محمود الصباغ
كاتب ومترجم
(Mahmoud Al Sabbagh)
الحوار المتمدن-العدد: 6261 - 2019 / 6 / 15 - 00:46
المحور:
القضية الفلسطينية
كان حاييم وايزمان قد لاحظ في رسالة وجهها للرئيس [ الأمريكي هاري] ترومان في كانون أول-ديسمبر 1945 بأن " فلسطين قياساً بحجمها و مساحتها, ربما تكون من أكثر البلدان الي تعرضت للبحث و التقصي في العالم " (1) . و كان للصراع العربي-اليهودي على فلسطين دوراً محرضاً في تحول الاهتمام الشعبي و أنشطة اللجان الدولية والمجموعات الخاصة إلى مرشد للباحثين و المفكرين الذين ينتمون لمجموعة واسعة من التخصصات سواء كانوا باحثين كتابيين أم آثاريين أم رجال دين و لاهوتيين أم من يعملون في حقل البحوث التاريخية و الاجتماعية. واستناداً إلى هذا العمل، أكد المجتمع الدولي عبر الانتداب, الحق الشرعي و الأخلاقي لليهود في إعادة تشكيل أنفسهم كشعب حديث في فلسطين(2). وترتبط السابقة" إعادة" بالـ" العودة" و" الزعم", كما تشير كلمة "إعادة" أو تلمح -بالطبع- إلى معنى" العودة من جديد, و بالتالي شرعية الطيف الواسع من المفاهيم المتعلقة بالماضي اليهودي و أهميته بالنسبة للعالم المعاصر. ومن حيث الجوهر, كان الافتراض السائد على نطاق واسع-كما هو الحال في أدبيات العلوم الاجتماعية و الإنسانية- أن انتماء اليهود التاريخي العميق و الحيوي للأرض كان ضرورياً لتأكيد حقهم في استيطانها(3). إن ما تهتم به هذه المقالة هو بيان الجهات الرافضة لتفسير الماضي هذا و آثاره المعاصرة. وجذر هذا التغيير أو الرفض يعود في بدايته ,على الأقل, إلى ثلاثينيات القرن الماضي, لكنه أصبح واضحاً ومميزاً و متكرراً في الجيل السابق [لجيلنا], و بهذا سوف يخصص الجزء الأكبر من هذا المقال لدراسة هذا التطور النسبي الحديث. فيتم, أولاً, استعراض بعض التعليقات القليلة لاستعادة المفهوم السابق الذي حظي بدعم و اعتراف المجتمع الدولي والأوساط الأكاديمية في حق اليهود في وطنهم في فلسطين.
"إعادة التأسيس" و الاستحواذ الثقافي
كان لمفهوم "إعادة البناء “معنى واضح ومثير في الجزء الأول من القرن العشرين, حيث كان يشير إلى تأييد عودة ظهور اليهود كعناصر فاعلة في التاريخ, وكان هذا بمثابة اعتراف بأن اليهود كانوا أمة مثل الأمم الأخرى, حيث صارت الدولة القومية العامل المميز و القيّم في الشؤون الدولية. فعلى سبيل المثال عبّرت مبادئ ويلسون الأربعة عشرة عن حقوق الأمم في تقرير المصير وفي دول خاصة بها. كما زخر العالم الأوروبي في القرن التاسع عشر, و العالم غير الأوروبي في القرن العشرين بحركات التحرر "الوطني". وفُهمت الدولة القومية، منذ فترة الثورة الفرنسية على الأقل، على أنها الأداة اللازمة لمنح الحريات والحقوق الشخصية, فهذه الحقوق وتلك الحريات لا يمكن أن تنتج هكذا من الفراغ, بل لابد من إنجازهم عن طريق مجتمعات سياسية منتظمة حول شعوب واضحة, وبالتالي، اعتبرت القومية نزعة مثالية تقدمية من شأنها تعزيز مسيرة قيم التنوير السياسية العالية. ومع تفكك الإمبراطورية العثمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى، اخترعت عصبة الأمم نظام الانتداب لتعزيز التنمية الوطنية لمناطق واسعة كانت خاضعة لنظام حكم استمر نحو 500 عاماً, و كان القصد من الانتداب رعاية تشكيل دول جديدة حتى تنال استقلالها، وطبقت هذه الأداة, أي الانتداب, على اليهود، كما هو حال الشعوب العربية في سوريا والعراق. و من وجهة النظر هذه، لم يكن يحق لليهود دولة فحسب, بل كيانهم السياسي الذي كان. ويقع هذا الكيان -بطبيعة الحال- في ذلك الجزء من العالم الذي نشأوا وأقاموا فيه منذ قديم الزمن، والذي ما زال يشكل حضوراً حيوياً للمنطقة، بما في ذلك فلسطين. وعلى الرغم من أن تعريف اليهود كشعب حديث كان له عواقب سياسية واضحة وجلية، إلا أن أي تناقص في هذا الوضع سيضر بشدة بالبرنامج الصهيوني إن لم يكن سينفيه, ولذلك . لم يكن الاعتراف الرسمي من قبل الهيئات الدولية كافياً , بل كان من الضروري إعادة التأسيس لتكون بمثابة حجة تؤيد الشرعية و تدعم مثل هذا الاعتراف, ليس أقله الإجماع العام الذي مكّن من الاعتراف بإسرائيل في تشرين الثاني -نوفمبر 1947 من قبل الأمم المتحدة. و يمكننا العثور, ربما, على أكثر الأدلة وضوحاً و تمييزاً -بالنسبة لأولئك الذين يرغبون في الاعتراف- في عملية إحياء اللغة العبرية و تحويلها إلى لغة حية, يتعين بموجبها المشهد المكاني بهوية يهودية و تطوير الثقافة المحلية من خلال جذور تعود للماضي.
إعادة إقرار اللغة القومية
خلقت الصهيونية مجتمعاُ على عكس "المجتمعات المتخيلة" الأوروبية الأخرى(4). وكان الصهاينة قد نأوْ, صراحةً و بطرق حاسمة, بأنفسهم عن المنفى الأوروبي الذي تركوه وراءهم. و لم يتخيلوا قط, والحال هذه, ارتباط كيانهم السياسي بدولة أوروبية، كما أنهم لم يقوموا بغرس الثقافة الأوروبية في كيانهم بتلك البساطة. بل بعكس ذلك عبروا عن رفضهم الصريح و الواعي للكثير من الماضي الأوروبي. ومن الأمثلة الرئيسية على ذلك النجاح الفريد لاستعادة اللغة العبرية كلغة حية و استخدامها في الأدب الشعبي النابض بالحياة، وفي الإعلام الحديث، والبحوث العلمية، والتجارة والسياسة. ولم يحدث, في العالم الحديث, أن تم-من قَبل- إحياء أي لغة قديمة أخرى، حتى لو كانت محفوظة في الصلوات المقدسة أو في دراسة متون النصوص المقدسة. و مع الأخذ في الاعتبار المواطنين اليهود والعرب في إسرائيل، والفلسطينيين في الضفة الغربية والدول المجاورة، واليهود في الشتات، فيوجد, بكل تأكيد, ليس أقل من 8 ملايين شخص أصبحوا الآن ملمين بالعبرية كلغة حية عصرية. وهذا العدد أكبر من أي عدد للناطقين بعدد من اللغات المعاصرة المحكية حتى في أوروبا. علاوة على ذلك، فقد اتخذ قرار إعادة إحياء اللغة العبرية على خلفية التعارض المباشر مع أولئك الذين أصروا الحفاظ على اللغات الأوروبية. في الواقع، حتى هرتزل كان يتوقع أن تكون اللغة الألمانية هي لغة الدولة اليهودية، ولكن في حالة معركة ثقافية قوية بين العلمانيين و المتدينين kulturkampf ، هزم هذا الاحتمال بشكل حاسم قبل الحرب العالمية الأولى.
الاستعادة عبر التسمية
شرعت الصهيونية أيضاً في "إعادة تخيل" أو "إعادة تشكيل" المشهد المكاني للبلاد. وكانت هذه العملية قد ابتدأت مع الأفواج الأولى للمستكشفين المسيحيين وعلماء الآثار وعلماء الكتاب المقدس القادمين من أوروبا والولايات المتحدة إلى فلسطين منذ منتصف القرن التاسع عشر عندما كانت البلاد لاتزال تحت الحكم التركي. و لم تكن الأسماء العربية المعاصرة سوى مجرد تعديلات أو تشويه للتسميات القديمة الموجودة في النصوص المقدسة أو غيرها من المصادر التاريخية. واصل المستوطنون الصهاينة هذه العملية، على الرغم من أنها لم تكن بالنسبة لهم مجرد استعادة أرض الكتاب المقدس, بل كان ينظر لها كمحاولات شخصية عميقة لإعادة تصور أنفسهم في أرض أسلافهم و بناء على ذلك تجاهل الصهاينة بطريقة واعية , عند إعادة تسمية الأرض، العديد من الدلالات المادية بالإضافة إلى الدلالات الاجتماعية والثقافية لكل من أوروبا والجيران العرب, ففي إسرائيل[اليوم]، لا يوجد نيو فيلنا أو نيو بيالستوك أو نيو وراسو, ولا نيو إنجلند أو نيويورك, أو كامبريدج, أو أكسفورد , أو باريس أو برلين، وهلم جرا. بل احتفى الصهاينة, بدلاً من ذلك، بالعودة للتاريخ, لرحوفوت الكتابية و أشكلون [عسقلان], بالطبع لم تتطلب الحاجة إيجاد اسم جديد لأورشليم . بالإضافة إلى ذلك، تم إطلاق آلاف الأسماء على الشوارع والساحات العامة والمشاهد المكانية وبإشارات عبرية في كل مكان الأمر الذي حدى بالمراقبين -تحت وقع هذا التأثير الكامل- إلى اعتبار المستوطنات بمثابة مظهر ملموس لعملية الإحياء القومي على يد أشخاص يمكنهم أن يزعموا بصورة شرعية أنهم يعيدون السكان الأصليين[ لموطنهم] (5). و الأمر ذاته تم التقاطه على صعيد الموسيقى والفن والأدب من خلال الإنشاء الواعي لـ "الفولكلور". غير أن هذا الأمر عبر عن مفارقة بطريقة ما , فالموسيقا و الثقافة الشعبيتين يستمدان بحكم تعريفهما من مبدعين مجهولين ينتمون للماضي, ولكن على مستوى التطبيق العملي الصهيوني ، تحول هذا الأمر إلى مشروع واسع ,و واعٍ ترافق مع دعاية صاخبة بهدف تحويل المهاجرين إلى مواطنين أصليين(6). ومن المفارقات أيضاً, امتداد عملية إعادة التأسيس إلى ما هو أبعد من ذلك, ففي أوائل ثلاثينيات القرن الماضي كانت قد بدأت تظهر مؤشرات انفصال الصابرا- اليهودي الجديد المعاد تكوينه و الذي ولد و نشأ في فلسطين- عن الجذور الأوروبية للثقافة الصهيونية أو حتى عن تراث الأجداد كما تمارس في أرض إسرائيل(7). حتى أن بعض الصهاينة أصبحوا مقتنعين بأن إعادة التشكيل قد تجاوزت الحدود( 8). تردد صدى التكيف والتحول ورفض أوروبا عبر الواقع الفكري والثقافي لليشوف. لقد كان واضحاً بصورة ساطعة أن الصهيونية لم تكن منهمكة في مجرد عمليات تقليد أو غرس مباشر, لم ينظر الصهاينة أنفسهم كأجانب أو غزاة, لقد كانوا غرباء لقرون عدة في الشتات, أما الآن, في أرض إسرائيل, فقد سخروا طاقة إبداعية هائلة تشعرهم أنهم في وطنهم، كما لو كانوا من السكان الأصليين, مثل هذا التجديد كان لد كبير الدور في اقناع جزء ليس بقليل من المجتمع العالمي بأن اليهود كانوا مؤهلين للاستقلال داخل هذا الجزء من البلاد الذي طبعوه ببصمتهم بصورة ملحوظة .
نقض البراهين-نقض الطروحات
في خضم انهماك اليهود في عملية "إعادة البناء"، كان هناك من ينكر شرعية عملهم, وأتى هذا من خلال مساهمة جورج أنطونيوس، المفكر والباحث والموظف العام اللبناني-الفلسطيني الرائد الذي خدم في فلسطين في ظل البريطانيين وأمضى الكثير من الوقت في لندن. عرض أنطونيوس وجهات نظره بشكل منهجي في كتاب المؤيد لمصالح العرب و الذي كان له شأن و تأثير كبيرين و المعروف باسم " يقظة العرب"(9) (1938) يبدأ فيه بتحليل تاريخي لظهور العرب في التاريخ، ويختتم ببيان وضعهم بعد الحرب العالمية الأولى، و يختم بالتهجم على شرعية المزاعم الصهيونية. يجادل "صحوة العرب" بأن لعرب فلسطين جذور عميقة وعلاقة غير منقطعة بالأرض إلى ما هو أبعد من الفتوحات الإسلامية في القرن السابع وتمتد بالفعل إلى الفترة الكنعانية التي سبقت غزو العبرانيين. باختصار، كانت فلسطين عربية منذ زمن سحيق، وكانت تستوعب الفاتح الواحد تلو الآخر. وكان العرب سكانها الأصلين الوحيدين والمقيمين فيها منذ فترة طويلة. ويحذر أنطونيوس بأن انتزاعهم من أرضهم سوف يستدعي مقاومة نشطة و مشروعة. والأهم من ذلك، يمكن تطبيق تعريف [سكان فلسطين] على المسيحيين والمسلمين على ح سواء و يمكن لهما أن يفهما ذلك , في حين أن اليهودي قضية أخرى .فالعبرانيين انقطعت صلتهم بالأرض و اختفت باختفائهم, ويزعم أنطونيوس أن العبرانيين القدماء كشعب لم يختفوا فحسب، بل أن اليهود المعاصرين هم مجرد أعضاء في مجتمع ديني طائفي, وبهذا , إذا كانت اليهودية كديانة مازالت موجودة فإن اليهود كشعب لم يعد لهم وجود. وهذا يعني ضمنياً اختفائهم من المسرح العالمي. لم تقتصر صيغة معاداة الصهيونية بشطب اليهود كفاعلين في التاريخ مجرد أسلوب للكتاب العرب, بل ربما تكون قد وصلت إلى أوسع جمهور لها من خلال عمل [المؤرخ] أرنولد توينبي، المفكر و المسؤول البريطاني السابق والمفكر الذي على اطلاع على عمل أنطونيوس. وصف توينبي اليهود -في عبارة مسيئة ومهينة بشكل خاص-بأنهم "أحافير"،و بالتالي إبطال الزعم الصهيوني بـ " الاستعادة "( وهي عبارته التي تقابل: إعادة التشكيل).وهي التهمة التي دار حولها مناقشات واسعة في الخمسينيات والستينيات بين توينبي من جهة, وأبا إيبان وجاكوب تالمون وياكوف هرتسوغ وإشعيا فريدمان من جهة أخرى(10).
ومن المفارقات الجدير ذكرها أنه في الوقت الذي كتب فيه جورج أنطونيوس كتابه، كانت ألمانيا النازية تحمل النزعة القومية إلى أقصى الحدود الوحشية التي سعت الأجيال اللاحقة للحد من انتهاكات الدولة القومية الحديثة من خلال نداءات "حقوق الإنسان". يرى الكثيرون الآن أن الحقوق القومية هي بالضرورة حقوق ثانوية مقارنة بحقوق الإنسان. ومع ذلك، لم يتم تحديد مفهوم حقوق الإنسان بعد في الفترة التي كانت تدور فيها المناقشات الحاسمة حول مستقبل فلسطين. لقد تمت المصادقة على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من قبل الأمم المتحدة فقط في كانون أول-ديسمبر 1948، أي بعد حوالي العام من موافقة الأمم المتحدة على إنشاء دولة يهودية. كانت الدولة القومية في العام 1947 لا تزال هي النظام المميز في غياب أي أداة أخرى لتوسيع وحماية الحقوق بشكل فعال. لذلك فإن نزع الصفة القومية عن اليهود أدى إلى إضعاف مزاعمهم بأحقيتهم في دولة تخصهم مما يجعلهم عرضة لمخاطر إرادة أغلبية الأغيار.
أصبحت وجهة النظر التي دافع عنها أنطونيوس عاملاً أساسياً في الوثائق والنقاشات العامة العربية حول مستقبل فلسطين ولا تزال وجهة النظر هذه جزءً من خطاب معاد لإسرائيل في أنحاء العالم العربي. يردد الميثاق الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية للعام 1968 صدى [رؤية] أنطونيوس في الفقرة 20 التي يتم الاستشهاد بها في كثير من الأحيان: " [يعتبر باطلاً كل من تصريح بلفور وصك الانتداب وما ترتب عليهما] وان دعوى الترابط التاريخية أو الروحية بين اليهود وفلسطين لا تتفق مع حقائق التاريخ ولا مع مقومات الدولة في مفهومها الصحيح، وان اليهودية بوصفها ديناً سماوياً ليست قومية ذات وجود مستقل وكذلك فإن اليهود ليسوا شعباً واحداً له شخصيته المستقلة وإنما هم مواطنون في الدول التي ينتمون إليها "،فاليهودية كدين موجودة, ولكن الأمر ليس كذلك عند الحديث عن شعب يهودي, و من خلال تجريد اليهود من هويتهم القومية يتم تمهيد الطريق للادعاء بأن الصهيونية مجرد امتداد للإمبريالية الأوروبية وبالتالي تحول اليهود إلى مستعمِرين ظالمين ينبغي معارضتهم في سياق حرب عادلة يخوضها السكان الأصليين. وفي ميثاق حماس للعام 1988، تم تغليف هذا الرأي بالفقه الإسلامي و بالتالي تصبح الحرب ضد الاستعمار جهاداً. ومهما كان الخطاب، علمانياً أو دينياً, فقد أصبح فصل اليهود عن صفتهم القومية لازماً لجهة تبرير العنف وتدمير الدولة اليهودية.
أمثلة على التفكير المعاصر
ربما كان إدوارد سعيد أهم شخصية معاصرة كان لها تأثير على آلية نزع الصبغة اليهودية عن فلسطين، وهو مفكر مسيحي آخر عرف نفسه على أنه عربي- في هذه الحالة فلسطيني- على الرغم من غلبة تنويعات الإسلام باعتبارها العقيدة المهيمنة بين العرب. من الواضح أن كون المرء “عربياً" يعني ضمناً التطابق مع أشخاص تاريخيين في الشرق الأوسط يتشاركون في ثقافة مشتركة تشمل المسلمين والمسيحيين على حد سواء, ولكن ليس اليهود. وبالتالي، لا يمكن لليهود أن يكونوا عرباً على الرغم من سكنهم الطويل في المنطقة منذ ما قبل المسيحية والإسلام. إن ما يكمن وراء التأويل الذي يستبعد اليهود هو تعريف مبني بالضرورة على وعي ضار باليهود لا محالة . يتماثل [إدوارد] سعيد أيضاً مع تذمر أنطونيوس من تحيز البحوث الدراسية الغربية ضد العرب، متهماً إياها بأنها تخدم الاستعمار(11). وشرع, مثل أنطونيوس في عرض تصحيح لفكرة "إعادة البناء". فهو يرى على سبيل المثال، في مؤلفه " لوم الضحايا: زيف البحوث الدراسية والقضية الفلسطينية"، أن فلسطين كانت موطناً لحضارة مميزة "قبل هجرة القبائل العبرانية الأولى إلى المنطقة بقرون"(12). وبانتقاله إلى ما وراء خبرته المشهود لها في النقد الأدبي, يقوّم البحوث الكتابية و الآثارية التقليدية باعتبارها مجرد بحوث "إمبريالية بأثر رجعي" متواطئة في طرد العرب أو، مرة أخرى كما يقول سعيد نفسه " تعاون سلبي" في هذا السلوك الظالم. يقدم سعيد تعريف "بأثر رجعي" لأسلاف الفلسطينيين المسلمين والمسيحيين المعاصرين باعتبارهم السكان الأصليين المقيمين منذ زمن سحيق؛ في حين أن اليهود مغتصبين, وبهذا , يعقد سعيد تحالفاً واضحاً مع البحوث الآثارية و الكتابية التصحيحية الأخيرة لما يعرف بالـ minimalists,و سيتم التعليق على استخدام البحوث الكتابية ذات الدوافع السياسية أدناه. ثمة ملاحظة إضافية ذات صلة هنا. كما أوضح ذلك إيفان كالمار وديريك بنسلار في كتابهما الأخير، "الاستشراق واليهود"(13). يشير الباحثان إلى أن اليهود, في الواقع, تم " استشراقهم" أو تهميشهم في أوروبا المسيحية. إن العبارة الأساسية هنا, هي أوروبا المسيحية، لأن الحديث عن الاستشراق الأوروبي بدون تقاليدها المسيحية يعد إغفالاً خطيراً , من جهته, يطابق سعيد اليهود فقط مع المؤسسة المسيحية الأوروبية، وإطارها الاستشرافي. إن ما يقوض ما يمكن اعتباره مفيد في حجة إدوارد سعيد الإيحاء بأن اليهود كانوا يُعتبرون غرباءً في أوروبا المسيحية وغالباً ما تم تعريفهم على أنهم آسيويون, وكان من شأنه جعل اليهود مستشرقين وكذلك أهدافاً للاستشراق في وقت واحد. يبسط سعيد الأمور عن طريق نزع اليهود من الشرق مع الحفاظ على هويتهم الأوروبية سليمة. وهكذا يظهر اليهود كجناة فقط، وليسوا ضحايا, ويظهرون من جديد كدخلاء في فلسطين العربية.
إن محو اليهود كعناصر فاعلة في التاريخ هو، بطبيعة الحال، موضوع مألوف في مصفوفة اللاهوت المسيحي وقد تم طرحه في خطاب [إدوارد] سعيد. وعلى سبيل المثال ,خلط لاهوت التحرير(الذي تم توضيح مبادئه لأول مرة من قبل رجال الدين في العالم الثالث الملتزمين بمناهضة الاستعمار و الماركسية) بين اللاهوت والتاريخ والسياسة على أيدي أنصار الفلسطينيين. فيؤكد-مثلاً- يؤكد نعيم عتيق رجل الدين المسيحي البارز الذي يعيش في إسرائيل ويدعي بأن أسلافه عاشوا في فلسطين ما قبل الإسلام بالفعل حتى وقت الفادي، أن المسيحية تدعم القضية الفلسطينية حيث أن يسوع لم يبشر بدين موروث فحسب، بل تقاسم الوعود الإلهية التي قدمت للعبرانيين القدماء. أي أن يسوع لا يكرر وعد العودة القومي أو الخلاص القومي لليهود. بدلاً من ذلك، يتحدث يسوع بلغة كونية، مما يشير إلى إلغاء الوعود الخاصة لليهود. و إذن تكون المزاعم اليهودية القائمة على العهد القديم بحكم المنقضية. ليس من المستغرب أن يستخدم نعيم عتيق حكم توينبي التاريخي على اليهود بإخراجهم من التاريخ لدعم حججه. لكن النص المقدس نفسه له حيوية وصلاحية فيما يتعلق بالشعوب الأخرى. ومن يطبق نعيم عتيق سردية العهد القديم عن الخروج لإلقاء الضوء على الموقف الحالي للفلسطينيين الساعين باسم العدالة التاريخية، إلى العودة إلى أرضهم الموعودة. و مثل أنطونيوس- الذي عارض خطة التقسيم التي طرحتها لجنة بيل سنة 1937-، ومثل سعيد- الذي عارض اعتراف عرفات بإسرائيل من خلال اتفاقيات أوسلو-، يدعي عتيق أن العدالة الكاملة ستتحقق في تفكيك الدولة اليهودية، ولكنه يقترح و بإذعان براغماتي اتحاداً مؤقتاً بين دولة يهودية ودولة عربية - فدرالية يتوقع حلها عندما يغادر اليهود البلاد(14).
لم يكن مثل هذا الدعم الأكاديمي الذي تلقاه [أدوارد] سعيد و[نعيم] عتيق موجودا عندما كتب أنطونيوس "يقظة العرب". لقد تم تطوير أطر تفسيرية جديدة لدعم مفهوم نزع الطابع اليهودي عن الأرض المقدسة. و هذه الأطر قدمتها المدرسة التصحيحية minimalist فيما يخص البحوث الآثارية و الكتابية. على الرغم من أنها لا تقدم تأكيداً للفلسطينيين على أنهم السكان الأصليين الأبديين سواء في النصوص أو الأدلة الأثرية، إلا أن هذه يعد كافيا لنقاد الصهاينة للتشكيك في الوجود اليهودي التاريخي. وظهر منذ منتصف القرن التاسع عشر إرث بحثي متطور يرى إمكانية انتقاد الكتاب [المقدس] كوثيقة تاريخية دون المساس بفكرة الوجود العبراني ذات يوم ولعبهم دوراً مهماً في تاريخ البشرية. فليس مهماً شرعية و صحة النقد هنا بل كيفية استخدام هذا النقد في النزاع العربي / الإسرائيلي. و تتجسد هذه المقاربة المعادية لإسرائيل في المدرسة التصحيحية للنقد الكتابي التي نشأت في العام 1970 تقريباً في كوبنهاغن( ومن هنا جاءت تسميتها "المدرسة الدنماركية") ووصلت إلى شفيلد في إنجلترا ومنها انتشرت في أماكن مختلفة من العالم. الخيط المشترك الذي يربط مؤيدي هذه المدرسة هو القول بأن العهد القديم ليس سوى نص تضليلي معقد و مركب اخترعه الكتّاب العبرانيون خلال الحقبة الفارسية و الهلنستية في يهودا. خلال تلك الفترة قامت مؤسسة دينية قديمة مخادعة بإنشاء أساطيرها المؤسسة و مروياتها التاريخية من أصداء الماضي المبعثر لإضفاء المصداقية على لاهوتها و بما يخدم أغراضها السياسية الآنية. وهذا يتطلب استعراض تفاصيل ملفقة وتمجيد نسب داوود وصلته بأورشليم. باختصار، من قصص الآباء البطاركة إلى قصص الخروج إلى سرديات سلالة داود، جميعها كتابية مشبعة بفانتازيا مقصودة و هادفة (15). على الرغم من أن عدد العلماء المشاركين في تبني هذا النهج صغير نسبياً، إلا أن مزاعمهم قد وصلت إلى جمهور واسع من خلال المجلات الشعبية والأكاديمية، وقد أيدهم المناصرون للفلسطينيين بحماس في قضايا النزاع العربي/ الإسرائيلي. يظهر , إلى حد كبير, تسييس البحوث الكتابية بصورة واضحة في عمل كيث ويتلام، أحد رموز هذه المدرسة. فادعائه بقوته البحثية المقنعة لا تنبع من تحليله النصي فحسب، بل من استدعاء [إدوارد] سعيد .و يهدف استخدامه لمصطلحات سعيد نفسه لإظهار أن البحوث الكتابية التقليدية مجرد “خطاب استشراقي" غايته محو الفلسطينيين من التاريخ. و يؤكد ويتلام أن " الدراسات الكتابية شكلت جزءً من الترتيب المعقد للسلطة العلمية والاقتصادية والعسكرية التي حرمت الفلسطينيين من وجود أو تاريخ معاصر". وباستخدام عبارة مفضلة، تذكرنا بكل من سعيد وأنطونيوس، هناك ثمة مؤامرة "لإسكات" التاريخ الفلسطيني(16).
يشير تفحص الموقع الإلكتروني لجامعة القدس(المعادل الفلسطيني للجامعة العبرية في القدس) إلى أي مدى دخلت هذه البحوث الجديدة في المجال العام(17). هنا، أيضاً، ثمة شعار مألوف يتمثل في الاضطرار إلى الكفاح ضد الحكمة الراسخة. يعلن هذا الموقع أن المؤسسين الحقيقيين للقدس هم اليبوسيين الكنعانيون الذين تعرضوا لغزوات متتالية, لكنهم في كل مرة كانوا يستوعبون الغزاة في مجتمعهم المضياف. و تشمل قائمة الغزاة العديد من الشعوب القديمة باستثناء العبرانيين. لقد غابوا لأنه، كما قيل لنا، لا يوجد أي أثر على الإطلاق لشخص يدعى" الملك داود". من الأهمية بمكان أن شطب اليهود من التاريخ يعتمد على أنصار المدرسة التصحيحية وكذلك على الباحثين الراسخين الذين لهم صلات قوية بالصهيونية، بما في ذلك مارك بريتلر، العالم الكتابي المتميز ورئيس قسم دراسات الشرق الأدنى واليهودية في جامعة برانديز. على الرغم من أن بريتلر عبر عن شكوكه حول جوانب من قصة يوشع، إلا أنه يدعم تاريخية النص الكتابي ككل. ومع ذلك، فإن أسلوب استغلال أفكار أحد العلماء حول قضية واحدة يتم تكرارها وتجميعها، مع التأثير التراكمي المتمثل في التشكيك في الحكمة المقبولة لجميع جوانب الدور اليهودي في العالم القديم. في الواقع، يحل الخطاب القائم على التقنيات الجدلية محل الحذر من البحوث الدراسية المسؤولة.
سري نسيبة- خريج جامعة أكسفورد وهارفارد، رئيس جامعة القدس، وربما الزعيم الفلسطيني الأهم الذي يسعى علناً إلى التعايش مع الدولة اليهودية- عمّم نفس الادعاءات في منشوراته الخاصة كما هو موجود على موقع جامعته. على سبيل المثال، قبل أوسلو مباشرة، عرض نسيبة التاريخ نفسه الذي يمكن العثور عليه لاحقاً على موقع القدس الإلكتروني في بيان شخصي عن معتقداته في كتاب يدافع فيه عن في حل الدولتين كتبه بالتعاون مع مارك هيلر الباحث الإسرائيلي الصهيوني بلا جدال(18) . وهكذا، حتى البراغماتيين والمعتدلين الملتزمين بالسلام والتوافق هم طرف في تقديم بحوث الإنكار. وعندما تكون المسألة في قبضة أفراد أقل مسؤولية فإن تداعيات مثل هذا النوع من " الأبحاث الدراسية" سوف تقود إلى المطالبة بنزع الشرعية عن الدولة اليهودية وإنهائها.
مساهمة العلوم الاجتماعية: نماذج من مجتمعات المستوطنين
هناك جزء آخر من الأبحاث الأكاديمية يساهم في إبعاد اليهود عن الأرض ,وهو ما يمكن العثور عليه في التحليل، إن لم يكن الهيمنة، الموجود بين علماء الاجتماع والجغرافيين التاريخيين والباحثين السياسيين الذين يعرّفون الصهيونية بأنها قائمة على جور "مجتمع المستوطنين". على الرغم من أن الاستيطان اليهودي لفلسطين كان مدعوماً من قبل جيل من علماء الاجتماع، حتى أنه تم الاحتفاء بهذا الاستيطان، إلا أنه يعتبر الآن ظاهرة سلبية ومدمرة تتطلب تصحيح عواقبها. و هذا، إلى حد كبير، نتاج لاختيار نموذج تاريخي مختلف اختلافاً جذرياً. و التحليل الأكثر شهرة يمكن العثور عليه في كتاب غرشون شافير "الأرض, العمل, و أصول الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي, 1882 -1914" (19). يعتمد تحليل شافير أسلوب المنهج المقارن ويبدأ بتحديد أنواع متعددة من مجتمعات المستوطنين خلال 400 عاماً من الاستعمار الذي بدأ مع كولومبوس وانتهى بالصهيونية. بالاعتماد على رؤى المؤرخين للإمبريالية الغربية، قام هو وزملاؤه بمراجعة الاستيطان اليهودي لتحديد أي من النماذج الاستعمارية المختلفة تناسب الصهيونية بشكل أفضل. ولشك سوف يخطأ شافير الصهيونية حتما , و بحكم العريف من خلال استخدامه إطار مقارن قائم على الاستعمار الأوروبي باعتباره الأداة التفسيرية الوحيدة, و باستخدام إحدى عباراته: لا يمكن للمرء أن يكون حاملاً قليلاً. إما أن يكون حامل أو لا يكون. وهكذا، بمقارنة اليهود بالبرتغاليين والإسبان والهولنديين والفرنسيين والإنجليز، فإنه يُنظر لهم حصريًا ضمن الإطار التاريخي الأوروبي. قد يكون الاستيطان الصهيوني حميداً بدرجة أقل أو أكثر إلى حد ما، لكنه يظل استيطان استعماري. وهنا لا يطرح شافير أي نموذج إضافي أو بديل يناسب الشذوذ اليهودي.
تعد المقارنات بطبيعة الحال أداة أساسية وفرض إلزامي في البحث العلمي الجاد. ومع ذلك، فمن المحير أن النقطة المرجعية العالمية لجميع هذه البحوث الدراسية الناقدة أو التصحيحية هي العمل الأساسي الذي قام به البريطاني دي. ك. فيلدهاوس الذي لا تزال كتاباته تؤثر على أجيال من الباحثين منذ ظهور كتابه" الامبراطوريات الاستعمارية: دراسة مقارنة من القرن الثامن عشر" في العام 1966(20).
أنتج فيلدهاوس كتابه في ذروة ظاهرة التخلص من الاستعمار( الذي يتحدث الكتاب عنه), , وقبيل إحدى أهم محطات الصراع العربي / الإسرائيلي، أي حرب الأيام الستة في حزيران-يونيو 1967، من اللافت للنظر أن عمل فيلدهاوس الشمولي والشامل لا يأتي على ذكر الصهيونية. باستثناء إشارة عابرة إلى إعلان بلفور، فاليهود والصهاينة غائبون تماماً عن عمله. ومع ذلك، يوفر فيلدهاوس الإطار المقارن الأساسي لبحوث المنهج التصحيحي و المقاربات النقدية. ويركز على مقاربة اقتصادية ومادية للاستعمار مستمدة من أعمال كل من هوبسون و لينين، على الرغم من أنه يصل إلى استنتاجات مختلفة كلياً عن كليهما (21) . لا تعلب الصهيونية أي دور في العالم الذي يصفه فيلدهاوس، حيث تؤسس الإمبراطوريات مستعمراتها وذلك في وصفه الشامل للتوسع الاستعماري الأوروبي. ومع ذلك , واستنادا على تحليل فيلدهاوس هذا بنى النقاد المعاصرين رؤيتهم عن الصهيونية باعتبارها-في زعمهم-شكل مشين و فظ من أشكال الاستعمار, ولكنهم-دون أن يدروا -يشوهون بهذا تعريفه لـ "مجتمع المستوطنين" عند تطبيقه على الحالة الصهيونية.
لماذا لم يطبق فيلدهاوس" مجتمع المستوطنين" أو الاستعمار على الاستيطان اليهودي؟ لم يكن اليهود ملائمين للنموذج الذي وضعه للهولنديين والبريطانيين والفرنسيين والإسبان والبرتغاليين والألمان والإيطاليين. كانت السنوات الأربعين الأولى من عمر الاستيطان اليهودي قد حدثت في ظل الإمبراطورية العثمانية ولم يكن, بالتالي, جزءً من عملية التوسع الإمبراطوري الساعية وراء الطاقة و الأسواق. لم يكن الاستيطان اليهودي بسبب التصنيع والمصالح المالية. في الواقع، وكما لاحظ العديد من العلماء، كان هذا الاستيطان مشروعاً غير ربحي لدرجة اعتباره غير منطقي من الناحية الاقتصادية (22). باختصار، و بسبب من أهداف إيديولوجية, ابتعد الباحثون التصحيحيون بأنفسهم عن سياق تحليل فيلدهاوس الذي تم تطويره بدقة لوصف تجربة تاريخية متميزة ومختلفة.
لم تنشئ الصهيونية مزارع أو وحدات كبيرة أخرى من الأنشطة الزراعية الرأسمالية. بل أنشؤوا , عوض عن ذلك, مزارع صغيرة أو مستعمرات جماعية متواضعة الحجم. تتناسب بصورة طبيعية مع التجمعات المتجانسة, خلافاً للمزارع الكبيرة التي تتطلب قوة كبيرة من العمالة المحلية. لم يكن لدى صغار ملاك الأراضي أو المجتمعات الجماعية حاجة كبيرة إلى الاستخدام الواسع النطاق للعمالة المحلية. من الناحية الإيديولوجية والعملية، عمل اليهود في الأرض بأنفسهم. ومن المفارقات أن الاعتماد على الذات هذا أصبح مصدر انتقاد ضد المؤسسة الصهيونية برمتها. يرى النقاد أن الفصل الاقتصادي والثقافي بين اليهود والعرب تفع على عاتق الإيديولوجية الصهيونية وحدها وتطبيقها العملي. ويعتبر الاتهام المعاصر لإسرائيل كدولة فصل عنصري كنتيجة طبيعية لهذه التهمة. والحقيقة هي أن المسلمين هم الذين فصلوا أنفسهم منذ قرون عن اليهود من خلال تعريفهم [لليهود] على أنهم "ذميين" أو أفراد مختلفون ولكن من الدرجة الثانية في المجتمع. كان الفصل بين اليهود والمسلمين هو القاعدة في أنحاء العالم العربي الإسلامي وفرضه الأتراك المسلمون وأسلافهم منذ ظهور الإسلام في القرن السابع. إن توقع حفنة من اليهود يعيشون في مستعمرات زراعية نائية تحت الحكم التركي أن يكونوا قادرين على قلب هذه الممارسات الراسخة والمقبولة بنموذج ممارسة تعبر عن مجتمع مدني متكامل ومتساو لم يتحقق بعد حتى في الولايات المتحدة، يتطلب إظهار خيال يحيط بالفانتازيا . ومع ذلك فقد أصبح هذا النموذج هو النموذج المؤثر لهذا الجيل. كان لسوء استخدام مفهوم فيلدهاوس لـ"مجتمع المستوطنين" أن يتم تشويهه بطريقة أخرى بارزة, فقد نظر فيلدهاوس إلى "مجتمعات المستوطنين" البريطانية على أنها "نسخ " مقصودة للمجتمع المحلي و "نسخ حقيقية من المجتمع الأوروبي"(23). والأمر ذاته ينطبق على المستعمرات الفرنسية:" كانت المهمة الإمبريالية الفرنسية تكمن في تشكيل مستعمراتها في نسخ مطابقة لفرنسا من أجل دمجها في نهاية المطاف في المتروبول". وفي حالة الجزائر، حاول الفرنسيون حتى دمج المستعمرة في الوطن الأم(24) . من ناحية أخرى، كانت المستوطنات الصهيونية متميزة عن أوروبا ومختلفة عن المجتمع العربي في الوقت عينه . على الرغم من نقل التكنولوجيا الأوروبية والأمريكية والأفكار السياسية والجوانب الأخرى للثقافة الحديثة إلى فلسطين، إلا أن المجتمع الصهيوني أعيد صياغته في قالب فريد مكرس بوعي لإنشاء "اليهودي الجديد". كان هذا، كما رأينا، في جوهر فكرة "إعادة البناء".
في نهاية المطاف، يخدم وصف الصهاينة كمستعمرين لاعتبارهم محتلين لأرض لا ينتمون إليها بحكم تعريفهم. وبالتالي تصبح فلسطين موطناً لشعب واحد فقط من السكان الأصليين وليس لشعبين. وفي ما يجب أن يعد شذوذاً شديداً في التاريخ الكولونيالي، تنظر هذه البحوث الجديدة إلى فلسطين باعتبارها محتلة من قوتين إمبرياليتين- البريطانية واليهودية. إن مثل هذا التوصيف للقوة اليهودية سوف سيدو كمزحة قاسية وثقيلة بالنسبة لتلك الجموع التي سعت بشدة لدخول فلسطين قبل الاستقلال.
يرفض التحليل ما بعد الكولونيالي أو يتجاهل المنظور الذي اشتغلت في إطاره الأجيال السابقة من الباحثين الإنسانيين وعلماء الاجتماع. خلال فترة ما قبل الدولة التي كانت فيها "القدرة الاستيعابية الاقتصادية" لفلسطين مسألة مركزية في أجندة الخطاب العام والعلمي، تم ضبط الاستيطان اليهودي داخلياً وطولياً، بما يتوافق مع التاريخ الطويل للبلاد و مساهمة اليهود فيه. وضمن هذا الخطاب, لم تكن عملية تحويل الصحراء إلى مزارع مزهرة خطأ, بل إنجازاً يستحق الإعجاب، بدلاً من ذلك، يوجد الآن استخدام في غير محله لإطار مقارن ينظر إلى الوجود اليهودي في أرض إسرائيل أفقياً أو حصرياً ضمن إطار حديث نسبياً , و ليس من المستغرب هنا أن يدمج البعض رؤى دراسات ما بعد الكولونيالية بمجموعات مختلفة من لاهوت التحرير، وبحوث التصحيحيين، و اللقى الآثارية -أو غيابها- ويعد عمل نادية أبو الحاج(25) حالة نموذجية عن هذا الدمج, حيث يبدأ عملها عن علم الآثار الصهيوني مع الأخذ بعين الاعتبار نموذج مجتمع المستوطنين كما يصفه شافير، ثم تنتقل إلى الاستنتاج الضمني الذي تحملته فلسطين الصهيونية كمجتمع استيطاني تدخلي قام المهاجرون من خلاله بتصنيع وجود السكان الأصليين وتشويههم وتجاهلهم لتبرير مشروعهم الاستعماري.
أود أن أستنتج أنه من المفيد للعلماء الذين تصنف أعمالهم المبكرة الاستيطان الصهيوني كنموذج مجتمع مستوطنين فقط, غالباً ما يمضون في التساؤل عما إذا كان يجب على إسرائيل أن تستمر في الوجود كدولة يهودية, مثل هؤلاء الباحثين سوف يكون قصيتهم المركزية تتمثل في ما إذا كان من الممكن للدولة اليهودية أن تكون ديمقراطية أيضاً، وسوف يصلون بشكل موحد إلى نتيجة سلبية لأنه لا يمكن لأي مجتمع استيطاني, بحكم تعريفه, أن يكون مجتمعاً ديمقراطياً. باختصار، فإن الخطيئة الأصلية للاستعمار لها عواقب حتمية لا يمكن تطهيرها إلا بالإجراء الأكثر تطرفاً(26) , هذه التهمة وتأييد الحلول الجذرية ليس لها حدود انضباطية. ومن غير المرجح أن تكون التحديات التي تواجه الحقوق القومية اليهودية والمطالبات الإقليمية مرحلة عابرة. لقد انتشرت مثل هذه التحديات في الدراسات العلمية والمقالات الصحفية التي تسعى إلى استبدال بحوث سابقة كانت لها أصول مختلفة وتوصلت إلى استنتاجات مخالفة.
موضوعنا هنا ليس لماذا حدث كل هذا, إن ما يبدو واضحًا لنا هو أن القرن العشرين شهد نقلة نوعية في البحوث الدراسية المعنية بفلسطين. و في جميع النماذج المستخدمة لتفسير الصراع العربي / الإسرائيلي كان للدليل التاريخي- أو غيابه- بالغ الأهمية , وإذن, أيضاً, ، سيكون من الأهمية بمكان النظر إلى اختيار أي مجتمع في العالمين القديم والحديث يمكن مقارنة فلسطين و إسرائيل به . المخاطر التي ينطوي عليها هذا الاختيار كبيرة وعميقة الإدراك, ومن المرجح أن التمييز و الفصل بين التجاذبات المتضاربة للتواريخ الحقيقية و المتخيلة وحتى المفترضة، سوف يستمر في تحدي و إثارة الوسط الأكاديمي والجمهور عامة وكذلك المشارك / المراقب.
..........................
ملاحظات
العنوان الأصلي : De-Judaizing the Homeland: Academic Politics in Rewriting the History of Palestine
المؤلف: Selwyn Ilan Troen
الناشر :-Israel Affairs, Vol.13, No.4, October 2007, pp.872- 884
المترجم"محمود الصباغ
الهوامش
1Chaim Weizmann to Harry S. Truman, 12 December 1945, Weizmann Papers, Vol. 22, New Brunswick, NJ, 1979, p. 78.
2 أصبحت فكرة "إعادة البناء" بمثابة مجاز مكرر وبارز أدى إلى قرار التقسيم وإنشاء دولة يهودية. النموذج المثالي على هذا الوضع يمكن العثور عليه في ملاحظات بن غوريون أمام لجنة الأمم المتحدة الخاصة المعنية بفلسطين في 4 تموز-يوليو 1947: " في الرباع و العشرين من تموز -يوليو 1925 ، تم تأكيد الانتداب على فلسطين من قبل مجلس عصبة الأمم . ويجسد الانتداب تصريح بلفور ويضيف أضاف تضخيمًا إسهاباً ذا مغزى. وبعد الاستشهاد بديباجة، نص تصريح بلفور أضاف "تم الاعتراف بالتالي بالصلة التاريخية للشعب اليهودي بفلسطين وبأسباب إعادة تأسيس [ليس تأسيس- التشديد من الأصل ] موطنه القومي في ذلك البلد" Evidence of Mr. David Ben-Gurion before U.N.S.C.O.P., 4th July 1947 , Ben-Gurion Archives, Sede Boker.
3 يمكن العثور على مناقشات أوسع في الأدبيات البحثية المبكرة في عمل S. IlanTroen, Calculating the "Economic Absorptive Capacity" of Palestine A Study of the Political Uses of Scientific Research , Contemporary Jew ry, Vol. 10, No. 2 (1989) , pp. 19- 38.
4 مستمد مصطلح " المجتمعات المتخيلة" من بنديكت أندرسون Imagined Communities: Re flection s on the Origins and Spread of Nationalism, New York, 1991 , كما يمكن العثور على فهم المؤلف لأهمية هذا المصطلح بالنسبة للتجربة الصهيونية في S. Ilan Troen,Imagining Zion: Dream, s Designs, and Realities in a Century of Jewish Settlement, New Haven, CT, 2003, pp. 141-162.
5 يمكن العثور على الخلفية التاريخية لتغيير الأسماء إلى العبرية وكذلك نقد الممارسة في Meron Benvenisti, Sacred Landscape: The Buried History of the Holy Land Since 1948, Berkeley, CA, 2000 . تقدير أكثر إيجابية و معلومات إضافية أخرى يمكن العثور عليها في Emanouel Hareouveni, The Settlements of Israel and Their Archaeological Sites (Hebrew), Givatayim-Ramat Gan, 1979, and Ze ev Vilnay, The Settlements in Israel (Hebrew ), Tel Aviv, 1951 .
6 Jeohoas h Hirshberg, Music in the Jewish Community of Palestine1880-1948, Oxford, 1995, pp. 78- 109 and 147- 148.
7 See Tamar Kattie!, Talking Straight: Dugri Speech in Israeli Sabra Culture, New York, 1986 and Oz Almog, The Sabra: The Creation of the New Jew , Berkeley and Los Angeles, 2000.
8 S. llan Troen, The Construct ion of a Secular Jewish Identity: European and America Influences in Israeli Education , in Deborah Dash-Moore and S. Ilan Troen (eds.), Divergent Jewish Centers: Israel and America, New Haven, CT, 2001, pp. 27-52.
9 George Antonius, The Arab Awakening, London, 1938, especially the last portion, chapter 8, Iraq, Syria and Palestine After the War , pp. 350-412, and the Appendices, pp. 413- 460.
10 For a recent discussion of Toynbee s position on Zionism, see Hedva Ben-Israel, Debates with Toynbee : Herzog, Talmon, Friedman , Israel Studies, Vol. 11 , No. 1 (2006), pp. 79- 90, and Abba Eban, The Toynbee Heresy , Israel Studies, Vol. 11, No. 1 (2006 ), pp. 91-107.
11 Edward W. Said, Culture and Imperialism, New York, 1993. This trope was first espoused to enthusiastic acclaim in his Orientalism, New York, 1978, and is reiterated in his many writings.
12 Edward W. Said, Blaming the Victims: Spurious Scholarship and the Palestine Question, New York, 1988, p. 235.
13 Ivan Davisdon Kalmar and Derek J. Penslar (eds.), Orientalism and the Jews, Hanover, NH, 2005.
14 Naim Ateek, J,. justice and Only Justice: A Palestinian Theology of Liberation, Maryknoll, NY, 1989, pp. ?ff. لم يشطب نعيم عتيق اليهود من الماضي القديم فحسب و الاستغناء عن مزاعمهم في الحقبة المسيحية، بل هو يمحوهم من الكثير من فلسطين. انظر وصفه لمسقط رأسه بيسان[ بيتشان] حيث يتجاهل الحضور اليهودي في تلك المدينة، و بدرجة أكثر دقة في المنطقة المجاورة. بالنسبة له فلسطين موطن و أرض يعيش فيها المسيحيون و المسلمون فقط
15 الأعمال الرائدة لهذه المدرسة تتضمن Thomas L. Thompson, Early History of the Israelite People from the Written and Archaeological Sources, Leiden, 1992 and Philip Davies, In Search of Ancient Israel, Sheffield, 1992. . من أجل مراجعة مميزة لهذه المدرسة, أنظر:ي Marc Brettler, The Copenhagen School: The Historiographical Issues , Association for Jewish Studies Review, Vol. 27 (2003), pp. 1- 21.
16 Keith Whitlam, The Invention of Ancient Israel: The Silencing of Palestinian History, London, 1996, pp. 3-4, 225.
17 Available at http://www.alquds.edu/gen_info/index.php?page = jerusalem_history.
18 Sari Nusseibeh and Mark Heller, No Trumpets, No Drums: A Two -State Solution, New York ,1991. هذه النسخة المنشورة في وقت مبكر تنبئ بالجهد المعاصر المبذول لحشد التأييد لحل الدولتين . See Signing an End to the Conflict : A Statement of Principles, 27 July 2002, available at http://www.mifkad.org.il/en/principles.asp.
19 Gershon Shafir, Land, Labor, and the Origins of the Israeli-Palestinian Conflict, 188 2- 1914,Berkeley and Los Angeles, 1989.
20 Dennis K. Fieldhouse, The Colonial Empires: A Comparative Survey from the Eighteenth Century, London, 1966.
21 J.A. Hobson, Imperialism: A Study, London, 1902, and V.I. Lenin, Imperialism, The Highest Stage of Capitalism: A Popular Outline, New York, trans. 1939. بخلاف لينين و هوبسباوم , لا يرى فيلدهاوس في التوسع الاستعماري الأوروبي باعتباره المرحلة الأخيرة من الثورة الرأسمالية. كما أنه لا يعتقد أن أوروبا أو الرأسمالية ستنهار بعد إلغاء الاستعمار.
22 See Baruch Kimmerling, Zionism and Territory: The Socio-Territorial Dimensions of Zionist Politic s, Berkeley and Los Angeles, 1983 Simon Schama, Two Rothschild s and the Land of Israel, New York, 1978 and Ran Aaronsohn, Settlement in Eretz Israel- A Colonialist Enterprise? "Critical" Scholarship and Historical Geography , Israel Studies, Vol. 1, No. 2 (1996 ), pp. 214- 229.
23 Fieldhouse, Colonial Empires, pp. 239, 250.
24 Fieldhouse, Colonial Empires, p. 318.
25 Nadia Abu El-Ha j, Facts on the Ground: Archaeological Practice and Territorial Self- Fashion in Israeli Society, Chicago, 2001.
26 مثل هذا " التبصر" يعلمنا بتطور مل باروخ كيميرلينغ و غيرشون شافير وأورن يفتاحيل، الذين انتقلوا جميعًا من دراسة نمط الاستيطان اليهودي إلى تقييم الطبيعة الديمقراطية لإسرائيل المعاصرة. الكل سيدعم استبدال دولة يهودية بـ "دولة لجميع مواطنيها". لا يحتكر علماء إسرائيل الناقدون استنتاجهم. إنها فكرة شائعة وردت عند ماكس رودنسون على الأقل , انظر: Max Rodinson, Israel: A Colonial -Settler State? New York, 1973, which originally appeared in French in 1967،
#محمود_الصباغ (هاشتاغ)
Mahmoud_Al_Sabbagh#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟