|
ليسنج والخواتم الثلاثة
سعيد عدنان
كاتب
(Saeed Adnan)
الحوار المتمدن-العدد: 6312 - 2019 / 8 / 6 - 00:32
المحور:
الادب والفن
في زمن قديم ؛ كان في كليّة الآداب ، بقسم اللغة العربيّة ، درس اسمه : ( الأدب العالميّ ) يُدرّس على سنتين ؛ في السنة الثالثة ، وفي السنة الرابعة . كان درس السنة الثالثة ؛ الأدب الألمانيّ ، وكان درس السنة الرابعة الأدب الروسيّ . وكلا الدرسين نافع مفيد يصل بين دارس الأدب العربيّ ، والآداب الأخرى . لم يكن بين أيدي الطلبة كتاب مؤلّف أو مترجم يبسط شؤون الأدب الألمانيّ ، ولم يكن في سوق الكتب ، ببغداد يومئذٍ ، ما يُعين على درس هذا الأدب ؛ فلم يبقَ إلّا ما يتحدّث به مدرّس المادة ! كان المدرّس يرجع إلى كتاب باللغة الألمانيّة بين يديه ، ويحاول أن يترجم منه ؛ فتستقيم له الترجمة حيناً ، ويلتوي عليه المعنى أحياناً ؛ غير أنّه حين بلغ ليسنج ( 1729 – 1781 ) ومسرحيّته ( الخواتم الثلاثة ) استقام له الفهم والإفهام بنحو ما ، واستطاع أن يُبين عن مغزى صاحب المسرحيّة في مسرحيّته ، وأن يقول : إنّه أراد بالخواتم الثلاثة الأديانَ الثلاثةَ ( اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام ) ، وإنّه كان يدعو إلى أن يكون بينها ضرب من الألفة والتآزر ؛ إن لم يكن في جانبها اللاهوتي ؛ ففي جانبها الناسوتي القائم على العمل الصالح في رعاية الإنسان ، ورأب صدعه ! رغبتُ في أن أقرأ المسرحيّة ، وأن أقف على فنّ المؤلّف وفكره ؛ لكنّها لم تكن قد تُرجمت إلى العربيّة ! كان ليسنج ، جوتهولد إفرائيم ليسنج ، أديباً ؛ شاعراً وكاتباً ، وكان فيلسوفاً من رادة التنوير في القرن الثامن عشر في ألمانيا ، وكان مع ذلك ناقداً . بل إنّ دارسي الأدب والنقد إنّما يعرفونه ناقداً ، ويذكرون كتابه : ( لاوكوون ) حين يتحدّثون عن معالم النقد الأدبيّ في أوربّا ؛ إذ وقف فيه عند النحت والتصوير والشعر ، مبيّناً مقدرة كلٍّ منها على التعبير ، واصفاً ما بينها من اقتراب وتباعد . لكنّ مكانة ليسنج الرفيعة إنّما تأتي من صدارته في قضية التنوير في القرن الثامن عشر ؛ كان يجعل الإنسان أوّلاً ، ويقدّم العقلَ على ما سواه ؛ وكلُّ فكر ، وكلُّ فنّ وأدب ؛ إنّما هو وسيلة من أجل الرقي بالإنسان والسمو به ، وتعزيز خصاله الإنسانيّة . وقد كان هذا الأمر نُسغَ فكره ، وعنوان أدبه الذي لا يحيد عنه . دارَ التنويرُ في القرن الثامن عشر على قراءة الدين قراءةً جديدة تفارق إطار الكنيسة ، وتنظر إلى مكانة الإنسان فيه ؛ وكان العقلُ سيّدَ الفهم ؛ به تُعرف الأشياء ، وبحكمه تُنزل منازلها ، والوحي إنّما يُفهم بنور العقل ! ولا ريب في أنّ ذلك أثر من آثار الإصلاح الديني الذي جاء به مارتن لوثر ، وهو أيضاً أثر من آثار عصر النهضة ؛ إذ انتقلت الأذهان من النظر في الكتب القديمة وشرحها ، إلى النظر في الطبيعة ودراستها ، والوقوف على ما يحكمها من أنظمة . وكلّ ذلك ناتج من استبدال منهج بمنهج ! فلقد استبدل قادةُ عصر النهضة منهجَ الاستقراء بمنهج الاستنباط ! وانتقلوا من قراءة الكتب القديمة إلى قراءة الطبيعة ! وأنكروا أن تكون كلُّ الحقيقة في تلك الآثار القديمة ؛ بل إنّ جوانب من الحقيقة تكمن في الطبيعة وعناصرها . وما أن أخذ العلماء في عصر النهضة يقرؤون الطبيعة ؛ حتّى تقلّص ظلّ الحقائق القديمة ، وتزعزعت ركائزها ، وشرع التنوير ، من حيث هو احتكام إلى العقل ، ينفذ في كيان الفكر والأدب . لقد ورث ليسنج ثمار الإصلاح الديني ، وثمار عصر النهضة ، وأفاد منها ، ثمّ ارتقى بها خطواتٍ أخرى في سبيل التنوير . إذ عبّر عن ذلك في فكره ، وفي أدبه ؛ فقد كتب : ( تربية الجنس البشري ) مُبيناً فيه عن مجرى التاريخ ، ومكان الوحي والعقل فيه ؛ وعنده أنّهما من أجل الإنسانيّة ورقيّها ، ولا يصحّ لهما أن ينقطعا عن الحياة . وكتب المسرحيّة الشعريّة : ( الخواتم الثلاثة ) ؛ وقد أذاب فكره المستنير في أحداثها وشخصيّاتها . تجري حوادث المسرحيّة في القدس ، على زمن صلاح الدين الأيّوبي ، حيث تلتقي الأديان الثلاثة ، ويلتقي أصحابها ، وتمتدّ الوشائج بينها . يبدأ مشهدها الأوّل من فصلها الأوّل بعودة " ناتان " إلى بيته من سفر طويل ، بعد أن باع واشترى ، وهو التاجر اليهودي ذو المال الوفير . وما أن يصل حتّى تُخبره " ضايا " مربيةُ " ابنته " أنّ حريقاً ، في غيبته ، شبّ في الدار وكاد يودي بـ " ابنته " " ريشا " ؛ لولا فارس من فرسان المعبد اقتحم ألسنة النيران ، وأنقذها . ثمّ تُخبره أنّ فارس المعبد هذا ؛ إنّما هو أحد الأسرى الذين وقعوا بين يدي صلاح الدين الأيّوبي وهو يحارب الإفرنج ؛ فأمر بضرب أعناقهم واحداً واحداً ؛ فلمّا بلغ السيّاف عنق هذا الفارس ، وأمره برفع رأسه حتّى يُقطع ؛ وقعت عينا صلاح الدين عليه فاختلجت مشاعره ، وأمر برفع السيف عنه ، وفكّ قيده ، والعفو عنه ! وقد قيل في ذلك : إنّ صلاح الدين تذكّر به أخاً له مات من عشرين سنة ، وإنّ ملامح فارس المعبد ترمي إلى ملامح أخيه ! وكأنّ فارس المعبد نجا من القتل حتّى يُنقذ " ريشا " من الموت ! ثمّ يجد ناتان أنّ " ابنته " قد علِقت فارس المعبد ، وشُغفت به ؛ لكنّ فارس المعبد مختفٍ لا يظهر ، ولا يريد على صنيعه شكرا ؛ وما يزال ناتان به حتّى يجده ، فيمدّ معه أطراف الحديث ، ويُقيم الصلة . وتمضي حوادث المسرحيّة على أكثر من مسار ؛ غير أنّها كلّها تصبّ في مجلس صلاح الدين ، وتشتبك خيوطها عنده ؛ إذ يلتقي اليهودي بالمسيحي تحت خيمة السلطان المسلم . وفي بيئة كهذه لا بدّ أن يقع سؤال ، وأن يرد جواب ؛ أيّ الأديان هو الحقّ ؟ وقد سأل صلاحُ الدين ، ذات يوم في مجلسه ، ناتان ؛ أيُّ دينٍ هو الحقّ ؟ وقد دلّت حوادث المسرحيّة ، منذ ابتدأت ، على صدق ناتان ، وحكمته ، وهدوء نفسه ، واعتدال رأيه حتّى لُقّبَ بـ ناتان الحكيم ؛ فكان من جوابه أن روى لصلاح الدين حكاية فحواها ؛ أنّ رجلاً ورث عن آبائه خاتماً كريماً يمنح حامله الصفاء ، والسلام ، ويُلقي عليه محبّة من الناس ، وكان له ثلاثة أبناء ؛ فلمّا دنا منه الموت عزّ عليه أن يمنح الخاتم لواحد من أبنائه ويحرم الآخرين ؛ فانقدح في ذهنه ؛ أن يُكلّف صائغاً ماهراً بصناعة خاتمين على طبق خاتمه في كلّ شيء ؛ حتّى إذا استوت بين يديه ثلاثة خواتم لا فرق بينها دفع لكلّ ولد من أولاده خاتماً ! ومغزى الحكاية في الإجابة عن سؤال صلاح الدين ؛ أنّ الأديان سواء ، وكلّها حقّ عند أصحابها ، وأنّ الجامع بين الناس إنّما هو المحبّة والألفة وروح التعاون ! ليست هذه المسرحيّة من التراجيديا ، وليست من الكوميديا ؛ ولكنّها مسرحيّة أفكار استطاع المؤلّف فيها أن يُذيب الفكر ، وأن يصبّه على شخصيّات من صنعه ، وأن يمضي بهذه الشخصيّات إلى مصائرها التي أرادها لها . فقد تكشّف الأمر شيئاً فشيئاً ؛ أنّ ريشا ليست من صلب ناتان ، وإنّما هو متبنّيها ، والقائم بأمرها ، وأنّ فارس المعبد الذي لمح فيه صلاح الدين شبهاً من أخيه المتوفّى قبل عشرين سنة ؛ إنّما هو ابن ذلك الأخ من زوجته المسيحية الألمانيّة ، وأنّ ريشا نفسها هي ابنة ذلك الأخ أيضاً ، وأنّها أخت فارس المعبد ! لقد أراد المؤلّف أن يقول إنّ هذه الأديان نافذ بعضها في بعض ، وإنّ هذه الدماء جارٍ بعضها في بعض ؛ فلا ينبغي أن تقع العداوة والبغضاء ! جرت حوادث المسرحيّة سلسلة شائقة بعضها ينبثق من بعض ؛ حتّى اكتملت عند غاية المؤلّف في إشاعة روح السلام والمحبّة والوئام . كنتُ مشوقاً أن أقرأ المسرحيّة ، وأن أقف على فكر المؤلّف وفنّه ؛ فلّما قرأتُها بترجمة فوزيّة حسن الصادرة عن المجلس الأعلى للثقافة بمصر وجدت نصّاً ثريّاً بالفكر والفن جديراً بالقراءة ، وإعادة القراءة ! غير أنّ الترجمة لم تسلم من لحن في النحو والصرف ؛ وكان حريّاً بالمترجمة أن تستدرك ما فاتها من شؤون النحو والصرف ...
#سعيد_عدنان (هاشتاغ)
Saeed_Adnan#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
علي عبد الرازق 1888 - 1966
-
مصطفى عبد الرازق 1885 - 1947
-
لو كنتُ حكيما ، أو الشاعر متأمّلا
-
العربية في ميدان العلم
-
الثقافة
-
العربيّة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين
-
المقالة الأدبيّة وآفاقها ...
-
طه باقر ...
-
محمد يونس والنهج الواقعي ...
-
علي جواد الطاهر .. في ذكراه العشرين
-
عبد الواحد لؤلؤة ...
-
أمين نخلة في أمر عجب ...
-
علي عباس علوان في ذكراه
-
زكي نجيب محمود في أفق الترجمة
-
الشعر الجديد
-
الكرد في شعر الجواهري
-
عدنان العوادي
-
حياة شرارة
-
لويس عوض .. أيضا
-
علي جواد الطاهر
المزيد.....
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|