|
يوسف الصائغ من الشيوعية إلى الفاشية ..لماذا غير خطّ سيره؟
رياض الأسدي
الحوار المتمدن-العدد: 1548 - 2006 / 5 / 12 - 06:25
المحور:
الادب والفن
في منتصف الثمانينات كنت اجري مقابلة صحفية ثقافية مع كاتب مصري يساري بعد زيارته للعراق. وكان الفقيد يوسف الصائغ يمازحه طويلا ويوصيني به (شرا) فقال له الكاتب المصري: اذهب من هنا يا واد يا صايع.. وحينما أستدركت بحميتي العراقية! من أنه الصايغ وليس الصايع، قال: دا يوسف بتاعكم ضيع نقطته لدينا مذ كان معنا في القاهرة، ومنذ ان استدعي للسفارة العراقية هناك!! وعرفت منذ ذلك الوقت اللعين بان ثمة ما هو غير طبيعي.. وكنت ادرك ذلك تماما. وكلما اضع يدي على الكيبورد - بعد ان غادرنا العمل بأقلام الرصاص ولله الحمد من قبل ومن بعد- اجدني ممتعضا قليلا، وربما حزينا ايضا، فقد (اسيء) إلى ذكرى عراقي عزيز. لكن الكتابة من وحي التساؤلات المرة، والبحث عن الحقيقة أشد وقعا في النفس من اي وقع آخر بالنسبة للكتاب خاصة. والكشف عن الحال اهم من جميع العواطف البسيطة التي لم تكسب العقل العراقي غير الخمول وضياع الحقائق والمسارات الصحيحة، والمجاملات الفارغة احيانا. ومن هنا فإن قيام حركة نقدية عامة من الاهمية بمكان لكل نهضة ثقافية حقيقية؛ بل هل شاهدتم في التاريخ ثمة امة قد نهضت - هكذا - فجأة دون يقدم ابناؤها نقدا لها ولسيرة رموزها وثوابتها وقناعاتها؟ وما قيمة النهوض بلا نقد ونقد جارح.. وهل يستطيع المثقفون العراقيون والعرب ان يقدموا لنفوسهم نقدا ولمسيرتهم تصحيحا من وقت لآخر؟ هل يجرأون على ذلك؟ ام ان العوامل العشائرية الشرقية المبنية على الأعتزاز بالنفس والاثم اقوى من ذلك بكثير؟ هاكم كتب النهضة فاقرأوا بها ما تشاؤون.. وما انا بحاجة إلى تقديم صورة (ما) في هذه العجالة عن المبدع العراقي الكبير يوسف الصائغ، الشاعر، والمسرحي البارع، وكاتب السيرة الممتاز، وكاتب العمود اخيرا!. البتة. ليس ثمة ماهو اسوأ من تلك الاعمدة الرخيصة التي كان يوسف الصائغ يكتبها في خط نظام صدام وفي مجلة الف باء. كان يوسف الصائغ واحدا من المبدعين العراقيين الكبار الذين اسهموا بجدارة في صياغة الثقافة العراقية، ولن تستطيع اية قوة مسطحة أن تمحو ذكره من ذاكرة العراق الثقافية مهما كان موقفها من سلوكه تجاه النظام الصدامي الفاشي. ومن هنا فإن قيام نقد علمي وموضوعي هو من اهم شروط أية نهضة ثقافية عراقية جديدة وجادة- هذا إذا كان فعلا ثمة نزوع لنهضة ثقافية فالمؤشرات تتجه إلى الامكنة الخاطئة إلى الوقت الحاضر طبعا. اما الادعاءات التي يسجلها او ذاك من (عرضحالجية) هذه الجهة او تلك فإنها لن تثلم من النتاج الإبداعي الكبير الذي يتربع عليه الصائغ أبدا. وأذكر إني في منتصف عقد التسعينات قد جلب لي صديق مسرحي - طالب دكتوراه آنذاك - معظم أعمال الصائغ المسرحية من اجل تكوين محور نقدي عنها.. ولكم أستمتعت بكتابات هذا المبدع الكبير، وكم أخذ مني الأسف مأخذا كبيرا حينما تجد مبدعا كالصائغ يصطف إلى جانب أعتى طاغية دموي عرفه القرن العشرين؟! وبقيت الأسئلة تترى في ذهني منذ ذلك الوقت: لماذا غيّر يوسف الصائغ خطّ سيره؟! يبقى يوسف الصائغ واحدا من اعلام العراق المعاصر ومن مبدعيه الكبار في مختلف المجالات على الرغم من جميع المواقف التي حادت به عن خطه.. فلم يكن الصائغ كاتبا عاديا، كان واحدا من مناضلي الحركة الوطنية العراقية أيضا. وكان شيوعيا قد خبر السجون البغيضة، ومن اهمها السجن الرهيب المعروف بنقرة السلمان: تلك القلعة الصحراوية العنيفة في السماوة التي اخذت وما تزال مساحة كبيرة من تاريخ العراق الادبي والسياسي على حدّ سواء. كتب يوسف الصائغ سيرة شخصية بعنــوان (مالك بن الريب) ونشرها تباعا في مجلة الاقلام.. أظهر الصائغ من جديد قدرة على السرد قلما شهد لها الادب العربي او العراقي الحديث مثيلا. كان يوسف الصائغ الذي يقبع قبره في سوريا الآن كما هي كثير من قبور العراقيين المعارضين للنظام السابق.. وتلك واحدة من مهازل القدر أيضا. ولا شكّ بأن الصائغ له الرأي نفسه بما يتعلق بعدم الرغبة في مغادرة العراق، فهم يحنون إليه حنين القطا؛ وتلك حال الشاعر العراقي الكبير عبد الرزاق عبد الواحد الذي لا يصبر شهرا واحدا على البقاء في الغربة.. بعيدا عن العراق.. فكيف به الآن - واحرّ قلباه!- لكنه ثمن الموقف الجبان أيضا.. لماذا تأتون إلى العراق وقد حوله صدام إلى ركام، ثمّ حولته الولايات المتحدة إلى ركام أسود أشد قباحة واكثر دموية؟ دافع يوسف الصائغ عن نظام صدام بعد ان شبع سجونا وقهرا وبؤسا، من النظام البعثي الفاشي نفسه، ويئس من قيام ( دكتاتورية بروليتاريا!) بغدادية.. فدافع عن معذيه وقاتليه.. ياللعار.. هل هو المرض النفسي الغريب الذي يدعو إلى تقبيل يد الجلاد .. حسنا لم؟؟ وما الدافع الحقيقي بعد كل هذا العناء؟! هل هو قصر صيفي على دجلة يمنحه قاتل شعب ومدمّر امة لشاعر ليجلس متباهيا به وسط جماعته ومهرجيه كما حدث لدى عبد الرزاق عبد الواحد؟ ام هو منصب مدير عام السينما والمسرح البائس الذي شغله يوسف الصائغ؟ ولم يبق صدام لا سينما ولا مسرح.. هل هو الرغبة بالحصول على مغنم مادي في بحبوحة آخر العمر؟! ترى كم من العذاب الداخلي تحمل الصائغ - ويتحمله امثاله- في الغربة عن العراق الآن؟ ولماذا يصرّ بعض مادحي صدام من الشعراء على الظهور من جديد في مهرجانات الشعر التي تدين الدكتاتورية الغاشمة؟ وما يقول في نفسه؟ وهل هو مثل النعامة ؟ ام ان المثقفين ذاكرتهم ضعيفة كما هي شعوبهم المسكينة والمضطهدة؟ إنه لأمر يدعو للغرابة حقا بالنسبة لي في الاقل. وربما ثمة من يرى غير ذلك، لأنه ينطلق من الهواجس الخفية للنفس البشرية، والوساوس التي تراودها بعد كلّ مرحلة تاريخية حافلة. كان يوسف يدرك تماما مدى العنف الذي سببه صدام للشعب العراقي، ومدى القسوة والفاشية العالية التي كان يعامل بها اقرب الناس إليه. ورغم كلّ ذلك العنت كتب يوسف ديوان : المعلم؟!! عن أي معلم قذر كان يوجه يوسف خطابه الشعري..؟؟ وما الذي تعلمه يوسف من معلمه الاول فلاديمير أيليتش لينين في سجن النقرة؟ ام ان الادباء - والشعراء خاصة- هم النقطة الرخوة دائما التي تمكن الفاشيين من التسلل إلى صفوف المثقفين؟ وهل سنشهد في وقت قريب - مثلا- ثمة متسللين آخرين لديهم الأستعداد لبيع نفوسهم وقضيتهم (الوطنية) مقابل أوراق خضر معدودات او غير معدودات؟ اجل بدأت البوادر من جديد وفي زمن الاحتلال ومنذ البداية. اجل ذهبت جمهرة من (العرضحالجية) منذ الأيام الاولى لعرض خدماتها على الجيش البريطاني؟!! لكنهم عرضحالجية صغار ليسوا بذوي شأن.. بيد ان استمرار الاحتلال سيمكنه من آخرين أثقل وزنا مثلا؟ لا أستبعد ذلك قط. لكنها الحقيقة الحادة كموس شفرة حلاقة صديء أيضا. ترى كم تستطيع مخابرات الدول ان تشتري من المثقفين؟ وهل هم بسعر رخيص لا يتعدى سعر جاسوس من الدرجة الثالثة مثلا؟ هل يمكن لمخابرات دول ان توظف مثقفا ليعمل ضدّ شعبه؟ هل نعود القهقرى إلى نص السياب حول صباغي احذية الغزاة؟؟؟ ربما نحتاجه لنعلقه بعد وقت قريب على صدور بعض منا.. لا شكّ بان الوضع سيبقى قيد الاحتمال مادام السيد المال حاضرا آمرا ناهيا في حيواتنا؛ فالكاتب أولا واخيرا هو إنسان، وهو عرضة للتغيير وللسقوط الاخلاقي ككل الناس. غير ان القضية الاساسية تتعلق في قيمة الوعي الذي يحمله الكاتب، ومدى ضرورة توازنه بازاء القيم الإنسانية التي يحملها؟ ولا ادري هل ان مثل هذا الامر يعني (العرضحالجية) الجدد ام أنهم سيعتبرون (المباديء) محض خرافة من خرافات حقبة الحرب الباردة. فالثقافة من وجهة نظرهم سلعة ووظيفة وهي جاهزة للبيع مثل أية سلعة في العالم وهي بلا شك عرضة لعوامل العرض والطلب أيضا.. ووظيفة تكون من لوازمها المكتب والسائق الخصوصي، والسكرتيرة التي تتعرى بعد الدوام في المكتب نفسه غالبا.. هل يمكن ان ينحدر المثقف بوعيه إلى هذا المستوى المروع ؟ ما الذي يمكن ان نتحصن به؟ مقالة لينين عن المثقف والالتزام، ام موقف سارتر اللاعن؟ ام ما يكتبه الآن عرضحالجية ثقافة العولمة المزعومة؟ ام أننا سنعود إلى ما علمتنا به امهاتنا من وضع سورة الحصن الحصين مكتوبة على صدورنا؟ لماذا تحول يوسف الصائغ عن خطه وهو الذي قرأ وعلم الديالكتيك الماركسي، وآمن بقضية العمال طوال حياته. لماذا تحول إلى بوق طاغية مبلل وصديء وممل وغريب بعد ان تناسى عن عمد تاريخ سجنه في نقرة السلمان؟ هل كان يوسف يدافع عن العراق من خلال صدام ..؟ كيف يمكن ذلك؟ كيف يمكن لمثقف ان يصطف إلى جانب طاغية؟ هل فعلها من قبل آخرون؟ أجل. أجل. اجل. ويبقى السؤال لماذا؟؟ إنه لسؤال محير وكبير، ولن نحتاج إلى محلل نفسي او نقول كلمة ما بشطبة كيبورد او قلم للسادة الذين ما زالوا يستخدمون السيد القلم ويسطرون به مواقفهم. هل هي رسوخ العقيدة في النفس؟ الم تكن الماركسية كافية لتحصين هؤلاء..؟ أرى ان تلك الافكار مهما اوتيت من قوة وقناعة غير كافية .. هل كان يوسف الصائغ الظاهرة الثقافية الوحيدة من هذا النمط ام ان ثمة أعدادا أخر من النمط نفسه؟ بالطبع أن (الصائعين) الذين فقدوا نقطهم هم اكثر من يوسف، لكننا آثرنا ان يكون الصائغ (مثلهم الأعلى) في ريادة التحول من الشيوعية إلى الفاشية في هذه الحقبة الشائكة من حياتنا الثقافية. وإذا كانت هذه القضية من العار بمكان: هل يمكن السكوت عنها وتجاوزها، وكأنها مجرد زلة لسان او خطأ في النحو او السير على عكس خط السير كما يحدث كثيرا هذه الأيام؟ احسب بان قضية المثقف والسلطة ابعد في الشرق وأغرب مما كتبه ميشال فوكو عن ذلك.
#رياض_الأسدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إحمد ربك كاكا كمال كريم لست شروقيا
-
تعال إلى انسية زارالولو
-
جدل العلماني/الديني: علي الوردي ومحمد باقر الصدر
-
إلى العراقيين الذين ينامون وارجلهم بالشمس: من ينهب العراق ال
...
-
الرأي العام في العراق الآن
-
الإعلان الرسمي للحرب الاهلية في العراق
-
الكتاب المستقلون العراقيون.. لماذا؟ وإلى أين؟
-
ميكروسكوب عراقي- عراق الداخل
-
بيان إلى (بلابل جنجون
-
الاواني المستطرقة
-
أدب الحرب العراقي:كتابات إنسانية ام اكذوبة حكومية؟
-
دراسات في الفكر الوطني
-
الأوتجية واللوكية
-
سياسات دمقرطة الشرق الإسلامي،طروحات الولايات المتحدة حول (ال
...
-
شعارات القطيع الاسمنتية - سياسات إفراغ المحتوى الإنساني- الع
...
-
توماس فريدمان: قناعاتنا الأميركية بازاء عالم متغيّر
-
الأغلبية الصمتة في العراق دراسة سياية وميدانية
-
قراءة في كتاب ( علي ومناوئوه) المنهجيتان العلمية والتقليدية
-
الليبراليون العراقيون: طريق غير ممهّدة وسير متعثر
-
تكرار فولتير،دراسة أولية في النظرية الأجتماعية الوردية
المزيد.....
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|