|
اليارد -قصة قصيرة-
طارق ناجح
(Tarek Nageh)
الحوار المتمدن-العدد: 6264 - 2019 / 6 / 18 - 04:31
المحور:
الادب والفن
كان يوسف قادماً من قريته الكائنة في البر الشرقي للنيل في شمال الصعيد ليكمل تعليمه الجامعي بجامعة حلوان .. لقد رحل والده ورفيقه و صنو روحه و هو في عامه الأخير من الثانوية العامة .. لقد تركه و هو مبهور الأنفاس .. مُشوَّش الإحساس .. هل رحل حقاً أعز الناس .. لا لا .. لا بد أنه مسافر وسيعود .. فتغمره السعادة و الحماس .. وفي الأجازة الصيفية بحث عن عمل ليساعد والدته في المصاريف .. التي لا تملك سوى معاش الوالد الذي رحل في الثانية والأربعين من عمره . و قد قرأ في الإعلانات المبوبة بجريدة الأهرام عن حاجة شركة حراسات خاصة لأفراد أمن ، و لحسن الحظ فهي قريبة إلى حد ما .. فهو يسكن بمعصرة حلوان ، والشركة كائنة بشارع النادي بالمعادي على بعد خطوات من عرب المعادي .. إنه صيف عام 1997م .. كان لايزال في جيبه بضع جنيهات قليلة توشك على النفاذ ، و أيام قليلة و يَحِّل أول الشهر ، و يَحِّل معه دفع إيجار الحجرة التي يَقطُن بها ، و هو ما لا طاقة له به .. فمن أين له بخمسة و عشرون جنيهاً . و لكن يبدو أن دعاء والدته مُستَجَاب .. فقد حصل على وظيفة كفرد أمن ضمن مجموعة من زملائه على " يارد" سابسكو " شركة صحارى للخدمات البتروليه " في زهراء المعادي ، و يستطيع الإقامة بالمكان أيضا . لقد كانت زهراء المعادي تخطو خطواتها الأولى نحو العمران .. كان " اليارد " كما يطلقون عليه وهي كلمة إنجليزية "Yard" و تعني " الفِناء " عبارة عن قطعة أرض تبلغ حوالي ثلاثة أفدنة من الأرض ( بلغة قريته ) أو بمعنى أخر حوالي 12600 متر مربع ، محاطة بسور له بوابة رئيسية من الركن الجنوبي الغربي و أخرى ثانوية في الركن الشمالي الشرقي و مبنى إداري تحت الإنشاء في الركن الشمالي الغربي ، بمحاذاة السور في الجانب الشرقي توجد كرڤانات المهندسين و الإدارة ، و باقي المساحة مكتظة بالمعدات و السيارات و رغم ذلك فإن سائقي سيارات النقل الكبيرة ذات المقطورة كانوا على رجة عالية من المهارة بحيث يدخلون اليارد و يخرجون منه بسلاسة ، بل و كانت الإدارة تشترط لتعيين السائقين أن يدخل اليارد و يخرج منه ليثبت مهارته . كانت الكهرباء لم تعرف طريقها بعد للمكان . فكانت الموَّلِدات التي تعمل بالجازولين ، تعمل طوال النهار لتشغيل التكييفات و المعدات و الأجهزة ، ومع غروب الشمس تتوقف الحياة و أيضاً المولدات . فيغرق المكان في ظلمة الليل أو في ضوء القمر في الليالي القمرية . هناك إلتقى آسر إبراهيم .. شاب في الثامنة و العشرين من عمره .. عائد منذ بضعة شهور من الأردن خالي الوفاض بعد عام قضاه في العاصمة عَمَّان . إنه مغترب أيضاً عن أهله القاطنين بإحدى مدن شمال الصعيد . حصل على مؤهله المتوسط منذ عشر سنوات ، و بعد تأديته خدمته العسكرية .. أخذت الأيام و الشهور و السنوات تنفرط منه كحباتِ الِعقد بين الجلوس على المقهى ، البحث عن عمل ، و العمل بوظائف تُدر عليه دخل لا يكفي حاجاته الضرورية و غير الضرورية ، و إن كانت من وجهة نظره هو ، ضرورية أيضاً . و لكن ما لفت إنتباه يوسف هو أَنَّ آسر يحيا حياته بالطول والعرض ، و كَأَنَّه أحد أمراء الخليج أو كأنَّه السلطان حسن البُلقية .. سلطان بروناي .. يشتري الكتب و الروايات لنزار قباني و إحسان عبد القدوس .. و يشتري ملابسه على الموضة من وكالة البلح بحي بولاق أبو العلا .. و أحذيته ماركات مِن " قَرْفَصْ " بحلوان ( حيث على الزبون أن يجلس القرفصاء ليختار حذائه من الأحذية المستخدمة المعروضة على الرصيف ) . كان في حياته سيدتان أو بِمعنَى أدق فتاة و سيدة ، و كلاهما على النقيض . الفتاة أرستقراطية من سُكَّان المعادي و السيدة شابة متزوجة من سُكَّان البساتين . كان أحيانا كثيرة لايوجد في جَيبِهِ إلا بضع جنيهات و قد لا توجد أصلاً ، ولكِنَّهُ يرتدي ملابِسهُ و يتأنَّق ، يُلَمِّع حذائهُ و يتَعَطَّر مُتجهاً لميدان الحُريَّة بالمعادي ليقابِل حبيبته " الفتاة " ليسيرا سوياً على كورنيش المعادي . كان آسر يعيش بالحُبِّ و للحُبِّ ، و هو لايتحَدَّث أبداً عن علاقته بالفتاة أو الشابة المتزوجة ، فعلاقته بهما هي سِرَّهُ المكنون . كان هو الوحيد من وَرديَّة الليل الذي يَظَلُّ مُتيَّقِظاً حَتَّى الصباح ، مُتَجَوِّلاً في أنحاء "اليارد" كشبحٍ يبحَثُ عن خِلَّه في دياجير الليل مُرَدِدَاً مع شاعرنا الكبير فاروق جويدة :- اريدك عمري تعالي اعانق فيك الليالي فلم يبقى للحن غير الصدى وآه من الحزن ضيفا ثقيلا تحكم في العمر واستعبدا فهيا لنلقيه خلف الزمان فقد آن للقلب أن يسعدا اذا كنت قد عشت عمري ضلالا فبين يديك عرفت الهدى هو الدهر يبني قصور الرمال ويهدم بالموت ماشيدا تعالي نشم رحيق السنين فسوف نراه رمادا غدا كانت الشابة المتزوجة دائمة الإتصال به ليلا على تليفون " اليارد" الأرضي و الذي كان يتم غلق قرص الأرقام به بقفل حَتًّى لا يستخدمه أحد في الإتصال . فلقد كان التليفون المحمول في شهور الحمل الأولى .. فقد خرج للدنيا و تم بث الخدمة عام 1998م لرجال الأعمال و أصحاب الملايين الذين يستطيعون شراء خط بآلاف الجنيهات في ذاك الوقت . و قد كانت هذه الآلاف القليلة ثروة طائلة بالنسبة لمحدودي الدخل . و ذات ليلة و هُم مُجتمعين بغرفة الحراسة بالبوابة الرئيسية لشرب الشاي و تناول العشاء .. الذي كان عبارة عن بعض الخبز و الجبن بالنسبة للمغتربين أمثال يوسف و آسر . كان الخمسةُ أشخاص الموجودين بالغرفة .. يوسف ، آسر ، حسن ، سعيد ، و خامسهم جلال ..رئيس الورديَّة يتبادلون أطراف الحديث حول أَنَّهُ كيف شركة الأمن تتقاضى من شركة البترول ألف جنيه عن كل فرد أمن شهرياً بينما تعطيه راتب 250 جنيها فقط . و قد كان جلال "جاويش" على المعاش ، شَاَب منه الشعر ، و لأنه متوسط الطول ، فمازال يحتفظ ببعض اللياقة البدنية . و لكن حدث ما جعلهم يتأكدون أنه ليس لديه أي لياقة أخلاقية ، و أنه عجوز مُتصَابي . لم تستطيع عشرات السنين و الشعر الأبيض أن تُضفي عليه شئ من الوقار و رجاحة العقل . فقد علا صوت رنين التليفون مُعلناً أنه يوجد شخص ما على الطرف الآخر يريد محادثة أحدهم . و لأن جلال كان جالساً على المكتب ، رفع السماعة . كانت على الطرف الآخر الشابة المتزوجة ، تريد محادثة آسر كالعادة . و لكن فوجئ الحاضرين برد فعل جلال عندما قال لها :- - مينفعش أنا .. هنا ثارت ثورة آسر ، فأنتزع السماعة من يده و أنهى المكالمة ، مُعَنِّفاً جلال ، و كأنه طفل أتى أمراً إدَّاً :- - إنت راجل قليل الأدب و مش محترم .الست دي مِش عاهرة .. و لو عاهرة ، فهي عاهرتي أنا بَس .. فاهم .. لولا إنت راجل كبير .. أنا كنت عرفت أرد عليك كويس . لم ينطق جلال ببنت شِفَّة و حاول يوسف ، حسن ، و سعيد تهدئة الأجواء . أخرج يوسف سيجارة من جيبه و أشعلها مُعطياً إياها لآسر جاذباً إياه من ذراعه ليبتعدا عن المكان . مرَّت شهور الصيف و ربما الخريف أيضاً .. فشهر أكتوبر قارب على الإنتهاء و على يوسف العودة إلى كُليَّتَهُ . ذهب إلى مقر الشركة لأخذ باقي مستحقاته ، و قد وجد آسر قد سبقه لأخذ سلفة كالعادة . تعانقا على أملٍ بلقاء ، و لكن متى حققت الدنيا آمالنا . لابد و أنه بعد مرور كل هذه السنوات أصبح في الخمسين من عمره . ترى ماذا يفعل الأن .. يجلس وقت الغروب في شُرفَةِ منزله يحتسي الشاي و يُدخِّن سجائره المُفَضَّلة .. و يسرح بنظره بعيد مع الأفق مُتذكراً تلك الأيام الخوالي عندما كان يتجوَّل طوال الليل بـ " اليارد "
#طارق_ناجح (هاشتاغ)
Tarek_Nageh#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مالك يا صاحبي
-
الصداقة هيَ -الشُعْلَة- التي تنير حياتنا
-
يوسفً السباعي .. الفيلسوف الذي أصبح فارس الرومانسية
-
حادث -موتو .. سهل-
-
عاطف الطيب .. و الشرس .. و الجميل
-
لَا أَسْتَطِيعُ العَيْشَ بِلَا نِسَاءٍ
-
إبن الخال
-
يوميات زوج مطحون
-
حبك فاق الإحتمال
-
في دراما رمضان : كثير من العنف .. قليل من الحب
-
بروس لي .. الأسطورة و الحلم
-
أبوكم السقا مات
-
عمارة يعقوبيان
-
الحلم مستمر
-
سائق الميكروباص (1)
-
على ضفاف نهر الحب (5) و الأخيرة
-
جعلوني مجرماً … تشريد 53 أسرة وإهدار مايقارب 15 مليون جنيه
-
جيت لي .. قلب مجهد و أسطورة لن تموت
-
على ضفاف نهر الحب (4)
-
على ضفاف نهر الحب (3)
المزيد.....
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|