ، [رفض] مشروع المعرفة ذاته : وحتى فكرة معرفة موضوعية يتم رفضها من قبل نيتشه ، لا وجود ل" عَرَفَ " connaitre) ( أخرى إلا تأويلية ـ الشيء الذي يتناقض مع الفكرة السابقة ؛ ليست النظرية الفيزيائية ذاتها سوى تأويل ، بما أنها تتميز ، في قلب دنيا التأويلات ، بصرامتها الخارقة وانسجامها خارج المألوف . سوف يكون من الواضح جدا أن نتذكر هنا نهاية الفقرة 373 من المعرفة المرحة : الحقيقة موسيقى ـ بمعنى أنه لا يمكن اختزالها إلى إدراك علمي بحصر المعنى ، ردها إلى صيغ ثابتة مفروض أنها تعبير عن جوهر العالم ، حقيقته . ما يستدعي ذلك هو رفض المقاربة الفلسفية من وجهة نظر الحقيقة . ومن الصعب معرفة السبب الذي سوف يجعل نيتشه يتخلى فجأة عن موقف من مواقفه الأساسية للمنافحة عن موضوعية المعرفة العلمية . من الأفضل التذكير كذلك ، من أجل تمديد هذا البحث ، أنه لا وجود بالنسبة لنيتشه لا للكينونة ، ولا لبنية الكينونة . النصوص هنا عديدة جدا ، معروفة جدا وجذرية جدا ، إذ يتم التردد في الإشارة إليها ( " لا وجود قط لوحدات أخيرة دائمة ، ولا وجود إطلاقا للذرات ، ولا المونادات : مرة أخرى يتم أولا تبني ال" كائن " من قبلنا 11 " ؛ " لقد صممنا شروطنا الخاصة للاستبقاء ، بوصفها محمولات للكينونة بشكل عام / كما ينبغي ، من أجل الازدهار ، أن تكون راسخة في اعتقادنا ، لقد خلصنا عبر ذلك إلى أن العالم " الحقيقي " ليس كائنا 12" ؛ يتذكر المرء أيضا أن [كتاب] غسق الأوثان يلغي في فكرة الكينونة تخييلا فارغا 13 ) . باختصار ، فإن فكرة قانون الكينونة ، أو [فكرة] بنية موضوعية للكينونة لم تعد تعني شيئا بالنسبة لنيتشه . إن كل مذهب شُيِّد في ضل تلك الشروط ، الموضوعانية objectivistes) ( والأنطولوجية ، يتكشف نتاجا لتفسير يرفضه الواقع ، من وجهة نظر فيلولوجية ، مرفوض على الدوام ، بحيث يصعب إدراك كيف أن نيتشه سوف يدافع بجد عن فكرة أن العود الأبدي هو قانون الكينونة ذاته . ختاما ، نضيف بأن الفكرة المنسوبة إلى نيتشه بتجديد صيغة فكر الحقبة ما قبل السقراطية ، تعتبر غاية قصوى في الإشكالية : لا ينبغي أن ننسى بسرعة كبيرة أن نيتشه يكرر باستمرار أن تشكلا ناكصا يعتبر مستحيلا : لا يتراجع المرء إلى الوراء ( " ما لا تتم معرفته سابقا ، ما سوف ينبغي معرفته في الوقت الراهن ـ ، نكوص ، نصف استدارة في اتجاه معين ، إلى حد ما مهما يكن ، تعتبر مستحيلة تماما 14 " ) . يُلاحظ أن تلك القراءة تصطدم بعدد معين من الصعوبات العويصة ، بالرغم من مهارتها . من المحتمل أن كارل لوفيث ، المنشغل كثيرا بإبراز قيمة تماسك نيتشه ، قد فوت هنا متوالية لتنظيم فكر هذا الأخير ، [نيتشه] الذي يمتلك أهمية متميزة تمام التميز : وبالفعل فإن لوفيث يقرب المظاهر المختلفة لفكر العود الأبدي . وقد يكون من الممكن أكثر وفاء لنيتشه ، بمحاولة ربطها مع تنظيمها بطريقة متدرجة . إن نمطي التقديم " المجرد " اللذان طورهما لوفيث لا يتم وضعهما على نفس المستوى . وهو ما سوف نشير إليه في الوقت الراهن . محاولة أخرى للحل : العود الأبدي كقيمة إن غاية نيتشه ، هي بطبيعة الحال ، غاية مقاومة فعالة ضد تمدد العدمية : وفي هذا الصدد ، فإن فكره يعتبر فكرا عمليا بكامله ؛ يكون الهدف في تلك الشروط هو تحديد القيم ال"سوية" ، لقيم الصحة ، على أنه أكثر من ذلك بكثير، تعيين السبل لجعلها تصير ، واقعيا ، مثل قيم ـ وليس جعلها موضوع تفكير فقط . إذ أن مصدر العدمية ، بالنسبة لنيتشه ، يمكن تمييزه تماما : فهو يكمن في تبني منذ الأفلاطونية ـ قيم غارقة في التناقض ، في نهاية المطاف ، مع بعضها البعض ، ثم تتلاشى ، [تبني] قيم زهدية وأخلاقية تمجد احتقار الجسد ، والوضع المتميز للعقلانية ، وبالتالي فهي تناقض الواقع الذي يعتبر قابلا للتفسير مثل اللعبة التفسيرية للغرائز وحشد الغرائز : " الاعتقاد بمقولات العقل هو مبرر العدمية 15 " . هذا هو المنطق الخاص للاعتقاد ، و[منطق] الاعتقاد الأساسي الذي هو القيمة ـ الذي ليس منطق البحث عن الحقيقة على الإطلاق ، وليس منطق البحث عن الكينونة ـ التي توجه تفكير نيتشه . فضمن هذا المنظور ، [منظور] القلب الفعلي للقيم ، يندرج فكر العود الأبدي ويتخذ معنى فلسفيا . يجبرنا هذا المنظور على إعادة فحص وضع تقديمي فكر الأفكار وتمفصلاتهما . لنعد ، خلال لحظة زمنية ، إلى قراءة لوفيث ، التي سوف يعمل نيتشه بحسبها على إعادة تشييد رؤية للعالم ما قبل سقراطية : يبدو لنا أن تلك الأطروحة لا ترغب في البروز إلا من أجل نيتشه ، فقد طرح المشكل فيما يخص تكافؤ القيمة ، وليس تكرار المماثل ، إذ أنه مرة أخرى ، لا يتعلق الأمر بمذاهب بقدر ما يتعلق بقيم . وبالفعل فإن الهدف الذي يسعى وراء تحقيقه ، الفيلسوف طبيب الثقافة ، هو العمل على إحداث وضع ، وبالتالي [إحداث] اتصال بالواقع ، الذي يمتلك قيمة معادلة لقيمة الثقافة التراجيدية الإغريقية ، وفقا لمنطق ما يطلق عليه نيتشه ال"خطوط المتواقتة للثقافة 16 " . إذا كان العود الأبدي حقيقة أطروحة كونية وأنطولوجية ، فلن يكتسي مشروع نيتشه أي معنى في واقع الحال : فهو يفترض أن نيتشه يعتبر نفسه خارج دورة تكرار المتماثل ! من ناحية أخرى ، فإن تمفصل صيغتي التقديم يصبح غير معقول : بما أن الفكر المهذب والانتخابي ( " الأخلاقي " أو " الديني " ) يكمن في فرض قانون ضروري بصيغة أمرية منذ الآن يحقق ( العود الأبدي كقانون لكل واقع ) . يبدو لنا أنه ينبغي أن نضيف هنا ملاحظة قاطعة ؛ سوف تكون بالضبط ضمن الحالة التي تستنكرها الفقرة 9 من ماوراء الخير والشر بخصوص الرواقية ـ ما جدوى أن نشيد وفق المبدإ ما لا مفر منه أو ما تحقق منذ الآن حاجة لا هوادة فيها ؟ ـ : " مع افتراض أن أمرك " أن تعيش وفقا للطبيعة يعني في الأساس ، بالكاد ، " أن تعيش وفقا للحياة " ـ فكيف بكم ألا تفعلوا ذلك ؟ ماجدوى أن تطرحوا وفقا للمبدإ من تكونون وتصيرون أنتم بالضرورة 17 ؟ " وسوف تتم محاولة الاعتراض ، على أن لوفيث كان على حق جدا ، بالدفاع عن أطروحة التناقض . غير أن نيتشه اكتشف بدقة هذا التعارض ! يعيب لوفيث على نيتشه سقوطه هو نفسه في دائرة في هذا الصدد : غير أن ثمة احتمال ضعيف ، أن نفترض هنا عمى معينا للبصيرة من قبل نيتشه ، بما أنه تتم ملاحظة ذلك ، فقد قام بكل دقة بالتنظير ، من أجل التصدي له [التعارض] بكل وضوح ، التعارض الذي يسعى لوفيث إلى معاتبته عليه ! وتجدر الإشارة إلى أن نيتشه سجل تلك الملاحظة في حالة الرواقية : إن النقطة هي على غاية من الأهمية ، بالنظر إلى أن الرواقية ، بحسب نيتشه ، ترث بعض مظاهر فكر هيراقليط ، والتي هي على ، وجه التحديد ، فكرة حب قدري . إن أطروحة التناقض مثلما دافع عنها لوفيث غير مقنعة إذن . صحيح أنه ينبغي مرة أخرى ، التساؤل كيف كان ممكنا آنذاك إعادة التفكير في التنظيم العام لذلك الفكر وتقديمه . بما أن لوفيث نادرا مايلجأ إلى استعمال تلك النصوص ، صحيح أن نيتشه يستعمل أحيانا عبارة الدين ، كي يوحي بمعنى فكر العود الأبدي ( " ديانة الأديان ") . غير أن تلك العبارة تستعمل كصورة ، ولا تُفهم إلا بالإحالة عليها ، من خلال الطريقة التي يحلل نيتشه عبرها ، في آن واحد ، طبيعة كل دين . إن العديد من النصوص ، والحالة هذه ، تقدم لنا توضيحات تحديدا بخصوص هذا الموضوع ؛ سوف نشير إليها بشكل وجيز : الفقرة 61 من ماوراء الخير والشر أولا والتي تؤكد ما يلي : " إن الفيلسوف كما نفهمه نحن ، نحن العقول الحرة ـ ، مثل الإنسان متقلدا مسؤولية جسيمة جدا ، المتمتع بوعي منشغل بتطوير الإنسان في مجموعه : سوف يستخدم ذلك الفيلسوف الدين من أجل عمله للتدجين وتربية الإنسان ، كما أنه سوف يلجأ إلى استخدام شروط سياسية واقتصادية في عصره . إن التأثير الذي يمكن أن يمارس بمساعدة الديانات من وجهة نظر الانتخاب ، التدجين ، بمعنى أن ثمة على الدوام هدم وابتكار وفرض لنموذج ، يعتبر [التأثير] متعددا ومتنوعا تبعا لنوع البشر الذين يتموقعون تحت سحرها وحماستها 18 . " ثمة نص بعد الممات يعود لسنة 1885 ، يدافع عن نفس التحليل بعبارات قريبة لافتة للنظر : " تعتبر الأخلاق والأديان أداة أساسية ، تسمح بأن نفعل بالإنسان ما نشاء : بشرط أن نتوفر أولا على وفرة من القوى الخلاقة ، وأن نتمكن من إثبات إرادته المبدعة ، على فترات طويلة من الزمن ، على شكل مؤسسات قانونية وعادات 19 . " إن ما تشير إليه تلك النصوص ، هو كون أن نيتشه يميز قبل كل شيء الديانات من منظور عملي مثل أدوات التربية وتغيير الإنسان ، مظهر لبث لوفيث أمامه فاقدا للبصيرة . يسمح ذلك التحليل بموضعة فكر العود الأبدي ، بالنسبة للبنية الداخلية للمسيرة النيتشوية ، محيلة على هذه النقطة الجوهرية : إنها الإحالة على مفهوم Zuchtung) ( ( نظرية التأثيرات الانتخابية مؤثرة على الإنسان عبر تغيير نسق القيم ) ، ومعه في عموم مشروع قلب القيم ، الذي يمنح معناه للعود الأبدي ، زد على ذلك ، أن نيتشه يدعوه zuchtender Gedanke) (20، " فكر التدجين " ، فكر يحدث تربية انتخابية ، فكر سوف يؤدي بالضرورة إلى zuchtung) ( . لذلك يجب تناوله من منظور التفكير حول الفيلسوف ـ المشرع وحول قضية تربية النوع الأعلى ، أو النوع الفوإنساني . من أجل إيقاف تصاعد العدمية وإدخال تغيير على نوع الإنسان الحالي ، المهيمن في الثقافة الأوروبية ، لابد من الاشتغال على تغيير القيم ، إلى استبدال القيم سوف يسمح بتربية نوع إنسان على قيم سامية . يفترض هذا الطموح بشكل دقيق جدا ، باستبدال القيم النافية والعدمية للأفلاطونية بقيم إثبات . هذا هو ما يجعل قلب القيم يتوخى منح فكر العود الأبدي ، الذي هو الشكل الأرقى للإثبات ، وضع قيمة . لكن كيف يتم التأثير على القيم ؟ كيف يمكن تشييد قيم جديدة على نحو فعال ؟ ينبغي تحليل وضع القيمة من أجل الجواب على هذا السؤال : أوضح نيتشه بأن ميزة قيمة ما هي أن تكون تأويلا ، اعتقادا تنتقل إلى حياة الجسد ، " لحما ودما " أو كما يقول مرارا " ممزوجة " ونتيجة لذلك تصبح ناظمة للحياة البشرية ، تنهج سلطة آمرة ، على تنظيم التصرف على شكل واجبات أو محظورات . يتعلق قلب المشكلة إذن ، بإمكانية تغيير ما يعتبر في البداية محتوى بسيطا تمثيليا إلى اعتقاد حقيقي ، إلى موضوع انخراط راسخ . وفي الواقع ، فإن عددا كبيرا من النصوص ، تشير إلى أن منطق الإيمان هو الذي يعتبر حاسما في التحكم في مذهب العود الأبدي . لنحاول دراسة نص ما بعد الوفاة في فترة المعرفة المرحة والذي قام أيضا بلفت أنظار كارل لوفيث : " إذا كان كل شيء لا غنى عنه ، فكيف يمكنني اتخاذ قرار بشأن أفعالي ؟ " إن فكر العود الأبدي ، والاعتقاد بهذه العودة ، يشكلان ثقلا يضايقك من بين أثقال أخرى ، ويثقل كاهلك زيادة ، مثل هذه الأخيرة [الأثقال] . قلت أن الغذاء ، المكان ،الهواء ، المجتمع تُغيرك تعينك ؟ إن آراءك ، والحالة هذه ، تفعل ذلك على أحسن وجه ، إذ أن هذه الأخيرة [الآراء] تفضي بك إلى اختيار مثل هذا الطعام ، مثل هذا المكان ، مثل هذا الهواء ، مثل هذا المجتمع . ـ فإذا قمت بصهر فكر الأفكار ، فإنه سوف يعمل على تحويلك . إن السؤال الذي تطرحه على نفسك لكل ما ترغب في فعله : " ال "سوف "أريد على النحو الذي أرغب في فعله مرات لا حصر لها ؟ " يتشكل من الثقل الأكثر أهمية 21 . " لقد أبرزت هذه الشذرة نقاطا ثلاث على غاية من الأهمية : ـ يتم تحديد فكرة السلوك الفردي عبر الآراء ( الاعتقادات والقيم إذن ) ( " إن آراءك تقوم بفعل ذلك أكثر بكثير مرة أخرى ، لأن هذه الأخيرة تحددك في ... " ) ؛ ـ من بين تلك الآراء ، الاعتقاد في العود الأبدي هو الذي يمتلك التأثير الأكثر حسما ( العود الأبدي تتم معالجته مثل رأي من المرجح أن يفضي إلى اعتقاد ما ) ؛ ـ غير أن هذا الرأي لن يكون مؤثرا إلا إذا كان منصهرا ، بمعنى متمثلا ، ينتقل إلى حياة الجسد ، " يصبح لحما ودما " ، حسب صيغة يعكف نيتشه على توظيفها مرارا وتكرارا . ومن هناك تأتي الحاجة إلى دراسة منطق الإلحاق ، وهو ما يسميه نيتشه بال Zuchtung) ( ، التربية . فضلا عن ذلك ، فإن الرسالة المؤرخة في 10 مارس 1884 إلى أوفيربكOverbeck) ( ، التي يخصها لوفيث بالذكر ، تبين أن الأمر يتعلق هنا بمنطق الاعتقاد . فهي تصرح بخصوص مذهب العود الأبدي : " هل يعتبر حقيقيا ؟ أو بالأحرى : هل يتم الاعتقاد بحقيقته ؟ ـ وهكذا فكل شيء يدور ، يتغير ، وأن كل القيم السليمة حتى وقتنا الراهن هي قيم غدت منحطة . " إذ أن النقطة الفاصلة تكمن في الدقة المدرجة في قلب هذه الجملة : " هل يتم الاعتقاد بحقيقته ؟ " . فكيف يمكن تأويل آنذاك معنى تلك الإحالة إلى الاعتقاد ؟ إن تحويل تمثل إلى اعتقاد يقتضي بشكل عام عاملين : السلطة وزمنا طويل الأمد . نحن نعرف جيدا ، إلى أي حد يلح نيتشه على المدة الطويلة ، بغية التعود على فكر العود الأبدي . سوف نكتفي بتسجيل ملاحظة تتعلق بالسلطة ؛ وتعتبر هذه الأخيرة ضرورية بهدف الشروع في إحداث الاقتناع والانخراط في وضع حيث ـ لن ننسى ذلك ـ اعتقادات أخرى أساسية ، قيم أخرى ، لا تزال نشيطة وينبغي أن تتم إزاحتها . ليس هناك فراغا في القيم إطلاقا . هل يوجد هذا الاهتمام ، بالسلطة ، الذي يفضي إلى الإقناع ، فعلا ، في العمل وفي النصوص المتعلقة بالعود البدي ؟ لذلك فمن الضروري إعادة النظر في ملاحظة لوفيث التي سبق لنا أن أشرنا إليها . مؤكدا أن فكرة العود الأبدي قد تم تحديثها من طرف نيتشه ، ومما لا ريب فيه ، أن لوفيث توصل بشكل أكثر عدلا أنه لم يكن على علم بذلك : إذا لم تكن الوضعية ، أو دعنا نقول بالأحرى ، الثقة المبدئية في العلمية ، هناك حيث يراها . بعيدا عن التصديق على نوع من العلموية الساذجة من طرف نيتشه ، ومن غير الممكن جدا أن هذا الإصلاح العلمي ( لأنه من غير المرجح أنه لم يكن سوى إصلاح بسيط ) يتم التعبير عنه وتسويغه بواسطة الوضعية التي تطوق الثقافة الأوروبية في القرن التاسع عشر ـ بالنسبة للمتلقي ، وليس في ما يتعلق بالمصدر . المشكلة هنا هي مشكلة تلق : لا ننسى أن نيتشه قلل من أهمية الحقيقة ـ فاللغة التي يتم لعبها من الآن فصاعدا هي لعبة تأويلية ؛ يبرز نيتشه ، والحالة هذه ، أن هذه الأخيرة [اللعبة] تعتبر على الدوام لعبة تنافسية ، لعبة منافسة بين التأويلات . وينطبق هذا ، على وجه الخصوص ، على مستوى تلك التأويلات الأساسية التي هي القيم ، بحيث أن بعض استراتيجيات المقاومة والسيطرة موجودة دائما في العمل . بفضل امتياز العلم ، التقدير المجمع عليه من أجل العلمية ، فإن مظهر الصرامة العلمية سوف يشكل سلاحا قاطعا من أجل الإقناع ، بعبارة أخرى ، المساعدة على تغيير تمثل العود الأبدي ( محتوى مذهب ما ) إلى اعتقاد حقيقي ( تمثل مستبطن ، ينتقل إلى حياة الجسد ) . لقد نظر لوفيث في مناسبتين ، في إمكانية أن مذهب العود الأبدي لا يمتلك وضعا موضوعيا ـ كأن يكون ، حسب صيغته ، " خديعة شاعر " ، بمعنى تخييلا ... بيد أنه من أجل إزاحة تلك القراءة فورا : إن الحجة التي بموجبها رفض تلك الفكرة هي أن السلسلة الأخرى من النصوص ( النصوص " الكونية " ) تقيم الدليل على أن نيتشه يعتبر العود الأبدي معطى موضوعيا : لكنه يبدو لنا أن من العدل الرفض مبدئيا ، التساؤل حول تمفصل صيغتي العرض بدلا من تقديم القضية هكذا ، وأنه من غير المجدي ، إلى حد ما ، التعامل مع نصوص إشكالية جدا ، بشكل حرفي ، حينما يعرف المرء نوعية الصرامة الواجبة التي يتحكم فيها نيتشه ، وإلى أي حد خصوصا أن نصوصه تم الاشتغال عليها ، من خلال استراتيجيات للكتابة دائمة ودقيقة . لا ننسى أبدا أن نص نيتشه لا يكمن هدفه فقط في إحداث براهين نظرية ، لكن أكثر من ذلك بكثير [إحداث] " إغراءات لصالح الحياة " ـ ال(Verfuhrungen zum Leben)22 . يشير لوفيث جيدا ـ طبقا لما أكده نيتشه ـ أنه بحسب صيغته الأولى للتقديم ("الأخلاقية " ـ الإنجيل الملحد ) ، فإن العود الأبدي ليس معرفة نظرية لكنه يمتلك وضعا عمليا ؛ على أنه يبدو لنا أنه قام بملاحظة وجيهة جدا ، لكنه لم يستخلص تماما نتائج تلك المعاينة : إن الحاجة إلى التفكير في المنطق النوعي الذي يعتبر بالنسبة لنيتشه منطقا عمليا : " يحولنا التعلم ، إن ذلك يشتغل مثلما يشتغل أي نظام غذائي ، لا يتقيد ب" المحافظة على " ، يصرح في الفقرة 231 في ما وراء الخير والشر . ثمة مفعول مغير مُمارس على المدى البعيد ، من خلال الاعتقاد أو ال"علم " على نوع الإنسان الذي يعتنق هذا الاعتقاد : الذي ليس شيئا آخر غير تجديد نظامه الغريزي . فمن خلال تطور التحول الناتج عبر تغير الاعتقادات المستبطنة ، أصبح فكر العود الأبدي ممكنا : فحالما يتم وصله بجزئية الإشكالية النيتشوية ، فإنه سرعان ما يفقد مظهره المفارق والمتناقض ، ويكشف أنه يلعب مثل جواب للمشكلة العامة للتربية . هكذا يظهر ، على الخصوص ، كون التكرار الذي تعامل معه نيتشه كمحتوى إرادة ، وليس كقانون بنائي للحقيقة ، التي ستشمل على الخصوص كل حقيقة إنسانية ، وعليها سوف تتحطم كل إرادة ضعيفة للتغيير كما يرغب في ذلك كارل لوفيث . لقد انطلقنا من مشكل تنظيم ؛ سوف نعود إليه من أجل الختام : يقوم لوفيث بتقريب بعدي العود الأبدي . يبدو لنا أن منطق التفكير الذي بناه نيتشه يتطلب بالأحرى تنظيمهما [بعدا العود الأبدي ] تدريجيا : لا يعني هذا أن نيتشه يعتقد في حقيقته وموضوعيته ، بجعله من فكر العود الأبدي موضوعا لل" تبشير " ؛ فلأنه بالنسبة إليه ، يشكل فكرا مربيا وانتخابيا ( من جراء قوته الإثباتية ) ينبغي أن نجعل منه قيمة ، ثم أن تقديمه على شكل مظهر علمي ، يمنح هذا المنظور فائدة عملية ، إلى حد ما " استراتيجية " ، لا تدخل في تناقض مع النقد اللاذع النظري للعلمية . فمن أجل إيقاف تقدم العدمية وتشييد ثقافة للإثبات ، فإن قلبا للقيم يعتبر ضروريا ؛ على أنه من أجل قلب القيم بمعنى الإثبات الأسمى ، لا بد من تغيير فكر العود الأبدي إلى قيمة . ــــ مصدر النص : فصل من كتاب لباتريك فوتلينغ Partrick Wotling) (" فلسفة العقل الحر . مدخل إلى نيتشه " . édition Flammarion , Paris , 2008 . . باتريك فوتلينغ : أستاذ بجامعة ريم الفرنسية . قام بترجمة عدد كبير من أعمال نيتشه لصالح دار نشر فلاماريون . له أيضا : نيتشه ومشكلة الحضارة Puf , 1995 et 1999 ) ( و التفكير في الطابق السفلي Allia , 1999 ) ( 1 .(Nietzsche philosophie der ewigen Wiederkehr des gleichen ) ، ترجمه إلى الفرنسية ، كالمان ـ ليفي Calmann – Lévy) (ص : 21 . سوف نحيل من الآن فصاعدا على ترقيم الصفحات لهذه الترجمة الفرنسية . 2 .ص : 80 . 3 .ص : 103 ـ 104 ، ترجمة منقحة . 4 .ص : 117 . 5 زص : 104 ، ترجمة منقحة . 6 .ص : 106 . 7 ـ ص : 146 . 8 .هذا هو الإنسان ، مقدمة ، مقطع 4 . 9 .شذرة ما بعد الوفاة من كتاب المعرفة المرحة ، 11[142] . 10 .شذرة ما بعد الوفاة من المعرفة المرحة ، 11 [165] 11 . شذرة ما بعد الوفاة III X ، 11 [73] 12 .شذرة ما بعد الوفاة III X ، 9 [38] 13 .غسق الأوثان ، " العقل في الفلسفة " ، مقطع 2 . 14 . غسق الأوثان ، " incursion d’un inactuel "، مقطع 43 . 15 . شذرة ما بعد الوفاةIII X ، 11[99] . 16 . شذرة ما بعد الوفاةIII X ، 11 [413] . 17 . الجملة الأخيرة التشديد من عندنا . 18 . ماوراء الخير والشر ، مقطع 61 ، التشديد من عندنا . 19 . مقطع XI ، 34 [176] . 20 . شذرة ما بعد الوفاة X ، 25 [227] . 21 . شذرة ما بعد الوفاة من كتاب المعرفة المرحة ، 11 [143] . 22 . شذرة ما بعد الوفاة XIII، 11[415] .
#الحسن_علاج (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
للخطإ أسبابه
-
حوار مع مارسيل غوشيه
-
رسالة غلى شاب نيتشوي
-
شمس الحقيقة
-
آدم
-
من يكون آدم وحواء ؟ - حوار مع طوماس رومر
-
حوار مع ميشال سير
-
إسلام وحداثة معالم مسار تاريخي
-
شعرية الإخصاء في رواية - عرس بغل-
-
قراءة تحليلنفسية - يقدم هذا المحكي أسس العلاقة بالآخر
-
مفخرة نيتشه
-
فوكو ، الملغز
-
موريس بلانشو والكتابة الشذرية :- زمن غياب الزمان -
-
فرويد ، أسلوب واقعي
-
الطوفان : أسطورة أم كارثة مناخية ؟
-
الأبطال المُحضِّرون ، محسنون وقطاع طرق
-
فرويد أو الذات باعتبارها نصا
-
عزلة الفيلسوف
-
فن المالنخوليا
-
حوار مع باتريك موديانو
المزيد.....
-
من تاتشر إلى الجولاني: كيف يغيّر السياسيون صورتهم؟ ولماذا؟
-
الذباب والديدان والدبابير.. حشرات تساعد في علاج الأمراض
-
-شبيغل-: ألمانيا تجاهلت تحذيرات السعودية من منفذ هجوم ماغديب
...
-
ألمانيا.. توجيه 5 اتهامات بالقتل لمنفذ اعتداء الدهس في ماغدي
...
-
الدفاعات الروسية تسقط 42 مسيرة أوكرانية
-
ألبانيا تحظر استخدام تيك توك لمدة عام بعد مقتل قاصر
-
تحطم مقاتلة أميركية في البحر الأحمر بسبب -نيران صديقة-
-
كيف ستساعد بقايا سيارة الـBMW بهجوم المشتبه به السعودي على س
...
-
إسرائيل تواصل هدم وجرف المنازل والبساتين في الجنوب اللبناني
...
-
حادثة بـ-نيران صديقة- تسقط طائرتين أمريكيتين فوق البحر الأحم
...
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|