صلاح السروى
الحوار المتمدن-العدد: 6313 - 2019 / 8 / 7 - 03:48
المحور:
الادب والفن
اتجاهات الأدب والثقافة فى مصر فى القرن العشرين
كانت الحياة الثقافية والأدبية فى مصر, فى نهاية القرن الثامن عشر, تتموقع فى وضعية بالغة التخلف والفقر الابداعى, نتيجة للانغلاق الحضارى الذى فرضته الخلافة العثمانية على أقاليمها, وكذلك بسبب حالة الافقار الدائمة التى خلقها نظام الخراج الجائر, المرتبط بنظام الالتزام الاقطاعى, والذى تم فرضه على الفلاحين والتجار والصناع. مما أدى الى تردى الأحوال الاقتصادية, ومعها أحوال التعليم والفكر والثقافة فى المجتمع. فلقد كانت المؤسسة التعليمية الوحيدة التى بقيت تعمل فى مصر هى الأزهر الشريف. الذى لم ينج, بدوره, من حالة التردى العام فى المجتمع, حسب وصف على باشا مبارك فى كتابه "خطط القاهرة" 1863, فقد انشغل شيوخ الأزهر بشرح المتون القديمة والتعليق على هوامشها, بل وشرح الشروح والهوامش. وتراجعت حركة الاجتهاد الدينى والفكرى على نحو فادح, وسادت انماط من التفكير الغيبى والسحرى – الأسطورى. حتى جاءت جيوش الحملة الفرنسية على مصر عام 1798, بقيادة نابوليون بونابرت, مزودة بأحدث وسائل العصر, من تسليح وتنظيم وتكنولوجيا وأدوات علمية وعلماء. مما كان له دور كبير فى تحقيق نوع من الصدمة الحضارية لدى المصريين. من حيث أتيحت لهم امكانية الاطلاع, لأول مرة, على ماحققته البلدان الأوربية من تقدم علمى وثقافى فى غيبة منهم. ومن ثم كانت المقارنة الظالمة بين وضعيتهم البائسة التى تنتمى الى العصور الوسطى ببنيتها الاجتماعية البتريركية – الاقطاعية, وأدواتها المادية البدائية المتخلفة, وبين الوضعية التى جاءت عليها الجيوش الفرنسية. فلقد جاءت الحملة بجيشين – فى الحقيقة - وليس بجيش واحد, الأول: هو الجيش المقاتل المعروف. والثانى: جيش من العلماء والباحثين والفنانين فى مختلف المجالات. وذلك لأن نية نابليون المعلنة كانت تتمثل فى احتلال مصر وتحويلها الى قاعدة لامبراطورية استعمارية فرنسية كبرى فى الشرق, ولكن نظرا لمقاومة الشعب المصرى, بعد انسحاب القوات العثمانية وهزيمة قوات المماليك وهروبهم (وقد كانوا الحكام الفعليين لمصر تحت السيادة العثمانية), وبمساعدة عوامل خارجية متمثلة فى الصراع على المستعمرات وخطوط التجارة الدولية بين انجلترا وفرنسا, انسحبت الجيوش الفرنسية من مصر مهزومة عام 1801.
وفى عام 1805 تولى الضابط فى الجيش العثمانى (محمد على باشا) حكم مصر, منتخبا من الأعيان وقادة المجتمع المصرى, بعد رفضهم تولية الوالى الذى أرسلته الآستانة (خورشيد باشا). مما كان يعنى ولادة نوع من الشعور الوطنى المبكر وبروز نزعة استقلالية خلقتها مقاومة المصريين المدنيين العزل لقوات الحملة, منفردين, ودون مساعدة من أى من القوتين اللتين كانتا تحكمانهم وتصادر خيراتهم تحت زعم حمايتهم.
ولقد اتبع محمد على سياسة تطويرية وتعميرية عبرت عن هذا الاحساس العميق بالصدمة الذى سبقت الاشارة اليه, فأرسل البعثات العلمية الى بلدان أوربا (وبخاصة فرنسا) واستبقى عددا من ضباط الحملة الفرنسية من (السان سيمونيين) الذين تعاطفوا مع كفاح الشعب المصرى ضد جيشهم الامبريالى, مستفيدا (أى محمد على) من خبراتهم فى ايجاد تنظيم عصرى للمجتمع والجيش فى نفس الوقت. لقد كان محمد على طامحا الى خلق امبراطورية كبرى فى الشرق العربى, شأنه شأن معظم من حكموا مصر, فعمل على بناء جيش قوى حديث. وهو ما أدى الى ضرورة العمل على بناء مؤسسات تعليمية متطورة واقتصاد زراعى - صناعى متقدم. فبنى مدارس المهندسخانة والطب والبيطرة والألسن .. الخ. ومصانع السلاح والنسيج والسفن والسكر .. الخ. وشق الترع والمصارف واستصلح الأراضى وبنى السدود والقناطر على نهر النيل وأوجد نظما حديثة للرى .. الخ. مما جعل كثيرا من المؤرخين يعتبرون محمد على هو بانى مصر الحديثة وخالق أسس نهضتها, التى أهلتها الى أن تكون منارة الشرق وقاطرته الحضارية.
واصل الخديوى اسماعيل باشا سياسة والده التحديثية, ولكن تحت شعار آخر: وهو "جعل مصر قطعة من أوربا", فركز أكثر على النواحى العمرانية والحضارية, وبنى دار الأوبرا المصرية عام 1862 وأنشأ أول برلمان فى الشرق باسم مجلس شورى الأعيان عام 1866, وبنى مدينة القاهرة الحديثة التى تمثل منطقة وسط البلد الآن, وأكثر من بناء القصور والمتاحف والحدائق الكبرى... الخ.
وعندما تم احتلال مصر على أيدى القوات الانجليزية عام 1882 كانت مصر, من الناحية الفعلية, قد أصبحت بلدا يعيش زمن النهضة والانطلاق. ومن أهم علامات هذه النهضة كان احياء وبعث الأدب العربى القديم فى ثوب حديث, بما يتواءم مع مجريات ومقتضيات أحداث الزمن الراهن. فولدت مدرسة "البعث والاحياء", أو "المدرسة التقليدية" فى مجال الشعر, فكانت قصائد محمود سامى البارودى وأحمد شوقى وحافظ ابراهيم وأحمد محرم وعلى الغاياتى ... الخ, تدور فى أطر القاموس الشعرى العربى القديم وأخيلته وأغراضه وأوزانه الشعرية وطريقته فى بناء القصيدة, مثلما كانت عند أبى تمام والبحترى والمتنبى وأبى العلاء المعرى .. وغيرهم. ولكنه, الى جانب بعض الأغراض الشعرية القديمة, كالمدح والرثاء والوصف, كان يحمل مضامين عصرية, مشتبكة مع القضايا السياسية والاجتماعية التى كانت مثارة فى ذلك الحين, مثل القصائد الاجتماعية لحافظ ابراهيم وقصائد الحنين للوطن لشوقى
ولقد تميز الشعر فى ذلك الوقت بأنه كان لسان حال القوى والمعسكرات التى شكلت المشهد السياسى والاجتماعى, فكان هناك شعراء القصر الحاكم (أحمد شوقى حتى نفيه الى اسبانيا), وهناك شعراء الحركة الوطنية والأحزاب السياسية, (على الغاياتى وأحمد محرم) وهناك شعراء المشروعات الاصلاحية (حافظ ابراهيم), التى عملت على استكمال تطور مصر المدنى والاجتماعى, مثل حركة تحرير المرأة (التىوقف قاسم أمين), وحركة الاصلاح الدينى (التى قادها الامام محمد عبده) وحركة بناء الجامعة (التى قادها أحمد لطفى السيد .. الخ. ولابد من الاشارة الى أن بعض هؤلاء الشعراء قد تنقل من اتجاه الى آخر, بين هذه الاتجاهات, فقد كان معظمهم يتخذ من الشعر حرفة ومصدرا لكسب الرزق. الا أن القضية الوطنية والايمان بالوطن وحقه فى الحرية والاستقلال كانت نقطة اجماع بينهم.
ويمكن أن نقدم مثالا على هذا النوع من الشعر من ديوان أحمد شوقى, حيث يقول:
ويا وطنى , لقيتك بعد يأس كأنى قد لقيت بك الشبابا
وكل مسافر سيئوب يوما اذا رزق السلامة والايابا
ولو أنى دعيت لكنت دينى عليه أقابل الحتم المجابا
أدير اليك قبل البيت وجهى اذا فهت الشهادة والمتابا
وقد سبقت ركائبى القوافى مقلدة أزمتها , طرابا
تجوب الدهر نحوك والفيافى وتقتحم الليالى , لاالعبابا
وتهديك الثناء الحر تاجا على تاجيك مؤتلقا عجابا
حيث نلاحظ الالتزام الصارم بالوزن والقافية, كما نلاحظ الاتكاء الواضح على (البيت) باعتباره وحدة تعبيرية مستقلة, الى جانب المعجم الشعرى الذى ينتمى فى معظمه الى المعجم الأدبى الكلاسيكى. فضلا عن الخيال, الذى يرتكز على الأدوات البلاغية التقليدية من تشبيه واستعارة وكناية.
ولقد صحب هذه الحركة الشعرية, التى استمرت تتصدر المشهد الشعرى المصرى حتى عشرينيات القن العشرين, حركة فكرية وفنية كبيرة, تمثلت فيما تمت الاشارة اليه من جدل فكرى واسع النطاق حول قضايا جوهرية تمس صميم الوجود الاجتماعى والسياسى والعقائدى: مثل قضايا الاصلاح الدينى وعلاقة الدين بالعلم والعقل والدولة .. الخ فكانت كتابات الامام محمد عبده وتفسيره العصرى للقرآن, وقضية تحرير المرأة ودورها فى المجتمع, فكانت كتب قاسم أمين وأنشطة سيزا نبراوى وفاطمة موسى. وكانت هناك قضايا متعلقة بالكشوفات العلمية والنظريات الفلسفية الحديثة, فكانت كتابات شبلى شميل واسماعيل مظهر واسماعيل أدهم حول نظرية أصل الأنواع لداروين ومفهوم الدين والالحاد, وكتابات فرح أنطون وسلامة موسى ومحمد عنان حول الاشتراكية والشيوعية, وقد تميز عنان الى جانب اشتباكه الفكرى, ذاك, بسلسلة كتبه التأريخية حول الوجود العربى فى الأندلس. وجاءت روايات جورجى زيدان التاريخية حول التاريخ العربى والاسلامى, وجاءت كتب وترجمات أحمد لطفى السيد الفلسفية حول الطبيعة والسياسة .. الخ.
المرحلة الرومانتيكية
ومع تبلور الطبقة البرجوازية المصرية واندلاع أحداث الثورة الوطنية الكبرى عام 1919 التى قامت ضد الاحتلال الانجليزى لمصر, انبعثت الحركة الرومانتيكية بصدور كتاب "الديوان" عام 1920 للشاعر والكاتب عباس محمود العقاد والشاعر والكاتب ابراهيم عبدالقادر المازنى, وهو الكتاب الذى كان بمثابة البيان الشعرى لهذه الحركة الرومانتيكية, والذى يضاهى فى أهميته كتاب "مقدمة كرومويل" لفيكتور هوجو, حيث هاجم بعنف شعر المدرسة التقليدية وأهم شعرائها أحمد شوقى, وأسس لشعر الوجدان والعاطفة. ومن بعده انطلقت حركة الشعر الرومانتيكى فكان كتاب "الغربال" لميخائيل نعيمة فى المهجر الأمريكى عام 1921 , وتأسست جماعة أبوللو الشعرية وصدرت مجلتها عام 1932. وفيها ظهر شعراء كبار أمثال ابراهيم ناجى وعلى محمود طه وأحمد زكى أبو شادى ومحمود حسن اسماعيل ومحمود أبو الوفا ورياض الهمشرى .. الخ.
لقد اهتم الشعر الرومانتيكى المصرى, الى جانب الموضوعات المتعلقة بالعاطفة والوجدان, بموضوعات تمجيد الحياة الريفية وعالم الطبيعة البكر والتعبير عن الحيرة الوجودية والفكرية وهجاء العالم والتأسى على المصير الانسانى.
ويمكن أن يكون هذا النموذج للشاعر محمود حسن اسماعيل مجسدا لهذا النوع من الشعر.
ايه يا قريتى ! أصيخى لشاد سكب اللحن فى رنين شجى
شاعر هزه هواك فغنى لك أنشودة الجمال البهى
مد أوتاره أشعة بدر غارقات فى صمتك السرمدى
ساحرات النهى برعشة أطيا ف تراقصن فى الفضاء الوضى
حيث نلاحظ العاطفة المتوهجة, المصحوبة باتساع القاموس الشعرى للعناصر اللدنية المفارقة للوجود المادى المعاش, مثل "الرنين الشجى" و"الصمت السرمدى" و"الفضاء الوضى" .. الخ. وتصوير القرية باعتبارها النقيض الأكثر بهاء ونقاء من العالم المدنى الحديث, الذى يراه مليئا بما يبعث على الألم والأسى, وان لم يصرح بذلك. ولكننا نلاحظ أيضا استمرار البناء التقليدى المرتكز على وحدة الوزن والقافية ووحدة البيت, وان جاء على نحو أخف, بالتأكيد, مما كان لدى المدرسة التقليدية.
لقد ازدوج مع هذه الحركة الشعرية ظهور جنس الرواية, التى كانت لها ممهداتها وارهاصاتها الباكرة عند محمد تيمور والأخوين عيسى وشحاتة عبيد وجورجى زيدان, ولكنها تبلورت على نحو مكتمل من الناحية الفنية على يد محمد حسين هيكل بصدور روايته الأولى, بعنوان: "زينب" عام 1914 ثم روايات توفيق الحكيم التى يعتبر أهمها "عودة الروح" عام 1924, ومن ثم, "عصفور من الشرق" و"يوميات نائب فى الأرياف". وروايات يحى حقى التى يعد أهمها "قنديل أم هاشم". وكذلك روايات نجيب محفوظ, فى مرحلته التاريخية الرومانتيكية الأولى, حيث صدرت رواية كفاح طيبة عام 1932,وتلتها روايتا: عبث الأقدار ورادوبيس. وهى, جميعا, أعمال مستمدة من تاريخ مصر القديم. ومثلها روايات على أحمد باكثير وعادل كامل.. الخ
كما ظهر الأدب المسرحى بقوة فى هذه الفترة (العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات) فظهرت الأعمال المسرحية لتوفيق الحكيم التى تنتمى الى الكلاسيكية الجديدة والرومانتيكية والمستمدة من الاسطورة اليونانية والأسطورة الدينية والتاريخ المصرى القديم وحكايات ألف ليلة وليلة .. الخ. مثل: "الملك أوديب" و"بيجماليون" و"أهل الكهف" و"السلطان الحائر" .. الخ وظهرت أعمال ابراهيم رمزى, وازدهرت حركة مسرحية قوية عمادها الأدب المسرحى المصرى والمترجم.
كما ظهر فى ذلك الزمن كوكبة كبيرة من كبار المفكرين والنقاد مثل د.طه حسين, الذى كانت له آثار بالغة الأهمية حول قضايا التأريخ للأدب العربى وقضايا التربية والتعليم والدراسات الأدبية. ود. شوقى ضيف المؤرخ الأدبى المعروف وصاحب أكبر موسوعة فى تاريخ الأدب العربى. ود. زكى نجيب محمود فيلسوف الوضعية المنطقية, ود. عبدالرحمان بدوى, الذى يعد فيلسوف الوجودية الأبرز, وجاء كتابه "الزمان الوجودى" سابقا على كل كتب جان بول سارتر عن الوجودية. كما كان هناك د. عثمان أمين صاحب مذهب "الجوانية" الذى يقوم على الحدس والنزعة الأقرب الى التصوف فى مجال نظرية المعرفة.
الواقعية وحركة الشعر الحر
لقد استمرت هذه الحقبة حتى نهاية الأربعينيات, حيث استجدت عندئذ أحداث وعوامل مهمة, من أهمها انتصار الاتحاد السوفيتى فى الحرب العالمية الثانية وانتشار الفكر الاشتراكى فى العالم. وظهور حركات التحرر من الاستعمار وانلاع الثورات التحررية فى الهند والصين ومصر وكوبا والجزائر وباقى بلدان العالم الثالث. وكذلك اخفاق النظم السياسية التقليدية العربية فى حرب فلسطين 1948, وظهور آثار الثورة العلمية والصناعية. الى جانب ازدهار الطبقة البرجوازية الصغيرة التى استفادت من أجواء الحربين العالميتين (الأولى والثانية) فى تحقيق تراكم رأسمالى كبير, والسماح لأبنائها باحتلال مواقع لم تكن متاحة لها من قبل, مثل وظائف القضاء والادارة العليا, والقبول فى الكليات العسكرية وتولى وظائف الضباط فى الجيش, مما ساعدها فى الوقوف بوجه الطبقات الاقطاعية التقليدية والبرجوازية الكبيرة المرتبطة بها وبالقصر والانجليز.
كل ذلك ساهم بشكل بالغ فى ظهور اتجاه فنى وأدبى وفكرى جديد تمثل فى حركة الشعر الحر الذى ظهرت طلائعه فى مصر والعراق والشام. فبرزت قصائد عبدالرحمان الشرقاوى وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطى حجازى وحسن فتح الباب وملك عبد العزيز وأمل دنقل.. الخ. وهى القصائد التى استبدلت بالموضوعات العاطفية والوجدانية موضوعات تقوم على مفهوم "الرؤيا", الذى يحاول استبطان الوجود ومحاولة اكتشاف جوهر العلاقة بين الانسان والعالم. كما اشتبك الشعر بالقضايا السياسية والاجتماعية الراهنة مثل قضايا التحرر والابعاد الاجتماعية والتحول نحو الاشتراكية. لقد تخلى هذا الشعر عن الوزن العروضى التقليدى واستبدل بالبيت الشعرى القديم ذى الوحدات الوزنية المحددة للايقاع الصوتى (التفعيلة) المنتظمة والمطردة فى كل الأبيات, نموذج السطر الشعرى الذى لايلتزم بعددمحدد من التفعيلات, كما لايلتزم بقافية محددة, وانما تأتى القافية على غير قصد ولا تعسف.
ويمكن أن نقدم هذا النموذج للشاعر صلاح عبد الصبور للدلالة على شعر هذه المرحلة:
"الناس فى بلادى جارحون كالصقور
غناؤهم كرجفة الشتاء فى ذؤابة المطر
وضحكهم يئز كاللهيب فى الحطب
خطاهمو تريد أن تسوخ فى التراب
ويقتلون, يسرقون, يشربون, يجشأون
لكنهم بشر
وطيبون حين يملكون قبضتى نقود
ومؤمنون بالقدر."
حيث نلاحظ سيطرة نزعة اكتشافية واستبطانية واضحة, مصحوبة بنبرة نثرية تتمثل فى القاموس الشعرى اليومى, مع حياد شعورى وعاطفى نسبى وظاهرى. لكنه يبدى تعاطفا مبطنا, يمكن تلمسه, مع هؤلاء الناس البسطاء والعاديين ويضفى عليهم سمات بطولية تزدوج مع – وعلى الرغم من - نقائصهم التى يذكرها, دون أى محاولة للتزويق أو التجميل.
لقد تزامن (على نحو نسبى بالطبع) مع هذه الموجة الشعرية ازدهار هائل للرواية والقصة, فاستمرت أعمال نجيب محفوظ وتطورت نحو الواقعية والاحتفاء بالأبعاد الاجتماعية للوجود الانسانى , فظهرت أهم أعماله المتمثلة فى ثلاثيته الروائية المشهورة : "بين القصرين", "قصر الشوق", "السكرية", وكذلك رواية "أولاد حارتنا" التى صودرت فى مصر بفعل ضغوط رجال الأزهر والقوى المحافظة, وباقى أعماله الكبيرة التى تحول فيها نحو المنحى التأملى الوجودى. كما ظهرت القصص اللافتة ليوسف ادريس ومن بعده صنع الله ابراهيم وابراهيم أصلان ومحمد البساطى ولطيفة الزيات .. الخ.
كما ظهر الاتجاه الاجتماعى فى النقد الأدبى, متمثلا فى الكتاب الذى طرحه المفكران محمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس "فى الثقافة المصرية", الذى بشرا فيه بالأدب الملتحم بقضايا الواقع والمجتمع, الساعى نحو المعرفة والاكتشاف. كما ظهر نقاد كبار ومهمون مثل د. شكرى عياد ود. محمد مندور ود. لويس عوض ود. عبدالقادر القط .. الخ وقد تميز لويس عوض بدعوته المبكرة لكتابة الشعر الحر والشعر المكتوب باللهجة العامية, وكذك, بأبحاثه المرموقة عن فقه اللغة العربية, وترجماته اللافتة للأدب والنقد فى أوربا.
كما ظهر فى مجال الفلسفة المفكر محود أمين العالم بفكره اليسارى العلمى وكتابه "فلسفة المصادفة" وكتبه المهمة التى نقد فيها الاتجاهات الفلسفية البرجوازية مثل الوضعية والوجودية ومفكرى مدرسة فرانكفورت. وبرز كذلك د. مراد وهبة, الذى حاول التأصيل لنزعة علمية فى التفكير الفلسفى المصرى. ود. فؤاد زكريا الذى عمل على تأسيس نزعة عقلانية وعلمية عربية جديدة منطلقة من الفكر العلمى والمادى الحديث. وظهر كذلك د. عاطف العراقى. الذي عمل على ابراز الجوانب العقلانية فى الفكر العربى الاسلامى وبخاصة عند ابن رشد.. وغيرهم آخرون.
وفى هذه الفترة , وأقصد حقبتى الخمسينيات والستينيات ازدهرت الحركة المسرحية بقوة غير مسبوقة, فظهر كتاب جدد على مستوى فنى وفكرى رفيع, مثل نعمان عاشور ويوسف ادريس وسعد الدين وهبة ومبخائيل رومان ولطفى الخولى.. الخ لتبلغ, بالدراما المصرية آفاقا سامقة, وغير مسبوقة. لقد كان للسماحة الفكرية التى انتهجتها سلطة يوليو وانجازاتها فى تطوير البنى الأساسية فى المجال التعليمى والثقافى, مثل التوسع فى انشاء قصور الثقافة وانشاء معاهد أكاديمية الفنون والمتاحف .. الخ, دور كبير فى ازدهار الفعل الثقافى المصرى على نحو مشهود, وغير مسبوق ولاملحوق.
السبعينيات – المساءلة والتجريب
لقد كان للهزيمة العسكرية التى ألمت بمصر عام 1967 دور كبير فى زعزعة ثقة عدد كبير من المثقفين المصريين بالنظام السياسى وبالمستقبل وبالقناعات الأيديولوجية التى تدعى الثبات والاستمرار. ولم تنجح الحرب التحريرية المنتصرة عام 1973 فى استعادة الثقة واليقين مرة أخرى لأن النتائج السياسية للحرب كانت مخيبة للآمال الى حد بعيد. حيث أسفرت عن صلح, هو أقرب للاستسلام, مع العدو الصهيونى. وظهرت شرائح طفيلية عشوائية من أشباه الرأسماليين الذين أثروا ثراء فاحشا فى فترات قصيرة. مما أدى الى اهتزاز منظومة القيم الاجتماعية والأخلاقية.
لذلك اتجه شعراء هذا الجيل من شعراء السبعينيات الى التجريب الشكلى واللغوى وظهر النزوع نحو معالجة القضايا اليومية والعناصر النثرية. كما ظهرت نزعة "المساءلة", بديلا عن اليقين الثابت والمستقر. فظهر الشعراء: حلمى سالم ورفعت سلام وحسن طلب وعبدالمنعم رمضان ومحمد آدم وعلاء عبدالهادى .. الخ.
ويمكن أن يكون هذا النموذج للشاعر محمد آدم دالا على طبيعة شعر هذه المرحلة:
[أمس
واريناه الترابَ
وأهلنا فوقه الآلافَ من الذكرياتِ الشائكةِ
تلك التى خلَّفها وراءه مثل خطيئةٍ منذورةٍ
وكوَّمنا فوقه الحصى
وما كان بوسعنا أن نفعل أكثر من ذلك حتى لو أردنا
وفوق شاهدة القبر الأخيرة
كتبنا هذه الكلمات:
هنا يرقد الكلبُ بن الكلبِ: فلان الفلانى
لقد أفنى فى حياته عشر نساءٍ على الأقل
وما يقرب من نهرٍ صغيرٍ من الخمرةِ الرديئةِ
وبعض زجاجات البراندى المغشوشة
حيث نلاحظ تلك الجرأة اللفظية, الموحية بفكرة الانتهاك والخروج على التابوهات, مع النثرية الواضحة فى البناء الصوتى واللغوى على حد سواء. وكذلك بروز "الأنا" على نحو مركزى فى القصيدة, وان تم التعامل معها بصورة محايدة, بل وساخرة وهجائية. مع سيطرة ملموسة لهذا المنحى الباحث عن معنى للحياة والوجود, مع التأكيد على افتقاد الحكمة والرشد. اللذين يجسدان فكرة فساد العالم ويحتجان عليها, فى الوقت نفسه.
لقد ازدوج مع هذا النوع من الشعر ظهور حركة نقدية جديدة عمادها الاتكاء على النظريات النقدية الجديدة مثل البنيوية وما تناسل منها من: بنيوية توليدية وسيميولوجية وأسلوبية وتحليل خطاب .. الخ, فظهر النقاد جابر عصفور وصلاح فضل وهدى وصفى وكاتب هذه السطور .. وغيرهم.
وواصل الجيل الروائى السابق استمراره, مهيمنا على الساحة الأدبية, ولكن ظهر الى جواره قامات لافتة, مثل الكاتب علاء الأسوانى بروايته الأكثر شهرة: "عمارة يعقوبيان", والتى تحولت الى فيلم سينمائى ومسلسل تيليفزيونى. كما ظهر فتحى امبابى بروايتيه المهمتين: "نهر السماء", و"مراعى القتل", وكذلك, سلوى بكر ويوسف أبورية وبهيجة حسين ميرال الطحاوى .. الخ.
وظهر من المفكرين نصر حامد أبوزيد الذى كفرته المحكمة بسبب كتبه التى حاول فيها طرح فكر دينى جديد فهرب الى هولندا, وكذلك فرج فودة الذى اغتاله الارهابيون فى منتصف التسعينيات, ويمكن القول أن الفكر الفلسفى قد تراجع بوضوح خلال هذ الحقبة .
وكذلك تراجع فن المسرح وتحول الى نوع من المسرح التجارى الذى يعتمد على الاثارة والكوميديا الرخيصة والكاباريه السياسى.
التسعينيات – التمرد والخروج
لقد حفلت حقبة التسعينيات, وماتلاها, الى الآن, بقدر هائل من التوتر والقلق والأحداث الجسام, فقد انهارت منظومة الدول الاشتراكية وتفكك الاتحاد السوفيتى, وانتشر الارهاب الدينى والتوتر الطائفى, وازدهرت الحركات الدينية المتشددة, واشتدت الأزمات الاقتصادية المصحوبة بانسحاب الدولة من كثير من المجالات الخدمية, فى اطار موجة كبيرة من الخصخصة والتحول القسرى نحو نمط طفيلى مشوه من الرأسمالية. فانتشرت البطالة والعنوسة والمساكن العشوائية وأنماط غير معهودة من الجرائم, وتراجعت شرائح اجتماعية واسعة نحو خط الفقر, وبخاصة الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى. وفى الوقت نفسه, ظهرت أفكار "مابعد الحداثة" مصاحبة لثورة الاتصالات والانترنت .. الخ, مما ساعد فى خلق نزعة عدمية شخصانية, لدى الأجيال الجديدة من الكتاب والشعراء. محورها طرح المقولات الكبرى جانبا والانشغال بقضايا الذات والتأريخ لتحولاتها, والاهتمام بالعناصر الأكثر ألفة من مكونات الوجود, كالجسد وحاجاته البيولوجية والمكونات اليومية النثرية الخالية من الجلال.
فازدهرت اتجاهات أدبية جديدة فى هذه الحقبة مثل قصيدة النثر, ولكن تم احتلال موقع الصدارة من قبل الرواية التى اندرج جزء كبير منها تحت مايمكن تسميته "واقعية القاع", محاولا كشف أعماق المناطق الهامشية والمقصاة, وعناصر القبح والدمامة فى الواقع والوعى, مستخدما لغة مكشوفة وجريئة, يحتل الجسد وعناصر الوجود اليومى (الفج), المركز الرئيسى فيها. مثلما نجد عند محمد الفخرانى وحمدى الجزار ومى التلمسانى وحمدى أبوجليل .. الخ . كما عادت الى الواجهة الرواية التاريخية التى قدمها كتاب ينتمى معظمهم الى الأجيال السابقة, مثل سلوى بكر وصنع الله ابراهيم وعبدالوهاب الأسوانى ومحمد المنسى قنديل وفتحى امبابى.
ولم تسفر هذه المرحلة, التى لانزال نعيش فى أجوائها, عن سماتها النهائية بالكامل, بعد. ورغم كل شىء نستطيع القول أن الثقافة المصرية لاتزال تحتل موقعا مهما فى الثقافة العربية والعالمية رغم حجم التراجعات الكبير الذى ألم بالوجود المصرى بمختلف جوانبه.
لقد حاولت فى هذه العجالة المتسرعة تقديم بانوراما واسعة شملت المحطات الرئيسية فى انتاج مايربو على المائة عام من عمر الثقافة المصرية. وأنا أعلم الناس بمدى النقص والابتسار الذى احتوى عليه هذا العرض, ولكن عزائى يكمن فى أننى قدمت مايشبه فاتح الشهية, الذى يستهدف التعريف والتحفيز للتعاطى مع منجزات هذه الثقافة العريقة والغنية, لجمهور يعتبرها الجزء المفقود من ثقافته الوطنية.
#صلاح_السروى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟