بشير الوندي
الحوار المتمدن-العدد: 6300 - 2019 / 7 / 24 - 20:12
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
مباحث في الاستخبارات (175)
المدرسة الاستخبارية البريطانية
بشير الوندي
-----------
مدخل
-----------
"نحن نتاخر ٥ دقائق عن الاخرين!" انه الشعار الاساسي للمدرسة الاستخبارية البريطانية , المدرسة التي تعتمر بالهدوء والتأنّي والتفكير والبرود والصبر والمطاولة كأساسيات للأسلوب والمنهج , ومما لاشك فيه ان اي علم يستمد ديمومته وحيويته واصلاحه الذاتي وتطوره من خلال التفاعل مع تجارب الآخرين والتفاعل معها والافادة منها ومما وصلته .
الأمر الذي يتطلب منا الاطلاع على تجارب المدارس الاستخبارية المختلفة , فهي تجارب مسيسة بواقعنا ولابد من استيعابها والبناء عليها , فنحن لانعيد اختراع العجلة , ولابد من اثراء خطواتنا بقراءة تجارب الآخرين , وعلى رأسها التجربة الاستخبارية البريطانية العريقة والناجحة .
ولقد اكدنا دوماً بأنّ معيار نجاح الاستخبارات يتمثل في قدرتها على حفظ النظام وديمومته ,فبرغم التقلص الجغرافي للإمبراطورية التي كانت لاتغيب عنها الشمس لأسباب لاتلام عليها الاجهزة الاستخبارية وإنما ترجع الى متغيرات عالمية كبيرة كالحربين العالميتين , الا ان النظام الملكي البريطاني لازال قائماً منذ اكثر من ١٢٠٠ عام ويعتبر اطول نظام حكم في العالم .
لقد حظيت المدرسة الاستخبارية البريطانية بالريادة الدولية في مضمار الخدمة السرّية، والتى لعبت أدوارًا سرية وعلنية خطيرة غيرت خارطة العالم وشكلت دولاً وحدوداً , وتأسست على يدها معظم أجهزة الاستخبارات العربية , كما ان ارض الرافدين كانت , منذ اكثر من قرنين , مسرحاً للعمل الاستخباري البريطاني سواء من خلال رحلات المستشرقين او المنقبين والجوالة الذين كانوا يكتبون ادق التفاصيل عن حياتنا ومحيطنا وعاداتنا , او من خلال التواجد الاستخباري الرسمي البريطاني لعقود طويلة من القرن الماضي .
لكل تلك الاسباب , فإن دراسة التجربة الاستخبارية البريطانية تصبح هامة ومفيدة ولاتفي بها صفحات قليلة , الا ان مالايدرك كلّه لايترك جلّه .
----------------------
اطلالة تاريخية
----------------------
ذكرنا , في مباحث سابقة , بأن الفكر الاستخباري اُنشيء في الشرق وتمأسَسَ في الغرب , وفي المقدمة من الغرب كانت المدرسة البريطانية في المقدمة والتي كانت من اكثر مؤسسات الاستخبارات تأثيراً في جميع المنظومات الاستخبارية , وكانت لها اليد الطولى في القرون الاربع الماضية منذ القرن السادس عشر , لتمتد معها أنواع التجارب والخبرات التي جعلتها قمة في الجمع والتحليل والسيطرة الاستخبارية والخبرة في مجال التنظيمات السرية والقضاء على العدو والحرب النفسية والخبرة الهائلة في طبيعة المجتمعات وعاداتها , بالاضافة الى إجادة دورها في الحربين العالميتين , حتى صار سر قوة بريطانيا الامبراطورية في قوة استخباراتها.
لقد وصلت مستويات استخبارات البريطانية الى الدرجة التي تبعث معها ضابطاً واحداً يمتلك مجموعة مهارات فردية ليؤلب قبائل الجزيرة العربية وليتمكن من انتزاع الجزيرة العربية من الحكم العثماني , اي بأقل العناصر واعلى النتائج , انه لورنس العرب (يدعى توماس إدوارد لورنس)الضابط البريطاني الشهير الذي خدع العرب فمجّده العرب , حيث اشتهر بدوره في مساعدة القوات العربية خلال الثورة العربية 1916 ضد الدولة العثمانية عن طريق انخراطه في حياة العرب الثوار .
ولم تكن تلك حالة استخبارية فردية وانما نسق من الرجال والنساء فجرت الاجهزة الاستخبارية البريطانية طاقاتهم ووجهتها , فكان قائد جيش ابن سعود ضابط انكليزي هو شكسبير , بل ان جون فيلبي ضابط الاستخبارات البريطاني الذي تظاهر بالإسلام سنة 1930، وأطلق لحيته، وسمى نفسه الحاج عبدالله فيلبي، وأدى مناسك الحج في الحرم المكي، وقام خطيبًا في المسجد الحرام يوم جمعة، وتحدث عن شمائل وفضل آل سعود على الهاشميين وابن رشيد حاكم حائل, كما كانت هنالك مس بيل التي قادت الجهد الاستخباري البريطاني لإحتلال العراق وكانت تعرف تفاصيل دقيقة عن العشائر العراقية وطرق وانهار العراق الأمر الذي جعل الجيش البريطاني بقيادة الجنرال مود يسير بخطى ثابتة في الاراضي العراقية , وهنالك عشرات الامثلة لأساطين الاستخبارات البريطانية الذين كانوا يجوبون الشرق الاوسط ويحصون كل شاردة وواردة ببراعة متناهية .
ومن هنا , تعتبر المدرسة البريطانية المؤسس للكثير من اجهزة الاستخبارات في انحاء العالم , وبالأخص في الشرق الاوسط وشبه القارة الهندية , وعملت على تطوير علم الاستخبارات وتقنيات التجسس التي كانت تسبق فيها مثيلاتها , وهنا يقول الجنرال الايراني حسين فردوست انه دخل عدة دورات في الاستخبارات البريطانيه في الخمسينات والستينات من القرن الماضي , وكان دوماً يتفاجأ بمعدات وادوات جديدة , فحين كان مدى الناظور النهاري لايتجاوز 800 متر , كان البريطانيون قد طوروا لإستخباراتهم نواظير بمدى يصل الى 5 كم .
ويعتبر المجتمع الاستخباري البريطاني الاكثر سرية وكتماناً وانغلاقاً في العالم , حتى ان البريطانيين ظلوا ينكرون وجود جهاز الخدمة الخارجية حتى ثمانينات القرن الماضي , وكانت هوية رئيس الاستخبارات الخارجية تعتبر من اسرار الدولة , ووفق "قانون أجهزة المخابرات" عام1994، وترجع أهمية هذا القانون بالنسبة لجهاز المخابرات، لأنه حدد مهام الجهاز ومسئولياته، وجعلها تتبع وزارة الخارجية البريطانية , لذا يقوم الناطق بإسم وزارة الخارجية بدور المتحدث عن جهاز الاستخبارات السري اذا اقتضت الضرورة .
---------------------------
مميزات اولها الصبر
---------------------------
تتميز الاستخبارات البريطانية بالنفس الطويل والصبر والتكتيك العالي في حبك المؤامرات واعداد الخطط الاستخبارية والاحتيال , وكان العراقيون اذا ارادوا ان يشيروا الى مؤامرة ما بأنها محكمة ودقيقة , كانوا يقولون انه " شغل ابو ناجي " اللقب الذي كان يحلوا لهم تسمية الانكليز به , ويعود سبب شهرتهم بالحبكة في التخطيط والنفس الطويل بناءاً على تجارب تسجل لهم , فالشعبين الايرلندي والاسكتلندي من اشد المعاندين بقرون طويلة للتاج البريطاني , وفي النهاية صوت الاسكتلنديون للبقاء ضمن المملكة المتحدة ورفض الاستقلال عنها , وهو عمل استخباري بريطاني بإمتياز يتمثل بالنفس الطويل وفق المبدأ المعمول به في الاستخبارات البريطانية " نتاخر عن الاخرين لنرى الصورة اوضح " .
وتظهر سياسة النفس الطويل الاستخبارية البريطانية من خلال اهتمامهم بباب التجنيد الاستثماري خاصة في الدول المتخلفة , وهو التجنيد المستقبلي , ويكفي للتدليل على ذلك ان تدقق في كثرة الحكام في منطقتنا من حملة الجنسية البريطانية.
كما تعتمد التقارير الاستخبارية على الإختصار غير المخل مما يجعل جوهر الموضوع هو الطاغي على تقارير الاستخبارات وتحليلاتها دون ان يغرقوا مرؤوسيهم بعبارات عائمة وغير مرجحة او حاسمة , ويذكر الجنرال فردوست قصة كنا قد تناولناها في مبحث سابق خلاصتها انه الملخص الاستخباري الذي كان يقدم لملكة بريطانيا التي كانت تحكم نصف العالم كان لايتجاوز ورقتي فولسكاب , وللقاريء ان يتصور دقة اختصار كل كلمة في التقرير .
ان المدرسة البريطانية الاستخبارية لا تضع حداً فاصلاً بين الجاسوسية والدبلوماسية , فالجاسوسية هي هي الدبلوماسية ولا فرق بينهما , ووزير الخارجية البريطاني يعتبر المسؤول الأعلى لجهاز الاستخبارات الخارجي البريطاني , اي انَّ العلاقات الخارجية والاستخبارات الخارجية هما مزيج بين المصالح والذكاء والاطلاع والمراقبة.
وتميل الاستخبارات البريطانية الى الاسلوب الهاديء شديد المرونة والذي يتعامل مع الواقع ويميل الى الترويض اكثر من الميل الى العنف , كما يهتم بشكل مفرط بدراسة العوامل الموثرة للشعوب المستهدفة , كالموروث الاجتماعي والمعتقد والدين , ولعلها الاكثر تبحرا في هذا المجال , وقد تصاب المكتبة الاستخباريه العالمية بالأمية اذاما حذفنا عنها المؤلفات والمخطوطات والملفات التي تركها الضباط وكبار قادة الاستخبارات الانكليز عن مختلف بقاع الكرة الارضية وسكانها وقياداتها واحزابها واديانها .
-----------------------
معايير الاختيار
-----------------------
هناك مهارات أساسية للمتقدم للقبول الاولي كطالب في دورات الاستخبارات منها : القدرة على الحوار والإقناع وتقدير الأمور، وعدم نسيان أدق تفاصيل الحوار دون تدوين او تسجيل , كما يرسل المتقدمون لدول نائية ومناطق صراعات، ويوضعون فى سيناريوهات بالغة الجدية، لدراسة معيار التفكير المستقل من دون مساعدة , ويتم اختبار غطرسة وقوة شخصية المتقدم , حيث يُوجه سؤال للمتقدمين عن شخصيتهم المفضلة الذي يعتبرونه قدوة لهم، والإجابة الصحيحة هنا وفقاً لنصائح الضابط السابق المخضرم (ماثيو دن) هى "لا أحد"، موضحًا بأن المتقدم إذا ذكر اسمًا معينًا، فإنه فى هذه الحالة يعتبر نفسه أدنى من ذلك الشخص، وما تبحث عنه الاستخبارات ، هو شخص مرفوع الرأس بأى مكان وأمام أى إنسان مهما كانت صفته, كل ذلك بالاضافة الى الذاكرة القوية , فكان على الخبير "دن" , لدى اختباره مثلاً , أن يتذكر 14 شخصية ينتحلها، وكل منها له جواز سفر وهوية وخلفية ثقافية مختلفة.
----------
خلاصة
----------
ان استيعاب خبرات الاخرين يعطي لنا زخماً يختصر الزمن في تطوير اجهزتنا الاستخبارية والنهوض بها وبجاهزيتها كمؤسسات وكأفراد , ولعل الدرس الذي يبرز من المدرسة الاستخبارية البريطانية هو الصبر والمطاولة والحنكة والصرامة في اختيار المتقدمين للعمل في الدوائر الاستخبارية , وهي امور وصفات نتمنى ان تكون ديدن اجهزتنا الاستخبارية ونبراسها , والله الموفق.
#بشير_الوندي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟