أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - محمد السعيد دوير - لماذا خسر اليسار المصري ؟















المزيد.....


لماذا خسر اليسار المصري ؟


محمد السعيد دوير

الحوار المتمدن-العدد: 1542 - 2006 / 5 / 6 - 09:31
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


أهم ما في انتخابات البرلمان المصري الأخيرة من دروس هو بعدها الحضاري الذي يجب أن يكون ماثلا في مناقشاتنا، ومدي تأثيره في المناخ السياسي والعقل الجمعي للأمة, وما قد يتركه من آثار سلبية علي الصعيد التقدمي والحداثي والتنويري . إن تاريخ الأمم دائما ما يمر بلحظات فارقة وأحداث بارزة تلعب دورا أعظم من حجمها الطبيعي فتكون ذات صلة مباشرة بتمكين حالة ايجابية أو سلبية في حياة البشر , واعتقد أن هذه الانتخابات قد كشفت عن مضمون جديد وتركيبة سياسية مختلفة عن كل ما سبقها في النصف الثاني من القرن العشرين. الأمر الذي يدفعنا إلي ضرورة تقدير المتغيرات الجديدة حق قدرها والوقوف علي مكوناتها وبنيتها أكثر من النظر في أطلالها وظواهرها ، فمناقشة عدد وقدرات وإمكانيات المرشحين, ومدي تجاوب ومساندة قوي اليسار لهذا أو ذاك ..الخ من تلك التفريعات- التي لا نقلل من أهميتها بالطبع- لن يفضي إلي نتائج ملموسة لان المؤشر لا يتجه هذه المرة صوب هذا المعني ، فالذي حدث تخطي حدود البرلمان المصري واستقر مباشرة في تهديد نضالات ومنجزات قرنين من التنوير والتطور الاجتماعي . لأننا إزاء ردة حضارية ترتدي ثياب الخديعة ، وأمام تقاليد مستحدثة في كيفية إدارة و مباشرة الحقوق السياسية تقوم علي فكرة المناصرة والتمكين وعلي تحركات أفواج من البشر تدفعها عقلية استبعادية ويسيطر عليها معتقد معادي للديمقراطية وحقوق المواطنة . فنحن الآن في مرحلة انتقال من حزب حاكم يبيع الوطن لأعدائه إلي تيار لن يتردد في بيع التاريخ والجغرافيا والحضارة والعلم والمعرفة والفكر والثقافة والحرية والمواطنة والمدنية والتنوع والاختلاف والتسامح الديني. وفي مرحلة صراع الحدود مع السلطة و صراع الوجود مع السلفية السياسية ، ومن السعي للمستقبل إلي الإمساك باللحظة الراهنة خوفا من منطق الاسترداد .
بيد أن كل مناقشة ينبغي تطرح تساؤلاتها ذات الصلة , والمتعلقة في بعض منها – علي الأقل – بطبيعة القضية المطروحة . وهنا نتوقف أمام تساؤلين هامين في هذا الصدد , فالسؤال الأول : ما هو الإطار السياسي والتاريخي لانتخابات 2005 ؟ والسؤال الثاني : لماذا خسر اليسار المصري ؟ ولكن قبل الإجابة علينا أن نسجل ملاحظتين هامتين في هذا الإطار :-
1- إذا كان القرن التاسع عشر مديناً للعام 1805 - عام تولي محمد علي حكم مصر - بما طرأ علي المجتمع المصري من بناء دولة حديثة امتلكت مقومات الفعل الحضاري . وكان القرن العشرين مديناً أيضا للعام 1905 -عام وفاة محمد عبده - في بداية انطلاقة تلاميذ الأستاذ الإمام لتأسيس مشروعات وطنية معاصرة شكلت وجدان المجتمع ثقافيا وفكريا ومعرفيا . فان القرن الحادي والعشرين مدين للعام 2005 باحتمالات عديدة, معظمها سلبي يتمثل في ملامح ردة حضارية وانتكاسة فكرية ، وبعضها ايجابي يحتوي في مضمونه علي إمكانية حراك ديمقراطي شعبي ووعي جماهيري وإعادة تشكيل المكون السياسي من جديد وفق أسس مستقبلية .
2- أن الانتخابات الماضية جرت في ظل مناخ الأزمة ، تمثلت تلك الأزمة علي المستويين النظري والعملي - لدي التيارات الاشتراكية والقومية والليبرالية - , وعلي المستوي النظري لدي التيار الإسلامي , وقد يشهد المستقبل القريب دخول هذا التيار في أزمة عملية . إذن, شكل هذا المناخ مفردات مجمل العملية الانتخابية التي بدأت مع تعديلات المادة 76في فبراير 2005 إلي المرحلة الثالثة للانتخابات ديسمبر2005 . وهو ما انعكس بالضرورة علي كافة تفاصيل الممارسة الانتخابية التي أفرزت حالة غريبة جديرة بالتأمل, وهي التنافس بين ثلاث فئات رئيسية الفئة الأولي: تمثلت في الحزب الحاكم وروافده, والفئة الثانية: الأخوان المسلمين التي منعهم النظام المصري من حق الوجود الشرعي ومنحهم حق الوجود الفعلي والفئة الثالثة: أحزاب المعارضة المصرية والتي منحها النظام المصري حق الوجود الشرعي ومنعها حق الوجود الفعلي .
أما عن الإطار السياسي والتاريخي للانتخابات السابقة, فيمكن القول أن الانتخابات البرلمانية قد جرت علي خلفية المشهد التالي [ نظام عالمي أحادي يفتقد للمشروعية الدولية ويسعى لتدمير الحضارة الإنسانية القائمة علي التعددية الثقافية, ويدمر الموارد البشرية, وينحاز بصورة سافرة لكل ما هو لا إنساني ، الأمر الذي يعزز من فرص نشوء وتنامي تيارات شعبوية محلية متطرفة تحقق علي المستوي العاطفي رغبات الأمم ودوافعها في المقاومة - كيان عربي منهار يسعى بكل جهده للخروج من التاريخ لتبقي المساحة الشاغرة بين الأنظمة العربية وشعوبها تنتظر من يختزلها أو يملؤها - نظام حكم سلطوي أفسد كل شيء في الحياة ، وفشل في تحقيق الحد الادني من مقومات وجوده, وحقق قدرا غير مسبوق من عداء شعبي وجماهيري - تنظيم ديني عالمي يمتلك مقومات مالية ودوافع شخصية وقدر هائل من حرية الحركة ويسيطر " بدعم حكومي " علي النقابات والاتحادات الطلابية والمساجد وكافة منافذ الوطن - سلسلة لا نهائية من القوانين المقيدة للحريات - تحجيم مستمر لحركة الأحزاب ..الخ ] باختصار ، لقد لعبت الظروف الموضوعية دورا بارزا وحيويا في حالة الاستنفار الشعبي ضد النظام ومع الأخوان المسلمين كفصيل سياسي يبدو أمام رجل الشارع انه مؤهل , علي الأقل , لإحداث حالة من التشبع لدي المصريين في التعبير عن سخطهم علي النظام القائم ، ولا يمكن لأي محلل سياسي أن يتغافل اثر هذه العوامل في تشكيل خطاب سياسي متطرف بشكل عام يلخص صيحة الإحساس بالظلم بغض النظر عن إمكانية الحل من عدمه . الأمر الذي يدفعنا إلي إعادة طرح السؤال بصيغة جديدة . إذ كيف أمكن لبعض اليساريين أن يصعدوا لمقعد برلماني في ظل تلك الردة الحضارية التي تعيشها الأمة ؟. وفي ظل حالة انتحار جماعي تسيطر علي شباب العالم العربي تعبيرا عن فشل التجارب السياسية الكبرى في التاريخ العربي الحديث ؟..
ومن هنا يمكن القول بأننا لو أردنا أن نضع المعاني في ألفاظها والدلالات في إشاراتها فقد يجوز القطع بأنه الآن تكتمل الملهاة السياسية لمسرحية طولها الوطن وعرضها مستقبله , فخسارة خالد محي الدين تحمل مضمونا أكبر مما يبدو علي سطح الحياة السياسية لأنها إعلان مباشر عن لحظة اختفاء المشروع الوطني المؤسس علي مباديء وطنية ،وتراجع النضال وفق معاييره المحلية واستبداله بنوع أخر قروسطي يخلق نضالا ته بناء علي أسس دينية غير ثورية، فقد كانت دائرة كفر شكر الميدان الذي جرت علي أرضه معركة ضلت طريقها للقرن الواحد والعشرين بين الرأسمال المتأسلم وقوي التحرر الوطني ، إنها امتداد حي للصراع العلوي/ الوهابي ,أو الناصري/ السعودي, أو بين مرحلة أفل نجمها عالميا ومرحلة أخري تتهيأ لاحتلال موقع الصراع . إن نهج المقاومة التي بدأتها ثورة يوليو مع الإمبريالية العالمية تستبدل الآن في صورة جديدة من الصراع مع الثيوقراطية متعددة الجنسيات المطروحة اليوم علي الساحة العربية لتبدأ مرحلة جديدة من السجال الوهمي بين وجهي عملة واحدة تشابها في الاستراتيجية واختلفا في التكتيك , واتفقا معا في الموقف من تهميش دور الدولة في التنمية ,ومعاداة ثقافة المقاومة الوطنية ,وتجاهل المشاركة الشعبية الحقيقية , وفي الموقف من المرأة والأقباط , واعتماد الخطاب السياسي الموجه من اعلي كأداة للحركة, والنيابة عن الجماهير واحتكار المعرفة وأسرارها والتسلط علي الوعي , فكما هاجمت السلطة الوجوه المبدعة , شن الأخوان هجوما شديدا علي الوجوه التقدمية , واتفقا معا في معارضة الحركة الوطنية والفن الهادف والديمقراطية الشعبية .. وحتى سعاد حسني !! وتقاسما ثروة الوطن , واستقوي النظام الحاكم بالأمريكان في تثبيت أركان حكمه واحتمي الأخوان بدول النفط لتشكيل جدار عازل يحميهم من الانقراض . ووقعنا بين ثنائية فتاكة رئيس الدولة / المرشد العام , لجنة السياسات / مكتب الإرشاد , مشروع جمعية رجال الأعمال / شركات توظيف الأموال , محاكم امن الدولة/ قانون الحسبة , فكرة التوريث / الخلافة .... الخ . إننا في حقيقة الأمر نواجه نظاما واحدا بجسدين , أحدهما يتخذ الزى الرسمي والقانوني عنوانا له والأخر يتشح برداء الحقيقة المطلقة , الأول يفرز دولة بوليسية لا تتورع عن استخدام الدين" رجال الأزهر " في تدعيم نهجها البوليسي, والثاني يؤدي حتما إلي دولة دينية لن تترد في استخدام النهج البوليسي " جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " في تدعيم نهجها الديني .
ففي ذات اللحظة التي تتصاعد فيها حركات الاحتجاج ضد السياسات الأمريكية وثقافة الكاوبوي وهمجية العولمة الاقتصادية, وتحقق أمريكا اللاتينية مكتسبات غير مسبوقة في التحرر من الرأسمالية المتوحشة والاتجاه نحو اليسار الديمقراطي , في تلك اللحظة التاريخية, يتراجع اليسار العربي بفعل الآلة الأمريكية والصهيونية التي أفرغت براميل النفط وأفقدتنا حقنا في التنمية المستقلة , وبفعل الفكر الثيوقراطي الوهابي الذي افرغ" براميل" النضال من مضومنها الحقيقي في اتجاه قضايا فرعية أنهكت الأمة في الفروع والهوامش .
لقد غاب اليسار مع غياب القضايا الحقيقية , فمنذ انتحار المشروع القومي في 1967واختفاء المشروع الوطني في 1974دخل اليسار العربي بصفة عامة واليسار المصري بصفة خاصة في أزمة جوهرية عبرت عن نفسها بوضوح علي مستوي النخب السياسية والأحزاب بعد سقوط المنظومة الاشتراكية في 1989/1990, وتجلت مظاهرها علي المستوي الشعبي في الانتخابات الأخيرة. فلم يكن قرار الإخوان بخوض انتخابات الفئات في كفر شكر- رغم تركهم عدد من المقاعد لبعض رموز المعارضة الليبرالية والحزب الوطني- سوي وعي تام وإدراك كامل أن معركتهم الحقيقية والمستقبلية مع التيار التقدمي وقوي اليسار . إذن كانت نتائج الانتخابات مجرد تقرير حالة لوضع دولي متأزم , واختلال مروع في البيئة السياسية العالمية, ودخول أقسام كبيرة من اليسار العالمي في عملية مراجعات لم تنتهي حتى الآن . وفي المقابل كانت أيضا نتيجة لممارسات خاطئة داخل كافة فصائل اليسار المصري سواء في حزب التجمع منذ عام 1987 وحتي اللحظة الراهنة, أو في التيار الناصري بتفرعاته المختلفة أو داخل التنظيمات الماركسية بشوائبها النظرية والتنظيمية . وهو ما أدي في نهاية الأمر إلي أن أصبحنا خارج معادلة سلبية تسعي إلي قذف الوطن في حمم المجهول . وأتصور أن استمرار تلك المعادلة قد يستمر لسنوات وعقود من الزمان مالم ندرك حقيقة وأهداف التغير الجاري ونعيد إنتاج أنفسنا من جديد علي المستوي النظري والعملي, لنخرج من حالة الأزمة إلي وضع ايجابي وفعال .. ولكن قبل هذا ينبغي أن نحاول الإجابة علي السؤال الثاني, لماذا خسر اليسار المصري ؟
إن ما سبق لا ينفي بالضرورة أن أزمة اليسار كانت عاملا ذاتيا فاعلا في تراجع الوجود الوطني التقدمي, ليس فقط في البرلمان المصري ولكن أيضا في النقابات المهنية والعمالية والاتحادات الطلابية ومنظمات المجتمع المدني ...الخ . وبعيدا عن التفاصيل الدقيقة والتقييمات الفردية دعونا نبحث عن إجابات تشمل الظاهرة في قوانينها العامة وإطارها الشامل . فمنذ ثلاثة عقود من الزمان تقريبا دخل اليسار المصري أزمة شاملة, وتشكلت المرتكزات المسببة لتلك الأزمة في عناصر أربعة ليس هنا مجال تحليلها وهي 1- انحراف اقتصادي وطني خطير في اتجاه نمط طفيلي وتضخم مالي ورأسمال يتحرك في قنوات غير مرئية وغير مشروعة ، أسس هذا الانحراف لقاعدة اقتصادية امتثل لها السوق المصري والجماهير الشعبية وهي البحث الدائم عن حالة التشبع الاستهلاكي . 2- ضباب سياسي مروع أحدث خلطا بائنا في القيم السياسية والمفاهيم والتصورات ذات الصلة بالمعطيات السياسية ، ذلك الضباب جعل من الممكن قبول كافة التناقضات في تجاورها المزمن الدال علي العلة والمرض ، فالتشابه بين القوي السياسية يكاد يبتلع التمايزات الواجبة . وقد أدي هذين العاملين ( الانحراف الاقتصادي والضباب السياسي ) إلي العامل الثالث وهو 3- الهيولة المعرفية لدي المواطن المصري ومن مظاهرها اختلال المعايير في القدرة علي الحكم علي الأشياء والخلط بين القضايا والأسباب والنتائج ثم أخيرا 4- أزمة الاشتراكية العالمية التي انعكست علي مفردات الخطاب السياسي اليساري المصري ، إن اليسار وجد نفسه هنا أمام إشكالية كبري تمثلت في ضغط داخلي عبر عن نفسه في تنامي المد الأصولي وتقييد الحريات , وضغط خارجي ارتبط بتراجع قيم ونماذج الاشتراكية في العالم ومن ثم ارتد هذا علي مجمل البناء السياسي والتنظيمي الحزبي وكل ما ارتبط بهما .
تلك هي أضلاع المربع السياسي التي حاصرت اليسار المصري وجعلته- ربما لأول مرة في تاريخه- محاصرا بين نمطين رئيسيين الأول : تراجع وطني غير مسبوق علي الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والقيمي والثقافي أدارته دولة رخوة تنهار جماهيريا بمعدلات غير مسبوقة الثاني : اختفاء مروع لقوي التنوير والحداثة وتراجع الدور الوطني التاريخي لرجالات الفكر والثقافة والمعرفة . مما سهل كثيرا من مهمة التيارات الدينية. باختصار لقد افتقد النظام المصري لشرعيته الشعبية وساهم في تجهيل الجماهير من ناحية، وخرجت قوي التنوير الأساسية من التاريخ المصري الحديث منذ أزمة الجامعات المصرية عام 1954من ناحية أخري . فكانت النتيجة المباشرة أن وجد اليسار المصري - أو بعض قوي اليسار - نفسه وحيدا أمام أجندة وطنية مشحونة ومكدسة وهو غير مؤهل بحجمه الحالي ومشكلاته الداخلية لان يتبنى بعض منها ويحقق إنجازات ملموسة في سبيل حلها .وفي المقابل تنامت علي الضفة الاخري من النهر تيار آخذ في التضخم بشدة وسط بيئة اجتماعية مؤهلة بجدارة لاستقباله. ذلك كان الجانب الخارجي من أزمة اليسار المصري الذي أسهم بصورة فعالة في إنتاج حالة التراجع الشعبي الحالية ، ومن ثم كان طبيعيا أن تختلط الأوراق وتتبادل الاتهامات بين قواه وفصائله, ويذهب الكثيرون إلي مناقشة الأمور في ظواهرها المباشرة دون الخضوع لأدني درجات التحليل التي تؤسس كل فعل ورد فعل سياسي علي معطيات جوهرية وبنيوية .
فالأسباب الحقيقية لخسارة اليسار المصري تكمن خارجه بدرجة اكبر مما يعتقدها البعض ولنضرب مثالا من التاريخ الحديث لتأكيد ذلك . في عام 1950 كان الشعب المصري كله أو 85% منه يصوت لحزب الوفد , وفي عام 1956 أصبح الشعب المصري كله ، أو 90%منه يصوت جماهيريا لعبد الناصر . فماذا يعني هذا الانتقال الشعبي المفاجيء أو الذي يبدو هكذا في ست سنوات فقط؟ إن القضية الوطنية ظلت علي الدوام هي أهم مفاتيح شخصية المواطن المصري , فهل صّوت الناخب المصري لحماس في الانتخابات المصرية ؟ وهل أعرب المواطن المصري عن تضامنه مع الشعب العراقي عندما ادار ظهره لمرشحي الحزب الوطني ؟ بغض النظر عن صحة أو خطأ إحساسه التضامني. ثم السؤال الأهم هل نحن أمام حالة جديدة يمكن أن نطلق عليها حالة تحكم المزاج العام لدي المصريين في الانتخابات ؟ لقد كانت أسباب الزحف الجماهيري علي الصناديق الانتخابية في دمنهور ومدينة نصر والدقي, علي سبيل المثال,تتعلق بأي شيء إلا معيار الكفاءة البرلمانية... علي أية حال تظل كافة الإجابات معلقة علي صدر المستقبل القريب وربما البعيد أيضا . ولنحاول الآن البحث من جديد في أسباب الخسارة داخليا .
لقد وجد المرشح اليساري نفسه مع بداية المعركة الانتخابية في موقع المدافع عن فكرة الدولة المدنية ذاتها وعن مستقبل العمل المدني، بل وعن المشروع الوطني في النضال برمته منذ تجربة محمد علي حتى الآن, مرورا بمحمد عبده وسعد زغلول والتجربة الناصرية والفشل القومي المتتالي وانتهاء بفاعلية أحزاب اليسار المصري في مواجهة التحديات المباشرة علي الأمة ومدي قدرتها علي تلبية حاجات المواطنين الإنسانية والاجتماعية , نعم انه إيحاء باختلال في التركيبة المفاهيمية لدي الكثيرين ساهم فيه بالطبع عملية التحريف واسعة النطاق التي قام بها التيار الإسلامي لمفهوم النضال وعملية تربية وتثقيف الجماهير من خلال ثلاثية ( السيف والمصحف والمال) . ومن ثم بدت المعركة وكأنها تدور بين عقلين متنافرين ومنهجين متعارضين , عبر عن أحدهما التيار السلفي الذي يمتد من ابن عبد الوهاب و رشيد رضا والمودودي وحسن البنا وسيد قطب يتضامن معه في ذات العقلية الاستبعاديةالاتجاه السلطوي بكل ما يحمله من قيم معادية في مقابل التيار التقدمي الوطني بما يحويه من قيم إنسانية لم يكن هناك الوقت الكافي لتأسيسها من جديد , فبدا الأمر وكأنه صراعا غير متوازن بين قوتين يلعب الواقع مع الأولي وينحاز المنطق إلي الثانية .
إن هذا الأمر اشعر مرشحوا اليسار المصري ، ربما لأول مرة ، بحالة من الاغتراب الجماهيري و كأن الناس ليست هي الناس ومستوي رد الفعل والاستجابة ليست كما عهدناها من جماهيرنا . مما أدخلهم في مرحلة تشتت ذهني وحركي وفي بعض الأحيان إلي استسلام ويأس مطبق, وهنا يكون من الطبيعي أن يعود المرشح مرة أخري إلي حزبه ويلقي عليه باللوم جراء عدم مساندته أو نتيجة خطابه السياسي المتراجع , علما بان القضية أكبر من تراجع أو تقدم الخطاب السياسي للحزب، لأننا نتعرض لضغط إيديولوجية جديدة تتحرك من التاريخ إلي الجغرافيا نحو العالم العربي الذي أفقدته أنظمته كل شيء حتى الرغبة في الحياة . ساهمت تلك الهجمة الطائفية في إعادة تنميط الجينات السياسية لشرائح كبيرة من المجتمع وخلقت مناخا عدائيا عاما أثر بصورة فارقة علي مرشحي قوي اليسار بصفة عامة .
إذن خسر اليسار المصري ، ليس فقط المعركة الانتخابية الحالية ، بل معركة وجود الخطاب السياسي الوطني ذاته ، حديث التنوير نفسه ، النضال علي قاعدة مدنية ، منجزات مرحلة التحرر الوطني ، مكتسبات الاجتماع المدني ، قرنان من الحداثة ... الخ فكل من يحاول أن يختزل القضية في أداء برلماني أو خدمي أو اجتماعي سلبي , هو لا يفعل أكثر من تسييد الظاهر علي المضون والشكل علي الجوهر. لقد خسر اليسار المصري معاركه السابقة لأنه خسر معركته مع نفسه ووحدته وترابطه ، لأنه انغمس في المتغيرات فاقترب بعضه من السلطة وبعضه من المتأسلمين وبعضه الأخر جلس علي مقاهي النميمة يطلق الرصاص علي الماريين يسارا ، وترك تحديات حضارية وثقافية وسياسية جوهرية مرت أمام ناظريه كالسحاب . خسر اليسار المصري عندما انتصر للسياسي علي الأيديولوجي وتركزت اهتماماته علي توجيه سهام النقد من الفضاء السياسي العام حول قضايا انشغلت بها القوي الديمقراطية ولم يقدم رؤيته الخاصة لمجمل عمليات الاستنزاف الوطني والشعبي من داخل العمران البشري , أي بالالتحام مع جماهيره في الجامعات والمصانع, في الحضر والريف . وانغمس في عملية انشطار تنظيمي وأصيب بحالة تشتت فكري وضاعت من بين يديه بوصلة التمييز بين الثوابت والمتغيرات .وانشغلت قياداته باللقاءات الإعلامية , وتحولت صحفه إلي كتبخانه ومقاره إلي دولاب تنظيمي روتيني جامد واختفت مكاتبه النوعية وأماناته بصورة غير مسبوقة . خسر اليسار المصري لأنه أكل تاريخه النابض واستحل دماء بعضه بعضا واستعفي علي كوادره الشابة،وجفف منابع المحاولة والخطأ , ووقف صامتا غامدا سيفه أمام تجاوزات, تمت داخله وخارجه, يشيب لها شعر الوليد .
وبناء علي ذلك لم يخسر اليسار في معركته الانتخابية الأخيرة سوي قيوده التي كبلته لسنوات وحالت بينه بين جماهير منهكة في تفاصيل الحياة اليومية. فالشارع المصري أيها السادة يتجه نحو غيبيات القول والفعل والسياسة , ينجرف باتجاه حالة راسبوتينية خطيرة ، وما نتائج الانتخابات الماضية سوي انعكاس لتلك الحالة . إننا نمر الآن بأضيق لحظات التاريخ المصري التي لا يصلح معها مجرد الحديث عن مقعد برلماني أو غيره ، بل يجب الحديث عن الاستعداد لمرحلة ولادة جديدة ومؤسسة لثورة ثقافية وفكرية وسياسية ودينية تعيد إنتاج الإنسان العربي وتنقذه من أيديولوجيا ثيوقراطية لن تفعل شيئا حقيقيا وايجابيا وفاعلا اللهم إلا ما يخدم الاستعمار، ودعونا نقرأ التاريخ لعلنا نستعيد الذاكرة ونستفيق .
واليسار المصري الوطني التقدمي هو المنوط به والمؤهل وعيا ومقدرة وممارسة علي إدارة تلك المعركة وتحويل مسار التاريخ وتصحيح أخطائه ،فقط لو أدركت فصائله وكوادره وقياداته طبيعة المرحلة التي نمر بها وخصائصها والقوي الاجتماعية المؤثرة في مسيرة التقدم والتيارات الاخري المعرقلة لحركة التاريخ , مهما بدا لنا من تضامن جماهيري وشعبي حالي في اتجاه قوي ظلامية – يقول ديكارت أن إجماع الكثرة لا يقف دليلا قاطعا علي الحق - . وأحسب أن بعض فصائل اليسار مطالبة الآن بإعادة النظر من جديد في قناعاتها حول الإسلام السياسي، لاسيما بعد موقعة فتح مصر الأخيرة وما شابها من ممارسات، ليس من منظور توجهاته وتحركاته فقط ولكن من زاوية تكوينه الفكري والإيديولوجي وعلاقته بالحداثة والتقدم ومسار التاريخ البشري , ومدي قدرته الحقيقية علي إحداث نقلة نوعية مجتمعية , أو تحقيق حد أدني من متطلبات المجتمع المصري في الحرية والعدالة والمساواة ,أو استعداده لإنجاز تنمية مستقلة بعيدا عن الإطار العام للعولمة الأمريكية.
وأخيرا .. فإنني علي يقين أن المستقبل لنا ، لأننا رسله المبشرين به ، ولن يكون لغيرنا . لن يكون المستقبل سوي لهؤلاء الذين يؤمنون به ويدفعون عجلة التاريخ نحوه ، ويشعلون سنوات العمر وزهر الحياة بحثا عنه في قانون عادل ودعوة دينية متسامحة ولوحة فنية وقصيدة شعر وحرية ومساواة وقيم إنسانية راقية . المستقبل لنا مهما انتكست رايات الوعي والحق والخير والجمال ، ومهما حاصرنا الظلام في كل موقع ، ومهما تكالبت علينا خفافيش الجهل . . أقول هذا لأنني أؤمن به واعتقد فيه واسعي إليه .وأري أن مفردات هذا المستقبل لن يبدأ إلا من حروف نكتبها نحن علي جدران الوطن ، وفي تفاصيل نضالاتنا اليومية.

*****************
يناير 2005
محمد السعيد دوير
الإسكندرية
[email protected]




#محمد_السعيد_دوير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الاسلام هو الحل .. والاخوان هم العقدة


المزيد.....




- كيف يعصف الذكاء الاصطناعي بالمشهد الفني؟
- إسرائيل تشن غارات جديدة في ضاحية بيروت وحزب الله يستهدفها بع ...
- أضرار في حيفا عقب هجمات صاروخية لـ-حزب الله- والشرطة تحذر من ...
- حميميم: -التحالف الدولي- يواصل انتهاك المجال الجوي السوري وي ...
- شاهد عيان يروي بعضا من إجرام قوات كييف بحق المدنيين في سيليد ...
- اللحظات الأولى لاشتعال طائرة روسية من طراز -سوبرجيت 100- في ...
- القوى السياسية في قبرص تنظم مظاهرة ضد تحويل البلاد إلى قاعدة ...
- طهران: الغرب يدفع للعمل خارج أطر الوكالة
- الكرملين: ضربة أوريشنيك في الوقت المناسب
- الأوروغواي: المنتخبون يصوتون في الجولة الثانية لاختيار رئيسه ...


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - محمد السعيد دوير - لماذا خسر اليسار المصري ؟