|
مقابلة عن الحالة السورية في 2014
راتب شعبو
الحوار المتمدن-العدد: 6293 - 2019 / 7 / 17 - 15:08
المحور:
مقابلات و حوارات
الاسئلة لحسين يعقوب لصالح مركز روزا لوكسمبورغ س1 "يا درعا شو كان بدنا بهالصرعة"، قال السوريون ساخرين على عادتهم، حتى كانوا لا يزالون قادرين على السخرية، بعدما لمسوا مدى الموت والدمار الذي عانوه جزاءً على مغامرتهم في الخروج على الحاكم. وقد اكتشفوا أن هناك نظاماً جاهزاً لحرق البلد، وعالماً جاهزاً لعدّ الضحايا وتحديث حسابات تكلفة إعادة الإعمار مع مرور الوقت. الوقت الذي لم يعد يعني للسوريين سوى المزيد من الدم والدمار. السوريون الذين ملأوا شوارع المدن والبلدات السورية بالتظاهرات المطالبة بالحرية وأذهلوا العالم في جرأتهم وتضحياتهم، صاروا اليوم يملأون مخيمات اللجوء ومناطق النزوح، وقد تركوا الشوارع للقنص واللصوصية وأبشع أنواع الحروب".. "الدرس الذي تحمله سوريا اليوم إلى سوريا الغد التي ستحرج من رحم الألم، أن السكوت على قتل فرد أو اعتقاله ظلماً، يعني السير خطوة على طريق لا تفضي إلا إلى قتل الشعب واعتقاله." هذا ما كتبت في مقالتك "رثاء للأحياء". أي رثاء لحاضر السوريين الذين لا زالوا أحياء في شتاتهم وبؤسهم، وأي درس ستحمله سوريا اليوم إلى سوريا الغد؟ سوريا اليوم مقسمة ومفككة وساحة للفوضى والتطرف والاستبداد والفقر والشتات، أنظر إلى لبنان والعراق حيث الماضي لم يمضي والحاضر هو حرب. ج1 تحولت الثورة في سوريا إلى مأساة. وذاك كان رهان نظام الأسد بأن يتمكن من تحطيم إرادة السوريين ودفن حلمهم بالحرية. ليس هناك أسوأ مما وصلنا إليه. الشباب الذين كانوا يملئون الشوارع في مظاهرات رائعة في جرأتها وتحديها وعنفوانها، ممتلئين بالطاقة وهم يقفزون كأنهم يستعجلون الحرية، هم نفسهم الشباب الذين تمكنت منهم السجون الخفية، ونفسهم الذين تقطعت بهم السبل في البحار بحثاً عن أرض آمنة، وهم نفسهم الذين ماتوا غرقاً ومن نجا بات لاجئاً كسير النفس والعين. هذا يكفي، وهناك ما هو أفظع منه، كي ندرك حجم المأساة السورية. ولكي يكتمل المشهد المأساوي يكفي أن نتخيل ما طرأ من تحول في قلوب هؤلاء الشباب، من قلب عامر بالإرادة للتغيير واندفاع مليء بحب الحياة، إلى قنوط وشعور هائل بالظلم وبالتخلي وبالحقد. الحب يجمع ويبني والحقد يفرق ويدمر. هذا دون أن نذكر حجم الدمار الذي من شأنه أن يجعل سوريا تحت عبء ديون إعادة الإعمار لعقود طويلة. إذا خرجت سوريا موحدة من هذا الدمار الروحي والمادي سيكون أمامها الكثير من العمل المادي والسياسي والثقافي لإصلاح حالها بما يسمح لها بأن تكون وطناً لأبنائها. من جهتي أحمل خوفاً عميقاً على وحدة سوريا، وأتساءل إذا كانت سوريا التي عرفناها قادرة على أن تلتئم على نفسها مجدداً وتعود بلداً واحداً. وأرجو أن يشفي الزمن مخاوفي. لا أظن أن سوريا منذ ولادتها شهدت استقطاباً طائفياً كاليوم، ولا أظن أن قوى التنابذ بين أبنائها وصلت يوماً إلى هذه القوة. لا يهم الآن لماذا وصل الأمر إلى هنا، ولماذا صار ما صار، ما يهم هو أننا أمام واقع شديد السواد، هو أسوأ بكثير مما كنا فيه قبيل اندلاع الثورة. قبيل الثورة كان ثمة أمل بثورة، وكان ثمة عدو محدد. اليوم تبين لنا أن الثورة، رغم عظمتها، شُوهت وأن الخراب تعمم ولم يعد لنا من أمل. تحطمت اندفاعة السوريين وتبين أن ليس لهذا الشعب من صديق. بات السوريون يستجيرون من الشر بما هو أكثر شراً، ويهربون من الرمضاء إلى النار. وباتت فكرة الثورة مثار رفض في أذهان العامة بعد أن رأوا ما آلت إليه أمورهم وما انتهت إليه ثورات جبارة أخرى من عود على بدء. لكأن قوى الظلم والظلام أرادت أن تكون الثورات العربية درساً في اليأس. كل البلدان التي عاشت "الربيع العربي" ليست هي اليوم بأفضل حال مما كانت عليه من قبل وذلك بعد أربع سنوات على اشتعال هذا الربيع. القوى المضادة للثورة أكثر تقدماً في أساليبها وعلمها وأدواتها من قوى الثورة. هذا ما تبين من تجربة الربيع العربي. الثورة السورية ومآلاتها تعطي درساً للعالم، وليس فقط لسورية المستقبل، بأن ثمن السكوت عن الديكتاتور باهظ ومكلف، وقد تصل كلفته إلى خسارة أوطان (سبق أن عاشت أوروبا تجربة التساهل مع المعتدي ودفعت الثمن غاليا في الحرب العالمية الثانية، ما ينطبق على مستوى الدول يصح على المستوى الداخلي لدولة واحدة). وأن كل ما بني على حساب كرامة الناس وإنسانيتهم إنما هو بناء زائف ومصيره إلى زوال.
س2 في سوريا البعث البلد تحول سجناً وأنت يا صديقي اعتقلت ومنعت من مغادرة السجن، حتى بعد خروجك منه؛ أي أن "سوريا السجن" لم تتحرر من قيدها ولو جزئياً، إلا من خلال حرب طاحنة جعلت الحرية مرادفا للشتات. لو تحدثنا وأنت طبيب نفسي اعتقلت وكتبت عن السجن كيف بني نظام المعاقبة في سوريا ولما هذا الكم من الجلادين الجاهزيين لنزع سياطهم لمعاقبة المجتمع؟ الرجاء حدثنا عن نظام البلد "السجن" ونظام المراقبة والعقاب فيه. ج2 في البداية، وعلى سبيل التصحيح، أنا طبيب جرّاح ولست طبيباً نفسياً. حين اعتقلتني أجهزة الأمن السورية كان لي من العمر عشرون عاماً وخمسة أيام. وكان مدهشاً لي في التحقيق أنهم يحتفظون بمعلومات عني منذ كنت في الصف السابع (13 سنة)، وكذا بالنسبة لغيري. فللتدليل على ميولي المعارضة قال المحقق: أنت رفضت الانتماء إلى "منظمة شبيبة الثورة" (وهي المنظمة الشبابية التابعة لحزب البعث الحاكم). بالفعل حين دخل إلى قاعة الصف مسؤول حزبي وسجل أسماءنا قائلاً أننا أصبحنا الآن "رفاق شبيبيين"، طلبت منه، يدفعني شعور طفولي بالحرية، أن يحذف اسمي من القائمة. حتى هذا التفصيل كان مدوناً لديهم في "لوح محفوظ". بعد ذلك بخمس سنوات، أي في الصف الثالث ثانوي (البكالوريا)، اجتمع موجه المدرسة "بنخبة" من الطلاب وحاضر فينا عن خطورة عصابات الإخوان المسلمين عملاء الرجعية والامبريالية، ثم طلب منا الاستعداد للقيام بمهام حراسة مقر حزب البعث ومقر منظمة شبيبة الثورة في اللاذقية وكسر إضراب تجار اللاذقية بخلع أبواب محلاتهم وفتحها رغماً عنهم. وفي النهاية قال بكل ثقة: أعتقد أن الجميع جاهز للقيام بهذه المهام، أليس كذلك؟ لكنه فوجئ حين رفضت ذلك وقلت إن أهلي استأجروا لي في المدينة كي أدرس وليست مهمتي الحراسة أو كسر الأقفال. "كما تريد" قال لي، واصطحبني إلى الخارج وقال: "فكر بالأمر، لأنك قد تندم". حين سجلت في كلية الطب البشري في جامعة دمشق، كانت التوصية قد سبقتني، وحرمت حرماناً تاماً من السكن الجامعي، وقضيت الأيام في المراجعات والتدقيق في اللوائح وانتظار الوعود، فأنا من محافظة أخرى، وأدرس في كلية علمية، ومن الثلاثة الأوائل في محافظتي في الشهادة الثانوية بعد طي علامة التربية الدينية، ومن الطبيعي أن يكون لي غرفة في السكن الجامعي. لم يخطر في بالي "الطفولي" أن يكون هناك توصية بحرماني من كل ما يمكن أن يسهل على الطالب دراسته. غير أن كل ما فعلوه من أجل أن أشعر "بالندم" لم يزدني سوى شعور بالرفض والنفور التام من سلطة تستخدم كل الوسائل وكل مقدرات الدولة والبلد لتركيع الناس. المشكلة في بلادنا أن للسلطة على مر تاريخنا قداسة ما، الأمر الذي يعيق نشوء معادلة متوازنة بين السلطة ومحكوميها. لاحظ أن الإسلام السياسي بكل أطيافه يمهد للخروج على السلطات القائمة بقطع الصلة المقدسة لها مع السماء، أي بتكفير السلطات، والدعوة لبناء سلطة مقدسة يخضع الناس لها (قد يرد أحد هنا بأن الإسلام السياسي لا يريد بناء سلطة مقدسة، ولكن مثل هذا الرد ضعيف لأن ما يسميونه شريعة "وهي بلا شك تفسير دنيوي خاص بالجهة المُفَسِّرة" له قوة مأخوذة من كونها كلام الله ومشيئته). يلفت النظر مثلاً أن وصفة سيد قطب للمجتمع، أو ما يسميه "الحل الإسلامي"، هي "حكومة عادلة ومحكومون مطيعون". كيف يمكن أن تكون الحكومة عادلة إذا كان المحكومون مطيعون؟ المعارضة الإسلامية، وهي المعارضة الأوسع للأسف، تقول لا تطيعوا هذه السلطة أو تلك، أطيعونا نحن. المعارضة إذن، حسب فهم الإسلام السياسي، هي جهد يُبذل لتبديل المُطاع. والشعب حين يطيع يتحول إلى كتلة بشرية، إلى رعايا، لا تحمل من مواصفات الشعب شيئاً. طاعة الحاكم جزء عضوي في الثقافة العامة عندنا، وهذا ما يجعل الكثير من الناس، ولو كانوا مدنيين ولا صلة رسمية أو غير رسمية لهم بأجهزة القمع، جاهزين لقمع الاعتراضات. أعرف قصص واقعية عن أشخاص فقراء في محافظة الحسكة (وليس في الساحل لكي لا يُعطى الأمر تفسيرات أخرى) حملوا عصي ونزلوا من تلقاء أنفسهم لتفريق المظاهرات هناك.
س3 الحديث عن النزعات الطائفية ليس بالمستجد في مشرقنا لبنان والعراق سبقا سوريا بحروبهم الطائقية والمذهبية. وعلى ما يتضّح من خلال مئات الاف من الميلشيات الطائفية والذين تحركهم عدد من النبوءات الدينية، أن النزعة الطائفية هي المحرك الأهم حالياً حيث لا يخجل المتحاربون من طرح وجودهم داخل الكيانات المفككة إلا إذا كانت لهم الغلبة في نظام الحكم. أنت ترعرت داخل بيئة أقلوية تتهم أنها حكمت سوريا بالحديد والنار والان عليها دفع ثمن ما اقترفت وتقترف من فظائع بحق الاغلبية السنية هذا يظهر جلياً في العدد الكبير من الفديوهات المنتشرة في الفضاء الافتراضي والتي تدعوى للقصاص على أساس طائفي. ما هو تحليلك للنزعات الطائفية في المنطقة؟ ج3 ذكرت في سؤالك فكرة مهمة هي "لا يخجل المتحاربون من طرح وجودهم داخل الكيانات المفككة إلا إذا كانت لهم الغلبة في نظام الحكم". فقط من تكون له الغلبة والسيطرة هو من يتكلم عن السلام وعن ضرورة الاستقرار ويصور الحياة على أنها "سمن وعسل". وكذا الحال حين يتكلم النظام السوري عن الوطن والإخاء واللحمة الوطنية وهو يمارس تحت السطح أشكال التمييز كافة بالطريقة التي تصون غلبته، ولو كان ذلك على حساب "الله وملائكته واليوم الآخر". تحتاج النزعات الطائفية في أي مكان إلى دينمو يغذيها باستمرار، وهذا الدينمو هو دينمو سياسي بلا شك. تمييز الناس حسب انتماءاتهم بالولادة سوف ينمي عند الناس، بطبيعة الحال، الشعور بالانتماء الطائفي. وتزداد شدة واتساع هذا الشعور "الطائفي" مع زيادة شدة واتساع التمييز. والعكس بالعكس. حين تتمكن الدولة من فرض تطبيق قانون وطني بغض النظر عن الانتماءات الثانوية، فإن الانتماء الوطني يغلب عند الناس بطبيعة الحال أيضاً. غير أن دولنا "الوطنية" عاجزة عن فرض قانون وطني وذلك لأن التمييز والفساد هي وسيلة السلطة الحاكمة في الاستمرار. دينمو الطائفية في بلداننا له عنفتان تدير الأولى السلطات التي تمارس التمييز الطائفي وتتحدث بلغة وطنية، هذا يجعل الناس تتحسس انتماءاتها الطائفية أولاً، وتكفر باللغة الوطنية ثانياً . وتدير العنفة الثانية تنظيمات سياسية إسلامية هي في مبدئها طائفية. وتعظم المشكلة حين نرى أن التيارات العلمانية لا تمتلك من القوة ما يحمي استقلالية خاصة بها، فتراها تنحاز إما إلى السلطات أو إلى الإسلام السياسي تحت تخريجات سياسية وفكرية باهتة. ويبدو أن الطريق للخروج من هذه الهوة غير سهل وغير قصير. الصبغة الطائفية غلبت على الصراع الدائر في سوريا اليوم. تنظيمات ودول شيعية في مواجهة تنظيمات ودول سنية. لكن من البديهي أن الصراع ليس صراعاً سنيا شيعياً، الصراع ليس لنصرة السنة كمذهب على الشيعة كمذهب أو العكس. الصراع هو صراع نفوذ سياسي محلي وإقليمي وعالمي. أمريكا وفرنسا واستراليا ..الخ منخرطون في هذا الصراع مع أنهم خارج الاستقطاب السني الشيعي. وهناك دول "سنية" انضمت لمحاربة "داعش" السنية. هذه أمور بدهية. النظام السوري يريد من يدافع عن وجوده واستمراره، فكانت ايران وحزب الله والعراق، أي المحور الإيراني. لو وجد النظام السوري سنداً من تركيا لوضع نفسه تحت العباءة التركية. ألم يضع نفسه قبل الثورة تحت العباءة التركية أملاً في أن تشكل له مدخلاً لحل ما مع إسرائيل وأوروبا؟ ليس الموضوع صراعاً طائفياً في حقيقته أبداً. لكن هذا الاصطفاف الشيعي السني يترك أثره بقوة، ويجعل البعد الحقيقي للثورة السورية (هذا البعد الذي جرى تحييده منذ زمن) غائباً. اليوم يتكلم المحاربون عن مواجهة نظام علوي، وليس نظام اسبدادي. نهر الدم والشعور بالعجز يدفع طرفي الصراع (ويغلب على كل طرف لون مذهبي محدد) إلى المزيد من التشنج والتطرف تجاه الطرف الآخر، أي إلى المزيد من الطائفية. س4 في ظل صعود القوى الاسلامية وتعزيز الفكر الأقلوي في المنطقة يقف اليسار عاجزا عن أي طرح أو تصور سوى الدعوة الى وقف الحرب أو التماهي مع أحد القوى المتصارعة بحجج واهية في معظمها. صحيح أن اليسار كمفهوم يجد صعوبة في اختراق النظام الحالي، الا ان اليسار في المشرق له سيرورته الخاصة التي من الممكن ان تتقاطع وتتعارض وتختلف مع مثيلتها في العالم لكنها تبقى الأكثر عجزاً في العالم عن بلورة مشروع ورؤية لما يجري. وتكتفي قوى اليسار في استخدام القاموس السياسي والمعرفي القديم من مصطلحات دغومائية وشعاراتية من دون جهد معرفي حقيقي لتسحين ادائهم على الصعيد السياسي. ما قرأتك لهذا الموضوع ولما هذا العجز والخمول عند اليساريين في منطقتنا وكيف من الممكن قرأت ما يجري حالياً والانطلاق لمرحلة حديثة من العمل السياسي اليساري؟ ج4 أفهم اليسار على أنه الانحياز "العلمي" إلى الشعوب، كتمييز عن الشعبوية التي تعني فن اكتساب الشعبية. الفارق جوهري بين أن تدرك (كحزب أو كتيار أو كمثقف حتى) مصلحة الشعب وتعمل لأجلها فيكون همك المعرفي والسياسي بالفعل هو مصلحة هذا الشعب، وبين أن تساير مزاج الناس وتخاطب فيهم ما يجذبهم إليك، فيكون همك منحصر في تحصيل الشعبية، هنا قد تصل بنفسك إلى السلطة ولكنك تصل بالناس في المحصلة إلى الإحباط. وبالمناسبة، كانت سياسة اليسار السوري في سياق الثورة السورية مزيج عقيم من الرهان على الخارج والشعبوية. أي كان اليسار السوري موضوعاً خاضعاً لفعل الخارج وسياساته ولمزاج الجمهور، وليس ذاتاً فاعلة. لليسار في الشرق الأوسط معضلة خاصة نظراً للتشابك الوثيق بين الوطني (قضية فلسطين أساساً) والاجتماعي (الديكتاتوريات والتفاوت الهائل في الدخل والاستغلال والبطالة ..الخ). في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية ومع صعود نجم الاتحاد السوفييتي وبدء الحرب الباردة، وقع اليسار، عموماً، تحت ثقل الخضوع لسياسة الدولة السوفييتية العظمى بما جعل تفاعله مع مجتمعه بليداً، سواء فيما يخص القضايا الاجتماعية التي قدم الفكر السوفييتي لها وصفات جاهزة منفصلة عن الواقع، أو فيما يخص القضايا الوطنية التي لم يكن للسوفييت موقف مبدئي منها، بل كانت مواقفه خاضعة للتوازنات والتسويات التي تفرضها مصلحة "الحليف الأكبر"، وكان على اليسار قبول هذه المواقف أو تحمل تبعات معارضتها، وفي كلا الحالين لم يكن الأمر في مصلحة اليسار. الثقل السوفييتي هو ما كان وراء غياب حركة يسارية متجذرة، وهو ما جعل الالتماعات الفكرية اليسارية العربية معزولة، فهناك فكر سائد وسياسة سائدة (سوفييتية) تعمل على محاصرة غير المتسقين وعزلهم. ومع الجمود السوفييتي في مرحلة بريجنيف ثم ما تلا ذلك من تفكك وانهيار، تراجع اليسار بسبب غياب الحليف وبسبب انحسار الفكرة اليسارية مع انحسار المد الشيوعي. هذا قانون لا يمكن الهرب منه. كل فصيل يساري (وإن لم يكن شيوعياً) كان يُحسب على الاتحاد السوفييتي حتى لو كان الاتحاد السوفييتي يبارك للأنظمة الديكتاتورية قمع هذا الفصيل واستئصاله. لم يكن اليسار مؤهلا بما يكفي لقيادة الربيع العربي الذي اشتعل مطالباً بالديموقراطية، فالديموقراطية لم تكن ضمن ترسيمة الفكر اليساري الإطلاقي في طبيعته. وهذا ينطبق أيضاً بطبيعة الحال على الفكر السياسي الإسلامي اليميني. لذلك أخرجت الثورات العربية تعبيراتها السياسية من خارج الأحزاب والتنظيمات الموجودة من قبل. رأيي أن على اليسار أن يمتلك الجرأة في أن يكون مستقلاً. أن لا يرمي أوراقه تحت أقدام الأقوياء فيزداد ضعفاً. لم تثمر له سياسة اختيار (الشر الأهون) الشهيرة سوى المرارة والمزيد من الضعف. في سورية أضاع اليسار وجهه المميز حين تخلى عن استقلاليته، فالتحق قسم منه بالنظام وآخر بالإسلاميين. باعتقادي أن اليسار هو القوة المفتقدة في لوحة الصراع اليوم. ينحصر الصراع اليوم بين يمين ويمين متطرف. في بلداننا نحتاج إلى نقد جدي وعلمي وثابت للإسلام السياسي، لأنه يشكل في بلداننا عقبة أساسية في وجه التحرر.
س5 كيف تقسر ظاهرات الحركات الاسلامية الجهادية وكيف استطاعت هذه المجموعات الصغيرة المقموعة في سوريا ان تغزو المجتمع بهذا الشكل الواسع. من هم وكيف استطاعوا التوسع والسيطرة وعلى ماذا يعتمدون في سياستهم في سوريا وهل ترى ان لهم مستقبل في ظل تحالف دولي للقضاء عليهم؟ ج5 فيما يخص الحركات الجهادية الإسلامية لي رأي تبلور في سياق ما نشهده من غرائب "داعشية" وغيرها سوف أعرضه فيما يلي. ما يسمى السلفية الجهادية هو التعبير الأسوأ عن الإسلام السني، تصورات شديدة الاقتضاب والسطحية مرفقة بميل هوسي إلى العنف. هناك تنويعات على هذا المزيج كان النموذج الداعشي أكثرها بروزاً واستعراضية دموية مخجلة في مستوى انحطاطها الأخلاقي والسياسي. جسم عسكري هائل لا يمكن لعاقل أن يتصور نشؤءه واستمراره بعيداً عن دعم دول عظمى. وفي الوقت نفسه تستخدم هذه القوة لصالح عقل مأفون لا يملك ما يقوله إلا إعادة الخلافة، ولا تعني له الخلافة سوى وجود "خليفة" والعودة بالتاريخ من حيث اللباس والقوانين واللغة إلى زمن "الراشدين". شيء لا يدخل في عقل. لكنه موجود بكل صفاقة. هل كانت داعش قدراً على العالم؟ ألم يكن بمقدور "النظام العالمي" أن يكبح هذا "الإرهاب" في بدايته؟ لماذا تركت هذه الظاهرة تستفحل وتطرح كل هذه التشوهات على مرأى من العالم؟ من أين لداعش هذه القدرات المعلوماتية الرهيبة؟ أسئلة لا نهاية لها تؤدي إلى نتيجة واحدة هي أن هناك استراتيجية عالمية تريد لداعش وأشباهها أن تكون كما هي، ليس فقط لتشويه الثورة السورية ودفنها، فهذا هدف يتحقق في السياق العام للخطة، إنما بغرض شلّ الفاعلية السياسية للإسلام السني. كل انتماء واسع يشكل مكمن خطر بالنسبة للقوى المسيطرة، الانتماء القومي العربي جرى تفكيكه وإضعافه. لم يكن الاهتمام البريطاني ثم الأمريكي بإسرائيل نابعاً من تبعية إسرائيل المطلقة لهما، هناك دول عربية جاهزة لأن تكون أكثر تبعية وخدمة لأمريكا اليوم، غير أن الميزة الإسرائيلية التي لا يمكن لأي بلد عربي أن يتمتع بها، هي أن إسرائيل ليست عربية، أي لا يمكنها مهما قويت واشتد عودها أن تكون مركزاً لاستقطاب العرب، كما يمكن أن تكون أي دولة عربية إذا ما امتلكت القوة الكافية. لذلك كان الاستثمار في إسرائيل مضموناً. والشيء نفسه يمكن أن يقال اليوم عن دور إيران في الشرق الأوسط. لإيران في نظر أمريكا ميزتان هامتان لا تتمتع بهما السعودية ولا تركيا هما: إيران ليست عربية، وليست سنية. هذا يعني أنها، من حيث الانتماءات العضوية، محدودة في فارسيتها وفي شيعيتها، وهذان انتماءان ليسا بالاتساع المخيف الذي يمتلكه الانتماء العربي والسني. على هذا الضوء يمكننا أن نفهم لماذا التهاون العالمي تجاه الحوثيين في اليمن، وحزب الله اللبناني في سوريا ..الخ. المراد من داعش هو أن تتابع الطريق الذي يجعل من الإسلام السني يبدو على أنه مصدر الإرهاب ومصدر اللاعقلانية ومحط سخرية. بذلك يتم ضرب الطاقة الكامنة في هذا الانتماء الواسع. يجب أن أقول هنا أنني ضد قيام اي حركة سياسية تعتمد على هذا الانتماء، وأرى في الإسلام السياسي عقبة كبيرة في وجه تحررنا، غير أن الديموقراطية والنزاهة، وليس خلق تنظيمات ثم تأليف التحالفات لمحاربتها، هي ما يشكل الحل الأمثل للإرهاب "السني". لا أرى أي مستقبل للجهادية الإسلامية، إنها نوع من الحركات التي تحدد ذاتها بذاتها، على اعتبار أنها فارغة سياسياً، فهي تزدهر في مرحلة الصراع فقط. لكنها بصفتها هذه تشكل وسائل سهلة الاستخدام في يد الدول والاستراتيجيات البعيدة المدى.
س6 بناءاً على تجربتك الطويلة في سوريا، كيف ترسم لنا صورة سوريا الحاضر محليا واقليميا ودولياً اذا أمكن. وما هي برأيك سوريا المستقبل؟ ج6 بنى الأسد الأب استقرار نظامه على مبدأ فعال هو بناء العلاقة مع الشرق بما يخدم الغرب. كان الأسد الأب ماهراً في التوازن على الخيط المشدود الذي لا ينقطع بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية. رأيي أن أمريكا تريد في سوريا نظاماً كهذا، إنها لا تريد في سوريا نظاماً سياسياً ظاهر التبعية لها، كما هو الحال في الأردن أو السعودية أو مصر مثلاً. الشعب السوري يحمل هماً قومياً أكثر من بقية الشعوب، ويحمل القضية الفلسطينية على أنها قضيته، وبالتالي يحمل عداء فعلياً لإسرائيل وأمريكا. لا يخدم أمريكا أن تحمي نظاماً تابعاً لها في سوريا، هكذا نظام لا يصمد، وكلفة صيانته أعلى من مقدار خدماته. ينفع في سوريا أن يكون النظام "قومياً" و"ممانعاً" بما يرضي المزاج الشعبي السوري، وأن يعلم في الوقت نفسه كيف لا يواجه السياسة الأمريكية العامة في المنطقة. هذا هو النظام السوري المثالي لأمريكا. يتكفل السوفييت بحماية النظام وصيانته الدائمة على أنه "حليفهم"، فيما تفرض أمريكا، حين تشاء، ما تشاء على النظام الذي يستثمر "التعادي" مع أمريكا في ترويض شعبه تحت دعوى (المؤامرة الإمبريالية والهجمات الشرسة على النظام "القومي" ..الخ). على أن النظام كان يجيد الاستثمار في الأرض السياسية المشتركة بين العملاقين آنئذ. من هذا الاستثمار استعاد القنيطرة دبلوماسياً، واستباح لبنان، ولعب في الأوراق الفلسطينية، وبنى علاقة خاصة مع نظام "الثورة الإسلامية" في إيران ..الخ. مشى الأسد الابن على خطى الأب فيما يخص العلاقة مع روسيا التي ورثت الاتحاد السوفييتي، وهذه من طبيعة الأمور، لأن النظام استمر بالحذافير ولا يمكن إلا لغافل أن يأمل تغيراً مهماً فيه بمجرد التبديل الوراثي لشخص الرئيس، رغم الإيحاءات التي حاول النظام من خلالها امتصاص رغبة الناس في التغيير، كوعود "خطاب القسم"، وظاهرة ما عرف باسم "ربيع دمشق" الذي سرعان ما تحول إلى شتاء، ليعود النظام إلى طبيعته. اندلاع الثورة السورية وضع النظام في مأزق. الرأسمال الذي كان يستثمر فيه مع الأمريكان، أقصد الاستقرار والسيطرة التامة على الداخل، تبخر وفشلت كل آلة النظام الأمنية والعسكرية (تم إدخال الجيش منذ الأسابيع الأولى للثورة) في إعادة الشعب السوري إلى القمقم، رغم التجاهل الأولي من العالم ورغم المهل المتكررة التي أعطيت للنظام. خسر النظام العلاقة مع تركيا التي كان يريدها بوابة إلى أوروبا وإسرائيل، فارتمى أكثر في الحضن الإيراني والروسي، لكن عينه بقيت دائماً على مؤشر الرضا الأمريكي كعادته. والحق أن أمريكا لم تصل حتى اليوم إلى قناعة بالتخلي عن الأسد رغم كل شيء. ويبدو لي أنها تريد تكرار السيناريو "الصدّامي" مع الأسد الابن. دول كثيرة استثمرت في الصراع السوري وراهنت عليه خلال سنوات الصراع التي تقل قليلاً عن أربع سنوات. لن يكون من السهل تسوية الوضع بما يرضي الجميع. من جهة أخرى لم يعد في سورية مركز وطني جامع. الدولة التي يفترض أنها مؤسسة عمومية تنتج وحدة البلد بصورة دائمة، باتت مؤسسة خصوصية وبات جيشها عدو بالنسبة لقسم كبير من الشعب السوري. دول خارجية تريد مكاسب سياسية من الصراع السوري، وشعب فاقد للمحور الوطني الجامع، هل هناك بيئة انقسامية أكثر من هذه؟ سوريا اليوم جاهزة للانقسام برأيي، يبقى أن تريد الدول العظمى وتتوافق على ذلك. يمكن للمرء أن يتصور أيضاً أن تبقى سوريا موحدة على الخارطة ومقسمة في الداخل على الطراز العراقي. في كل الأحوال لا أجد أمام سوريا ما يرضي النفس، وأتمنى أن يخذل المستقبل ارتياباتي. تشرين تاني 2014
#راتب_شعبو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أبو طالب وأم اسماعيل
-
حوار لصالح مركز حرمون للدراسات المعاصرة
-
العلمانية من منظور الأقليات الدينية
-
العلويون السوريون بين الانفتاح والانعزال
-
مديح المفاجأة
-
السودان، خطوة إلى الأمام ومخاطر متربصة
-
الهزيمة المؤسسة للهزائم
-
نفوس مفخخة
-
الاستبداد بوصفه نزوعاً شخصياً
-
اتفاق داريا، الأرض مقابل الحياة
-
حوار، عن الذات وعن الثورة
-
هموم لغوية
-
سلطات منزاحة
-
إلى اختي الصغيرة
-
الربيع العربي على خارطة العالم
-
الإعلام المزدوج للنظام السوري
-
عبد اللع هوشة، الهامش الثري
-
عبد العزيز الخير، تجارب متنوعة ومصير واحد
-
خصوصيات معلنة
-
تسرب المعاني
المزيد.....
-
سفير الإمارات لدى أمريكا يُعلق على مقتل الحاخام الإسرائيلي:
...
-
أول تعليق من البيت الأبيض على مقتل الحاخام الإسرائيلي في الإ
...
-
حركة اجتماعية ألمانية تطالب كييف بتعويضات عن تفجير -السيل ال
...
-
-أكسيوس-: إسرائيل ولبنان على أعتاب اتفاق لوقف إطلاق النار
-
متى يصبح السعي إلى -الكمالية- خطرا على صحتنا؟!
-
الدولة الأمريكية العميقة في خطر!
-
الصعود النووي للصين
-
الإمارات تعلن القبض على متورطين بمقتل الحاخام الإسرائيلي تسف
...
-
-وال ستريت جورنال-: ترامب يبحث تعيين رجل أعمال في منصب نائب
...
-
تاس: خسائر قوات كييف في خاركوف بلغت 64.7 ألف فرد منذ مايو
المزيد.....
-
قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي
/ محمد الأزرقي
-
حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش.
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ
...
/ رزكار عقراوي
-
ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث
...
/ فاطمة الفلاحي
-
كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
حوار مع ميشال سير
/ الحسن علاج
-
حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع
...
/ حسقيل قوجمان
-
المقدس متولي : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
«صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية
...
/ نايف حواتمة
-
الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي
/ جلبير الأشقر
المزيد.....
|