|
فصل النقد عن البضاعة !!
فؤاد النمري
الحوار المتمدن-العدد: 6319 - 2019 / 8 / 13 - 21:18
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
فصل النقود عن البضاعة !!
انتقل كارل ماركس من كلية الحقوق في بون إلى كلية الفلسفة في برلين حيث يعلم هيجل فلسفته الديالكتيكية التي تقول بأن رأس الحكمة (العقل) ما يصنع التاريخ، فكان أن تعلم ماركس العكس تماماً وقال أن التاريخ هو ما يصنع الحكمة ورأسها . قصر الماركسيون في معرفة ماركس والتعريف به على حقيقته . ماركس هو بكلمة "معلم التاريخ" الذي يقرأ التاريخ على حقيقته من صناعة القانون العام للحركة في الطبيعة (الديالكتيك المادي) وليس من صناعة الإنسان كما يرغب أن يكون . عامة الشيوعيين اليوم يقرؤون تاريخاً خاصاً بهم يستجيب لأرائهم حتى وإن كانت منافية للواقع مثل الزعم برأسمالية وإمبريالية الولايات المتحدة رغم أنها اليوم أكبر مستورد للبضائع ورؤوس الأموال في العالم . مثل هؤلاء القوم سيرون في عنوان "فصل النقد عن البضاعة" مجرد هذيان (Nonsense) طالما أنه لا يتفق ومعتقداتهم حاصل إفلاسهم .
القراءة التي علّمها ماركس تقول أن عالم اليوم إنما هو التداعي لجريمتين فظيعتين اقترفهما قادة سياسيون غرسوا خنجر الخيانة في كبد الإنسانية منعاً لتقدمها المرسوم على سكة التطور . الطعنة الأولى كانت بخنجر البورجوازية الوضيعة السوفياتية حين قامت بانقلاب ضد الإشتراكية بعد اغتيال ستالين مباشرة في العام 53 وحالت بذلك دون تقدم البشرية جمعاء نحو الإشتراكية . والطعنة الفظيعة الثانية جاءت استكمالاً للطعنة الأولى وكانت بخنجر قادة الدول الرأسمالية الخمس الكبرى (G 5) حين قرروا فصل النقود عن البضاعة في مؤتمرهم التأسيسي في رامبوييه في 16 نوفمبر 75 . فكان أن أعلن قادة الدول الراسمالية الخمس الأغني في العالم عن تضامنهم في كفالة أسعار صرف عملاتهم في الأسواق ؛ وهذا كسر لقانون أساسي في النظام الرأسمالي الذي دورته الحيوية تقتضي تحويل النقد إلى بضاعة ثم تحويل البضاعة إلى نقد، فاختطاف النقد إلى خارج هذه الدورة الرأسمالية يعني مباشرة انهيار النظام الرأسمالي .
أي فكرٍ شيطاني هو ذلك الفكر الذي حمل البعض لأن يفكروا بفصل النقد عن البضاعة !!؟ لم يُرى قط أحد الذين يموتون جوعاً في المجاعات الكبرى أن أحدهم تناول الورق من حوله ليأكله ويسد جوعه، لكن الرئيس الأميركي جيرالد فورد، ورئيس وزراء بريطانيا هارولد ولسون، والرئيس الفرنسي جيسكار دستان، ومستشار ألمانيا هيلموت شميدت، ورئيس وزراء اليابان تاكيو ميكي قرروا في مؤتمرهم في رامبوييه في 16 نوفمبر 75 وهو أول مؤتمر لمنظمة الخمسة الكبار (G 5) ، قرروا أن يأكلوا الأوراق المالية في خزائنهم المترعة بالأموال لتسد جوعهم واحتكارهم للسلطة والثروة . اجتمعوا لتدبر أحوالهم المتردية بسبب إنغلاق الأسواق التي كانت تبتلع كامل فائض الإنتاج المتحقق في بلادهم وقد استقلت وأخذت تبني إقتصاداتها المستقلة وتوقفت تماماً عن استيراد فائض الإنتاج المتحقق في الدول الرأسمالية، ولما لم تجد هذه الدول الرأسمالية الخمس الكبرى بدّاً من الإقلاع عن إنتاج البضاعة وهي الوسيلة الوحيدة للإنتاج الرأسمالية لذلك قرروا أن يلعبوا لعبة الموت الأخيرة وأن يفصلوا النقد عن البضاعة . لقد أعلن قادة الدول الرأسمالية الخمسة تضامنهم في الحفاظ على أسعار صرف عملاتهم في الأسواق الأمر الذي يعني دون لبس أو إبهام أن هذه الدول لم تعد تمتلك الغطاء القانوني لنقودها من الذهب أو أية بضاعة أخرى وهو ما يلغي القيمة الحقيقية لتلك النقود فقيمة النقود كما هو معلوم تتحقق فقط باستبدالها بالبضاعة حتى وإن كانت توصف بالنقود الصعبة . النقل التعسفي للقيمة (Value) من البضاعة إلى النقود المخالف للقانون الدولي وللطبيعة يلغي تماما الإدعاءات القديمة للرأسماليين الإمبرياليين حول عدالة المبادلة بين قوى العمل الفائضة في المراكز الرأسمالية بالمواد الخام من المستعمرات وباتت مبادلة الإنتاج المادي لمختلف قوى الإنتاج في العالم بأوراق نقدية مكشوفة تفتقد لكل قيمة حقيقية ليست إلا لصوصية مفضوحة على رؤوس الأشهاد . وهذا هو "النظام" الدولي القائم اليوم، ويصر مجندو البورجوازية الوضيعة ومنهم الشيوعيون المفلسون على وصفه بالنظام الرأسمالي المتغول مع أنه ضد النظام الرأسمالي قلباً وقالباً .
لكن كيف نجح أولئك اللصوص الخمسة في كسر القانون الدولي ومخالفة الأمور الطبيعية لتأسيس نهج لصوصي في التجارة العالمية التي ما زالت تتحكم بمختلف الأنشطة التجارية في العالم منذ سبعينيات القرن الماضي !؟ كان الجيش القوى الطليعية للبورجوازية الوضيعة السوفياتية قد قام بانقلاب في العام 53 وحول الإقتصاد الإشتراكي المعروف بالإنتاج المدني المحتفظ بقيمته بذاته إلى اقتصاد حربي فاقد لقيمته البضاعية وقيمته الإستعمالية لخير ورفاه الإنسان . تراجع الإقتصاد السوفياتي بصورة خطيرة اضطرت الرئيس السوفياتي بريجينيف أن يستعطف قادة دول الرأسمالية الإمبريالية في مؤتمر هلسنكي يوليو 75 لأن يلاقوه في منتصف الطريق فلا يخسر أي من الجانبين – الإشتراكي والإمبريالي – ويتوقف التاريخ !! وهو ما يعني استنكاف الإتحاد السوفياتي عن مشروع الثورة الإشتراكية التي تتحقق فقط بانتصارها على صعيد العالم كله . وفي هذا السياق يستذكر خطاب تشيرتشل الشهير في ديسمبر 59 يصف ستالين بالقول .. " حاربنا ستالين كاستعماريين بأدواتنا وانتصر علينا " ؛ فأين الثرى من الثريا !!
من جهة أخرى كانت الدول الرأسمالية الخمس الكبرى (G 5) تمتلك أكثر من 70% من التجارة العالمية، ونقودها بالتالي واسعة الإنتشار ولذلك حظي الدولار الأوسع انتشارا بالرغم من فقدانه حوالي 40% من قيمته التبادلية في النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي، حظي بكامل القيمة المنقولة من البضاعة إلى النقد طالما أن النقل كان مجرد تزوير . القانون الأساس للنقد هو استبدال النقد بالبضاعة في سوق متحررة تماماً من كل الشروط حيث قيمة الجهد البشري المختزن في البضاعة البديل هي ما يحدد قيمة النقد المستبدل ؛ أول مؤتمر للخمسة الكبار (G 5) في رامبوييه 75 كسر هذا القانون الأساس للنقد وقال أن الدول الخمسة الكبار هي من يحدد قيمة النقد بعيدا عن البضاعة وهو ما وافقت عليه الهيئة المؤقتة لصندوق النقد الدولي في اجتماعها الطارئ في جمايكا في يناير 76 وقررت إلغاء الغطاء الذهبي للنقود وأن الدولة هي من يحدد قيمة النقد الخاص بها، وهو ما دعم سياسة الحفاظ على أسعار الصرف من خلال المضاربات في البورصة وليس من خلال الإنتاج المادي كما يفترض القانون العام . كان ذلك عملية تزييف تشمل كل نقود العالم لكنه مع ذلك غدا قانوناً إستثنائياً تفرضه سلطة الأمر الواقع المتمثلة بالدول الرأسمالية الخمس الكبرى وخزائنها المترعة بالأموال التي كانت صعبة، إثر همود الثورة الإشتراكية العالمية .
ما يثير الإشتباه حقاً بل والعجب العجاب هو أن المحللين الاستراتيجيين في الإقتصاد السياسي وخاصة الشيوعيون الماركسيون تجاهلوا عملية التزييف الكبرى والشاملة وكأن شيئاً لم يكن، وكأن النظام الرأسمالي ظل يحكم العالم وبنجاح متفوق مكنه من هزيمة النظام الإشتراكي كما يزعمون !! يا لهول جهل وجهالة مثل هؤلاء المحللين الاستراتيجيين !! إندثر النظام الرأسمالي الذي كان يدور دورته الحيوية (نقد – بضاعة – نقد) بحيث يكون النقد في نهاية الدورة يزيد على النقد في بدايتها بمقدار فائض القيمة، فانعكست الدورة فيما بعد السبعينيات ليكون النقد في نهاية الدورة أقل منه في البداية . الولايات المتحدة الأميركية وكانت آخر معاقل الرأسمالية قبل السبعينيات وظفت في العام الماضي 19 ترليون دولار في الإنتاج فكانت الحصيلة بضائع بقيمة 3.8 ترليون دولار أي بخسارة 15.2 ترليون دولار . تتكرر مثل هذه الخسارة كل عام وانقلبت الرأسمالية في أميركا (Capitalism) إلى الإقتصاد الإستهلاكي (Consumerism) والفرق بين النظامين لا يحتاج إلى تعريف فالرأسمالية هي نظام الإغتناء اليومي بتحقيق فائض القيمة، والاستهلاكية هي نظام الإفقار اليومي بتحقيق العجز السنوي المستمر في ميزان المدفوعات . هل من عذر للمراقبين والمحللين الاستراتيجيين في ألا يميزوا بين نظام الإغتناء ونظام الإفقار !؟
لم تعد أميركا توفر الرفاه لشعوبها عن طريق التصدير، تصدير البضائع ورؤوس الأموال، كما كانت في عهدها الرأسمالي، فرفاه الشعب الأميركي يتحقق اليوم عن الطريق المعاكس تماماً، عن طريق استيراد البضائع ورؤوس الأموال ؛ أميركا هي اليوم أكبر مستورد في العالم للبضائع ورؤوس الأموال، وهل كانت أميركا لتكون أكبر مستورد في العالم للبضائع ورؤوس الأموال لو احتفظ الدولار بقيمته الرأسمالية، لو بقي الدولار يشتري 50 سنتيجراماً ذهباً كما كان في العام 1970 ولم تنحط قيمته لتساوي اليوم أقل من 2 سنتيجرام من الذهب، أي أن قيمة 25 دولارا اليوم لا تزيد عن قيمة دولار واحد من دولارات العام 1970 !؟
تعلن أميركا اليوم أن إنتاجها السنوي قارب 20 ترليون دولار . منها كما هو معلوم 16 ترليون كلفة إنتاج الخدمات التي لا قيمة تبادلية لها والباقي 4 ترليون قيمة الإنتاج من البضاعة - ومنها ربما ترليون واحد كلفة إنتاج الأسلحة والتي هي ليست ذات قيمة تبادلية - والتي تساوى 160 ملياراً من دولارات 1970 وهو ما يعني أن القيمة الرأسمالية لإنتاج أميركا في العام 70 يساوي أكثر من ستة أضعاف إنتاجها اليوم وكان يتجاوز ترليون دولار . الميزان التجاري للولايات المتحدة كان يفيض بمقدار 3 مليارات دولار للعام 1970 وما قبله وغدا يحقق عجزا سنوياً منذ أكثر من 20 عاما بما يتجاوز 700 مليار دولار .
لو أن دولار اليوم هو بنفس قيمة دولار 1970 – بقيمة 50 سنتيغرام ذهباً – لما استطاعت الولايات المتحدة استيراد كل هذه الواردات التي تستوردها اليوم لا بل لما احتاجت لاستيراد معظم هذه الواردات، ولما أثقل اقتصادها برؤوس الأموال المستوردة والتي تقارب حوالي 5 ترليون من الدولارات تتعامل معظمها بالربا مع المدين الأميركي . كل فرد في أميركا طفلاً كان أم عجوزاً، ذكراً أم أنثى مدين اليوم بحوالي 65 ألف دولاراً وتتكلف الإدارة الأميركية بدفع فوائدها السنوية بما يوازي 600 مليار دولارا .
لا تنتج أميركا من بضائع تغطي ما تصدر من نقود . لقد استغنت عن تصدير البضائع واستعاضت عن ذلك ببيع الدولار، فهي لا تنتج أكثر من أربع ترليونات من البضائع ولا تصدر أكثر من ترليون لكنها تبيع سنوياً بضعة عشر ترليونا من أوراق الدولار ؛ ومقابل ذلك تشتري الصين منها أكثر من 600 مليار دولار حتى بات لدى الصين في احتياطياتها أكثر من 5 ترليون دولار لا تجرؤ على تحويلها إلى بضاعة أو أية بدائل أخرى كيلا ينهار الدولار حتى الصفر فتنهار الصين وتنهار أميركا وينهار العالم . ولذلك تلجأ العصابة الحاكمة في الصين إلى توظيف ترليونات الدولارات في المراباة وصرح الدكتور فرانسس فوكوياما قبل شهور قليلة في دبي أن ثلثي الأموال في بنوك العالم هي أموال صينية . الدولار الزائف هو اليوم ما يرسم الخريطة الجيوسياسية للعالم . تلك هي فوضى الهروب من استحقاق الإشتراكية، فصل النقد عن البضاعة .
#فؤاد_النمري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الولايات المتحدة المجهولة
-
والقيادة الجماعية ..في الأحزاب ؟!
-
الإقتصاد الدولي وغطاؤه السياسي (4)
-
الإقتصاد الدولي وغطاؤه السياسي (3)
-
الإقتصاد الدولي وغطاؤه السياسي (2)
-
الإقتصاد الدولي وغطاؤه السياسي
-
طلاق الثورة الشيوعية
-
حسن حمدان (مهدي عامل) لم يكن يوماً ماركسياً
-
نقد الدين هو الشرط الأولي لعموم النقد
-
مستقبل الدول والإمبراطوريات ؟!
-
في علم الثورة الشيوعية (7)
-
في علم الثورة الشيوعية (6)
-
في علم الثورة الشيوعية (5)
-
في علم الثورة الشيوعية (4)
-
في علم الثورة الشيوعية (3)
-
في علم الثورة الشيوعية (2)
-
في علم الثورة الشيوعية
-
الديموقراطية اللاطبقية والعدالة الإجتماعية أكذوبتان سمجتان
-
الماركسية فيما بعد انهيار العوالم الثلاث
-
الولايات المتحدة لم تعرف يوماً النظام الإمبريالي
المزيد.....
-
الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا
...
-
جورج عبد الله.. الماروني الذي لم يندم على 40 عاما في سجون فر
...
-
بيان للمكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية
-
«الديمقراطية» ترحب بقرار الجنائية الدولية، وتدعو المجتمع الد
...
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
-
متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
-
نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
-
اليوم الـ 50 من إضراب ليلى سويف.. و«القومي للمرأة» مغلق بأوا
...
-
الحبس للوزير مش لأهالي الضحايا
-
اشتباكات في جزيرة الوراق.. «لا للتهجير»
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|