أمير بالعربي
الحوار المتمدن-العدد: 6273 - 2019 / 6 / 27 - 00:57
المحور:
الادب والفن
سنتي الأولى في الإعدادية , عندما ذهبت مع ماما للترسيم , قال لها المدير : "يجب أن يقصّ شعره" ... رفضت وقلت لها أني لن أدرس في تلك المدرسة , فذكّرتني برغبة بابا فقلت لها أنه لم يكن يفهم لأنه كان كل يوم يحلق ذقنه ومرة كل شهر يحلق شعر رأسه .... وعندما قالت لي : "ألا تريد أن تسعد بابا ؟" أجبتها أنه كان يريدها هي أيضا أن تقص شعرها لكنها لم تستجب لرغبته .... ضحكت وقالت أن بابا كانت عنده مشكلة مع الشعر , ووعدتني أن تجد حلا مع المدير ... وفعلت .
أخي كان مثل بابا لا يحب الشعر , وكان دائما ما يقول لي أني لست رجلا , وعندما يرى ماما تصفّف شعري يسخر مني ويقول لها : "مَلَاكْ , سنوات قليلة وتكبر ابنتك ويأتيك الخطاب" , فتنهره ماما وتطرده من غرفتي أو من غرفتها .... لم يكن أصدقائي يقولون لي قول أخي , كنت أقواهم وكنت أغلبهم عندما نتعارك , كنت أكره أن يعيرني أخي بأني لست رجلا ولم أفهم ما دخل الشعر في الرجولة والأنوثة ... كنت عندما أسأل ماما عن لماذا يقولون أن الشعر الطويل للمرأة فقط , تقول لي أن ذلك غير صحيح وأن بابا نفسه عندما كان صغيرا كان شعره طويلا لكنها لم ترني أي صورة له . كنت أستغرب لماذا لا توجد صور لبابا وهو صغير , لم يكن جدي فقيرا بل كان غنيا يستطيع توفير كل شيء لابنه , ربما لم يشتر له مصورة لأنه كان يكره أن تبقى لبابا صور بشعره الطويل .... ربما . ضحكت مني ماما عندما قلت لها أن الرسول كان شعره طويلا وحتى الله شعره طويل , ابنة سارة كانت مسيحية وشاهدت مرة معها فيلما جميلا عن حياة الله ... قالت لي ماما أن سارة وابنتها ليستا مثلنا فنحن لا نرى الله عنده جسد وشعر طويل ! لم أفهم وقتها لماذا قالت أنهما مختلفتان عنا , فقد كنا مثلهما في كل شيء , كنت أدرس مع ابنة سارة ... كانت المسيحية الوحيدة التي أعرف , لكني لم ألاحظ عليها أي اختلاف عن بقية الطلبة , أما سارة فكانت صديقة ماما تأكل مثلها تلبس مثلها وتتكلم مثلها ....
عندما أتممت سنتي الثانية , نجح أخي في الباكالوريا واختار أن يصبح كبابا , وعندما قلت له أن المهربين سيقتلونه هو أيضا أجابني أن ذلك لو وقع سيكون شرفا له ...
رأيته غبيا في اختياره , لأنه كان يستطيع أن يختار دراسة أحسن من حلق الذقن وشعر الرأس ومطاردة المجرمين , وسعدت كثيرا عندما قالت لي ماما أنها في داخلها لم ترد له ذلك لكنها لم تستطع أن تقف ضد رغبته .... هكذا كنا دائما , هو في صف بابا , وأنا في صف ماما ...
المهم أني في سنتي الثالثة , صرت أكثر حرية بعد ابتعاده عنا , وأصبحت اهتمام ماما الوحيد .
تلك السنة طلبت منها أن تقص شعرها . قلت لها أن أريدها أن تبدأ صفحة جديدة , فقبلت بشرط أن أفعل مثلها لكني رفضت وظللت ألح عليها حتى استجابت لطلبي , وكانت أسعد اللحظات عندما رأيتها أول مرة ...
كان ذلك يوم أحد , قمت باكرا قبلها وأيقظتها , فطرنا معا ثم غادرت إلى الحلّاقة وعندما عادت ....... رأيتها أجمل من كل السنين التي مضت , وفهمت لماذا كان بابا يطلب منها قص شعرها ... فرحت كثيرا لأنها استجابت لطلبي ولم تستجب له , شعرت يومها أنها تحبني أكثر منه لكني ... كلما تذكّرت بكاءها عند قبره كنت أقول أنها تحبه أكثر مني !
تلك السنة كانت جوهرية في حياتي الدراسية لأني عدت إلى التميز الذي هجرني منذ سنتي الابتدائية الأولى , بعد وفاة بابا . تميزت فقط لأسعدها , كنت كل شيء عندها , ولم يعكّر صفوي أخي الذي لم يكن يعود إلى المنزل إلا مرة كل شهر وأحيانا كل شهرين , كان يستطيع المجيء كل أسبوع لكنه لم يفعل وكنت أقول في نفسي : "أحسن !" ...
قلت لماما في تلك السنة أني عندما أكبر سأصبح مهندسا مثلها , لكني لن أبنِ منزل ابنة سارة مجانا وسأجعلها تدفع ما لم تدفعه أمها !
كنت غاضبا من سارة لأني سمعتها مرة تقول لماما أنها يجب أن تبعدني عن نفسها قليلا , وطلبتْ منها أن يحضر خالي أكثر إلى منزلنا وكنت لا أحب ذلك الخال ! لكن ماما لم تسمع كلامها وقالت لها بأنها لن تسمح لأحد أن يتدخل في تربية ابنها ....
بعد أن غادرت سارة ذلك اليوم , قلت لماما أنها تغار منا لأن ابنتها لا تحبها ولا تجلس معها ... وعندما تذهب لغرفتها لا تفتح لها الباب , وإذا لم تجد الباب مغلقا ودخلت تطردها , كنا ندرس معا وكانت تحكي لي كل شيء عن أمها وعن أبيها ....
خالي أيضا كان يغار منا , لأنه كان فظا مع ابنه , لم أكن أحبه لأنه كان دائما يقول لي أني كبرت ولا يجب أن أقبِّل ماما من فمها , وعندما شكوته لماما قالت لي أن كلامه غير مهم وطلبت مني ألا أجيبه عندما يتكلم معي .
أهل ماما وبابا كانوا يأتون كثيرا لمنزلنا , لكن سارة كانت الأكثر مجيئا , مع مرور الأعوام أصبحت أقرب صديقات ماما ... وكثيرا ما كنا نتعشى معا : هي , أنا وماما , وابنتها . لم أكن أرى زوجها كثيرا , قالت لي ماما أن ذلك بسبب كثرة أعماله , لكن ابنتها قالت لي الحقيقة أن أباها وأمها منفصلان , لم يطلقا لكنهما كانا يتظاهران بأنهما متزوجان ...
سنوات الإعدادية , فُرضت عليّ ابنة سارة , كانت معي في الفصل وفي منزلها ومنزلنا , كنت كثير التشاجر معها لكني في السنة الثالثة حسّنت من سلوكي تجاهها برغم أنها كانت تحبني وكنت أعلم ذلك , لم أكن أحبها لكني تعودت عليها حتى صارت عندي كشيء يجمع بين الصديقة والأخت ... ربما يعود ذلك لغياب أخي تلك السنة , وربما لأني كنت لا أهتم لأغلب بنات المدرسة ولأنها كانت الوحيدة التي دائما ما تكون معي ومع أصدقائي , سارة كانت تقول أننا كنا كالقط والفأر أعداء لكن لا نصبر على بعض , أظنها كانت على حق ...
لا تزال ترفض ألا أناديها باسمها إلى اليوم , صنعتُ لها صفة كلما ذكرتها في غيابها عندما كنت صغيرا : "ابنة سارة" , كنت أناديها باسمها عندما تكون معي واستمر ذلك حتى نهاية الإعدادية . بعدها لم أنادها باسمها بل عمّمت صفتها على وجودها كله حتى عندما تكون معي , ذلك الوجود الذي وعيت حقيقته دون أن أدري منذ الصغر .
وجودها كان في الحقيقة عدما لأنه لم يكن لذلك الوجود أن يوجد لو لم تكن ابنة لسارة , سارة كانت الوجود الحقيقي -الذي بعد ماما- صنع وجودي وأعطى له معنى وحقيقة . علمت ذلك سنوات بعد فاتن التي فعلتْ الكثير , لكنها لم تكن إلا مجرد وصيفة من وصيفات ماما وسارة .
تجاوزت الأربعين اليوم , ولم تعد تلك الحقبة العمرية تستهويني , كبرت ماما وتجاوزت السادسة والستين , وكبرت سارة وتجاوزت السابعة والستين ... كانا في بداية العقد الخامس عندما بدأ كل شيء , وكنت في الرابعة عشرة عندما جربت أول مرة تلك المتعة ... لم أرها محرمة لكنها فهمت أنها غير عادية , كانت ماما مع سارة في خيالي وقتها ... ماما ذلك الحب المثالي الذي لا أجساد فيه , وسارة تلك الرغبة الجامحة التي لا شيء فيها غير الجسد وأوامره ....
مرت السنين بسرعة حتى حضرت فاتن , أستاذة الرياضيات ... أجمل الأساتذة كنّ أساتذة الإنكليزية والفرنسية والإسبانية , أقبحهن كنّ أساتذة العربية والإسلامية والمدنية والتاريخ والجغرافيا والفلسفة , أساتذة المواد العلمية كن في الوسط وفاتن كانت الوحيدة الجميلة بينهن ... رأيتها الأجمل بين كل من وجدوا في المعهد من طلبة وأساتذة وعملة . لم يكن يعنيني أنها متزوجة وعندها أطفال , لم أهتم لفارق العمر أو للخطر عليّ وعليها لو علم أحد ... كنت أهزأ بكل ذاك وبغيره , لم يكن يعنيني إلا ذلك الهوس العجيب الذي كان ينتابني في حصتها , لم تثرني زميلاتي الجميلات ولم أشعر نحوهن لحظة بشيء وأولهن ابنة سارة , لكني كنت جل حصص فاتن ... منتصب القامة ... أجلس في آخر الفصل , أفترسها بعينيّ كأسد شرس يفترس غزالا دون شفقة .. الغريب عندي كيف كنت أفهم دروسها , لله درها ! غذّت عقلي وجسدي أحسن تغذية طوال تلك السنة ...
حاولت أن أبقي لفاتن منزلة مع ماما وسارة , لكني لم أستطع ... لم أرد لها أن تكون مجرد عسكري يفتح باب مكتب الضابط السامي , الكبير . أردت لها أن تبقى ضابطا مع الضباط لكني لم أستطع ورجوت لوقتٍ لو أني استطعت ...
لم أرها يوما عاهرة , أو مجرد امرأة متزوجة تخون زوجها , لم أرها منحرفة تستحق اللعنة أو بيدوفايل استغلت نفوذها على أحد تلاميذها ... بل رأيتها ملاكا طاهرا وحبا فريدا رغم أنه بدأ جنسا وتواصل جنسا حتى نهايته , لم أزدرها أو أغضب منها بعد سنين عندما كبرت وتعلمت وتمرست مع النساء , لم أقل أنه من المفروض أنها هي التي كان يجب أن تكون المعلمة لا العكس ... بل رأيتها الشابة الصغيرة ورأيت نفسي الكهل المُعلِّم . أمضيت بعدها عدة سنوات في الجامعة أقول أني أحببتها , لكني تراجعت بعد أن تأكدت أن ذلك لم يكن حبا ...
الحب لا يمكن ذكره إلا مع ماما وسارة , سارة التي حضرت مباشرة بعد حضور فاتن , لم يكن ذلك صدفة بل كانت تعلم ما تريد وتنتظر لحظة البداية ...
لم تكن سارة طبيبة لم يمسسها رجل لسنين طويلة , لم تكن منحرفة ... كانت حبا حقيقيا لم تفهم كنهه في البدء , أنكرت وجوده بعد ذلك , خافت من أن توصف بخيانة ثقة صديقتها وأي جرم أقبح من أن تغوي ابنها ؟ لكنها لم تكن كذلك .... ومثلما حدث مع فاتن , لم تكن إلا صغيرة لا تزال تخطو خطواتها الأولى في طريق الحب ... طريق طويل لا يعترف بالأعمار والعقول والتجارب , طوبى لمن وعى حقيقته , طوبى لمن باركته قديسة كسارة ... أمي الثانية .
لكن القداسة نفسها تبقى ماما , عام الباكالوريا رأتني منحرفا بعد أن أعلمتها ابنة سارة بعلاقتي بفاتن , لكنها فهمت بعد ذلك خطأها ... وضعها الوهمي كأم في عالم لا أنتمي إليه جعلها تخطئ الحكم , كانت صغيرة لم تفهم بعد حقيقة الأمور , كانت صغيرتي التي أمام عينيها كبرتُ وتعلمتُ فكبرتْ معي وتعلمتْ ... وعندما تعلمت , فهمت ووعت خطاها فاعتذرت عنه دون أن تتكلم , وباركت كل ما أحسّت ورأت كل السنين التي خلت , ولا تزال .
منذ سنوات تزوجت ابنة سارة , -طبيبة النفس- كأمها ... كانت في السابعة والثلاثين , قالت لسارة أنها لا تريد رجالا لكن تريد طفلا ...
قالت لي سارة أنها ودّت لو كان ذلك الولد منّي , فأجبتها أني لأجلها أستطيع فعل ذلك لكن ابنتها لن تستطيع تحمل الأمر , ويكفيها ما تحملت طيلة عشرين سنة خلت وما ستتحمل مستقبلا ...
هل حقيقة تجاوزنا كل الحدود ؟ لا أرى ذلك , الخطوط الحمراء لا يحددها لنا الآخرون بل نحن من نفعل , من قبل بمحظورات غيره جهل الكثير وربما خسر كل احتمال أن يعيش ما لم يخطر على بال بشر .
لا تزال ماما أرملة لم تعرف رجلا بعد بابا , لا تزال سارة متزوجة ولم تطلق ... ولا تزال النساء تركب قاطرتي وتنزل في المحطة الموالية ... لا أحد منهن يستطيع البقاء , ليس ذلك لعيب فيهن , بل فقط لأن البقاء شأن الملائكة والقديسات : أحبكِ مَلَاكْ , أحبكِ سارة .
#أمير_بالعربي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟