كمال الجزولي
الحوار المتمدن-العدد: 1546 - 2006 / 5 / 10 - 11:17
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
لولا تفاقم أعداد الضحايا فى نزاع دارفور الذى خلف ، حتى الآن ، مائة وثمانين ألف قتيل ومليونى مشرَّد ما بين لاجئ ونازح ، بحسب أوثق البيانات الصادرة عن برنامج الغذاء العالمى ، الأمر الذى لم يعُد يطيق الصمت عنه أو الصبر عليه لا المجتمع المدنى السودانى ولا المجتمع الدولى ، لكانت قد اتسعت فرصة ممثلى دارفور فى مواصلة التصلب عند موقفهم الرافض لوثيقة (السلام) المقترحة من الاتحاد الافريقى ، كونها ، وبكلِّ المقاييس ، غير عادلة ولا متوازنة ولا نزيهة! فقد مالت الميل كله نحو موقف الحكومة ، بتنكرها للحق فى وحدة إلاقليم ، والتعويضات المُجزية للضحايا ، ومنصب نائب رئيس الجمهوريَّة ، علاوة على نسبة معلومة من الثروة القوميَّة للتنمية ، واحتفاظ الحركات المسلحة بقواتها خلال فترة انتقاليَّة بضمانات ملائمة ، وما إلى ذلك من مطالب مفهومة ومقبولة تماماً بمعايير العدل والانصاف ، أو قل بمعايير (نيفاشا)! سوى أن الوثيقة ، للأسف ، هبطت بتلك المطالب إلى (مجلس تنسيق) بين الولايات الثلاث ، و(مساعد) لرئيس الجمهوريَّة ، و(عطيَّة مُزيِّن) فى حدود 300 مليون دولار عند التوقيع ، و200 مليون دولار كل سنة بعد ذلك!
تلك المطالب لم تكن محض (حيلة) تمترست خلفها الحركات لأول مرَّة على مائدة التفاوض فى أبوجا ".. خشية التوصُّل إلى اتفاق" ، على حدِّ التخرُّص البغيض للسفير سام إيبوك ، رئيس فريق (الوساطة) ، والذى بلغت به قلة الحياء غير المسبوقة أن سبَّب تخرُّصه هذا ، لا فضَّ فوه ، بأن ".. الصراع أصبح وسيلة للعيش!" (الصحافة ، 29/4/06) ، كما وأنها ليست ، فى حقيقتها ، مِمَّا يلى دارفور وحدها فى خارطة حرائقنا الشاملة ، وإنما هى ، فى غالبها ، من أحكم ما خلص إليه الذهن السياسى الوطنى ، فى منابره الديموقراطيَّة المختلفة ، من علاج لأدوائنا المتفاقمة فى كلِّ أجزاء البلاد ، بل ولعَرَج (فيدراليَّة نيفاشا) ذاتها ، والقائمة على إقليم للجنوب وحده مقابل اعتبار الشمال بأكمله إقليماً واحداً ، فلا يستغربن كريم ، وبالأخصِّ السيد إيبوك ، إن أطلت هذه المطالب برأسها غداً أيضاً من خلال مفاوضات الشرق أو غيره!
وإذن ، فقد استطالت قامة (السلام) المنشود فى (أبوجا) حتى اصطدمـت بسقف (نيفاشا) ، ما يعنى ، عملياً ، أنها لن تتحقق إلا بتجاوزه! ومن عجب أن كلمة منى أركوى مناوى ، رئيس حركة تحرير السودان ، بأن "نيفاشا ليست مقدَّسة" (الصحافة ، 23/4/06) ، تكاد تتطابق ، مبنى ومعنى ، مع كلمة رئيس الجمهـوريَّة ، عقب توقيع (نيفاشا) ، والتى كان أعلن ، أيضاً ، من خلالها ، آنذاك ، أنها "غير مقدَّسة"!
لقد أدرك الدارفوريون من خبرة (الإيقاد) ، فى ما يبدو ، أن الاستجابة لرغبات (الوسيط) ليست لازمة فى كلِّ الاحوال ، وأن (السلام) لا يكون بأى ثمن ، وأن التفاوض (عضُّ أصابع) يخسر فيه من يصرخ أولاً!
على أن فرصة القادة الدارفوريين ، كما قلنا ، أضيق ، بما لا يقاس ، من فرصة الحكومة فى مواصلة الصبر على العض! ولعلَّ هذا ، بالتحديد ، فضلاً عن عوامل أخرى كثيرة ، هو العامل الأكثر ضغطاً على قادة الحركات فى أبوجا ، مِمَّا يلقى بأحمال ثقيلة على موقفهم التفاوضى. فالذين يعانون الأمرَّين فى دارفور هم (الأهل) ، من قبل ومن بعد! وعلى حين تزداد ، يوماً عن يوم ، مسئوليَّة الحركات عن مصير ملايين الضحايا أخلاقيَّاً وسياسيَّاً ، فإن النخبة الحاكمة ما تنفكُّ تزداد تخففاً من هذا العبء ، فلا تبدى أدنى قدر من الحدب حتى على الأرواح الآدميَّة ، دَعْ الكرامة الانسانيَّة أو الممتلكات الشخصيَّة! ولهذا فهى لا تكاد ترى فى كلِّ ذلك الأفق الدامى سوى مصلحة النظام وأمن السلطة! وحتى والمفاوضات تدخل ساعاتها الحاسمة ، حسب المواعيد التى حدَّدها الاتحاد الأفريقى ، فإن الأخبار ما تفتأ تترى عن احتدام المعارك حول منطقة (قريضة) الاستراتيجيَّة فى جنوب دارفور بسبب هجمات القوات الحكوميَّة لاستردادها من الحركات ، مستخدمة ذات الآليات التى دأبت على استخدامها خلال السنوات الأربع الماضيَّة: طائرات الانتنوف ، والمروحيَّات المقاتلة ، والقصف المدفعى للقرى ، وما يتبع ذلك ويتلازم معه من انتهاكات فظيعة لطالما أفضت وما تزال تفضى إلى ازدياد معاناة المدنيين ، بالضرورة ، وتكاثر حركة نزوحهم بأعداد كبيرة (الوكالات والصحف والفضائيات ، 28 ـ 29/4/06).
الشاهد أن (عضُّ الأصابع) كان يمضى سجالاً ، خلال ذلك ، فى أبوجا ، حيث أضراس الحركات ناشبة ، من جانبها ، فى أصابع الحكومة ، ومتشبِّثة بمطالبها العادلة بآخر ما لديها من أنفاس ، وبأقصى ما عندها من قدرة على التحمُّل ، بينما أضراس الحكومة مغروسة ، بالمقابل ، فى أصابع الحركات ، مبدية أعلى درجات التعنت فى رفض هذه المطالب ، على عدالتها. لكن أضراساً خارجيَّة تدخلت ، فجأة ، لترجِّح أضراس الحكومة فى سجال العض هذا .. وكاذب من يقول بخلاف ذلك! فالقوى الدوليَّة التى لا تكاد عينها تغمض عن (المكافأة) التى وعدتها بها الخرطوم: قبول دخول قوات الأمم المتحدة إلى الاقليم (بعد) التوصُّل لاتفاق (السلام) ، لم تتوان فى إعمال أضراسها ، هى الأخرى ، فى أصابع الحركات عضاً! ففرصة (التدخل) الوحيدة ، بدون موافقة الحكومة ، هى .. (الغزو) ، على النمط الأفغانى والعراقى ، وهو أمر ذو كلفة مبهظة! أما (وسيط الخير) الذى يشتغل (بالوكالة) ، أصلاً ، والذى لا يكاد يغفل عن (أشياء) تورثه حالة من (السعار) المشهود ، فقد انطلق ، بدوره ، ينهش أصابع الحركات ، ضغثاً على إبالة ، وإلى حدِّ التجروء على الاخلال المفضوح بأشراط (الوساطة) وتقاليدها الواجبة المراعاة! وقد تكفى ، للتدليل على ذلك ، مراجعة عابرة لتصرفات وتصريحات كبار رسمييه حيال نائب رئيس الجمهوريَّة منذ أن وطئت قدماه أرض المفاوضات ، مقابل الاستهانة والزراية غير الخافيتين بالطرف الآخر!
هكذا تكالبت الأضراس الحداد تعمل عضاً ، من كلِّ حدب وصوب ، فى أصابع الحركات ، ولعلَّ أكثرها إيلاماً تعالى صراخ (الأهل/الضحايا) ، من جهة ، يصمُّ آذان العالم مستنجداً ومستنقذاً ، وتعالى صراخ العالم ، من الجهة الأخرى ، يصمُّ آذان الدارفوريين مطالباً إياهم ، أكثر من أىِّ وقت مضى ، بتقديم التنازلات لأجل (الأهل/الضحايا) ، إعتقاداً ساذجاً بأن هذه التنازلات كفيلة بتحقيق (السلام) الذى لم يعُد يعنى سوى "وضع حدٍّ للعنف" ، حيث سينعم الدارفوريون (بالأمن) بمجرَّد توقيع هذه (الوثيقة) ، حسب كوندليزا رايس (الصحافة ، 4/5/06).
لا أستطيع ، بالطبع ، أن أتكهَّن بما يمكن أن تؤول إليه الأمور عند نشر هذا المقال صباح السبت 6/5/06 ، فأنا أكتب ، فى الحقيقة ، ظهر الخميس 4/5/06 ، والبدائل كلها مفتوحة على احتمالات لانهائيَّة ، ولذا فإن (التكهُّن) ، فى مثل هذه الحالات ، نوع من (ضرب الرمل) السياسى. على أن مهلة التمديد الثانى الممنوحة للحركات للتوقيع ستنتهى بعد ساعات. وكلا التمديدين ، بالمناسبة ، تحدَّدا بعد مجئ زوليك ، نائب وزيرة الخارجيَّة الأمريكيَّة ، إلى أبوجا ، علماً بأن (وسيط الخير) ظلَّ يهدِّد ، حتى مجئ الرجل ، بأنه سينهى المفاوضات فى موعدها المحدَّد فى 30/4 إن لم يتم التوقيع .. توقيع الحركات بطبيعة الحال! والآن ، بعد مجيئه ، فقد قال دبلوماسى غربى على صلة وثيقة بالمفاوضات إن ".. الأمر كله يتوقف على صراع القوَّة بين واشنطن والخرطوم ، وإذا كان باستطاعة الأمريكيين انتزاع تنازلات من السودانيين تكفى لأن يتوجهوا للمتمردين ويقولوا: هذا هو ما استطعنا أن نحصل عليه من أجلكم" (المصدر).
أما الحكومة فلم تكد تصدِّق حصولها على وثيقة تتطابق مع أساسيات موقفها التفاوضى ، حيث سارع على عثمان طه ، نائب رئيس الجمهوريَّة ، إلى مغادرة أبوجا عائداً إلى السودان ، كما سارع مجذوب الخليفة ، رئيس الجانب الحكومى فى المفاوضات ، إلى التوقيع (المنفرد) على الوثيقة ، بالأحرف الأولى ، صباح 3/4/06 ، ثم سارع إلى تسليم النسخة الموقعة إلى سالم أحمد سالم ، كبير الوسطاء ، بمكتبه بمقر المفاوضات بفندق شيدا الدولى (المصدر).
لكن أخشى ما أخشاه هو أنه ، إذا ما جرى إرغام الحركات على التوقيع على الوثيقة دون تعديل يستصحب مطالبها العادلة ، وهو أمر ممكن بالنظر إلى تكاثر الأضراس وشراسة العض ، فإن فرصة (السلام) الحقيقى تكون قد تبدَّدت ، وبالتالى ستتهيَّأ الأوضاع فى الاقليم للانفجار مجدَّداً ، وبأشرس من ذى قبل ، للأسف ، إن عاجلاً أم آجلاً!
#كمال_الجزولي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟