إدريس لكريني
كاتب وباحث جامعي
(Driss Lagrini)
الحوار المتمدن-العدد: 1544 - 2006 / 5 / 8 - 11:36
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
اعتادت الولايات المتحدة الأمريكية منذ عدة عقود مضت على نهج سبل الزجر والعقوبات بشتى مظاهرها وأنواعها في مواجهة الأنظمة التي طالما اعتبرتها معادية أو مناهضة لمصالحها وخارجة عن طاعتها، بعد إدراجها ضمن لائحة الدول والأنظمة العاقة والديكتاتورية تارة أو ضمن دول محور الشر والمارقة تارة أخرى.
توظيف الفراغ الاستراتيجي
وإذا كانت هذه الدولة قد اكتفت في ظل اشتداد الحرب الباردة بفرض عقوبات أحادية الجانب على بعض هذه الدول، مثلما هو الشأن بالنسبة لكوبا، فإنها عززت هذه الوسيلة وطورتها ووسعت من مجالها بإضافة تقنية العقوبات الدولية الجماعية إليها, بعدما أتاح لها انهيار الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة، توظيف الأمم المتحدة بصفة عامة ومجلس الأمن على وجه الخصوص بشكل واسع لفرض عقوبات زجرية مختلفة (حظر جوي, مقاطعة اقتصادية, تخفيض البعثات الدبلوماسية في الخارج, تجميد الأموال المتواجدة في البنوك الأجنبية..) على هذه الأنظمة في إطار ممارسة المزيد من التضييق عليها باتجاه الحد من تصاعدها, وتصفية حسابات سياسية تاريخية معها, وبالتالي إسكات كل الأصوات التي قد تفكر في تحدي أو رفض سياساتها وهيمنتها في أفق تدجينها, بالشكل الذي يسمح لها بتشديد الخناق على ما تعتبره آخر الجيوب الراديكالية في العالم، بل واستغلال الفراغ الاستراتيجي الذي خلفه رحيل الاتحاد السوفييتي لتوجيه ضربات عسكرية تأديبية لمختلف هذه الأنظمة، مثلما تم مع ليبيا في منتصف الثمانينيات والسودان وأفغانستان في أواخر التسعينيات من القرن المنصرم.
وللتدليل على ذلك نشير إلى أن 61 من مجموع 104 عقوبة دولية فرضتها الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية اتخذت في ظل إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق "بيل كلينتون" وفي أقل من سبع سنوات فقط.
ذرائع متباينة لإزاحة العراق
في هذا السياق، وأمام عدم رضى الولايات المتحدة على حصيلة آثار حرب الخليج الثانية العسكرية والاقتصادية والإنسانية على الشعب العراقي وما تلاها من فرض حصار طويل وجائر عليه، أقدمت على شن اعتداء على الشعب العراقي قبل أن تفرض احتلالها على هذا البلد العربي. ولقد تميزت إدارة الولايات المتحدة لهذا الملف بالتخبط والاضطراب، فكانت تارة تبرر الضربة بمكافحة "الإرهاب"، خاصة بعد تصنيف العراق ضمن "محور الشر" إلى جانب إيران وكوريا الشمالية، وتهديد السلم والأمن الدوليين والمصالح الأمريكية في المنطقة، وبإنقاذ وتحرير الشعب العراقي من "النظام الديكتاتوري" وفرض نظام "ديموقراطي"، وتارة أخرى بذريعة فرض احترام الشرعية الدولية التي تجسدها قرارات مجلس الأمن وبخاصة فيما يتعلق منها بالقضاء على أسلحة الدمار الشامل. والحقيقة أن هذه المبررات والذرائع وأمام الفوضى والاضطراب الأمنيين الذين وصل إليهما العراق, تظل واهية وتخفي داخل ثناياها مجموعة من الخلفيات والأهداف الأخرى, من قبيل التحكم في خيرات هذا البلد وتأمين المحيط الإسرائيلي وبعث رسالة إنذارية إلى كل الأنظمة الرافضة للسياسة الأمريكية..
المنطق الحذر في كوريا الشمالية
وفي نفس الإطار، وبعد نزع شوكة العراق باعتباره بلدا كان يدرج ضمن "محور الشر" من المنظور الأمريكي, يبدو أن المنطق الذي تعاملت به هذه الدولة مع الملف الكوري الشمالي ولنفس الأسباب والذرائع – الحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل- وبخاصة بعد رفض كوريا الشمالية إعمال أية رقابة على منشآتها النووية، جاء مخالفا تماما لنظيره العراقي، حيث فضلت نهج وسائل مرنة في تدبير الأزمة, ويرجع ذلك أساسا إلى تأكدها من قدرة هذا البلد على الردع، ومن امتلاكه بالفعل لإمكانيات نووية وكيماوية وبيولوجية هائلة, زيادة على ترسانة مهمة من الصواريخ البعيدة المدى والقادرة على حمل رؤوس نووية إلى مناطق بعيدة يعتقد أن من بينها الولايات المتحدة ذاتها, وتوافره على ما يناهز مليون جندي. هذا بالإضافة إلى رفض كل من الصين وروسيا حسم الخلاف عسكريا ضد بلد حليف، ناهيك عن عدم قبول القوى الإقليمية كاليابان وكوريا الجنوبية- الحليفة للولايات المتحدة - لأي حل عسكري قد يجر الويلات على أمن المنطقة، ثم حرص كوريا الشمالية من جهتها على عدم السقوط في السيناريو العراقي- الذي لم يحل فتح منشآته العسكرية على مصراعيها أمام المفتشين الدوليين دون العدوان عليه-، أي رفض تعريض منشآتها العسكرية للرقابة الدولية، حيث اختارت مسلك التصعيد والتهديد والتحدي وحذرت الولايات المتحدة من مغبة المغامرة بالإقدام على أي عمل عسكري ضدها، لأن ذلك سيعني مواجهة نووية ستأتي على مصالحها في المنطقة وجنودها الذين يزيد عددهم عن 35 ألف بكوريا الجنوبية.
وفي هذا الإطار حذرت في بداية شهر فبراير 2003 من أن أي قرار أمريكي بإرسال مزيد من الجنود إلى شبه الجزيرة الكورية سيدفعها إلى القيام بضربة وقائية ضد هذه القوات.
ولذلك فالولايات المتحدة التي تعلم جيدا قوة هذا البلد، فضلت منذ البداية نهج منطق المهادنة, وعملت على دفع بعض حلفائها وأصدقائها في المنطقة إلى القيام بوساطات ومساعي حميدة في سبيل حل الخلاف واحتوائه، والحث على إجراء مفاوضات إقليمية جماعية في هذا الشأن.
ويمكن التكهن في هذا الإطار بعدة سيناريوهات محتملة لمسار هذا الملف، فحسم المشكل في العراق قد يشجعها ويمنحها ثقة كبيرة لتوجيه ضربات جوية محدودة لمنشآتها النووية-كوريا الشمالية- بعد إغراء الصين وروسيا بمساعدات مهمة، وهذا احتمال رغم وروده يظل ضعيفا في ظل امتلاك هذا البلد لمقومات الردع النووي، وقد يتم اللجوء إلى خيار أقل حدة وهو تشديد الرقابة على هذا البلد بعد فرض حصار قاس عليه، أو إقرار طريقة مرنة للرقابة تكون مشروطة بالمساعدات التقنية والاقتصادية- وهذا هو الخيار الأكثر ترجيحا-، أو بتشجيع كل من اليابان - التي أطلقت مؤخرا قمرين اصطناعيين لأغراض عسكرية في سابقة أولى- وكوريا الجنوبية على تطوير برامج نووية منافسة للبرنامج الكوري الشمالي.
الملف الإيراني الصعب
أما إيران التي طالما وجهت لها الولايات المتحدة تهم دعم الحركات والتنظيمات الدينية المتشددة، فقد شهدت في أقل من سنة واحدة محطتين خطيرتين كادت أن تحتك خلالهما مباشرة بالولايات المتحدة، لولا تعاملها بمرونة وذكاء أملا في تجنب المواجهة مع هذه القوة, والعمل على الخروج من هذا الامتحان بأقل تكلفة وبخاصة مع وصول الإصلاحيين إلى الحكم- فترة حكم الرئيس خاتمي- وما تبع ذلك من بروز نقاش علني حول إمكانية الحوار مع هذا البلد، وكيفية الموازنة بين ثوابت الثورة الإسلامية والتهديدات والتحرشات الخارجية التي يتعرض لهما الأمن القومي الإيراني من حين لآخر في عالم متغير يفرض الكثير من التحديات.
فالمناسبة الأولى كانت هي أحداث 11 شتنبر وما تلاها من تدخل عسكري في أفغانستان، فرغبة في تجنب مواجهة مع خصم قوي وأملا في خلق جو ملائم للحوار معه في سبيل التخلص من المشاكل العالقة بين البلدين، جاء موقف إيران هذه المرة مغايرا تماما لما كان عليه الأمر خلال حرب الخليج الثانية والذي اكتفت فيه بالحياد السلبي, بحيث لم تشارك ضمن قوات التحالف الأمريكي الدولي ولم تؤيد الموقف العراقي أيضا مع إبداء اعتراضها على تمركز القوات الأمريكية في المنطقة، فهي تكن العداء لنظام طالبان والولايات المتحدة معا، لكن الواقعية السياسية دفعتها إلى اتخاذ موقف متناغم إلى حد كبير مع الرغبة الأمريكية, ووصل بها الأمر إلى حد المساهمة في الحرب ضمن صفوف قوات التحالف الشمالي وتقديم أسلحة لها، مع المشاركة في مؤتمر "بون" من أجل ترتيب البيت الأفغاني لفترة ما بعد الحرب، والإقرار بنتائجه. والغريب في الأمر أن كل ذلك لم يشفع لإيران لدى الإدارة الأمريكية، فما إن توقفت العمليات العسكرية بالقضاء على نظام طالبان حتى ضمت الولايات المتحدة إيران إلى "محور الشر" واتهمتها بدعم "الإرهاب".
وخلال العدوان الأمريكي- البريطاني الأخير على العراق، تبين أن موقف إيران التي طالبت بتنفيذ قرار مجلس الأمن 1441 مع الحث على إعطاء المفتشين الدوليين وقتا كافيا للقيام بمهامهم، تمحور حول الإصرار على الامتناع عن المشاركة أو تقديم الدعم أو التسهيلات للقوات الأمريكية ضد العراق، ثم الامتناع عن مساندة النظام العراقي ودعمه في مواجهة الولايات المتحدة وبريطانيا أو عرقلة العمليات الأمريكية هناك، مع التشبث برفض العدوان باعتبار ذلك عملا غير شرعي، ويبدو أن موقفها هذا يحمل في طياته شعورا بالخوف من إمكانية استهدافها بعد العراق بذريعة نشر الديموقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان ومكافحة "الإرهاب" وإيقاف برنامجها التسلحي النووي...
ويبدو أن الولايات المتحدة لا تزال متحمسة في ممارسة الضغوطات على هذا البلد من خلال التهويل من برنامجه النووي والسير قدما باتجاه فرض رقابة دولية على منشآته النووية تحت إشراف مجلس الأمن, وبخاصة بعد وصول المحافظ أحمدي نجاد إلى السلطة. وقد بدأت تلوح في الأفق مؤشرات قوية تصب باتجاه التصعيد بعد إصدار الوكالة الدولية للطاقة الذرية لقرارها القاضي بإحالة الملف النووي الإيراني على أنظار مجلس الأمن، وإعلان إيران استئنافها لجميع أنشطة التخصيب وإنهاء تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية بخصوص مراقبة منشآتها النووية.
قائمة مفتوحة
وبالنظر إلى وجود عدة ملفات أمريكية غير محسومة مع سوريا وبخاصة على مستوى اتهامها باحتضان بعض الفصائل المعارضة لاتفاقيات أوسلو وعدم نهج إصلاحات ديموقراطية, واتهامها المتكرر أيضا بدعم "الإرهاب", وتحريض المقاومة ضد الاحتلال في العراق.. وتطوير أسلحة محظورة، يمكن القول أن هذا البلد مرشح للانضمام إلى لائحة "محور الشر" الأمريكية ولنيل مزيد من الضغوطات الأمريكية.
إن نجاح الولايات المتحدة في اختصار الطريق في العراق بعد القضاء على نظام صدام وفرض الاحتلال على هذا البلد العربي وفرض الأمر الواقع, يمكن أن يوحي لها بنجاعة إعادة نفس السيناريو مع سوريا والتي طالما تحينت الفرص بها, ولقد ظهر بجلاء حجم الضغوطات التي أصبحت تمارسها هذه الدولة على النظام السوري, خصوصا عندما سخرت مجلس الأمن في مرحلة أولى ليصدر قرارا يقضي بضرورة انسحابها من لبنان, قبل اتهامها بالوقوف وراء تدهور الأوضاع الأمنية في لبنان بالشكل الذي أدى إلى اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري.. وتشكيل لجنة لتقصي الحقائق في هذا الشأن..
ومع كل ذلك فهذه الضغوطات والاتهامات لا بد أن تقرأ على أنها رسالة تحذيرية إلى كل من يفكر في تحدي الهيمنة الأمريكية وعلى أن لائحة "محور الشر" مرشحة لضم دول وأنظمة أخرى كسوريا وغيرها، وأن الدور القادم لن يستثني الأصدقاء وحتى مثمني خطواتها وسياساتها العدوانية، ولابد وأن يأتي على كل الأنظمة التي لم تستوعب بعد أن المراهنة ينبغي أن تكون على الشعوب وإرادتها بدل المراهنة على قوى أجنبية وعلى الولايات المتحدة التي تعودت في سبيل مصالحها أن تتنكر لأصدقائها بكل برودة وبساطة، وبأن زمن الدولة القطرية قد ولى لصالح التكتلات الفعالة في عالم يحكمه قانون الغاب.
#إدريس_لكريني (هاشتاغ)
Driss_Lagrini#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟