|
يوم بين عالمين
بديع الالوسي
الحوار المتمدن-العدد: 6316 - 2019 / 8 / 10 - 17:18
المحور:
الادب والفن
الجزء الأول ..( كتبت هذه المذكرات يوم 4 / 8 / 1989 .....
هذه الخاطرة او الهواجس او المذكرات كتبت قبل 30 سنة و سجلت ما جرى لنا وكيف تغير مسار حياتنا بعد ان قضينا اكثر من سنة في مخيم ماردين الذي بمساحة كيلو متر مربع والذي كان يحوي 16 الف شخصا ً اغلبهم من الاكراد ، تم نقل 150 شخصا ً منهم بالتركترات الى مكان جديد ، بقينا في تلك المدرسة ثلاث ايام ، كان المزعج في تلك الليالي هو ( الحرمس )،الذي منعنا من ان نخلد الى النوم كالمعتاد ، في هذا الجانب كنا في المخيم افضل حالا ً ، الزمن كان ثقيلا ً لكنه يحمل في طياته املا ً في الخلاص ، ما اتعبني خلال تلك الايام الاخيرة مسألة الأكل ، اضربت عن الطعام في اليوم الاول ، لم يقدم لنا احد اي وجبة اكل ، العوائل الكردية الذين كانوا معنا كانت معهم بعض الارزاق ، لم اطلب الاكل ، كنت خجلا ً في الذهاب وطلب الخبز من عوائل لا اعرفها . المهم مرت الايام كما تمر الغيوم ، في الثاني من آب ، ابلغونا ان يوم غد سيتم نقلنا الى فرنسا وستبدأ رحلتنا المدهشة . الليلة الاخيرة في المدرسة كانت متعبة حيث الحر والبعوض اخذا وطرهما من ليلتنا .. نهضنا في الصباح الباكر ، جمع الموظفون الاتراك كل البطانيات ، استغرب صاحبي ، قلت له : ربما قرروا غسلها . انتظرنا عدة ساعات ، عرفنا خلالها ان وجهة رحلتنا الى ديار بكر ، في الساعة التاسعة صباحا حضروا ثلاث باصات وعطيت الاوامر لمئة وخمسون شخصا من مختلف الاعمار بالصعود ، ونطلقنا تاركين ماردين ، على طول الشارع شباب اكراد بالعشرات وقفوا يودعونا ملوحين . الطريق الى ديار بكر كان ليس مملا ً ، مساحات قاحلة ، ومساحات خضراء تمتع البصر ، الى حد هذه اللحظة كنت غير مصدق ما يجري .. الطريق ساعة ونصف متعرج ، تقيء بعض الاشخاص والاطفال ، ووصلنا المدينة الموعودة ، من بعيد تبدو جميلة ، بعد فترة قصيرة اخترقناها ، لكن الباصات اتجهت الى المطار مباشرة ً في مطار ديار بكر ، كان الصحفين على اهبة الاستعداد لتصويرنا . نحن من سنجتث بعيدا ً عن الوطن ،نعرف وجهتنا الى فرنسا لكنا لم نعرف كم من الوقت ستستغرق الرحلة ، دخلنا مطار ديار بكر مستغربين كل شي ، ربما لان جميعنا لم تسنح له فرصة السفر خارج العراق ، اذن هذه هي المرة الاولى التي نخوض التجربة ، بعد ان نزلنا الطائرة حملت تلك الطفلة التي تركتها امها بسبب اطفالها السبعة ، كما ظلت معي علبة بلاستيك ممتلئة الى نصفها بالماء . غصت الصالة الداخلية باعدادنا الغفيرة ، كانت الكامرات ترقبنا لالتقاط صور مهمة يستفاد الصحفيون منها في جرائدهم . جلسنا انا وصديقي مازن خارج السرب ، اتى صديقنا نزار ليقول لنا هامسا وقلقا ً : انهم سيفتشوننا ، ويعروننا ، وانا بلا لباس داخلي . اجبته مبتسما : لا تشغل بالك ، ليس من مشكلة حين بدأت الترتيبات الضروية المتعلقة بسفرتنا ، تم تفتيشنا على نحو روتيني ، ودخلنا صالة الانتظار ، بعدها نودي على كل منا باسمه وتجهنا الى مدرج الطائرة المخصصة لنا والتابعة الى الخطوط الجوية الفرنسية ، قبل ان ندخل الطائرة سألني مازن : كيف هي الطائرة من الداخل ، التفت الى الوراء ، رايت سرب من البشر يتحرك الى طائرة حيث يثيرون في النفس كثيرا ُ من هواجس الفرح ، ما ان ولجت الى الفضاء الداخلي للطائرة ، حتى اصطدمت باللون الابيض الذي طغى على المكان ، وكذلك الأنارة الخافته والمنبعثة من فوق كل كرسي ، احسست بالراحة من تلك البرودة في المكان والتي تثير الانتعاش .. رأينا حاجات تركت على الكراسي على شكل علب ، ما اثارني كمصمم الاستغلال الكامل للمكان ، موزعة وعلى امتداد الطائرة ثلاث كراسي على اليمين وثلاث كراسي على اليسار وبينهما ممر ازرق نظيف . اشر لنا المضيف بالدخول واخذ مقاعدنا التي في نهاية الطائرة ، كانت المضيفات يوزعن الابتسامات بلطف ، وبعد ان اخذ كل مكانه ، تمنيت لو الشبابيك اكبرحجما ً ، ليتسنى لنا رؤية ما سنمر به على نحو افضل . ومتلأت الطائرة بالفلاحين الاكراد ، وجاءت الأوامر المتعلقة بامور الطواريء ، كل ذلك بعد ان تم ترجمة التعليمات من الفرنسية الى الكردية ، ربطنا باحزمة متينة ، ومنعنا من الحركة ، ونطلقت الطائرة بمسارها ، وقبل ان تحلق انطلقت باقصى سرعتها ، اثار ذلك الخوف في نفسي . لكن ما ان ارتفعت حتى بدأنا نرى اشياء كثيرة ، مساحات كثيرة من الاراضي المحروثة ، مرت الطائرة فوق جبال عالية وتجاوزت بحيرة كبيرة ، بعد ساعة ونصف صعدت الطائرة فوق الغيوم واصبح يلفنا الضباب . بدأت وجبة الأكل ، اشاروا لنا بفتح العلب التي تركت فوق الكراسي ، وجدنا داخلها ، قطعة من اللحم ، ووريقات من الخس ، وقطعة من البسكويت المحلى ، وعلبة صغيرة من اللبن وأكياس صغيرة جهلنا ما هي ، وهذا الامر يقع لكل من يصعد للمرة الاولى بالطائرة ، كانت اكياس البهارات والملح والشطه . من ضمن الامور الجميلة في هذه الرحلة ذلك المضيف ، الذي كان يبحث على اسعاد هذه المجاميع الذين لا احد منهم يخمن ماذا ينتظره ، لا اعرف هذا المضيف هل يقوم بهذه الانشطه الترفيهية ضمن الواجبات الملقات على عاتقه ام بسبب طبيعتة المزاجة المحبة للفرح والضحك ، كمهرج بدأ حديثة بكلمة (سباس ) والتي تعني بالكردية : شكرا ُ ، وبدأ يكررها مع كل فاصل ، فجأة ً اخرج كرة اسفنجية صغيرة قهوائية ليقوم بالعاب سحرية ، اضحكتنا جميعا ً وادهشتنا . بعدها جاءت مضيفة متوسطة العمر جميلة الملامح ، كانت مهمتها تقديم الشراب لمن يرغب ، كانت الشاي والقهوة والبيرة والكولا ، طلبنا انا ومازن البيرة ، بينما صاحبنا نزار طلب القهوة ، لكن ونحن نشرب قال لي : اني تندمت ، حين تحظر المضيفة مرة اخرى هل تستطيع ان تطلب لي قنينة بيرة ، بعد دقائق نال ما تمنى . كانت الرحلة تسير كما خطط لها الفرنسيون ، فبين انطلاقنا في الحادية عشر ظهرا ً حتى وصلنا مرت من الزمن اربع ساعات ونصف ، حين وصلنا الحدود الفرنسية انخفضت الطائرة ، أبلغ كابتن الطائرة الركاب عن دخولنا الاراضي الفرنسية ، تمتعنا برؤية البحر الذي كان على شكل قوس وفيه البواخر ، كذلك راينا جبال عالية بعضها ما زال الثلج يكسوها ، وقبل ان تهبط الطائرة رأينا تلك الغابات الكبيرة والاراضي الزراعية الخضراء والتي قسم منها محروثة وموزعة على اشكال هندسية . وهبطت الطائرة وسط فرنسا في مطار( كليغمون فيغان )
يوم بين عالمين .... الجزء الثاني
بعد ان ان نزلنا من الطائرة قادونا الى صالة كبيرة ، دخلنا المطار غير مصدقين اننا في فرنسا الفن والجمال ، لم نتوقع حضور هذا العدد من الصحفيين والمصورين والمسؤولين ، وقد اوكلت لكل منهم مهمة محددة .. وصورت الكامرات لقطات لم تنس ، منها لرؤسنا المنكسة وملامح بعضنا التي غمرها الحزن والتعب ، وجلبوا لنا الشاي والماء ، وحاول الصحفيون الحديث معنا ، عسى ان يجدوا ما هو مفيد او صالح كمادة للنشر في التلفاز او الجرائد . لم يبدو لي ان المطار كبيرا ً ، بعد نصف ساعة ، اتت الباصات المخصصة لنقلنا الى جهة نجهلها ، وكان الكلام يدور بيننا : هل هذه فرنسا التي كنا نحلم بها ؟ ـ وصلنا اخيرا ً ، ألم ترى هذه الغابات الكثيفة ما علمناه هو اننا سنصل بعد ساعة ونصف ، من شبابيك الباص كنا نتامل العالم الجديد ، مررنا بمدن صغيرة وقرى جميلة ، بنايات قديمة وحديثة ، سقوفها من الآجر الأحمر ، وكذلك على مد البصر هنالك مساحات خضراء ومرتفعات والمنخفظات .. كل شيء هنا فيه مسحة جمال لم نألفها ، كذلك الشوارع نظيفة و الزهور موزعة امام البيوت ، كنا نراقب بعيون متفحصة ما يحيط بنا ، متوقعين ظواهر غريبة قال عنها صاحبي : لم ارى احد يمارس الجنس في هذه الحدائق ..كانت الباصات تواصل صعودها في تلك الشوارع الجبلية ، في لحظة من الزمن رأينا مدينة كبيرة تحيطها الجبال ، اجمل ما فيها تلك الكنيسة القوطية السوداء انها تشمخ وسط المدينة . ما لفت نظري حينها الاعلانات الكثيرة الصغيرة والكبيرة و الموزعة في كل مكان .. قلت لمازن : ـ الى اين قرروا ان يذهبوا بنا ؟ اجاب بعد تردد : من المحتمل الى قرية معزولة . كانت الشمس دافئة لكن درجات الحرارة معتدلة والهواء منعش . ما لفت انتباهنا ها هنا تلك الاشجار المعمرة والكبيرة الاحجام ، نعم هذه الظاهرة لا نجدها عندنا في كردستان سوى في المقابر . وما ان وصلنا الهدف ، استدار الباص ، لنتفاجأ برفع العارضة من قبل احد الجنود الفرنسسين ، قبل ان نكتشف اللعبة رأينا الدفعة الاولى من الذين وصلوا قبلنا بخمسة ايام ، يهبون لاستقبالنا ، لم تتوقف الباصات سوى امام تلك العمارات التي ستكون عوضا ً عن الخيم التي تركناها في مجمع ماردين . وبدأت الحشود النزول من الباصات وقد تشوشت اذهانهم بسبب هذه النقله من مخيم تركي بحياة قاسية وبائسة الى معسكر فرنسي قد توفرت فيه كل مقومات الاقامة للاجئين . خصصت قاعات الجنود لأقامتنا ، كانت كل قاعة تحوي على عشرين سريرا ً موزعة على طابقين ، واثنى عشر دولابا ً حديديا ً متوسط الحجم ، القاعة عالية لكنها بطول خمسة عشر امتار وعرض سته امتار ، ومنضدتين من الحديد الصدءه . وعشرة كراسي موزعة في القاعة . لكن وبسرعة رمينا حوائجنا وخرجنا الى الفضاء ، لنرى ما هو جدبد .. وصرنا نتجول انا ومازن الذي سألته : ماذا رأيت في فرنسا ؟ ـ لم ارى شيء يختلف كثيرا ً عن معسكر ماردين ، نفس الوجوه ، لكن الاجواء قد تبدلت . لكني قلت له : هنا سنرتاح ، و سنعيش بكرامة وامان . قبل غروب الشمس ، كنا جائعين ، ربما لذلك قدموا ساعة العشاء قبل حينها .. المطعم عبارة عن قاعتين كبيرتين وقد رتبت فيها المناضد والكراسي لتحوي نصف العدد ، كان الجنود الفرنسيين من يقومون بخدمتنا ،بعضهم الجنود من اصول كينية وجزائرية . احسست ان وجبة العشاء كانت دسمة وغنية ، حيث احتوت على التمن مع السمك ، بالضافة الى صحن من البطاطة باللحم الاحمر وكمية من الطماطة ، وشوكة وسكين ، جميعها قي صحن كبير من الستيل قسم الى عدة صحون صغيرة مختلفة الاحجام . كنت انظر بفضول الى هؤلاء الفلاحين الاكراد، و كيف سيستخدمون الشوكة والسكين ، كما توقعت لم ارى من بينهم الا عدد قليل يعرف او اعتاد على استعمال هذه الادوات الجديدة . قلت في خلدي : من حقهم ان يمصمصوا عظام الدجاج بلا خجل ، انهم يمارسون حقهم في ان ياكلوا على ما اعتادوا عليه حتى لو انهم في فرنسا ، لكني على قناعة ان الزمن كفيل بتغييرهم .. ما ان غابت الشمس ، حتى شعرنا ان الاجواء باردة ونحن بلا ملابس كافية ، عدنا الى القاعة ، كانت غير مريحة بهذا العدد الكبير من الاشخاص المختلفين مزاجيا ً ، وغير المتكيفين لتفاصيل الحياة الجديدة ، لكن ليس امامنا من خيار اخر ، علينا ان نتحمل هذه الوضعية لشهر او اكثر .. حالمين بان يحالفنا الحظ ويتم نقلنا الى مدينة الانس والجن ، مدينة ثوار الكومونه ، الى باريس عاصمة الجمال ، هنالك سيعيش كل منا تجربتة الفردية ، هنالك سيبحث كل منا عن ذاته الضائعة ....
( كتبت هذه المذكرات يوم 5 / 8 / 1989 )
على غلاف دفتر مذكراتي تلك العبارة ( حين تكون وحيدا ً ابتسم )
#بديع_الالوسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
غروب
-
قصة قصيرة : فسفور الرغبات
-
مدار الجنون
-
قصة قصيرة : الأرواح المرئية
-
قصة قصيرة : في صحبة ابن مالك
-
ألمنحوته المنحوسة
المزيد.....
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|