إدريس لكريني
كاتب وباحث جامعي
(Driss Lagrini)
الحوار المتمدن-العدد: 1549 - 2006 / 5 / 13 - 10:52
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
كان من الطبيعي جدا بعد انهيار المعسكر الشرقي ونهاية الصراع بين الشرق والغرب أن تعمل الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها على استثمار هذه الأوضاع في تأسيس علاقات دولية مبنية على مفاهيم جديدة خدمة لمصالحها.
وفي هذا السياق بدأ الاهتمام بمجموعة من القضايا الجديدة التي كانت مهملة طيلة زمن الحرب الباردة من قبيل مكافحة الإرهاب والمحافظة على البيئة ونشر الديموقراطية وفرض احترام حقوق الإنسان.. وواكب ذلك نوع من "التفعيل" للأمم المتحدة أمام بعض القضايا بعد عطالة دامت حوالي نصف قرن.
وموازاة مع ذلك برزت نظريات سياسية و"أكاديمية" حاولت تفسير هذه المتغيرات وتتنبأ لنوع وطبيعة الصراعات العالمية المرتقبة من قبيل مقولة "نهاية التاريخ" ل"فرانسيس فوكوياما" ومقولة "صدام الحضارات" ل"صامويل هانتنغتون" التي تختزل الصراعات المقبلة في الجوانب الدينية والثقافية.
وفي غمرة هذه التحولات الدولية التي تميزت ببروز الولايات المتحدة الأمريكية كقطب مهيمن على الساحة الدولية، قامت هذه الأخيرة بالترويج من ل"نظام دولي جديد"، حيث أن "جورج بوش الأب" كان أول من استعمل هذا المصطلح في مطلع التسعينيات من القرن الماضي بمناسبة إرسال القوات الأمريكية إلى الخليج في أعقاب أزمة الخليج الثانية سنة 1990، بعدما تحدث عن بزوغ "عصر جديد " و "زمن للسلام لكل الشعوب" وبعد ذلك وبالضبط في 11 سبتمبر 1990 أشار إلى أن: "العالم يتجه نحو إقامة " نظام عالمي جديد " متحرر من الإرهاب، قوي في البحث عن العدل وأكثر أمنا في طلب السلام ومبني على التعاون والإخاء ومواجهة الأخطار المحدقة بالسلم والأمن الدوليين وتعزيز دور الأمم المتحدة".
وتعود فكرة النظام الدولي الجديد إلى سنوات الخمسينيات من القرن الماضي حينما نادت دول العالم الثالث للمرة الأولى "بنظام عالمي جديد" وكذلك في المقررات والتوصيات الصادرة عن حركة عدم الانحياز في جميع مؤتمراتها حيث شكلت تلك العبارة لازمة ثابتة في خطاب الحركة مطالبة بالتغيير والتجديد والتطوير السلمي لهذا النظام وتوسيع قاعدة الشراكة الدولية.
إن "النظام الدولي" هو مصطلح يحمل في طياته دلالات متعددة، فهو يعبر عن شكل توزيع النفوذ والقوة بين مختلف الفاعلين الأساسيين في الساحة الدولية في مرحلة معينة, وتوافر العدل ووجود ضوابط تتحكم في علاقات دولية تميل نحو الانسجام أكثر منها إلى الفوضى.
ومن شروط قيام هذا النظام هناك ضرورة وجود توازن بين القوى الدولية الرئيسية فيه بالإضافة إلى رضى مختلف هذه الأطراف وغيرها عنه وعدم ثورتها عليه أو غير مستاءة منه في أقل الأحوال.
ولقد أثار "التبشير" الأمريكي بهذا النظام عندئذ مجموعة من ردود الفعل في الأوساط السياسية والأكاديمية تراوحت بين مقر ومؤمن بوجود هذا النظام وبين منكر له، فيما برز رأي ثالث حاول التوفيق بين الرأيين السابقين.
فأصحاب الرأي الأول يؤكدون صحة وجوده، معتبرين أن ذلك من الحقائق السياسية الدولية، ويرى هؤلاء أن هناك ما يكفي من المستجدات الفكرية والسياسية الدولية التي تدل على وجوده، ويعتبرون أن هذا الأخير مختلف كثيرا عن النظام الدولي القديم.
كما يرى رواد هذا الرأي كذلك أن هذا النظام يبشر بالعدالة التي سوف تسود بالاعتماد المتبادل بين سائر أعضاء "أسرة" المجتمع الدولي وعودة الحقوق المهضومة لأصحابها. ويرصدون أهم خصائصه في انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي وبروز الولايات المتحدة كقوة عظمى ووحيدة، وتدعيم دور الأمم المتحدة باعتبارها تجسد الشرعية، وتنامي مجموعة من المشكلات والتحديات الدولية الجديدة كمشكل البيئة والإرهاب والمخدرات والأمراض العابرة للحدود وتراجع مكانة القوة العسكرية في إدارة العلاقات الدولية، وتزايد مكانة القضايا الاقتصادية ضمن الاهتمامات الدولية واتساع نطاق التحول الديموقراطي على الصعيد العالمي وتزايد حدة الاستقطاب والصراع بين الشمال والجنوب.
أما أصحاب الرأي الثاني فيشككون في صحة وجود هذا النظام، ويعتبرون أن كل ما جرى في العالم من تحولات ملحوظة خلال السنوات الأخيرة، لا يرقى إلى مستوى بناء "نظام دولي جديد", بل يبقى مجرد متغيرات وأوضاع دولية جديدة. بل هناك من يعتبر أن الأمر يتعلق بمؤامرة وخدعة قادتها الولايات المتحدة الأمريكية عبر رفع هذه الشعارات والمفاهيم المضللة، لأن مقولة هذا النظام ما هي إلا تكريس لمشاعر النصر والتفوق الغربي ونظامه الليبرالي التي بلورها "فرانسيس فوكوياما" في نظريته المرتبطة بنهاية التاريخ التي تعتبر أن نموذج الحكومة الغربية الليبرالي هو الشكل النهائي للحكومة الإنسانية.
فهذا النظام الذي بشرت بقدومه الولايات المتحدة الأمريكية وبعدالته وإنصافه وجدته -حسب هذا الرأي-، وزيادة على كونه نظاما غربيا على مستوى طروحاته ومنشئه وأهدافه، لا زالت الشرعية الدولية تطبق فيه بشكل انتقائي ولا زالت القوة هي التي تفرض الأمر الواقع أو تغيره. وبالتالي فالأمر لا يتعلق بمولد نظام دولي جديد تسوده العدالة وسيادة القانون وتوازن القوى بقدر ما هو وضع دولي تنتهك فيه الشرعية الدولية وتتزعم مقاليده الولايات المتحدة الأمريكية.
ويضيف هؤلاء أنه إذا كان من السهل الحديث عن نظام عندما يتعلق الأمر بالدول, التي تميز بمؤسساتها الفعالة من سجون ومحاكم وقوات أمن تسهم في فرض احترام القانون, فإن المجتمع الدولي تغيب فيه سلطة دولية تعلوا فوق سلطة الدول بالشكل الذي ينفي عنه صفة النظام.
وبين الرأي الأول القاضي بوجود هذا النظام والرأي الثاني الذي ينفي ذلك، نجد رأيا ثالثا حاول التوفيق بينهما, وهو يؤكد من جهته على أن هذا النظام هو في أحسن الأحوال، نظام لا يزال قيد التكوين ويمر الآن بمراحله التأسيسية الأولى, ف"النظام الدولي الجديد" بحسب هذا الرأي هو أمر يتعلق بالمستقبل أكثر منه بالحاضر، فما يعرف عن هذا النظام أقل مما لا يعرف عنه، وما يثيره من تساؤلات أكثر مما يقدمه من إجابات واضحة. فهو نظام لم يكتمل بعد، بل هو فكرة لم تتجسد –على نطاق واسع وكما يجب- من الناحيتين الواقعية والفعلية. لذلك ورغم الحديث عنه فإن مراحله ومعالمه الرئيسية لم تكتمل بعد ولا زالت غير معروفة، وبخاصة وأن العالم يمر حاليا بمرحلة انتقالية يشوبها نوع من الغموض والعتمة، قد تستغرق سنوات طويلة لتظهر بشكل واضح ملامح القوى الدولية الكبرى، ولتتحدد المعالم الحقيقية للعلاقات الدولية، فالأوضاع الدولية حاليا يكتنفها نوع من الاضطراب وعدم الاستقرار، ولعل هذا ما دفع بعض رواد هذا الاتجاه إلى استعمال مصطلحات مغايرة, للدلالة على هذه الأوضاع الدولية الحالية، "كالنظام الدولي المراوغ"، "الترتيبات الدولية الجديدة"، "الوضع العالمي الجديد", "المتغيرات الدولية الجديدة"..
وبغض النظر عن هذه المواقف المتباينة, فإن مسار الأحداث الدولية أثبت أن النظام الذي به بشر الرئيس الأمريكي أعضاء المجتمع الدولي وشعوب العالم, لم يكن سوى ذلك الشعار التي ارتأته رائدة هذا النظام المزعوم –أمريكا- وسيلة لخدمة مصالحها وتأبيد زعامتها, فالتدخل الأمريكي التعسفي بكل مظاهره وأنواعه تزايد بشكل كبير في مختلف بقاع العالم, وأضحت الأمم المتحدة آلية من آليات تنفيذ السياسة الخارجية الأمريكية التعسفية بدل تحقيق السلم والأمن الدوليين, وبذلك تنامت المنازعات والحروب ومختلف أوجه الاستخفاف بقواعد الشرعية الدولية, وهو ما خلف حالة من الاستياء والتذمر في أوساط المجتمع الدولي الذي فرضت فيه أمريكا الصمت ترهيبا و ترغيبا.
حقيقة أن المجتمع الدولي وعلى الرغم من مظاهر العنف والصراع والفوضى التي تعتريه يظل محتفظا بحد أدنى من مظاهر النظام تعكسه مختلف أوجه التعاون الدولي في شتى المجالات.
غير أن النظام "المثالي" الذي بشرت الولايات المتحدة ببزوغه يظل نظاما أمريكيا صرفا, ويفتقر للصفة الدولية, طالما صيغت معالمه بعيدا عن مختلف القوى الدولية, وطالما تحكمت في مساره هذه الدولة خدمة لمصالحها ومصالح حلفائها وضدا على مصالح الدول الأخرى التي ظلت مجرد موضوع له، وليست طرفا فاعلا فيه.
ومن غريب الصدف أنه بعد مرور عقد من الزمن عن التبشير الأمريكي بهذا النظام, وبالضبط في الحادي عشر من شهر شتنبر 2001 , شهدت الولايات المتحدة الأمريكية أحداثا داخلية مرعبة تم خلالها تحويل طائرات مدنية إلى ما يشبه صواريخ موجهة نحو أهداف حيوية وحساسة داخل العمق الأمريكي, وذلك في أول سابقة من نوعها تقع في هذا البلد أو في غيره من بلدان العالم, وهي أحداث يمكن أن تقرأ في أحد جوانبها على أنها إشارة من القائمين بها- بغض النظر عن جنسياتهم ومذاهبهم ودوافعهم الآنية المباشرة والبعيدة المدى- إلى رفض أسس هذا النظام المزعوم وتجلياته الظالمة, وكرسالة تحذيرية للولايات المتحدة لعلها تعيد النظر في سياساتها الخارجية التعسفية في حق شعوب العالم.
#إدريس_لكريني (هاشتاغ)
Driss_Lagrini#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟