|
العقلية الاستهلاكية والمقاومة
سوسن مروة
الحوار المتمدن-العدد: 1547 - 2006 / 5 / 11 - 11:50
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
تحاول الليبرالية الجديدة فرض تذويب الخصائص الثقافية للشعوب واستبدالها بثقافة عالمية واحدة عبر التأثير على أنماط حياة المستهلكين وتنميط أفكارهم، أذواقهم وسلوكياتهم(على قاعدة أن التشابه في الأفكار يولّد حتمًا تماثلا في السلوك) وتكريس النزعة الاستهلاكية لدى الأفراد عبر وبواسطة ثورة الاتصالات والكومبيوتر والاكتشافات العلمية بما يخدم المصالح الاقتصادية , للرأسمالية المعولمة. ولتأطير أفكار الأفراد وتنميط سلوكياتهم تجنّد الليبرالية الجديدة جيشاً من الخبراء والأكاديميين وعلماء النفس والاجتماع العاملين في مراكز البحث والدراسات الإستراتيجية ،بالإضافة إلى خبراء في السياسة والاقتصاد ومؤسسات مالية ذات نفوذ وقوة تمكّنها من فرض تصوّراتها عبر مؤسسات إعلامية فاعلة قادرة على التأثير اعتماداً على فتنة الصورة وسحريتها من خلال أدواتِ تبليغٍ متعددة مثل الإشهار والموضة والجسد وصناعة الجمال والسينما والفيديو كليب... النزعة الاستهلاكية هي مصطلح يُستخدم حين يتجاوز الاستهلاكُ مسألةَ إشباع الحاجات الطبيعية، الضروريّة للعيش، إلى إشباع الحاجات الثقافية، أي الرغبات الخاصة في التمايز والاختلاف والامتلاك والتباهي.ومفهوم المجتمع الاستهلاكي هو مفهوم اجتماعي ساد في المجتمعات الغربية نتيجة للتطوّر الاقتصادي في تلك البلدان.أما اليوم،وفي زمن العولمة،فإن مجتمعاتنا ،وبدرجات متفاوتة، قد استقرّت فيها العقلية الاستهلاكية بسبب عوامل عدّة قد يكون منها تخلّف اقتصادياتنا وتبعيتها للمراكز الرأسمالية وافتقاد شعوبنا للتفكير النقدي وتقبّلها للاستبداد والتدجين. كمستهلكين، نبحث دائما في المجلات، في الإنترنت ونزور المحلات علّنا نجد أشياء جديدة نشتريها. ويرى جان بودريار أن ما يميز العقلية الاستهلاكية كونها إحدى أشكال التفكير السحري الذي يتحكم في الاستهلاك."إنها عقلية سطحية بدائية، فالمستهلك يعتقد أن الامتلاك والعرض للعلامات التجارية التي تدل على الوفرة والثراء والمكانة الاجتماعية سوف يمنحه السعادة الحقيقية" والاعتراف به كفرد ذي مكانه هامّة في المجتمع. إن المسوِّقين للسلع يظهِرون منتجاتهم كأشياء سحرية سوف تمنحنا السعادة المطلقة والمتعة وهم مضطرون لذلك لتحقيق أعلى الأرباح لشركاتهم ،لكننا غالبا ما نتصرّف كمندوبين عن المسوِّقين فنعاونهم في إلصاق هذا السحر بالمنتَج.وهكذا ،ليس فقط يتم إغواؤنا من قبل المسوِّقين،بل إننا نَلْفي أنفسنا متطوّعين للانخراط في إغواء الذات والبحث بتلهّف عن أهداف جديدة للرغبة..إلا أن الحصول على ما نتمنى قد يكون مخيّبا للآمال،فهو أقل إمتاعا من حالة الرغبة بذاتها. وهل الرغبة إلا حالة من التلهّف الميؤوس منه؟أن نرغب في سلعة بحماس وتلهف ،هذا يعطينا الأمل من خلال تخيّل تحقيق هذه الرغبة بالشراء والامتلاك.ولكن ،عندما ندرك بوعينا خلفية رغباتنا ،غالبا ما نشعر بالإحباط لأننا لم نعد نختبر المتعة الناجمة عن الأمل الذي احتلّ مساحات اللاوعي.وربما لهذا السبب دائما نبحث عن أشياء جديدة نرغب فيها كي نمر من جديد بهذه المتعة.غير أن منفعتنا المنشودة من امتلاك سلعة ما لا تنحصر في السلعة ذاتها فقط،بل أيضاً في الاحترام أو الحب أو التقدير الذي نلقاه كمستهلكين من الأشخاص الذين يدورون في فلكنا الاجتماعي. و العقليّة الاستهلاكية ليست طبيعة متأصلة في النفس البشرية ،فالإنسان في المجتمعات الزراعية قد أنتج على الدوام الضروريَّ للعيش،بل هي ثقافة يتمّ فرضها بالقوة الاقتصادية والعسكرية للرأسمالية المعولمة التي تفرض على الشعوب الفقيرة أن تنتج ما لا تحتاج إليه وأن تستهلك ما لا تنتجه ولا تحتاجه.وفي البلدان النامية والفقيرة تقترن النزعة الاستهلاكية (المترافقة مع الميل إلى حب الظهور والتقليد) بالتبعية الاقتصادية والغذائية بعد أن دمّر الاستعمار البُنى الاقتصادية التقليدية التي اعتمدت بشكل أساسي على الحِرَف والزراعة .ولضمان إحكام سيطرتها على الأسواق العالمية تسلك الشركات الكبرى منحى استخدام علم النفس لتشكيل عقول المستهلكين،الشباب والأطفال بشكل خاص لكونهم ذوي طاقات استهلاكية كبيرة، وحثها على اللهاث وراء كل سلعة جديدة.. وقد أصبحت وسائل الإعلام والفن والأزياء والتكنولوجيا والدوافع الجنسية أشكالا لإنتاج السلع واستهلاكها. هكذا تعتبر الصورةُ العمودَ الفقريّ الذي ترتكز عليه ثقافة الاستهلاك. للصورة أولويّة تاريخية على الكلمة، لذا فهي الأسرع والأكثر فعالية كَوْنها تتسلّل إلى اللّاوعي وتتمركز فيه قبل أن يبدأ الوعي بالتحليل والنقد، وهكذا تكتسب أهمية كبرى في عملية الإيحاء والإغواء والحث على الاستهلاك.في علم السلوك يقال أن :في الدماغ "تحدث" القرارات قبل "اتخاذها "ظاهرياً ؛وفي الواقع ،لا تحدث المحاكمات اللاواعية قبل المحاكمات الواعية فقط، بل تقودها أيضا.لكن هل يعني هذا أن الإنسان محكوم للاوعي ،أم أنه حين يقرّب المسافة بين وعيه واللاوعي يمسي قادرا على الإمساك بحرية الاختيار؟! والصورة تمارس نفوذها وسيطرتها من خلال مئات القنوات الفضائية التي تغلّف الكرة الأرضية برمّتها ،حيث" تروّج لقِيَم التسلية والإثارة ،والإمتاع والنجومية وبيع الأحلام-من خلال الإعلانات –والرياضة وجني الأرباح"(مصطفى حجازي) واختزال الثقافة إلى معلومات تخزَّن في ذاكرة الإنسان اللاهث لمنافسة ذاكرة الحاسوب.هكذا يتحول كلّ شيء ،بما في ذلك الإنسان بجسده وقيمه الروحية، إلى سلعة يتم الترويج لها تماما كما يتم التبشير بديانةٍ ذاتِ تعاليم وطقوس تؤدي في النهاية إلى إنتاج الإنسان المتقوقع على فرديته وأنانيته ،الإنسان المنقاد المُمْتَثِل المدجَّن .في المحصّلة يتَشَيّأُ الإنسان ويغترب عن ذاته وعن عالمه وينعزل في فردانيةٍ " تُضعِف تقاليد الروح الجماعية والتعاضد والمبادرة ما يؤدي إلى ضعف المشاركة في الحياة السياسية والعمل السياسي" اللذان هما رافعة ثقافة المقاومة والتغيير.وفي هذا السياق ،يتوجّب علينا أن نلاحظ أن الشعوب قد بدأت تدرك حجم القوّة السياسية التي تحتويها قوّتها الشرائية الجمعية كمجموعاتٍ مستهلِكة.وبغضّ النظر عن الدوافع (الدينية أوالقومية أو غيرها)التي تستفزُّ الشعوب للانتفاض والمقاطعة (مثَل قضية الرسوم الكاريكاتورية)،فسوف تثبت التجربة كم لمقاطعة المنتَجات من أثر سلبيّ مدمّر على اقتصاديات دول المركز الرأسمالي ومدى فعالية وجدوى هذا الشكل من أشكال المقاومة الشعبية.لكن الشعوب تحتاج إلى قيادات عقلانية وحكيمة تنظِّم نضالاتها وتطرح عليها برنامجا متكاملاً للمقاومة يتضمّن الثقافي والاقتصادي والسياسي كي لا تنحصر مقاومة الشعوب المقهورة ،خاصة تلك الواقعة تحت الاحتلال العسكري المباشر كالشعبين العراقي والفلسطيني ،وكي لا تكون المقاومة فعلَ انفعالٍ آنيٍّ غيرِ مثمر
#سوسن_مروة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فاعلية المثقف
-
العقلية الاستهلاكية والمقاومة
-
طقوس عشق فينيقي
-
القصيدة رفيف الصمت المدمّى
-
الموسيقى فعل كفاح ونضال
-
فوضى التكوين
-
جذورهم ضاربة في رحم الأرض في ذكرى مجزرة قانا
-
*السباحة في فضاءات ثادريميس
-
دعوة تأسيسية للتمرد
-
-جمّول- كبرت قبل أوانها
-
في ذكرى مجزرة -قانا - جذورهم ضاربة في رحم الأرض
المزيد.....
-
لثاني مرة خلال 4 سنوات.. مصر تغلظ العقوبات على سرقة الكهرباء
...
-
خلافات تعصف بمحادثات -كوب 29-.. مسودة غامضة وفجوات تمويلية ت
...
-
# اسأل - اطرحوا أسئلتكم على -المستقبل الان-
-
بيستوريوس يمهد الطريق أمام شولتس للترشح لفترة ثانية
-
لندن.. صمت إزاء صواريخ ستورم شادو
-
واشنطن تعرب عن قلقها إزاء إطلاق روسيا صاروخا فرط صوتي ضد أوك
...
-
البنتاغون: واشنطن لم تغير نهجها إزاء نشر الأسلحة النووية بعد
...
-
ماذا نعرف عن الصاروخ الروسي الجديد -أوريشنيك-؟
-
الجزائر: توقيف الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال
-
المغرب: الحكومة تعلن تفعيل قانون العقوبات البديلة في غضون 5
...
المزيد.....
-
النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف
...
/ زهير الخويلدي
-
قضايا جيوستراتيجية
/ مرزوق الحلالي
-
ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال
...
/ حسين عجيب
-
الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر )
/ حسين عجيب
-
التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي
...
/ محمود الصباغ
-
هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل
/ حسين عجيب
-
الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر
/ أيمن زهري
-
المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع
/ عادل عبدالله
-
الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية
/ زهير الخويلدي
-
ما المقصود بفلسفة الذهن؟
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|