بشير الوندي
الحوار المتمدن-العدد: 6267 - 2019 / 6 / 21 - 12:05
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
مدخل
-------------
لكل دولة نظم وآليات للاستشعار ولصناعة القرار , فقرارات الدولة الهامة لايمكن الركون الى اصدارها والمضي بها مالم تتوافر لها معطيات حقيقية يتم الاطمئنان الى صحتها ودقتها .
والامر ينطبق هنا على الدولة اياً كان نظامها السياسي سواء كان دكتاتورياً او ديموقراطياً , حيث تتولى الاجهزة الاستخبارية رفد سلطة القرار بتحليلاتها التي توضح المخاطر والمعلومات الرئيسية والاقتراحات , وتحدد مدى جديتها وخطورتها , لتصنع لسلطة القرار السياسي نافذة واضحة المعالم تستطيع التصرف واتخاذ القرارات إزائها.
الا أنّ الامر ليس بتلك السلاسة دوماً , فليس كل شيء في الدنيا يبدو اسوداً وابيض , وكثيراً مايحصل الارتباك او الخطأ الجسيم في اتخاذ القرارات من خلال تصادم المعطيات او الارادات او الاهداف بين الجهاز الاستخباري وسلطة القرار , وهو مانعنيه هنا بتضارب التحليلات .
-----------------------
الصراع والتخبّط
-----------------------
مما لاشك فيه , انه مامن سلطة قرار او جهاز استخباري يحب الفشل او يسعى اليه عمداً , الا أن القناعة بالتفرد بإمتلاك الحقيقة والصواب هي في الغالب من أول مؤشرات الفشل غير المتعمد , ويزداد خطر تلك القناعات الوهمية في القرارات المصيرية التي تؤدي بالبلدان والشعوب الى التمزق وانهار الدماء كقرارات الحروب او اهمال مؤشرات المخاطر الجسيمة .
ان الوقوع في مخاطر تضارب المعطيات ناتج من اسباب عديدة منها :
1- العجز والضعف الاستخباري الذي ينتج عنه تصورات مشوشة او انذارات كاذبة تشل قدرة النظام السياسي عن اتخاذ قراره المناسب , وقد يعرض الدولة الى مخاطر جسيمة , ومثال ذلك ضرب الجيش الياباني لميناء بيرل هاربر في الحرب العالمية الثانية بسبب عجز الاستخبارات الامريكية عن الاحاطة بالتحركات المشبوهة للاسطول الياباني والتي كان عليها في هكذا وضع توقع الاسوأ والبناء عليه بدلاً عن الاستسلام بتلقي الضربة .
2- غطرسة رأس سلطة القرار السياسي والتي قد تؤدي الى تجاهل اجراس الانذار التي تطلقها الاجهزة الاستخبارية , وهو أمر تزداد نسبته في الانظمة الشمولية والدكتاتورية , وإن كان حدوثها في الانظمة الديموقراطية ليس مستحيلاً ,لاسيما في الانظمة الرئاسية , ومثال ذلك اصرار صدام على دخول الكويت والتبعات المدمرة لكافة التحذيرات من خطورة تلك الخطوة بالتزامن مع انهيار الاتحاد السوفيتي.
3- تضارب تقديرات وقلة تنسيق الاجهزة الاستخبارية المتعددة في تقديراتها وتحليلاتها وتحضيراتها , مما يؤدي الى تصادم المؤشرات والرؤى , ومثالها دخول كبار منفذي 11 سبتمبر (كخالد المحضار ) الى الولايات المتحدة الامريكية بفيزات تمت الموافق عليها من الأف بي آي بل ووجود اسمائهم بدفتر السجل البريدي كمقيمين وبعناوينهم وارقام تلفوناتهم واسمائهم الحقيقية , رغم ان السي آي أي كانت تتبع هؤلاء وتطاردهم لكنها فقدت اثرهم في ماليزيا.
4- ايقاع العدو اجهزة استخبارات البلد المستهدف في خديعة كبرى وتمويهات تجعل الاجهزة الاستخبارية تلك تصل الى نتائج غير حقيقية وتنقلها الى سلطة القرار بإعتبارها نتائج مؤكدة , ومثاله خداع الحلفاء لإستخبارات المحور حول انزال النورماندي في الحرب العالمية الثانية , حيث فبركت اجهزة استخبارات الحلفاء وثائق مزيفة بخطة محكمة جعلت الاستخبارات الالمانية تخطيء في تحديد منطقة انزال الحلفاء في الساحل الفرنسي النورماندي وتقدّر منطقة اخرى بعيدة عن الحقيقة.
5- القناعات والنوايا المسبقة التي تتخذها سلطة القرار والتي تلوي معها الحقائق الاستخبارية وتكذبها وتسيِّرها لمصلحة اهداف معدة مسبقاً , مهما خالفتها التقديرات الاستخبارية فيها , ومثال ذلك اصرار ادارة بوش على وجود صلة بين نظام صدام وتفجيرات برجي التجارة في سبتمبر 2001 واجبار الاستخبارات الامريكية بإيجاد صلة ما بين الاثنين بسبب قناعات مسبقة في الاهمية الاستراتيجية لغزو العراق .
6- اعتماد سلطة القرار على تقارير ومخرجات وتحليلات من خارج الجهاز الاستخباري الوطني وعدم ثقتها بتقارير الاجهزة الاستخبارية التقليدية لاسيما في الانظمة الدكتاتورية التي تمتاز بالشك بكل مايردها تحت هاجس الانقلاب على السلطة , فتعمد الى ايجاد قنواتها المقربة الخاصة التي كثيراً ماتوقعها بتقديرات خاطئة خلافاً لرأي الجهاز الاستخباري , ومثال ذلك اهمال ستالين للتحذيرات الصريحة والتحليلات التي تؤكد ان الهجوم الالماني وشيكاً في الحرب العالمية الثانية , لكنه كان متيقناً من كذب تلك التقارير وانها من صنع المخابرات البريطانية وعاقب كاتبي التحليلات لقناعته من ان الغزو سيأتيه من اليابان .
---------------------------------
الدكتاتورية فوق التحليل
----------------------------------
ان ملاحظة النقاط الست التي تؤشر لخلل آليات تحول التحليلات الاستخبارية الى قرارات ومخرجات صائبة , يشير بوضوح الى ان القصور في القرارات الاستراتيجية يتحمله الطرفان , سلطة القرار والاجهزة الاستخبارية , وان من الواضح ان النزعة الدكتاتورية للسلطة او للحاكم لها دور كبير بتعريض البلدان الى المخاطر.
فمن الخطأ تصور البعض ان الاجهزة الاستخبارية تعمل في النظام الدكتاتوري بشكل افضل وتؤثر اكثر على دقة القرار السياسي مقابل عجز الاستخبارات في النظام الديمقراطي , لأن المؤسسة السلطوية المستبدة لا تدار بالقانون والواجبات والاهداف بل تدار حسب القرب والبعد من الحاكم , وانها تفرض رؤاها المسبقة على ماتراه من خطوات وقرارات وتجعل من الاجهزة الاستخبارية مطية لها .
وفي تلك الحالة , لاترغب السلطة الدكتاتورية او النزعة الدكتاتورية للحاكم في سماع وجهات نظر وتحليلات تعاكس تصوراتها , مما يقوي نزعة التملق لدى العاملين في الجهاز الاستخباري ويجعلهم يعملون على تضخيم أية معطيات تؤيد توجه السلطة ويُسمعون سلطة القرار ماتحب ان تسمعه .
كما أن السلطة الدكتاتورية تكون مرتابة ولاتثق لافي جيشها ولا أجهزتها الامنية او الاستخبارية وتحصي عليهم انفاسهم , وغالباً ماتخشى من تآمر تلك الاجهزة وانقلابها , فاتعمد اما لتسليط اعوانها ومقربيها ليتحكموا بالاجهزة الاستخبارية على اساس تغليب الولاء على الاداء مما يؤدي الى تفاقم الفشل , أو ان تشكّل جهازها الاستخباري الخاص بها والذي تعتمد على تقاريره حتى لو تضارب مع التحليلات الرصينة للاجهزة الاستخبارية المحترفة (انظر مبحث ١٣٢ الاستخبارات وشكل السلطة).
--------------------------------------
الديموقراطية والاستخبارات
--------------------------------------
على عكس النظام الدكتاتوري , فإن الانظمة الديموقراطية تتميز بتنوع واستقلالية السلطات والرقابة والمسائلة , كما تتميز بوضعها لمساحات واضحة للتخصصات ومنها الاجهزة الاستخبارية .
كما ان الانظمة الديموقرطية تتميز بالاستقرار السياسي وتبادل السلطة مما يبعد الضغوط النرجسية السلطوية عن كاهل الجهاز الاستخباري , ناهيك عن نزعتها الى العقلانية والابتعاد عن التهور في اتخاذ القرارات ورغبة الحزب الحاكم فيها الى النجاح ليعاد انتخابه , مما يبعدها عن المغامرات ويضعها تحت المجهر الرقابي .
----------------------------------
الاستشعار وليس التطابق
----------------------------------
أياً كان شكل النظام , فإنَّ الاجهزة الاستخبارية لابد ان تكون لصيقة برأس النظام وسلطة القرار , لأن الجهاز الاستخباري , برغم من انه متلقي للأوامر , الا انه المسؤول الاول عن الاستشعار الذي لابد من ان يكون قريباً بسلطة القرار السياسي,
ولكي يؤدي الجهاز الاستخباري دوره في الاستشعار بالمخاطر لابد من ان يكون عين القيادة ولايحق لأحد ان يغمضها او ان يضع عليها نظارات بلون معين , لأن الفشل الاستخباري يكون ذريعاً حين يسعى الاستخباريون الى التعامي او التهويل ارضاءاً للسلطة , وحين تسعى السلطة للتأثير على الاستشعار الاستخباري بالخطر .
واي اخلال بتلك المعادلة سيؤدي الى خسائر هائلة كالتي ادت الى تعنت ستالين في صم آذانه عن استشعار استخباراته بالخطر الالماني فكانت النتيجة تدميرات هائلة وملايين القتلى .
ومن هنا فإن الاجهزة الاستخبارية المحترفة تراقب ابن الحاكم واصدقاء ابن الحاكم واقرباءه وعائلته والمقربين من الحاكم وقادة الحزب الحاكم , ولايجوز منعها وانتقاء الاهداف بالنيابة عنها .
ان تمكين الاجهزة الاستخبارية بالإضطلاع بمهامها ليس نهاية المطاف لتجنب المخاطر المحدقة وإنما هو بداية الطريق ليقوم الجهاز الاستخباري بدوره وتحمل المسؤولية .
فلابد من توافر المصادر الاستخبارية والرصد الدقيق والمثابر والكفاءة في تحليل المعطيات والمعلومات والاشارات , فتوافر كم كبير من المعلومات في ظل غياب التحليل الدقيق لها يؤدي الى التخبط , بينما عدد اقل من المعلومات المتناثرة يمكن ان يؤدي الى انتاج استشعار واضح ودقيق لو توافرت القدرة الفائقة على التحليل
ففقدان التحليل الصحيح لايعود بالضرورة لقلة كمية المعلومات , او بمعنى ادق فإنَّ براعة التحليل الاستخباري لاتعوض عن نقص المعلومات فقط , وإنما تساهم بشكل كبير في توجيه المصادر للنقاط المطلوب استكمالها لفهم ما يجري.
----------
خلاصة
----------
تعاني البلدان الدكتاتورية والمتخلفة من اضطرابات ومخاطر وحروب على مر التاريخ بسبب القرارات المتهورة وعدم التنبه للمخاطر , وهو امر يقودنا الى ثنائية السلطة والاستخبارات , فارتباك القرارات المصيرية اما نتيجة عجز استخباري او نتيجة التصادم بين ارادة او مزاج السلطة الحاكمة والاجهزة الاستخبارية . فالانظمة الدكتاتورية والمتخلفة كلاهما مصابتان بالتهور والنرجسية التي تمنعهما من تقبل مايعتبرونه توجيهات استخبارية تنتقص من شخصية الحاكم .
كما ان الكاهل الاكبر يقع على الاجهزة الاستخبارية التي حين تكون ضعيفة وصاغرة وبكفاءة محدودة فإنها ستكون مشوشة في استشعاراتها او محابية او ان تحليلاتها ضعيفة . كما يجر على البلدان ويلات نراها كل يوم من حولنا , والله الموفق
#بشير_الوندي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟