أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صلاح السروى - النقد الشلانى للرواية















المزيد.....



النقد الشلانى للرواية


صلاح السروى

الحوار المتمدن-العدد: 6322 - 2019 / 8 / 16 - 06:26
المحور: الادب والفن
    


النقد الشكلانى للرواية

فى مواجهة الرؤى النقدية المرتكزة على البعد الاجتماعى فى نقد الرواية, باعتباره ممثلا لجوهر الممارسة الأدبية وباعثها ومكون دلالاتها, يقوم الاتجاه الشكلانى على دراسة الظاهرة الأدبية فى ذاتها، بدون التطرق الى تاريخها وعلاقاتها المتبادلة مع خارجها، سواء أكان هذا الخارج هو المجتمع أو التاريخ, أو, حتى, مؤلفها ذاته.(1)
ف"الشعرية", أو "علم الادب" عند تودوروف, على سبيل المثال, لا تسعى إلى فهم المعنى الخاص بالعمل الأدبى المعين، بل تسعى إلى معرفة القوانين العامة التى تنظم "ولادة كل عمل". وهى, على خلاف باقى العلوم الإنسانية مثل علمى النفس والاجتماع .. الخ, تبحث عن هذه القوانين داخل الأدب ذاته وليس خارجه، يقول تودوروف : "فالشعرية إذن (هى) مقاربة للأدب مجردة وباطنية فى الآن نفسه".(2)
وفى السياق ذاته, يرى رولان بارت أنه لا أهمية للعلاقة بين الأدب والواقع الاجتماعى، وإنما الأهمية كلها تندرج تحت ما يسميه "محاكاة اللغات", فيقول : "إن ما يهم فى الأدب ليس كون الرواية تعكس واقعا اجتماعيا، إن ما يميز العمل الادبى كالرواية على سبيل المثال هو كونه يقوم بما يمكن ان نطلق عليه محاكاة اللغات. مما يتولد عنه أن الأدب أو الرواية عندما تقدم نفسها ككتابة أدبية فإنها تنسخ الكتابة الأدبية السابقة عليها".(3)
ومفهوم النسخ هنا كما هو واضح لا يعنى الالغاء، لكنه يعنى النقل والمحاكاة. وليس المقصود بالمحاكاة مجرد التأثر أو إعادة التأويل أو حتى التعبير، بل هو بإختصار "مراوحة لا نهائية".
وعلى هذا, فالكتابة عند بارت تتم لذاتها, وعلى نحو مجرد ومجانى تماما, وليس لأى هدف آخر، وذلك لأن الكتابة ليست ممارسة تعبيرية هادفة على أى مستوى. يقول, مؤكدا هذا المنحى : "ليست الممارسة الأدبية ممارسة تعبيرية، ليست ممارسة تعبير أو أنعكاس، وإنما ممارسة محاكاةواستنساخ لامتناه، لهذا فهو موضوع يتعذر تعريفه, ذلك لأنه موضوع لغوى".(4)
وتبدو أمامنا هنا مشكلة فى فهم المغزى الحقيقى لكلام بارت، عندما يفرق بين الانعكاس الذى قد يعنى الرؤية المنطلقة من واقع محدد، وما يدعوه بالمحاكاة والاستنساخ، أى مجرد النقل الخالى من هدف. فالانعكاس يختلف بالتأكيد عن مجرد المحاكاة, فهو عند لوكاتش, طرح متعمق للواقع الموضوعى أكثر عمقا وشمولا مما هو موجود فى مظهر هذا الواقع ونثرياته اليومية، ولهذا "فالواقع الموضوعى" عنده يصبح أكثر اكتمالا عندما ينعكس فنيا .(5) وهو بذلك يخرج عن مفهوم المحاكاة الافلاطونى وحتى الأرسطى.(6) ومن ثم فهو أرقى وأكثر فنية.
بيد أن بارت ينحى الانعكاس الذى يحمل هذه المعانى ليقصر الممارسة الأدبية على وظيفة المحاكاة التى شرحها هنا بعطفها على الاستنساخ وجعلها لا نهائية. حيث تدور الممارسة الأدبية بذلك فى دائرة مفرغة من اعادة انتاج الكتابات السابقة, نازعا عنها أية إمكانية أبتكارية أو أى تجاوز فنى ممكن. لذلك فهى عنده غير قابلة للتعريف ،"لأنها موضوع لغوى", وهذا أمر منطقى تماما، فكلمة لغوى هنا يقصد بها معنى الممارسة الأدبية. وإذا تم التعامل مع الأثر الادبى كموضوع لغوى مجرد فإنه ينزع عنه أية امكانية لتحقيق فاعليته الفنية الجمالية. إن بارت بذلك يرد الأثر الأدبى الى كيانات هيولية غير محددة قاضيا عليه من حيث كونه ابداعاً خاصاً.
وينطلق معنى "النسخ اللغوى", باعتباره تعريفا للأدب عند بارت، من مفهومه "للتناص" الذى يعنى بدوره وضع اللغة والانتاج الخاص بها ضمن ممارسة لغوية لانهائية .. يقول: "إن الكتابة تعنى ان نضع أنفسنا فيما يطلق على التناص، أى أن نضع لغتنا وانتاجنا الخاص للغه ضمن لا نهائية اللغة".(7)
وهو عين ما تؤكدة جوليا كريستيفا من حيث أن النص الأدبى (تقصد الرواية هنا) ما هو الا ناتج عملية استنساخ "تناص" لعناصر سابقة، فتقول فى كتابها "علم النص": "الرواية عملية نسخ لتواصل شفوى أكثر منه كتابة".(8)
وهذا الفهم لا يمكنه أن يفضى الا الى انتفاء شخصية المؤلف أو اندراجه ضمن سلسلة مطلقة، فى تعددها, من الناسخين. وهو عين ما يطلق عليه رولان بارت "خلخلة الذات الفاعلة", أى اختفاء ذات الكاتب فى اللغه. ولهذا فإن الأدب النموذجى عنده إنما هو "نموذج فى الخلخلة" أى ممارسة تهدف إلى القضاء على الفاعل ذاته, من خلال تحويله إلى (مفعول به) أو (وسيط), فى سياق عملية الاستنساخ تلك. فالكتابة كما يقول "هى دوما خلخلة أى ممارسة تهدف إلى زعزعة الذات الفاعلة وتقويضها وتشتيتها فى ذات الصفحة".(9) ويواصل فى سياق آخر قائلا : "فالكتابة لا تتوخى شيئا من ورائها, فعل الكتابة فعل لازم وليس متعديا "(10)
إن عبارات مثل: "زعزعة الذات الفاعلة" و"تقويضها" و"تشتيتها", لا تعنى الا أن الكتابة لم تعد عنصر تحقق للذات الفاعلة، لأنها (أى الذات الفاعلة) لا تنطلق من فاعلية محددة، بل هى لم تعد فاعلة على أى مستوى، حسب هذا التفسير، من حيث كونها مجرد ناسخ و ناقل. وهى, بالتالى, لا تمتلك أى قدر من اليقين أو القدرة على معرفة أعماق الاشياء. ذلك أن اللغة نفسها لا تنطوى على عمق من نوع محدد. كما أنها ناتجة, وهذا هو الأهم، عن كائن فاقد لأية ذاتية أو خصوصية. ومن ثم, فاقد لأية قدرة إبداعية خاصة، لذلك فهو مجرد مفعول به، أو كما يقول بارت: "ذلك هو دور النسخ، ما دامت اللغات تقلد بعضها البعض، وما دامت اللغة لا تنطوى على عمق أصيل وتلقائى، وما دام الانسان دوما ملتقى عدة قواعد لا يدرك أبدا عمقها، يكاد الأدب ان يكون هذه التجربة بالضبط".(11)
إن هذه الوجهة فى فهم الأدب ودور الانسان فى عملية انتاجه، هى ما أفضى ببارت إلى إعلان "موت المؤلف", أى فناؤه واختفاؤه, نتيجة "لزعزعة" ذاته و"تقويضها" و"تشتيتها", كما تقدم. فإذا كان بلزاك قد قدم رواية "سارازين", فإن بارت يرى أن بلزاك ليس هو الذى تناول القلم وقام بهذا الفعل, بل جسده. يواصل قائلا"إنه لمن الأهمية بمكان أن نضع جسد الكاتب فى الكتابة".(12) وما جسد الكاتب هنا إلا نقيض ذاته أى نقيض وجوده.
يعد مفهوم "موت المؤلف" عند بارت الشرط الأساسى لميلاد "القارىء"، من حيث إنه إذا كان المؤلف قائما، فإن النص الأدبى يعتبر"سيرته الخاصة التى يبوح فيها بأسراره". ومن ثم, فإن النص يصبح نصا "لاهوتيا", أى نصا وحيد المعنى. ويتحول المؤلف إلى "إله", من أنه هو وحده الذى يعلم بتأويل ما كتبه. وذلك بالارتكاز على ما يراه بارت من أن نسبة النص إلى مؤلف معين تعنى إيقاف النص وحصر دلالته وإعطاءها مدلولا نهائيا، فنصل إلى ما يسميه: "عملية إغلاق الكتابة". أما إذا احتجب المؤلف أو "مات", حسب تعبيره, بمعنى اعتبارنا أن الكتابة التى قدمها ليست كتابته هو, بل هى منسوخات من أعمال سابقة قد تمت عبر قلمه, فإن الزعم بالتنقيب عن أسرار النص يصبح أمراً غير ذى معنى. وذلك لأن الكتابة المنسوخة او المتعددة المصادر لا تتطلب, فى رأى بارت, إلا الفرز والتوضيح وليس فيها تنقيب عن الأسرار. وفضاء الكتابة, حينئذ يمكن .. "مسحه لا إختراقه". وإذا كانت الكتابه لاتنى تولد المعنى، فإن ذلك لا يتم إلا "بقصد القضاء عليها أو تبخيرها", حسب تعبيره. وهى, بذلك, تحرر المعنى وتولد فعالية يصفها بارت بأنها ضد "اللاهوت"،وأنها ثورية بالمعنى الحقيقى للكلمة.(13)
ومن هنا فإن مناط الأهمية يتحول إلى القارىء ولكن ليس من حيث كونه ذاتا تحمل سمات محددة، بل من حيث كونه انساناً لا تاريخ له ولا شخصية ولا يحيا عالما نفسيا. إنه ذلك الكائن المعنوى الذى تتجمع عنده كل التعددات التى يحتويها النص. ولهذا يرى بارت أن ميلاد القارىء رهين بموت المؤلف .(14)
إن الكتابة على هذا النحو إنما هى "لا كتابة أو ضد الكتابة", فهى تقوم باعتبارها "موضوعا للغياب"، غياب المؤلف وغياب المعنى. ولكن يوجد فقط ما يمكن تسميته بحضور القارىء المجرد. الذى هو, حسبما تقدم, ليس حضورا حقيقيا.
وهذه الكتابة, تبعا لذلك, هى التى يسميها بارت: "الكتابة البيضاء", أو الكتابة فى "درجة الصفر"، إنها كتابة محايدة لأنها لا تنتج عن ذات مشخصنة (إن صح التعبير), كما أنها لا تتوجه إلى ذات أخرى مشخصنة. إنها كتابة النفى غير محدد الهوية أو الاتجاه .. يقول بارت : "ففى هذه الكتابة المحايدة التى نسميها هنا درجة الصفر للكتابة يمكن أن نميز بسهولة بين حركة نفى وبين العجز عن ذلك النفى داخل ديمومة ما".(15)
فيتعين على الكتابة منذ ذلك الحين أن توجد بدون كاتب. كما على الكاتب أن يوجد دون كتابة، فيتم بذلك ما يعتبره بارت إنقاذاً للكتابة عن الاعتبارات الخارجية. ويضرب مثلا لذلك ب"أورفيوس" الذى لا يستطيع أن ينقذ من يحب إلا بالتخلى عنه. ومن هنا تتحول الكتابة إلى نوع من الصمت الناتج عن الحياد والتفتت. هكذا يدخل الأدب إلى ما يعتبره بارت "الأرض الموعودة", التى يشرحها بقوله أنها .. "عالم بدون أدب يكون فيه على الكتاب مع ذلك أن يقدموا شهادتهم عنه"(16)
هكذا يؤدى موت المعنى وموت المؤلف إلى موت الأدب ذاته.

مفهوم الرواية
ومن الطريف أن العلاقة بين الرواية والتاريخ تمثل كذلك مناط فهم البنيويين لها، بيد أنه فهم مختلف جذرياً عن فهم الاجتماعيين، فهى ليست انعكاساً نوعياً لحركة التحولات التاريخية الاجتماعية، لكنها كما يقول بارت "مستودع لكثافة الوجود وليس لدلالته".(17)
فالقضية عند البنيويين ليست قائمة على محاولة فهم الدلالة اللامرئية للحركة التاريخية فى انعكاسها النوعى على الافراد, كما رأينا آنفاً، بل محاولة فهم طقوسية اللغة الأدبية من حيث كونها خارج الزمن. ومن حيث كونها معبرة عن نظام. لهذا فإن الرواية, عندهم، وإن كانت تمتلك "علاقة وطيدة بالتاريخ", كما يقول بارت, الا أن دور التاريخ هنا, والذى يلخصه فى مقولة "الماضى البسيط", هو .. "أن يعودبالحقيقة إلى نقطة معينة، ثم يستخلص من كثرة الازمنة المعيشية والمتداخلة فعلاً لفظياً خالصا منفلتاً من جذور التجربة الوجودية، ومتوجهاً نحو صلة منطقية مع أفعال أخرى وصيرورات ثانية ومع حركة عامة للعالم".(18)
والمقصود بحركة عامة للعالم هنا ليس ما وجدناه عند الاجتماعيين من أنه العالم التاريخى المعاش، بل انه العالم الخاص الذى يتم تشييده عبر ما يسمية بارت"بالزمن الاصطناعى".
فالرواية فى صلتها بالتاريخ تقوم بخلق "زمن اصطناعى"، أى متخيل وغير واقعى بالضرورة، من أجل تحرير الحدث والفعل من دلالته الواقعية المعاشة وتحويله إلى فعل لفظى مستقل بالكامل عن التجربة الانسانية المتعلقة بخبرته الحياتية والوجودية، بغية خلق بناء آخر بديل ومنفصل ومختزل، أو .. كما يقول بارت: "الى خطوط دالة ،وليس عالماً ملقى مبسوطا مهدى".(19)
ومعنى هذه "الخطوط الدالة" ليس القيام بتفسير من نوع ما للحركة التاريخية المحددة، لكنه التعبير عن نظام أو عن تراتيبية بنيوية متداخلة ومستقلة بذاتها عن أى وجود خارجى. وبذلك تصبح تقيضاً للعالم التاريخى "الجاهز"، و"الملقى المبسوط المهدى", بل هى نفى له وقضاء عليه .
فالرواية تمتلك وتحتوى داخلها جهاز بناء وتحطيم, فى اللحظة نفسها، تحطيم ما يسميه بارت "بالديمومة" ويقصد به الصلة غير المرئية التى تربط عناصر الوجود، وتقيم فى اللحظة ذاتها النظام, تحطيم كثافة الحياة المعطاة بصورة جاهزة والتى تمثل حالة معقدة ودهليزية، والتى لا تملك, عنده, أية دلالة. وذلك من أجل اختزال هذه الكثافة وإقامة تلك "الخطوط الدالة" المستخلصة منها. من هنا نستطيع القول أن الرواية هى نقيض الواقع المعاش، أو هى استحالة هذا الواقع من الناحية الأدبية. يقول بارت .. "ان الحداثة تبدأ مع البحث عن أدب مستحيل".(20) أى أدب نقيض للممكن الواقعى، نقيض للمواضعات الممكنة.
ولذا فإن الرواية عنده تساوى "الموت".(21) لأنها, وان كانت تمتلك صلة ما بالتاريخ, فإن ما يربطها به هو نزوعها نحو "تمويه الأحداث". وتتميز الرواية بذلك بأنها تقوم بعملية تحويل الكينونة الملتبسة والكثيفة لهذه الاحداث الى دوال ترسم حقل احتمال يمكنه أن يكشف الممكن, وفى الوقت نفسه, يقدمه على أنه ممكن مغلوط أو ممكن مستحيل.
وهذا ما تسميه جوليا كرستيفا بـ"الدال الاعتباطى".(22)
ان كريستيفا وبارت ينطلقان معاً من أن الرواية (من حيث كونها كتابة أدبية) إنما هى نسخ ومحاكاة للتواصل الشفوىٍ (كما تقدم فى صدر هذه الورقة), لذا فانهما يصلان معاً الى النتيجة نفسها.
بيد أن الوسائل التى توصلت بها كريستيفا تختلف قليلا، كما أنها تعد أكثر تفصيلا عما هى عليه عند بارت . فالرواية عند جوليا كريستيفا, من حيث كونها نصاً, انما هى ممارسة سيميائية يمكن ان نقرأ فيها مسارات مركبة لعدة ملفوظات. وتحليل هذه الملفوظات فى تسلسلها النظامى هو الذى يقودها (أى كريستيفا) الى التعامل التحليلى مع الرواية، فتؤدى وظيفة التداخل النصى فى الرواية الى تحديد "اديولوجيم" ideologeme الرواية (وهو مصطلح أخذته عن باختين حيث تتصور أن كل عمل أدبى ينتمى الى الممارسة يقوم باعتباره "ايدولوجيما" منتهياً ومغلقا، ومن ثم, ملتبساً.
ومن هنا فإن الرواية تمثل مظهرا مميزا لهذه الايديولوجيم الملتبس، والذى تقسمه عبر قراءتها لرواية دولاسال "جيهان دوسانترى" الى عناصر ثلاثة:
1-انغلاق
2-لا انفصال (تلاحم)
3-انزياحات متناغمة.
ويتبدى "الانغلاق" فى الاكتمال البنائى للرواية, حتى انه اذا انتهى النص الروائى نهاية صريحة أو غامضة أو مفترضة, فان غياب النهايات لا يزيد الاكتمال البنائى للنص الا تأكيدا. الا أن الاكتمال البنائى من زاوية أخرى يقوم على ابراز الصورة الأساسية للنص, من حيث هى ثنائيات متعارضة ذات علاقة وثيقة بالنسق الكامل للبنية الروائية اللامنفصلة (أو المتلاحمة) . كما يتبدى مفهوم ((اللاانفصال )) (الذى أترجمه أنا ب "التلاحم") , فى أن الثنائيات المتعارضة لا يمكنها أن تكون خطابا روائيا اذا كان هذا التعارض لا نهائيا, لكن ذلك لا يتم (أى تكوين الخطاب الروائى ) الا اذا تم تحويل هذا الانقسام الثنائى الى كلية ايقاعية. فاللانفصال أو (التلاحم ), باعتباره حركة سالبة مزدوجة يختزل اختلاف الأطراف من انفصال مطلق الى انفصال قابل لتبادل الطرفيين لمكانيهما, أو كما تقول جوليا كريستيفا : "الى فضاء فارغ يدور حوله هذان الطرفان اللذان ينمحيان كوحدات ويتحولان الى ايقاع متناوب. وبدون تلك الحركة يغدو النفى غير كامل". (23)
أما ((الانزيحات المتناغمة )) فهى تتتمثل فى الوصف والشواهد النصية الخارجية عن الحدث. وهو الامر الذى يؤكد – عندها – أن الرواية عملية نسخ لتواصل شفهى اكثر منه كتابة أو ابداع بكر (لنتذكر بارت فى الأعلى). وهو ما ترتب عليه أن ما ينقل الى الورقة انما هو "دال اعتباطى", كما سبق القول . حيث تنتهى بذلك الى ذات النتيجة التى وصل اليها رولان بارت. فبما أن الملفوظ (الصوتى)مكتوب على الورق, وبما أن النص الغريب (الشاهد) منسوخ, فإن الاثنين معا يشكلان نصا مكتوبا يكون فيه فعل الكتابة نفسه مجرد خلفية. ويقدم نفسه, فى كليته, باعتباره فعلا ثانويا, كما لو كان الامر لا يعدو كونه رسالة او تقريرا(24). أو "نسخا لغويا ميتا" كما قال بارت.
وتلك هى الفكرة نفسها التى ينتهى اليها تودوروف أيضا. فعلى الرغم من أنه يؤكد أن معنى الاثر الأدبى لا يمكن أن يتحدد فى ضوء معرفته فى ذاته بل يتحدد فقط عند دمجه فى "نظام أرقى" الا أن مفهوم النظام الأرقى هذا لا يخرج عما يسميه "الكون الادبى", ذلك الذى تعمره النصوص السابقة عليه. ولا يتطور تودوروف بهذا الفهم, مطلقا, الى مجال خارج هذا (الكون الادبى) . ان معنى الاثر الادبى عند تودوروف هو وظيفته او فاعليته النصية والدلالية المحددة, تلك التى تتأكد من خلال امكانية تعالقه أو تناصه مع عناصر أخرى. وهى نفس فكرة النسخ التى وردت قبل قليل عند كل من بارت وكريستيفا. واذا أصبح من المستعصى حدوث هذا التعالق والتناص فإن هذا الأثر يصبح عند تودورف بلا معنى .. يقول : "واهم كل من يعتقد أن للأثر وجودا مستقلا , ذلك أن الأثر ,أى أثر, يبرز ضمن كون ادبى تعمره النصوص السابقة له. وهنا بالذات يتجلى اندماجه. لان كل أثر فنى يقيم علاقات متشبعة مع الآثار السابقة عليه والتى تمثل حسب العصور مراتب ودرجات مختلفة" (26).
وهو يفرق بذلك بين معنى الأثر الادبى وبين التأويلات المتعددة لهذا الأثر .حيث تدخل عندئذ ايديولوجيا الناقد لتحيل هذا الأثر الى دلالة من نوع ما. أما الأثر, فى حد ذاته, فإنه لا يعدو كونه صدى أو نتيجة للعلاقات القائمة بينه وبين الآثار الأخرى.
وهكذا تتمخض العلاقة بين الرواية والتاريخ التى طرحها بارت الى أن تصبح نفيا كاملا لتجربة الانسان التاريخية وانفصالا تاما بين العمل الروائى وخارجه. بل هو تحديدا نفى لهذا الخارج. وهو عند كريستيفا يمثل دلالة اعتباطية مغلقة. أما عند تودوروف فهو لا يعدو كونه ترجيعا متعالقا مع اعمال سابقة. وهو ما يقف على طرف النقيض مع ما وجدناه عند الاجتماعيين من حيث كونه طرحا للتوتر بين الفرد والجماعة وبحثا عن الانسجام غير القائم فى الواقع.

الشخصية الروائية
لعل هذا المنحى يتناقض تناقضاً جوهرياً مع نظرة الاتجاه البنيوي للشخصية الروائية, فهذه النظرة البنيوية تجردها من أهميتها الجوهرية في الرواية على العكس تماماً مما رأينا لدى أصحاب الاتجاه الاجتماعي, فالشخصية هي العنصر الرئيسي في الرواية الذي أولته البنيوية أقل اهتمام, كما يقول "جوناثان كوللر", وربما كانت كذلك أقل المباحث البنيوية حظاً من التوفيق, وقد تعامل البنيوين مع الشخصية باعتبارها عنصراً أيديولوجياً لا يستحق الاهتمام أكثر منه كحقيقة أدبية, وأسباب ذلك يمكن اكتشافها لو استعدنا المنطلقة النظري الذي تقوم عليه البنيوية, فهو يسير في اتجاه مخالف تماماً لمفهوم الشخصية باعتبارها كلية مستقلة تتميز بعوالمها الداخلية والخارجية, وبدلاً من ذلك تركز البنيوية على الأنساق التي تتجاوز الفرد وتجعل منه مجرد عنصر يمكن إدراجه ضمن جملة الوقائع والقوى أكثر منه جوهراً فرداً, فيما يقول كوللر.(27)
لذلك لم يكتب البنيويون الكثير عن النماذج المعروفة للشخصية الروائية, بل انشغلوا بتهذيب وتطوير نظرية فلاديمير بروب عن "الأدوار" أو الوظائف التي يمكن أن تضطلع بها الشخصيات, وذلك بوصفها "مشاركاً" أكثر من "كائناً". ويذكر تودوروف أن توماشيفسكي قد أنكر على الشخصية أية أهمية سردية, باعتبار أن القصة ليست إلا نظاماً من الوظائف Motifs, يقول توماشيفسكيم: "إن البطل غير ضروري للقصة, إن القصة باعتبارها نظاماً من الوظائف, بإمكانها أن تستغنى تماماً عن البطل وعن قسماته الخاصة". وغير أن تودوروف يرى أن هذا القطع ينطبق أكثر على قصص عصر النهضة الغرائبية, أكثر مما ينطبق على الأدب الحديث, حيث يمارس البطل, حسب رأيه, دوراً أساسياً, إذ تنتظم عناصر الرواية كلها انطلاقاً منه.
بيد أنه عندما حلل رواية "علاقات خطرة" لألان روب جرييه, (وهي رواية نفسية) فإنه لم ينطلق من الشخصيات, لكن من ثلاث علاقات كبرى يمكن للشخصيات أن تكون فاعلة فيها, وقد سمى هذه العلاقات بـ"المستندات" أو الأخبار السياسية Les predicates de pase, تلك هي: الرغبة, والتبادل, والمشاركة. ويقر بأنه اختار هذا المدخل لأن هذه المستندات تسمح بالتحليل التصنيفي. (28) الذي أتصوره الشغل الشاغل لمنظري البنيوية.
ومن الواضح أن تحليل تودوروف هذا يبرز بوضوح التعامل مع الشخصية باعتبارها عنصراً "مشاركاً" أكثر منها باعتبارها "كائناً". بل أكثر من ذلك فإن البنيويين (وتودوروف من أهمهم) ينكرون استخدام مفهوم "الشخصية" ذاته, فيرى الأستاذ الدكتور/ صلاح فضل في كتابه "النظرية البنائية في النقد الأدبي" أن مصطلحات النقد الأدبي التي كانت تعتمد على معيار المضمون من الوجهة النفسية, كانت تسمى العنصر الفاعل في القصة بأسماء تطابق هذه الرؤية مثل الشخصية والنموذج. ومن ثم فهو يرى – تبعاً لنقاد ومنظري البنيوية – أن فكرة الشخصية بهذا المعنى, فكرة خطيرة نجمت عن نوع من الكسل العقلي الذي يتسم به القراء والنقاد معاً, وأصبحت طريقة للإشارة تحجب من وراءها "الميكانيزم" الحقيقي للعمليات القصصية. (29)
ولهذا فإن البنيوية تجرد هذا العنصر من طابعة ذاك وتطلق عليه تسميات جديدة, اعتماداً على وظيفته البنائية ومدى اشتراكه في العمل, وهو ما فعلته المدرسة الشكلية حين أخذت في وصف الفاعلين حسب الأفعال التي تعزي إليهم في العمل الأدبي, وجاءت البنائية لتنص على أن هذا المستوى الوصفي ضروري, انطلاقاً من أنه لا توجد حكاية دون "ذوات" تقوم بالفعل أو يجري عليها الحدث, لكن هذه الذوات لا ينبغي تقديمها على أنها أشخاص, حيث تتفادى البنيوية وصف الشخصيات بالمفهوم النفسي والتاريخي, كما تقدم, وتبحث عن وسائل أخرى للرصد والحديث عن مشتركين أو فاعلين, وقد تلجأ إلى استخدام مقولات سيمولوجية مثل المرسل والمرسل إليه, والمساعد والمعارض, والمنتفع والعائق..الخ, وتحلل مراتبهم وأدوارهم في بنية القصة وتقيس حجمها وأهميتها وعلاقتها بغيرها. (30), ولهذا فقد حول بروب الشخصيات إلى نماذج لا تتأسس على علم النفس, أو علم الاجتماع, ولكن على وحدة الأفعال التي تهبها القصة للشخصيات. (31)
إن الشخصية تشكل بذلك عنصراً ضرورياً للوصف, من حيث إن الأفعال المروية لا يمكن إدراكها بدون إسنادها إلى شخصية, غير أنه في الوقت الذي يؤكد فيه بارت أنه لا توجد قصة واحدة في العالم بدون شخصيات, أو على الأقل ما يسميه "فواعل", فإنه يرى أن هذه الفواعل في تعددها لا يمكن وصفها أو تصنيفها بمصطلحات الشخصيات, تلك التي تم النظر إليها من زاوية تاريخية, وذلك من الاتساع في الطرح المصطلحي, بحيث يشكل كل القصص سواء الحكايات الشعبية أو الروايات المعاصرة. ومن ثم فهو يطرح – كالآخرين – جانباً مفهوم "الشخصية" ليستخدم بدلاً منه مفهوم "الفاعل", وذلك ترتيباً على أن التحليل البنيوي "قد عرف الشخصية بوصفها مشاركاً" أكثر من كونها "كائناً". (32)
وقد سبق جريماس في استخدام مفهوم الفاعل Actant على اعتبار أنه أكثر تجريدية من مفهوم الشخصية لدى بروب. فالفاعل عند جريماس يمكن ان يكون فرداً أو جماعة أو قوى طبيعية, أو ذاتاً إنسانية أو شيئاً يتم تعريفه في ضوء الوظيفة التي يؤديها في مقطع سردي معين. (33). ومن هنا فإن جريماس يصف ويصنف شخصيات القصة, ليس بحسب ما هم عليه, لكن بحسب ما يفعلون (ومن هنا جاءت تسميتهم كفواعل). وذلك لأنهم يشاركون في ثلاثة محاور دلالية كبرى هي عنده (حسب ترجمة منذر العياشي).. "الاتصال, والرغبة أو التطلع, والامتحان". وبما أن هذه المشاركة تندرج على هيئة ثنائيات, فإن العالم اللامتناهي للشخصيات (الفواعل) يخضع بدوره لبنية ثنائية مماثلة (المسند/ المسند إليه, المعطي/ المتلقي, المساعد/ المعارض) حيث يتم إسقاطها على طول القصة. (34).
ولقد قدم بروب بتحديد سبعة أدوار يمكن أن تقوم بها الشخصيات في الحكاية الشعبية (الوغد, المساعد, واهب الأدوات السحرية, الفتاة التي يتم البحث عنها وأبوها, المرسل أو الباعث الذي يحث البطل على الفعل, البطل, البطل الزائف). ولا يفترض بروب أية عمومية لهذه الأدوار, غير أن جريماس نظر إليها بوصفها "شاهداً على أن عدداً صغيراً من مصطلحات الفاعلية يكفي لتبرير نظام عالم أكبر". ويقوم جريماس – الذي تصدى بتقديم مجموعة من الفواعل – بعمل تصور استقرائي حول بنية الجملة لكي ينتج نموذجاً للفاعل يشكل, كما يتصور أساس أي مشهد دلالي, سواء كان جملة أم قصة, حيث يدعي أنه لا شيء يمكن أن يكون كلا دالا, إلا إذا أمكن استيعابه كبيئة للفاعل. (35)
ويتألف نموذج جريماس من مقولات ست تم وضعها في علاقة تركيبية موضوعاتية بالنسبة لبعضها كالشكل التالي:
مرسل ـــــ موضوع ـــــ مرسل إليه
مساعد ـــــ ذات ـــــ معارض
ويركز هذا النموذج على الموضوع المرغوب فيه من قبل الذات والذي يقع بين المرسل والمرسل إليه وتسقط الذات رغبتها على المساعد والمعارض. وعندما تصب أدوار بروب في هذا الشكل نحصل على النموذج التالي:
المرسل ـــــ الشخص موضوع البحث ــــ البطل
الوهاب البطل الوغد
ـــــ ــــــ
المساعد البطل الزائف
وفي إطار التعامل مع هذا النموذج, يؤكد كل من تودوروف وبارت أن المشكلات التي تطرحها دراسة البطل والشخصية الروائية في مجال التنظير البنيوي لو تحل بعد. (36) بل أكثر من ذلك فإن بارت يرى أن نموذج جريماس السالف إنما هو نموذج قاصر ولا ينطبق على عدد كبير من القصص, كما أن قيمته في هذا الشكل أقل مما هي عليه في باقي العناصر التي يستجيب لها. كما أنه يعطي, حسب بارت – "بيانات سيئاً عن تعددية المشاركات عندما يتصدى للتصنيف. (37)
ويتفق في هذا الرأي حول نموذج جريماس جوناثان كوللر الذي يطرح اعتراضاته بشيء من التفصيل, من حيث إن العلاقة بين المرسل والمرسل إليه, باعتبارهما يمتلكان طبيعة جوهرية واحدة, حسب جريماس, تحتاج إلى تفسير وتبرير, وهو ما لم يقم به جريماس. كما أن جريماس يعجز عند هذه النقطة بالذات عن استخلاص سند تجريبي من بروب الذي اعتمد عليه بصورة رئيسية في طرح نموذجه, ولا تتجاوب أي من وظائف بروب الذي اعتمد عليه بصورة رئيسية في طرح نموذجه, ولا تتجاوب أي من وظائف بروب السبع مع وظيفة المرسل إليه, مما يضطر جريماس إلى القول إن الحكاية الشعبية لها خصوصيتها. (38) حيث يكون البطل ذاتا ومرسلاً إليه في الوقت نفسه, إلا أن ذلك يتناقض مع فهم أن المرسل هو الباعث (المحرض) فلا يقوم المرسل عموماً بإعطاء البطل أي شيء, إن هذا هو دور المساعد أو والد الشخص الذي يتم السعي إليه والذي يمكن أن يمنح البطل موضوع بحثه في النهاية.
ومثلما نقد تودوروف جريماس كذلك لم يسلم هو نفسه من النقد وجهة إليه كل من رولان بارت وجوناثان كوللر, فيري بارت أن الاختصار الذي طرحه تودوروف (الذي أشرنا إليه قبل قليل9 رغم أنه يتجنب المشكلات التي يثيرها نموذج جريماس, إلا أنه لا ينطبق إلا على رواية احدة. (39) (وهي رواية "علاقات خطرة" التي درسها تودوروف), وكالعادة يقدم كوللر نقداً أكثر تفصيلاً, فيرى أنه إذا كان تودوروف قد حاول في هذه الرواية أن يستخدم نموذج جريماس (الرغبة – الاتصال – المشاركة) كمحاور ثلاثة لنموذج الفواعل, وباعتذارها العلاقات الأساسية بين الشخصيات, ومضى في صياغة قواعد معينة للفعل تحكم هذه العلاقات الأساسية بين الشخصيات, ومضى في صياغة قواعد معينة للفعل تحكم هذه العلاقات في الرواية, فإنه من ناحية أخرى يرفض صراحة في كتابه "نحو الديكاميرون" Grammaire du decameron, تصنيف جريماس الخاص بالفواعل. ويحاول أن يتخذ من الجملة نموذجاً له لكي يثبت أن "الفاعل النحوي يخلو دائماً من خواص داخلية يمكن لها أن تنتج فقط ارتباطها المؤقت بمحمول". ويقترح, من ثم, معاملة الشخصيات باعتبارها أسماء أعلام تلحق بها صفات معينة أثناء المسار السدي, وليست الشخصيات أبطالاً أو أوغاداً أو مساعدين, أنها ببساطة فواعل لمجموعة من المحمولات التي يقوم القارئ بإضافتها أثناء القراءة. وهنا لا يقدم تودوروف دليلاً يعزز به هذا الرأي على أية صورة.(40)
هكذا نصل إلى الخلاصة التي وصل إليها بارت من أن "القضايا التي أثارها تصنيف شخصيات القصة لم تحل بعد". (41) وهو يقصد طبعاً ما يتعلق بالجهود النظرية البنيوية, وهي نفس النتيجة التي وصل إليها تودوروف كذلك قائلاً: "إن دراسة البطل تطرح عدة إشكاليات لم يتم حلها إلى الآن" (42) وذلك في تصوري ناتج عن أن هذه الدراسة لا تتم ف سياق ربط العمل بالعالم الذي أنتجه, ومن ثم التعامل مع الشخصية الروائية باعتبارها شخصية إنسانية, بل يتم التعامل معها في إطار وجودها الشكلي المجرد الخالص.

السرد الروائى
على نحو مغاير تماما تأتي معالجة البنيويين لقضية السرد الروائي, فمنذ أبحاث (فلاديمير بروب) الذي درس عددا كبيرا من الحكايات الخيالية الروسية (التي جمعها فيسيلوفسكي) أصبح من الواضح أن الأساس الدلالي للنص يحدد بنيته السردية, وهذا يعني عمليا أن اختيار بعض الأضداد الدلالية مثل كبير – صغير, طيب – شرير, حقيقة – كذب ,... الخ, يحدد توزيع الأدوار الفاعلة في القص مما يؤدي – في رأي زيما – إلى أن تصبح (هذه العملية لا تعدو كونها تعريفا وظيفيا (للبطل) في مواجهة (البطل الضد) و(المساعد) بالمقارنة مع المعارض .. الخ) (43) إن هذا الاستنتاج يحدد ما يطلق عليه البنيويون (مستوى الوظائف) و(مستوى الأفعال) وهما المستويان اللذان لا يمكن أن يكتمل أثرهما إلا في إطار ما يسميه بارت (مستوى السرد) وهو وصفي كسابقيه, حيث يقوم على مهمة تحديد موقع السارد مداخل الرواية, ومنه نصل إلى أنماط السرد المختلفة.
فكما أن (أنا) و (أنت) في التواصل اللساني يفترض كل منهما الآخر, فإن الرواية حسب بارت لا يمكن أن تكون بدون راو أو سارد, كما أنه لا يمكن أن نتخيلها بدون قارئ أو سامع, وهو أمر وإن بدا بديهيا إلا أنه قد استثمر – حسب بارت - استثمارا سيئا, من حيث إنه قد استقطب الاهتمام لدراسة المؤلف ونسج الأساطير حوله, بينما تم إهمال الطرف الآخر, حيث يرى بارت أنه لا أهمية لدراسة دوافع المؤلف ولا في الآثار التي يمكن أن يتركها النص في القارئ, وإنما الأهمية الحقيقية تكمن في وصف النظام الذي يكون فيه للراوي والقارئ معنى على طول القصة (44) فالعلاقات الدالة على السارد تبدو مرئية وواضحة أكثر من العلامات المتجهة نحو القارئ التي هي علامات أكثر مراوغة, بيد أنها تقوم بوظيفة مهمة في تحقيق التواصل القائم على الاتفاق المضمر الذذي يعقده النص مع القارئ, وهي تلك الوظيفة التي يسميها (جاكوبسون) الوظيفة الغيبوية للإيصال)(45) (من الغيب) وسوف أركز فيما يلي على علامات السارد باعتبار أنها أوثق فى علاقتها بموضوع البحث في هذه النقطة.
حتى ندخل إلى عالم التحليل البنيوي للسرد ينبغي علينا ألا نخلط بين الكاتب والسارد.. فالسارد ليس أبداً بالكاتب.. لكنه دور مخلوق ومتبنى من طرف الكاتب". أو أن "السارد شخصية من خيال مسخ فيها الكاتب". (46) فهو شخصية متخيلة أو "كائن من ورق". كما يقول بارت, شأنه في ذلك شأن باقي الشخصيات الروائية الأخرى, يتوصل بها المؤلف ويؤسس عالمه الحكائي لتنوب عنه في سرد المحكي وتمرير خطابه الأيديولوجي, وأيضاً ممارسة لعبة الإيهام بواقعية ما يروى, ومن هنا فإن الخطاب السردي يأتي على هذا النموذج الذي وضعه هامون وأورده بوطيب عبد العالى في دراسته المشار إليها:
السارد = شخصية رقم (1)
شخصية رقم (2), مرسلة عارفة – موضوع – معرفة – شخصية رقم (3) متلقية غير عارفة
شخصية رقم (4) مسرود لها
حيث أن السارد هو شخصية فاعلة في الرواية حتى وإن لم ينص المتن على ذلك, مثله في ذلك مثل المسرود له أو المتلقي الذي هو قائم جوهرياً, لأنه هو الذي يمنح السرد (من حيث كونه خطاباً) مشروعيته التي تتطلب بالضرورة وجود مخاطب, وإذا كانت العلاقة بين السارد والمسرود له يحكمها المتن الحكائي أو الموضوع – المعرفة, حسب النموذج السابق, فقد استولى هذا المتن على اهتمام البنيويين باعتباره حجر الزاوية في العملية الحكائي, جنباً إلى جنب مع الطرفين الآخرين, على حساب الشخصية الرابعة (المسرود له) التي لم تجد الاهتمام المناسب لها حتى الآن, حسب بارت.
إن المتن الحكائي باعتباره خطاباً أيديولوجياً أو "أيديولوجيم" . بتعبير جوليا كريستيفا – لابد أن يحتوي على "وجهة نظر" Point Vew وهو مصطلح طرحه الروائي والناقد الإنجليزي هنري جيمس في أواخر القرن التاسع عشر. (47) حيث لعب هذا المفهوم دوراً كبيراً في النظرية الأدبية وتطبيقاتها, على السواء. من ناحية أنه يستلزم من الروائي أن يعرض الأشياء من وجهة نظر معينة, وهو ما يفصل أو يحدد الشخصية التي توجه – برؤيتها – المنظور السردي . ومن ثم, تحديد كينونة السارد أو "الذي يرى" وعلاقته بمن "يتكلم" كما يقول جينيت.
وأتصور أن هذا المصطلح, بهذا المعنى, له علاقة على النحو ما بمصطلحى "المنظور" و "رؤية العالم" اللذين قابلناهما عند كل من لوكاتش وجولدمان (على القرابة الكائنة بينهما). غير أن استخدام هذا المصطلح عند البنيويين (كما تقول أنجل بطرس سمعان) له "دلالات متعددة منها:
إنه قد يعني فلسفة الروائي أو موقفة الاجتماعي أو السياسي أو غير ذلك. وقد يعني – في ابسط صورة – في مجال النقد الروائي, العلاقة بين المؤلف والرواي وموضوع الرواية". (48)
وقد تجلت هذه الميوعة, في معنى المصطلح, في تعدد نماذج السردية التي طرحها جيرار جنيت في كتابه "وجوه 3" Figures III , بدءاً مما طرحه الناقدان كلينيث بروكس وروبرت بن وارين عام 1943, فيما أسمياه ببؤرة السرد Focus of Narration كمقابل لهذا المصطلح "وجهة النظر". وكذلك جهود الناقد الألماني ف.ك, ستانزل التي طرحها عام 1955 ونظيرة نورمان فريدمان في العام نفسه, حتى نصل إلى أحداث هذه الجهود في هذا الصدد فيما طرحه جون بويون في كتابه "زمن الرواية" Le temps du roman" وتزفيتان تودوروف تصور بويون الذي يتمثل في طرح نظام لمظاهر النص, وهو الذي اعتمده تودوروف مع تغييرات بسيطة, ويتفرغ تصور بويون إلى ثلاثة أنواع محددة:
1- الرؤية من الخلف
وهي التي تستخدم غالباً في الأعمال الكلاسيكية, حيث تكون معرفة السارد أكثر من معرفة البطل, دون أن يهتم هذا السارد بإعلامنا بالطريقة التي حصل بواسطتها على هذه المعلومات, فهو كمن يبصر من خلال جدران المنازل بنفس القدر الذي يعرف ما يجول في خواطر أبطاله, ولا يوجد سرد إلا ويعرفه, إن هذا الشكل يظهر بالطبع بدرجات مختلفة ومناح متعددة, لكنها بصفة عامة تبرز قدرة الساردة على معرفة كل شيء, سواء الرغبات الكامنة لدى بطله والتي قد لا يعرفها البطل نفسه, أو معرفته بأفكار وخواطر أبطال عديدين في الوقت ذاته, أو في النهاية قدرته على رواية الأحداث التي لا يمكن أن يحيط بها بطل واحد.

2- الرؤية المصاحبة
وهذا الشكل منتشر بكثرة في الأدب في العصر الحديث, بصفة خاصة, حيث لا يعرف الراوي أكثر مما يعرفه الأبطال, ولا يستطيع أن يقدم لنا تفسيراً للأحداث قبل أن يفسرها الأبطال أنفسهم, ومن هنا تبرز سمات مهمة حيث يمكن أن تروى الرواية التي جاءت على هذا المنوال بضمير المتكلم أو بضمير الغائب, سواء بسواء, ولكن في كل الأحوال تروى حسب الرؤية التي يملكها شخص واحد للأحداث (والنتيجة بالطبع لا يمكن أن تكون واحدة من الناحية الدلالية, غير أنه من المفيد أن أشير إلى أن فرانزكافكا, قد كتب روايته "القصر" بضمير المتكلم ثم حولها بعد فترة إلى ضمير الغائب ولم يغير هذا الأمر شيئاًُ من بقائها في مجال الرؤية المصاحبة, وتمكن هذه الرؤية السارد من أن يتابع بطلاً واحداً أو أبطالا عديدين في نفس الآن, كما أنها تتيح إمكانية تشريح عمليات التخيل والنوازع الداخلية للأبطال في حالة استخدام ضمير المتكلم مثلما الحال بالنسبة لقطاع كبير من روايات وليام فولكنر.
3-الرؤية من الخارج
وهى الوضعية الثالثة حيث يعرف فيها السارد أقل من جميع أبطاله (وبالطبع هذه الرؤية لا علاقة لها بمصطلح متشابه استخدمه لوكاتش في تناوله للواقعية النقدية وأوردته فيما سبق). عن السارد في هذه الرؤية لا يفعل أكثر من أن يصف لنا ما نراه أو نسمعه تماماً مثل الكاميرا السينمائية, فهو عاجز عن النفاذ إلى أي من ضمائر أبطاله. إن الاستعمال الفعلي لهذه النقطة لم يظهر إلا في القرن العشرين. وهي تعبير عن تنازل السارد عن وضعية الإله العليم ببواطن الأمور الذي رأيناه في الرؤية الأولى (الرؤية من الخلف) إلى أدنى درجة ممكنة, وذلك تحت وطأة ما أسفر عنه العصر التكنولوجي من نواتج قبلت الكثير من أشكال اليقين, مما أدى إلى استحالة الانحياز أو القطع الكامل بصحة أو خطأ شيء أو أحد.
فالسارد هنا شاهد لا يعلم شيئاً ولا يزيد أن يعلم, لذلك فإن تودوروف يرى أن هذه الوضعية, وإن كانت تحول إيهامنا بأنها تنحو نحو الموضعية, إلا أ، موضوعيتها لا يمكن أن تكون مطلقة مهما حاول صاحبها ذلك. وهو الأمر الذي يؤكده بارت راصداً, "أن هناك انقلاباً مهما نشأ عن شعور الجمهور القارئ بأن أحداً لم يعد يكتب الرواية". ويقوم هذا الانقلاب على تصور انتقال القصة من نظام تأكيدي محض إلى نظام أدائي يكون بموجبه معنى الكلام هو فعل النطق به نفسه, وقد أشرت إلى ذلك في صدر هذا البحث, ولهذا فإنه يرى: "أن جزءاً من الأدب الروائي المعاصر لم يعد وصفياً ولكن متعدياً ويحاول أن يستكمل في الكلام حاضراً نقياً, بحيث يطابق الخطاب كله مع الفعل الذي يحرره, وما كان ذلك إلا لان الفعل الأول (لوجوس) كله ينسحب أو يمتد على المعجم". (49).
ومن هنا فالرؤية من الخارج عند بارت لا تعدو كونها استبدال الرواية بالفعل, والسرد بالكتابة أو النطق, دون أية محاولة للادعاء بمعرفة باطنية أو حقيقية مطلقة للأشياء والبشر.
يضيف تودوروف إلى هذه الأساليب الثلاثة أسلوباً رابعاً يسميه "بالرؤية التجسيدية" Steroscopique وهي متطورة عن النوع الثاني (الرؤية المصاحبة) التي لا يعلم فيها السارد أكثر مما يعلم الأبطال, وقد ذكر أن السارد يمكنه أن يتنقل بين أبطال عديدين, فإذا كان هؤلاء الأبطال يروون حادثة واحدة, فإن الأثر المتولد هو تجسيد هذه الحادثة من زوايا متعددة حسب تصوراتهم المتعددة التي تعطينا رؤية مركبة للحادث الموصوف.
إن تكرار وصف الحادث الواحد يمكن, فيما يرى تودوروف – من تركيز الاهتمام على المتلقي, لأننا على علم بخفايا الحكاية, وهذه هي الطريقة الفنية التي يفضلها فولكنر, كما نجدها عند نجيب محفوظ في رواية "ميرامار" حيث يتم التعامل مع وضعية واحدة من قبل عدة شخصيات مختلفة, كما يتم سرد الرواية نفسها مرات عديدة ولكن من وجهات نظر أشخاص مختلفين, ومن هنا فإن الحادث يكتسب أبعاداً أكثر غنى وعمقاً مما لو تمت روايته على لسان شخصية واحدة. ويرى تودوروف, في هذا الصدد إنه إذا كانت العصور القديمة تقوم على إيمان من نوع ما, بحقيقة مطلقة كلية, فإن العصور الحديثة تكتفي بروايات متعددة دون أن تدعي الوصول إلى زاوية واحدة, تعتبرها الصادقة عن ما عداها. (50) ومن هنا يأتي المعنى الذي تقوم عليه النهايات المفتوحة التي يمكن أن تقبل تأويلات متعددة.
وقد أورد رولان بارت نفس هذه الرؤى السردية في كتابة "مدخل التحليل البنيوي للقصة". حيث يدمج الرؤية الثالثة (الرؤية من الخارج) من الرؤية التجسيدية التي أضافها تودوروف, معاً, في رؤية واحدة, يطلق عليها "المفهوم الثالث". غير أنه يعلق على كل ذلك بقوله: "إنهما مفاهيم مزعجة". وذلك لأنها تبدو, وكأنها ترى في الراوي – السارد والفواعل شخصيات واقعية (حية) وأن مصداقية القصة تتحدد على أساس مرجعيتها الواقعية, وهو يختلف مع ذلك استناداً إلى تصوره عن الشخصيات بأنها "كائنات ورقية" (وقد أشرت إلى ذلك فيما سبق).
ومن هنا فإن بارت يقرر (متابعاً لبنفينست), أنه لا يعرف, في مجال الرواية إلا نظامين من نظم الأشارات, مثلهما في ذلك مثل اللغة: شخصي وغير شخصي, ولا يتعلق هذان النظامان بالضمير (أنا) أو (هو) اللذين قد يستخدمان في السرد, فهناك قصص تستخدم الضمير الثالث (هو) يمكن قلبها بسهولة إلى الضمير الأول (أنا) (وقد أوردت قبل مثال كافكا الذي ذكره تودورف). ولذلك فإن بارت يعلق نجاح هذه العملية على كونها لا تؤدي إلى هدم الخطاب, باستثناء أنها تغير الضمائر الرئيسية المستخدمة, فإذا تم ذلك فإن الخطاب يبقى في نفس النظام الشخصي القائم عليه. أما إذا دخلت الأفعال المحايدة مثل "بدا" "ظهر".... إلخ, فإننا ننطلق إلى النظام اللاشخصي, وهوالدرجو التقليدية في القصة, (51)
غير أن تودوروف يحتفظ بكلا الطرفين ويربطهما على نحو أكثر تفصيلاً وتحديداً, فإذا كانت رؤى السرد, حسبما تقدم, تتأسس على الطريقة التي وقع بها تصور الحكاية من قبل السارد, فإنها تستدعي الوقوف على تصنيف آخر ألا وهو يطلق عليه "صيغ الحكاية" Modes du recit من زاوية اهتمامها بالطريقة التي يعرضها بها السارد. حيث تنقسم هذه الصيغ إلى نوعين: الأول يقوم على مقولة إن الكاتب "يبرز" أو يقدم لنا الأشياء, أما الثاني فإنه يقوم على أن الكاتب يكتفي بقوله. ومن ثم, فالصيغة الأولى هي صيغة التقديم أو التمثيل La representation, أما الصيغة الثانية فهي صيغة السرد La narration, وهما تتصلان ضمنياً بمبدأي: "الخطاب" و"الحكاية" حيث يفترض تودوروف في هذا المجال, أن هاتين الصيغتين الموجودتين في القصة المعاصرة تقودان إلى أصلين مختلفين "السيرة" La chronique , و"المأساة" La drama .
فالسيرة أو التاريخ – حسبما يعتقد – سرد صرف يكون الكاتب فيه مجرد شاهد ينقل الأحداث, أما الأشخاص فإنهم لا ينطلقون. وبالتالي فإن قواعد هذا النوع هي قواعد هذا النوع هي قواعد النوع التاريخي نفسه. أما في المأساة, فإنه على العكس لا تنقل الحكاية أو تسرد, وإنما تعرض أمام أعيننا, فيتم تضمين الحكاية في ردود الأشخاص.
إن هذه الحالة تستدعي التفرقة بين كلام الشخصيات وكلام الراوي, كما تستدعي الحديث عن الموضوعية والذاتية في الكلام. فإذا كان "السرد" يرتبط بكلام الراوي, و"التقديم" أو التمثيل يرتبط بكلام الشخصيات, فإن مظهرى الكلام هذين يحددان الذاتي والموضوعي, أو الشخصي وغير الشخصي, ومن حيث صيغ الخطاب, تصبح الصيغة إما تقريرية constative (موضوعية) , وإما إنجازيه performative (ذاتية). ويضرب تودوروف مثلاً على ذلك بجملة "خرج السيد من منزله في الساعة العاشرة من يوم الثامن عشر من شهر مارس". فهذه الجملة تكتس صيغة موضوعية واضحة, وهي لا تقدم أية معلومات عن السارد (أو المتلافظ كما يطلق عليه المترجم), باستثناء الإشارة إلى أن الحديث قد وقع بعد الزمن المذكور في الجملة, وعلى العكس من ذلك, فإن لبعض الجمل الأخرى دلالة تكاد تتعلق بالسارد (المتلفظ) فحسب, كأن يقول أحد الأشخاص "أنت جميلة" فهذه الجملة تدل على فعل قام به السارد, وهو فعل المجاملة, حتى وإن احتفظت الجملة نفسها بقيمة موضوعية تحت أي ظرف واقعي.
ومن هنا فالإطار العام للملفوظ هو الذي يحدد – في نهاية الأمر – درجة الذاتية بالنسبة إلى كل جملة, غير أن تودوروف يورد – استدراكاً لذلك – أن الذاتية قد تراجع في الكلام إلى المستوى الاصطلاحي, فالمعلومة ترد إلينا وكأنها صادرة عن البطل لا عن الراوي – السارد, في الوقت الذي لا نعلم فيه شيئاً عن هذا البطل, حيث يمكن هنا أن تنسحب على الكلام الراوي السارد ذي الصفة السردية التاريخية (الموضوعية)’ أما إذا تم استخدام الصور البلاغية أو صيغ التأمل, فإن السارد يتحول حينئذ إلى كائن واضح القسمات والمعالم, وبذلك يقترب من الشخصيات في ذاتيته.(52).
فإذا انتقلنا إلى جيرار جينيث, فإننا نجده يستبعد مصطلحي "الرؤية". و"وجهة النظر" لما لهما. في اعتقاده. من طابع بصري Visuael ويستبدلهما بمصطلح التبئير la facalization الذي استلهمه من مصطلح بؤرة السرد Focus of narration للناقدين بروكس ووارين. ولذلك فإن جينيت يطلق تسمية محكي غير مبوأر recit non focalise, أو تبئير في درجة الصفر Cofalization Zero . كمقابل لمصطلحى بويون وتودوروف: الرؤية من الخلف, والسارد الشخصية. بينما يسمى الرؤية المرافقة التي يكون فيها السارد مساوياً للشخصية من حيث المعرفة. "بالمحكى ذي التبئير الداخلي" le recite a focalization interne , وهو يقسمه – من ثم – إلى ثلاثة أنواع:-
محكي ذو تبئير داخلي ثابت recit a focalization intene fixe والنموذج المثالي الذي بجسده هو رواية السفراء les ambassadeurs لهنري جيمس التي يقول عنها لويوك: "إن جيمس في السفراء لا يخبرنا بقصة عقل ستريزر, إنه يجعل هذا العقل يتحدث عن نفسه, انه يمسرحه". (53) لأنه يعرض كل شيء من خلال شخصية واحدة, وهو الأمر الذي يحصر مجال الرؤية في الشخصية الرئيسية التي يقع عليها التبئير, في مقابل تسطيح باقي الشخصيات.
محكي ذو تبئير داخلي متنوع Recita Focalization interne muliible, والنموذج المجسد لهذا النوع هو رواية مدام بوفاري Madame Bovary لفلوبير G.Fluber, حيث يبدأ السرد مبوأراً على شخصية شارل Cahrles ثم ينتقل بعدها إلى شخصية إما Emma قبل أن يعود من جديد ليركز على شخصية شارل.
محكي ذو تبئير داخلي متعدد recita focalization interne multible, وهو ما نجده في روايات الرسائل حيث يتم عرض الحدث الواحد مرات عديدة ومن وجهات نظر شخصيات مختلفة. كما هو الشأن في رواية علاقات خطرة Dangeruses les liaisons.
أما حالة "الرؤية من الخارج", حيث السارد أقل معرفة من الشخصية فيسميها جينيت بـ "المحكي ذي التبئير الخارجي" les resit a focalization externe كبعض روايات هيمنجواي (رواية "القاتلة", على سبيل المثال), حيث نتابع حياة وسلوك الشخصيات خارجياً مع السارد, دون أن نتمكن من ولوج عاملها الداخلي لنتعرف على ما لديها من عواطف. (54)
يتضح لنا الآن مقدار التركيز الهائل الذي مارسه البنيوين على قضية الشكل السردي وإيلاؤهم جهوداً كبيرة من أجل تصنيفه ووضع النماذج الطامحة لاستيعاب مختلف تبايناته.
ولقد أثرت هذه الجهود ف نقادنا العرب الذين حاولوا وضعها موضع التطبيق في مجال دراسة الرواية العربية. وهنا يجدر بنا أن نذكر جهود الأستاذ الدكتور/ صلاح فضل التطبيقية في كتبه "شفرات النص". 1990 و"إنتاج الدلالة الأدبية" 1993, غير أنها بلغت أوجها من حيث التركيز والتأصيل في كتابة " أساليب السرد في الرواية العربية" 1992, حيث يحاول إثبات إن النقد العربي قادر على التعامل مع المفاهيم النقدية الجديدة وتطبيقها على النصوص الروائية المحددة, ورغم أنه يدعو هنا إلى أن يقتصر البحث المنهجي التجريبي الذي يقوم على الرسوم والجداول البيانية .. "المجافية بطبيعتها للحس الفني والتذوق النقدي لألوان الشعرية المتفاوتة" .. على الدوائر الأكاديمية والجامعية لتكوين قاعدة معرفية ونظرية صلبة, إلا أنه لا يعزلها عن الممارسة النقدية التطبيقية للأعمال الإبداعية المتجددة, بل يدعو إلى أن "تنطلق منها وعلى هديها الممارسات النقدية العامة التي لا تفقد بهجة المصاحبة الحميمة للنصوص بمنطق الأدب ولغته الأثيرة". (55)
وهو بذلك يحل مشكلة صعوبة لغة النقد الحديث واستعصائه على القارئ العادي. من حيث إنه يسعى إلى استخلاص عدد من المؤشرات الدالة تسمح بإقامة تصنيف نوعي جديد يتيح رصد الأساليب السردية, طارحاً أن هذه المهمة لا تتم إلا بالانتقال من مرحلة التنظير وطرح المناهج إلى ما يسميه "بالعملية الجدلية" المتمثلة في التطبيق العملي على نصوص بعينها عبر الإنتاج الروائي في الثقافة العربية "حيث يمكن تشغيل آليات القراءة والتأويل والتصنيف, ومقاربة الإبداع بحس تركيبي أيضاً, يبتعد عن الحرفية المدرسية في تشغيل المفاهيم, محاولا الإنصات لإيقاع النص الحميم واكتشاف خصوصيته في الوقت الذي يمسك به (الناقد) بخواصه النوعية التي تجمعه مع غيره في أسلوب واحد". (56) وهو في هذا الصدد يقترح ثلاثة أساليب سردية رئيسية في الرواية العربية:
1- الأسلوب الدرامي
"ويسيطر فيه الإيقاع بمستوياته المتعددة من زمانية ومكانية, ثم يعقبه في الأهمية المنظور وتأتي بعده المادة المقدمة".
2- الأسلوب الغنائي
"تصبح فيه الغلبة للمادة المقدمة في السرد, حيث تتسق أجزاؤها في نمط أحادي يخلو من توتر الصراع, ثم يعقبها في الأهمية المنظور والإيقاع".
3- الأسلوب السينمائي:
(ويفرض فيه المنظور سيادته على ما سواه من ثنائيات ويأتي بعده في الأهمية الإيقاع والمادة).
غير أن صلاح فضل يؤكد – إلى جانب ذلك – أنه لا توجد حدود فاصلة ولا قاطعة بين هذه الأساليب, إذ تتداخل بعض عناصرها في كثير من الأحيان, ويختلف تقدير العنصر المهيمن من قراءة نقدية إلى أخرى, مما يجعل التصنيف غير مانع بالمفهوم المنطقي, كما أنه يرصد بعض الخواص التي يمكن أن تخرج عن العناصر التي تمت ملاحظتها في هذا التصنيف, وتتوزع على نحو ما في بعض مناطقه, مما قد يوهم بتكوين أسلوب مخالف, وذلك مثل الصبغة الملحمية المتجسدة في عدد من الروايات العربية, نتيجة لهيمنة المادة الروائية على العناصر الأخرى, مما يجعلها شديدة القرب من الأسلوب الغنائي, غير أن ذلك بذاته يؤكد أن التصنيف غير مانع, وهو لذلك يؤكد أن جهده في هذا الكتاب ما هو إلا محاولة أولية تصبو إلى تمثيل الواقع الإبداعي والتعبير النقدي (المتمثل للنظرية والواعي بالأطر النقدية) عن خصائصه السائدة,. إن هذه المحاولة التقريبية الجادة للدكتور/ صلاح فضل, وإن لم تدع لنفسها الكمال, إلا أنها تعد في طليعة الأعمال التي عالجت الإبداع الروائي العربي عبر وعي عميق ورصين بالنظرية النقدية المعاصرة, كما أنها تمتاز عليها بأنها لا تجعل النص في خدمة النظرية. (57)
وإنما تجعل النظرية معينا وعاملا منشطا, ومشروعا مقترحا لفهم النص, فلا تكون قيدا عليه, بل مدخلا لفهم عالمه.


الهوامش
1- تودوروف, مقولات الحكاية الأدبية, مرجع سابق, ص 106.
2- د. صلاح فضل, نظرية البنائية, مرجع سابق, ص 425 – 426 ولمزيد من التفصيل حول مفهوم (النموذج) أو (النمط) وتاريخ استخدامه في النقد الأدبي, انظر كتابه (منهج الواقعية في الإبداع الأدبي), مرجع سابق, كم ص 139 حتى 162.
3- د. صلاح فضل, نظرية البنائية, مرجع سابق, ص 426.
4- نقلا عن: رولان بارت, مدخل إلى التحليل البنيوي, ترجمة منذر العياشي, مركز الإنماء الحضاري, بيروت, 1993, ص 63
5- نفسه, ص 64 , وأرى هنا خطأ في الترجمة, فالأصل المكتوب كالتالي (قد عرف الشخصية بوصفها كائنا وليس بوصفها مشاركا) والمعنى بذلك لا يتسق ومرامي البنيوية وبارت بالذات, وقد أكد لي صحة تصوري ورود نفس هذه العبارة عند جوناثان كوللر بالمعنى الذي أوردته في المتن, أي بتقديم المشارك على الكائن . (كوللر, مرجع سابق, ص 114).
6- انظر: زيما النقد الاجتماعي, مرجع سابق, ص 179 – 180.
7- نقلا عن بارت, مدخل إلى التحليل, مرجع سابق, ص 65.
8- عن كوللر, مرجع سابق, ص 15.
9- تودوروف, مقولات الحكاية الأدبية, مرجع سابق, ص 106, وكذلك رولان بارت, مدخل إلى التحليل البنيوي, مرجع سابق, ص 66.
10- بارت, نفسه, ص 67.
11- كولر, مرجع سابق, ص 115
12- بارت, مدخل إلى التحليل البنيوي, سابق, ص 67
13- كوللر, سابق, ص 117
14- بارت, مدخل إلى التحليل البنيوي, سابق, ص 66
15- تودوروف, مقولات الحكاية الأدبية, مرجع سابق, ص 106
16- لوكاتش, دراسات في الواقعية الأوروبية, مرجع سابق, ص 29
17- نفسه, ص 131 – 132
18- لوكاتش, دراسات في الواقعية الأوروبية, مرجع سابق, ص 82
19- لوكاتش, معنى الواقعية المعاصرة, سابق, ص 39
20- نفسه, ص 66
21- لوكاتش, تاريخ تطور الدراما الحديثة, شركة فرانكلين, بودابست, 1911, الجزء الأول, ص 71 (بالمجرية), Lukas Gyorgy, Amodern drama fejlodesenek Tortente, Frankline Trasulat, Budapest, 1917 , I kotet, VI oldal
22- لوكاتش, دراسات في الواقعية الأوروبية, مرجع سابق, ص 97
23- نفسه, ص 94
24- نفسه, ص 89
25- جورج لوكاتش, أهمية الواقعية النقدية اليوم, دار الآداب, بودابست, 1985, ص 140 (بالمجرية) Lukas Gyorgy, Alritikairealizmusjelentosegema, szepirodalmikonyvikiado, Budapest, 1985, 130
26- تيودور أدورنو, وضعية السارد في الرواية المعاصرة, ترجمة محمد برادة, فصول صيف 1993, ص 92
27- نفسه, ص 95
28- زيما, مرجع سابق, ص 179
29- بارت, التحليل البنيوي, سابق, ص 70
30- نفسه, ص 71
31- بوطيب عبد العالي, مفهوم الرؤية السردية في الخطاب الروائي, عالم الفكر, يونيه 1993, ص 33.
32- نفسه, ص 35
33- انجيل بطرس سمعان, وجهة النظر في الرواية المصرية, مجلة فصول, العدد: رقم 2, 1982, ص 103.
34- لمزيد من التفصيل, انظر: بوطيب عبد العالي, سابق, ص 36 – 39
35بارت, التحليل البنيوي, سابق, ص 77
36تودوروف, مقولات الحكاية الأدبية, ص 111
37- بارت, مدخل إلى التحليل البنيوي, سابق, ص 72 – 74
38- تودوروف, مقولات الحكاية الأدبية, ص 112 – 13/
39- رينيه ويلليك, أوستن وارين, نظرية الأدب, ترجمة محيي الدين صبحي, المؤسسة العربية للدراسات والنشر, بيروت, ط2, 1981, ص 235 – 236
40- لمزيد كم التوسع, انظر: د. صلاح فضل, بلاغة الخطاب وعلم النص, المجلس الوطني للثقافة والفنون, الكويت, 1992, ص 299 – 312
41- د. صلاح فضل, النظرية البنائية في النقد الأدبي, مرجع سابق, ص 435 – 440
42- د. صلاح فضل, أساليب الرد في الرواية العربية, دار سعاد الصباح, القاهرة, 1992, ص 8
43- نفسه, ص 10
44- انظر كتابي سعيد يقطين:
45- تحليل الخطاب الروائي, المركز الثقافي بيروت, الدار البيضاء, 1989
46- انفتاح النص الروائي, المركز الثقافي بيروت, الدار البيضاء, 1989
47- بير زيما, مرجع سابق, ص 180 – 181



#صلاح_السروى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اتجاهات الأدب والثقافة فى مصر فى القرن العشرين
- بعض قضايا الرواية عند منظرى النقد الاجتماعى
- حول الصراع الأمريكى - الخليجى مع ايران
- موقف من الصراع الأمريكى - الخليجى مع ايران
- سمير أمين وإشكالية التقدم والتنمية لدول العالم الثالث في ظل ...
- صلاح السروى - باحث أكاديمي وناقد أدبي مصري، وعضو المكتب السي ...
- مصر : ضرورة اتخاذ موقف مستقل ازاء الأوضاع الاقليمية المعقدة
- انتفاضة يناير درة العقد فى مدرسة الاحتجاج المصرية
- ماذا تبقى من طه حسين؟
- جريمة كنيسة الوراق - الدلالات والأهداف
- ثورة الثلاثين من يونيو - الواقع والتحديات
- الانتفاضة المدنية المتواصلة خطوة على طريق انقاذ الثورة
- المسار السياسى والمسار الثورى - علاقة جدلية
- السقوط الوشيك لتيار الاسلام السياسى فى مصر
- مأزق الثورة المصرية ومهمات الانقاذ
- البرلمان آخر ورقة فى يد الثورة المضادة
- ابراهيم أصلان - بساطة الأعماق
- صعود الاسلام السياسى - الأسباب والنتائج
- خيرى شلبى سارق الفرح
- الشيوعيون المصريون بين ثورتين


المزيد.....




- الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
- متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
- فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
- موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
- مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
- إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
- الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
- يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
- معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا ...
- نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد ...


المزيد.....

- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صلاح السروى - النقد الشلانى للرواية