راندا شوقى الحمامصى
الحوار المتمدن-العدد: 6297 - 2019 / 7 / 21 - 02:17
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
هو الله
لو تمعـّنـّا بنظر ثاقب في عالم الوجود لوجدنا أن كلّ الكائنات تنقسم على النحو التالي: الرتبة الأولى هي الجماد: أي المادة أو الشيء الذي يتخذ أشكالا عديدة من التركيب. والرتبة الثانية هي النبات: وهو ما يحوز على خواص الجماد علاوة على قوة التكاثر أو النمو، بما ينم عن رتبة أرقى أكثر تميّزا عن الجماد. والثالثة هي الحيوان: الحائز على خواص الجماد والنبات مضافا إليها قوة الإدراك الحسيّ. ويأتي الإنسان في الرتبة الرابعة: وهو أرقى كائنات عالم الإمكان تميّزا، فهو المجسد لخواص الجماد والنبات والحيوان معا مضافا إليها موهبة مثالية غائبة تماما عن الممالك الأدنى، ألا وهي قوة التقصّي العقليّ في أسرار الكائنات الظاهرية. ونتاج هذه الموهبة العقلية هو العلم، وهو ما يميّز الإنسان على وجه الخصوص. وهذه القوة العلمية تتفحص وتدرك المخلوقات والنواميس المحيطة بها. فهي الكاشفة لما خفي وغمض من أسرار عالم المادة وهي المميّزة للإنسان دون سواه. فأنبل وأشرف إنجازات الإنسان إذن هي المعارف والإنجازات العلمية.
ويمكن تشبيه العلم بمرآة تنعكس عليها أسرار الكائنات الظاهرية. فهو يأتي بخبايا الماضي ويخرجها إلى حيّز المشاهدة، ويربط الماضي بالحاضر. فتؤخذ خلاصة استنتاجات فلاسفة القرون الغابرة وتعاليم الأنبياء وحكمة السابقين من الحكماء وتعاد صياغتها في قالب التقدّم العلميّ ليومنا الحاضر. العلم كاشف لما مضى. ومن استنباطه للماضي والحاضر نتوصل إلى الاستنتاجات المتعلقة بالمستقبل. والعلم سلطان الطبيعة وأسرارها، و هو القوة التي يستكشف بها الإنسان قوانين الخليقة. وكل الممكنات أسيرة للطبيعة وخاضعة لنواميسها. ولا يمكنها أن تتجاوز سلطة هذه النواميس قيد شعرة. فكل المجرّات الفلكية والأجرام السماوية اللامتناهية توابعٌ مطيعة للطبيعة. والأرض بما فيها من آلاف مؤلفة من الكائنات، أي أن كل ما في عوالم الجماد والنبات والحيوان عبيدٌ لسطوتها. بيد أن الإنسان باستخدامه لقواه العلمية والفكرية بمقدوره أن يخرج من هذه الحالة، ويتناول الطبيعة بالتعديل والتبديل والهيمنة طبقا لرغباته واحتياجه. فالعلم، إذا شئنا التعبير، هو محطم نواميس الطبيعة.
تفكروا مثلا في أن الإنسان طبقا لناموس الطبيعة يكون مجبرا على العيش على سطح الأرض. بيد أنّه، بالتغلب على هذا الناموس والقيد، يشق عباب البحار بالسفن، ويصعد إلى أوج السماء بالطائرات، ويغوص في أعماق البحار بالغواصات. وهذا ضد حكم الطبيعة وخرق لهيمنتها وسلطانها. ومن الطبيعي أن تبقى كل قوانين الطبيعة وأنظمتها، وأسرار الكون وغوامضه، بل وابتكارات الإنسان واكتشافاته، وكذلك كافة تحصيلاتنا العلمية مجهولة في طي الكتمان. بيد أن الإنسان يخرجها بحدة ذكائه من حيّز الغيب إلى حيّز الشهود، ويكشف عنها ويفسرها. فالكهرباء مثلا هي واحدة من أسرار الطبيعة، وبحكم الطبيعة يجب أن تبقى هذه القوة وهذه الطاقة كامنة مستورة، ولكن الإنسان بعلمه ينفذ إلى قلب قوانين الطبيعة، ويمسك بزمام هذه الطاقة بل ويحبسها من أجل منفعته.
والخلاصة أن الإنسان بإمتلاكه هذه الموهبة الممتازة – موهبة الإستقصاء العلميّ – هو أنبل ما أنجبته الخليقة، وهوسيد الطبيعة. فهو ينتزع سيف الطبيعة من يدها ويضربها به على أم رأسها. والليل طبقا لناموس الطبيعة فترة ظلام وقتام، غير أن الإنسان بتسخيره لقوة الكهرباء، وبإشهاره لهذا السيف الكهربيّ يقهر الظلام ويبدد القتام. فالإنسان يسمو إذن فوق الطبيعة ويجعلها تأتمر بأمره. والإنسان مخلوق ذو إحساس، أما الطبيعة فهي فاقدة للإحساس. وللإنسان ذاكرة وعقل، والطبيعة محرومة منهما. إذن فهو أنبل منها. وهو حائز لقوى ليست لدى الطبيعة. وقد يقول قائل أن هذه القوى من الطبيعة نفسها وأن الإنسان جزء من الطبيعة. ونحن نجيب على ذلك بالقول بإنه إذا كانت الطبيعة هي الكل والإنسان جزء من ذلك الكل، فكيف يتسنى للجزء أن يمتلك من الصفات والكمالات بما يغيب عن الكل؟ ومن المحتم قطعا أن يكون الجزء حائزا على نفس الصفات والخواص كما هوالحال في الكل. فالشعر مثلا جزء من تركيب الإنسان، ولا يمكنه أن يحتوي على عناصر لا توجد في سائر أجزاء البدن، لأنه في جميع الحالات تكون العناصر المكونة للجسد واحدة. فيتضح إذن أن الإنسان، على الرغم من كونه جزء من الطبيعة بالجسد، فهو يمتلك بالروح قوة تفوق الطبيعة. ذلك لإنه لو كان بكل بساطة جزء من الطبيعة ومقيدا بقوانين المادة، لما امتلك سوى الأشياء التي تتضمنها الطبيعة. فلقد وهب الله الإنسان واختصه بقوة مميزة – وهي مـَلكة إعمال الفكر في أسرار الخليقة، وتحصيل العلوم السامية، حيث تكون الاستنارة العلمية أعظم مناقبها.
وهذه الموهبة هي أعظم القوى الممدوحة عند الإنسان، فبإعمالها واستخدامها يتحقق تقدّم الجنس البشريّ، ويصبح رقيّ الفضائل الإنسانية ممكنا، و تتجلى الروح الربّانية وتظهر الأسرار الإلهية. ولهذا فإنني في غاية السرور بزيارتي لهذه الجامعة. والحمد لله أن هذه البلد مليئة بالكثير من معاهد العلم هذه، وفيها تتاح الفرص لنيل العلوم والفنون والآداب بسهولة و يسر.
وبما أن العلوم المادية والطبيعية تدرّس هنا وتتطور دائما نحو آفاق أوسع من الإكتشاف والتحصيل، فإنني آمل أن يحذو التطور والترقي الروحيّ حذوها ويمضيان جنبا إلى جنب مع هذه المزايا الظاهرية. وأن يسطع نور الروح – الذي هو السراج المعنويّ والربانيّ للفلسفة الحقيقية – بمجده على هذه الهيئة، تماما كما يستضئ من هم في جنبات وأروقة صرح العلم العظيم هذا بنور المعارف المادية. وأعظم مبادئ الفلسفة الربانية هو وحدة العالم الإنسانيّ، أي وحدة الجنس البشريّ، تلك الرابطة التي تربط الشرق بالغرب، وصلة المحبة التي تؤلف أفئدة البشر.
لهذا فإنه من واجبنا أن نبذل قصارى جهدنا ونستجمع كل طاقاتنا حتى تتأسس أواصر الإتحاد والوفاق بين بني البشر. فلآلاف السنين عانينا من إراقة الدماء والنزاع، ولكن كفانا من ذلك. فلقد آن الأوان لكي نأتلف معا في محبة ووفاق. ولآلاف السنين جربنا السيف وآلات الحرب، فليحاول الجنس البشريّ أن يعيش في سلام ولو لبرهة من الزمان على الأقل. راجعوا التاريخ وتأملوا كم من وحشية وكم من إراقة دماء ومعارك شاهدها العالم. وجميعها كانت أما حروبا دينية أو حروبا سياسية أو ثمة تصادم في مصالح البشر ومنافعهم. ولم ينعم عالم البشرية أبدا بنعمة الصلح العموميّ. وطفقت وسائل الحرب وأدواتها تزداد كمّا وإتقانا بمرور كل عام. تدبروا في حروب القرون الماضية، فلم يقتل فيها سوى عشرة أو خمسة عشر أو عشرين ألفا على أكثر تقدير، أما اليوم فإنه من الممكن قتل مائة ألف نفس في يوم واحد. وكانت الحروب قديما تشن بالسيف، أمّا اليوم فبالمدافع. في السابق كانت سفن الحرب تجري بالشراع، واليوم بالسفن المدرعة المخيفة. وتأملوا في تكديس آلات الحرب وتطويرها. لقد خلقنا الله كلنا بشرا، وجعل كل بلاد العالم أجزاء في كرة أرضية واحدة. وكلنا عباده. وهو عطوف وعادل على الكل، فلماذا نقسوا ونظلم بعضنا البعض؟ وهو يرزقنا جميعا، فلماذا يحرم كل منا الآخر؟ وهو يحمي الكل ويحفظهم، فلماذا يقتل الإنسان أخاه الإنسان؟ فإذا كانت هذه الحرب والإقتتال من أجل الدين، فمن الواضح أنها تتنافى مع جميع الأديان و أساسها. لأن كافة المظاهر الإلهية نادت بوحدانية الله، وبوحدة الجنس البشريّ.و من تعاليمهم أن الإنسان يجب أن يتحاب و يتعاون مع الآخرين حتى يتمكنوا من الرقي. فإذا ما كان هذا المفهوم الدينيّ صحيحا، يكون مبدأه الجوهريّ هو وحدة الجنس البشريّ. كما أن أساس حقيقة المظاهر الإلهية هو السلام. وهذا هو أساس كل دين وكل عدل. والغرض الإلهيّ هو أن يحيا البشر في اتحاد ووفاق ووئام ويحبوا بعضهم بعضا. تدبروا في فضائل العالم الإنسانيّ وأدركوا أن وحدة الجنس البشريّ هي أس أساس هذه الفضائل جميعها. إقرأوا الإنجيل وسائر الكتب المقدسة، فستجدون أن مبادئها الأساسية واحدة لا إختلاف فيها. فالاتحاد إذن هو حقيقة الدين الجوهرية، وإذا ما فهمناه من هذا المنظار، نجده شاملا لكافة فضائل العالم الإنسانيّ. والحمد لله فإن هذه الحقيقة قد انتشرت، والأعين تفتحت، وأصبحت الآذان صاغية. ويجب علينا إذن أن نجهد لكي نروّج دين الله ونعمل به – ذلك الدين الذي أسسه كل الأنبياء والمرسلين، ودين الله ما هو إلاّ خالص المحبة وكامل الاتحاد.)من خطب حضرة عبدالبهاء مركز العهد والميثاق في العقيدة البهائية)
#راندا_شوقى_الحمامصى (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟