أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بوذراع حمودة - أعين خفية.















المزيد.....

أعين خفية.


بوذراع حمودة
(Boudra Hamouda)


الحوار المتمدن-العدد: 6282 - 2019 / 7 / 6 - 10:25
المحور: الادب والفن
    


.

يراقبونني، عيونهم دائما تفتش عني، في مكاني هذا وفي كل مكان.

أستطيع أن أستشعر وجودهم حتى وإن إستترو وراء حجاب باهت، أحس بوطأة أعينهم علي، إنهم في كل مكان.

إن أردت يوما أن أعتز بنفسي فإن صفة الشجاعة لن تكون الأولى على قائمتي، ولكن بفعل عفوي ولا إرادي قمت اليوم من فراشي ولوهلة ما أدركت أنني مبتسم.

هذا شيء غريب؟ فليس من عادتي أن أبتسم! وما بالك في الصباح والحر بالغ ذروته.

ولأول مرة لم أفكر في شيء وحتى أنني لم أهتم بشيء، غادرت غرفتي مسرعا عسى أن لا أتأخر فلي موعد يومي مع الروتين.

أمارس الروتين لكنني لست من الذين يملون بسهولة، فكل ما أملكه هو الصبر والتريث والتأقلم.

لكن هذا لا يهم، إن كل ما يهم هو ما أنا مقدم على فعله.

ولأول مرة أسير بثبات، فلطالما كانت خطواتي ثقيلة كالفراق أو سريعة كالهوى، لكن هذه المرة مختلفة فلقد كانت خطواتي ثابتة، رزينة ولكأنني لم أعد أهتم بأي شيء، فكيف للمرء أن يهتم وهو لا يفكر في المقام الأول، وها أنا في هذا المقام لا أفكر ولكأنني أعلنت حالة الطوارئ القصوى، ولكأنني وصلت إلى ذلك الحد الذي يجعلني مجبرا على التوقف عن التفكير، كما يجبر شارب الخمر على التوقف في وقت ما - حين لا يمكنه إرتشاف المزيد-.

لكنهم كانو حاضريين، إنهم في كل مكان يراقبون كل شيء ولا شيء يراقبهم، إنهم يراقبونني في الشوارع وفي العمل، في البيت وفي غرفة النوم، إنهم يعرفون كل شيء عني.

هذا يستدعي القلق والريبة، وهذا ما إعتدت أن أكون عليه، ومع ذلك فإني لم أكن كذلك هذا الصباح، لم أكن أعيرهم أي إهتما رغم معرفتي بوجودهم في مكان ما بالقرب مني لكن لا يهم أين هم فكل ما يهم هو أنهم موجودين ويراقبونني لكن الأهم من كل ذلك - على الأقل بالنسبة لي - أنني لم أهتم بذلك ولم أعرهم أية قيمة، فكل ما قمت به هو أنني واصلت طريقي نحو مكان ما وغالب نحو قعر الروتين، لكن هذا لا يهم أيضا، وما أجمل أن لا نهتم.

تحدث الكثير من الصدف السعيدة، لكن اليوم كانت مخالفة، بحيث أنه حدث إنقطاع في العمل الشأن الذي سمح لي بساعة ونصف من الزمن، صحيح أنه لدي أعمال وجدول ممتلء وإلتزامات كان يفترض أن أستغل هذا الوقت في قضائها، لكن ومن جديد فإني لم أعر أي إهتمام لذلك.

إن أغلب ما أقوم به، وأغلب القرارات الحاسمة والمهمة التي أتخذها، تكون من دون حسم، فقط إندفاع داخلي يسوقني نحو القدر ونحو المحتوم.

وغالبا ما كن هذا الطبع يثير غضبي فكيف لي أن أتخذ قرارات تخص المستقبل وتخص حياتي وموتي وقدري بهذه الطريقة الخرقاء.

لكن ما باليد حيلة، فلا يمكن لأحد أن يغير ما هو عليه.

لكنني حسمت أمري: أردت أن أتوجه إلى كبيرهم، كنت أعرف أين أجده، حيث كان آخر تقرير وصله عني كان في آخر مكان كنت فيه البارحة، ولعله أيضا كان يعي جيدا بطريقة أو بأخرى أنني سأعود إلى هناك.

وربما تلك المصادفة الحلوة التي حصلت للتو لم تكن مجرد مصادفة وإنما شيء من تدبيره، فهم في كل مكان لهم عين في كل زاوية وعلى كل جدار أذن وفي كل قاعة ذراع.

أطفاله يراقبونني لكن الحق أقول لكم أن في هذه الأثناء لم أرهم ولم أتحسس بهم، لكن ومع ذلك فأنا متيقنن من وجودهم.

توجهت نحو المقهى، نضرت حولي وفتشت في الأرجاء لكني لم أجده، ومع ذلك طلبت كأسا من القهوة السوداء، وقمت بإضافة الكثير من السكر، فلقد كنت واهن النشاط وأردت من السكريات أن توقض ما تبقى من خلاياي النائمة.

حملت بيدي كأس القهوة الساخن وقررت أن أصعد إلى الطابق الثاني، حيث المقاعد أكثر راحة والجو أقل صخبا والناس أقل كثافة.

لكنني صدمت: إنه هنا!! أمامه فنجال من القهوة مثلي، يحمل هاتفه الذكي ويقوم بشيء ما، كان كهل في العقد الخامس من عمره أو أكثر، له شعر أبيض غير مصفوف، وذو شاربان كثيفان يكسوهما البياض يتدليان على شاربيه.

صفات من هذه؟ شخص ذو شاربان كثيفان من دون لحية، تعلو نضارات طبية أنفه المدبب. صفات من؟

نعم إنه هو، أنا أعرفهم جيدا، أعرف سلوكياتهم، وأعرف أشكالهم حتى، ليسوا من النوع الذي أخطأ في تقديرهم.

ومع ذلك كان يلعب دوره بشكل نضيف، بشكل مهني، وكيف لا وهو سيدهم؟

تضهار بعدم معرفته لي، وكان يحاول أن يبدي أنه لم يلاحظ وجودي، ولقد لعب دوره بشكل جيد، جيد جدا، فللحظة ملت أن أكذب نفسي وأصدق ذلك الوهم الذي كان يحاول أن يخلقه.

لم يكن الفرار ومغادرة المكان شيء وارد في ذهني، لذا تقدمت نحو الأمام، إجتزت الطاولة التي كان يجلس عليها حيث كان يراقبني كل ذلك الوقت.

كان يراقبني وأنا أفتش عنه في الطابق الأول، وكان يراقبني وأنا أطلب القهوة، وكذلك عندما قررت أن أصعد إلى الطابق الثاني - فهم يعرفون كل شيء: لأنهم يرون كل شيء ويسمعون كل شيء.

توجهة إلى الطاولة التي تليه، جلست من جهتها الشمالية بحيث أصبح يقابلني مباشرة.

تأملت طويلا في وجهه دون كلل، لقد كانت نضراته مرتابة وسريعة وغير مكشوفة.

لكنه كان يعرف ذلك، ولم يعر أي إهتمام لوجودي، وكذلك فعلت أنا.

وضعت هاتفي فوق الطاولة ورحت أحتسي قهوتي بثبات، وأنفث الدخان في كل مكان ورحت أقرأ الجرائد من دون إهتمام بشيء.

تفحصت بريدي الإلكتروني وغير ذلك من الأشياء عديمة القيمة.

أخذت من حقيبتي دفترا لي وفي أحد جيوبها قلما أسودا، ووضعت الهاتف في الأمام بجوار الدفتر ورحت أسجل بعض الأشياء حول شيء ما غالبا ما يكون مرتبطا بأحد أشغالي.

لكن سرعان ما أحسست بالملل، وقررت أن أغادر، لكن الفضول جعلني أعدل من موقفي.

أخذت القداحة من أمامي، وتوجهت ببصري نحوه، لكن في هذه المرة لم يكن يحمل هاتفه.

كان يحمل ورقة بدل لوحة إلكترونية وراح يتحسسها، إنها مذكرة إعتقال، غالب هذا ما ستكونه، وأي شيء آخر سيحمله ذو الشارب الأبيض الكثيف عديم اللحية.

لقد شعرت بالقلق والفضول وأردت أن أسرع في وتيرة الأحداث، أخذت القلم من جانبي وأعدته مجددا إلى جيب الحقيبة، وبعد ذلك أخذت الدفتر ورميته داخل الحقيبة، أحكمة إغلاقها ووضعتها فوق ضهري وإستقمت منتصبا.

إلتقت عيناي بعينه، ولأول مرة توجه بنضره نحوي، كانت عيناه سوداء اللون قاتمة تعلوها حواجب بيضاء غير منظمة.

لقد كانت نضراته جافة، سوداء قاسية، لا تحمل أي شيء ولا أي دلالة.

لم أعرف كيف استطعت أن أتقدم خطوة واحدة نحو الأمام، لكنني فعلت ذلك.

لم أعرف أين وجدت الوقت لكي أنضر إلى الورقت التي كانت بين يديه وأن أدقق وأعي يقينا أنها مذكرة إعتقال.

لقد كانت ممضيتا بالقلم الأسود ومختومة بالدمغة الحمراء مما لا يجعل لي مجالا للشك.

إنها مذكرة إعتقال.

لكنه لم يقم من مكانه، فبدل أن يقيد يدايا بالأغلال، حمل هاتفه من جديد، وقام فورا بمكالمة هاتفية.

طبعا لست أحمق لهذه الدرجة، فأنا لن أعود إلى عملي، بل سأتوجه نحو الزنزانة، هناك في الخارج ينتضرونني أن أعلم بذلك.

كنت قد فكرت أن لا أغادر، لكن ذلك شيء سخيف، فأنا ورئيسهم تحت سقف واحد، وفي الخارج هم موجودون في كل مكان، حتى في مكان عملي موجودون وحتي في غرفتي وفي حمامي وفي كل مكان، إنهم يستوطنون في الداخل وفي الخارج حتى أنهم يستوطنون داخل عقلي.

فإن لم يكونو أشخاصا، إستخدمو أعينهم الرقمية، وإن لم تكن أعينهم فإنها أذانهم الكهرومغناطيسية عالية الحساسية، وإن لك تكن أذانهم فسيكونون خلف شاشت هاتفك، يرقبونك من خلال الكمرا الأمامية والخلفية، ويراقبون ما تكتب وما تقرأ، ما تسمعه وما تشاهده، بل حتى ما تفكر به.

لذا فإن بقائي داخل المقهى لا يعني شيء، فلم تعد حياتنا شخصية بل يشاركوننا في كل شيء من دون إذن منا.

دفعت ثمن القهوة وفتحت الباب، نضرت حولي أفتش عن عماله، فإذا بأحدهم يراقبني، لكنه لا يزال يتكلم عبر الهاتف.

توجهت نحو مكان عملي، ولم يلحق بي.

لا أعرف ما الذي غير رأيه ولم يقم بإعتقالي، فربمى كان يضن أنني لا أشكل خطرا كبيرا على أية حال، أو أنني لا أشكل أي خطر على الإطلاق.

فكل ما أقوله يبقى حبيس نفسه، وكل ما أكتبه غالبا لا يقرء، فهم لا يهتمون بما تكتب أو بما تقول، بل كل إهتمامهم يكمن في كم من الناس ستسمعك أو كم من الناس ستقرأ لك، أو كم من الناس ستتعاطف مع قضاياك وأفكارك.

لكن هذا توجههم: لا أعرف لما لا يراقبون المجرمين فهم في كل مكان، فكلماتي وما أكتبه ليس إجراما.

لكن ومع ذلك فما يزعجهم ليس الإجرام - إن كان لا يهدد مصالهم - بل ما أكتبه أنا لأنه وبكل تأكيد يهدد مصالهم.

يعلمون كل شيء عني، ملفي لديهم مهم فهم يراقبونني هنا وفي كل مكان.

لكنني لست بالخطر الذي يجعل منهم يعتقلونني، فهم لا يكترثون بمن تكون أو بما تكتب أو بما تفكر فيه، أو أي توجه هو توجهك، ولا دينك يهمهم، ولا إسم عائلتك،

كل ما يهمهم هو: مدى تضرر مصالهم بوجودك.

لعلي مجرد ذبابة مزعجة تطير في الأفق، صحيح أنني مزعج لكنني لا أشكل خطرا عليهم، قد يقومو يوما ما بإعتقتلي وقد لا يفعلون.

كما أنه قد تقوم وتقتل تلك الذبابة المزعجة، وقد لا تفعل، ففي الأخير هي ليست خطيرة على أية حال.

لكنهم يراقبونني، كما تراقب أنت تلك الذبابة، وقد يقضون علي وقد لا يفعلون، مثلك تماما، فقد تقتل تلك الذبابة وقد لا تفعل.

لكنهم لا يراقبون المجرمون، مثلك أنت فلا تراقب الثعابين، هم يراقبون ما يزعجهم وليس ما هو خطير، مثلك تماما فأنت تراقب الذبابة المزعجة ولا تراقب الثعابين.

فلطالما كان المجرمون لا يشكلون خطرا عليهم فإنهم لا يعتقلونهم، وكذلك أنت فلطالما كانت الثعابين بعيدة عنك ولا تشكل خطرا عليك فإنك لا تراقبها ولا تقتلها.

واقعة في: 1/07/2019.

#بوذراع_حمودة.



#بوذراع_حمودة (هاشتاغ)       Boudra_Hamouda#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- النظام الجزائري بين الشمولية والديموقراطية.
- الدولة افراز شعبي
- احتفالية عيد الميلاد
- لعبة الموت
- ماذا بعد
- الطيبة المرضية


المزيد.....




- الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
- متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
- فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
- موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
- مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
- إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
- الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
- يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
- معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا ...
- نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد ...


المزيد.....

- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بوذراع حمودة - أعين خفية.