بشير الوندي
الحوار المتمدن-العدد: 6259 - 2019 / 6 / 13 - 15:11
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
مباحث في الاستخبارات (168)
الاستخبارات في الحرب العالمية الاولى
بشير الوندي
-----------
مقدمة
-----------
كان للاستخبارات دور على مر العصور في المجال العسكري , ولم يعد ممكناً فصل الدور الاستخباري في كتابة التاريخ بسبب ملازمته للسياسة والصراعات .
وقد كان للحرب الكونية الاولى الفضل في التطورات الاستخبارية اللاحقة سواء في مجال ادراك اهميتها وتأثيرها في معادلات الانتصار والهزيمة , او في مجال تطور الادوات الاستخبارية ذاتها لمواكبة التحديات التي كانت تعصف بمستقبل امم وشعوب , ومن هنا كانت تلك الحرب هي الرافعة التي ادركت فيها الجيوش والحكومات اهمية اعطاء الصدارة للاستخبارات.
--------------------
نظرة تاريخية
--------------------
كما قلنا آنفاً , فإن تاريخ التجسس هو جزء أساسي من تاريخ العالم قديماً وحديثاً كإرتباط السياسة والسلطة بالتاريخ , حتى ان كتاب فن الحرب لسن تزو، وكتاب الأرثاشاستارا الهندي (الذي بقي مفقوداً لألف عام)، فيهما إشارات مبكرّة على النّظرة الاستراتيجيّة التي منحها القادة السياسيون والعسكريون في الشرق للمعلومات حول الأعداء الخارجيين والداخليين لكسب الصراعات، في مقابل الرومان الذين ادى اعتمادهم على العرافين والدجل الى توقف توسعهم شمال اوروبا .
الا ان فكرة الحصول على المعلومة ونقلها كان هاجساً عبر العصور بسبب تحديات المواصلات والاتصالات , والذي اخذ شكله في المناهج العسكرية الرومانية والبيزنطينية بفكرة ديوان البريد الروماني .
وقد تأثر المسلمون بالمناهج العسكرية الرومانية والبيزنطية وطوروه بتحسين بلوغ المعلومة او التعليمات بحيث استخدموا جمالاً تقطع اكثر من 100 كيلومترا في اليوم الواحد وخلق مسافات بين بريد وآخر لا تتجاوز 12 كيلومترا وهو ما سهل التواصل السريع، حتى اصبح صاحب البريد هو عين الخليفة على الرعية، واصبحت الرسائل الرسمية من دمشق إلى القاهرة تستغرق أربعة أيام في الظروف العادية، ويومين في الظروف الاستثنائية.
اما في عصر النهضة فإن شبكات الاستخبارات كانت مكوناً أساسياً من أدوات السلطة في العصور الوسطى لدى ايطاليا واسبانيا وفرنسا وإنجلترا , وتبرز هنا الكثير من القصص الشيقة كالدور الاستثنائي الذي لعبه فرانسيس وولسينغهام، القائم على استخبارات الملكة إليزابيث الأولى، في حفظ الحكم لآل ويندسور، من خلال مؤامرته الحاسمة لإسقاط ماري، ملكة اسكوتلندا، التي تبيّن لاحقاً أنه زوّر رسائل بإسمها تسببت في مصيرها القاتم , كما كان للمعلومات الاستخبارية الدور في هزيمة نابليون بونابارت امام الجيش البريطاني .
---------------------------------------------
القرن العشرين قرن الاستخبارات
---------------------------------------------
ان معظم تاريخ الاستخبارات يتركز في تطوره في مرحلة القرن العشرين ، بعد ان ترسخت شبكات التجسس كضرورة حتمية لاسيما خلال الحرب العالمية الأولى والثانية، ولاحقاً الحرب الباردة , ومن المثير للسخرية هنا أن الحكومة البريطانية بقيت لنهاية الثمانينات تنكر أن لديها خدمة سرية.
ان أساسيات العمل الاستخباري لم تتغير كثيراً عبر العصور، سوى بكمية المعلومات بالتوازي مع كل تطور في صناعة تكنولوجيا الاتصالات، لا سيما مرحلة اختراع التليغراف، ولاحقاً تطور الحواسيب وأنظمة الهاتف والإنترنت وقواعد البيانات الضخمة.
وقبل الثمانينات من القرن التاسع عشر كانت أنشطة الاستخبارات مخصصة بشكل حصري تقريباً لدعم العمليات العسكرية ، سواء لدعم القوات أو للحصول على معلومات حول آراء أو مساهمة الدول الأخرى في صراع ما.
في آذار 1882 أُنشئت أول منظمة استخبارية دائمة – مكتب استخبارات البحرية - في وزارة البحرية الامريكية لتجميع الاستخبارات حول الأساطيل الأجنبية في وقت السلم والحرب. بعد ذلك بثلاث سنوات أُنشئت منظمة مماثلة – قسم الاستخبارات العسكرية في الجيش - من أجل تجميع البيانات العسكرية المحلية والأجنبية لوزارة الحرب والجيش.
واستخدم روزفلت عملاء الاستخبارات لإثارة ثورة في بنما لتبرير ضم قناة بنما في عام 1907م.، اعتمد رئيس الجمهورية أيضاً على الاستخبارات التي أظهرت البنية العسكرية لليابانيين كمبرر لإطلاق الرحلة العالمية للأسطول الأبيض العظيم هو أسطول البحرية الأمريكية الذي أتم الطواف حول العالم في الفترة ما بين 16 ديسمبر 1907 إلى 22 فبراير 1909.
-----------------------------------------------
تطور التشفير والحرب العالمية الأولى
-----------------------------------------------
لعل من اهم نتائج الحرب العالمية الاولى هو التطور السريع في مجال التشفير والاكواد للحفاظ على سرية تحركات وخطط الجيوش , فقد استُخدمت الأكواد والشفرات أثناء الحرب العالمية الأولى بشكل مكثف، وتحققت انتصارات عديدة ومتغيرات بسبب التطور في فك الشفيرات السرية , وأدى تمكُّن استخبارات البحرية البريطانية من فك شفرة برقية زيمرمان الالمانية إلى دخول الولايات المتحدة الحرب.
وقد استخدمت الجيوش الميدانية لمعظم الدول المتحاربة شفرات الخنادق وهي أكواد استبدالية بسيطة، أما الرسائل الأكثر أهمية فقد كان يُستخدم فيها ـ بصفة عامة ـ التشفير الرياضي لمزيد من التأمين. وقد تطلّب استخدام هذه الأكواد توزيع كتيبات شفرة على العسكريين , وقد كانت هذه الكتيبات نقطة ضعف أمنية، لأنها كانت معرضة للسرقة أو الاستيلاء عليها من قوات العدو.
وكانت تضطلع بفك الشفرات في بريطانيا كل من الغرفة 40، التابعة لمخابرات البحرية، والمكتب الأول (MI1) التابع للاستخبارات الحربية ,
اما ألمانيا والنمسا , فقد تمكنتا من اعتراض الرسائل اللاسلكية الروسية. ويُذكر أن الانتصار الألماني الحاسم على الروس في معركة تاننبرغ (1914) كان بفضل اعتراض الألمان لرسائل تبادلها القادة الروس دون تشفير.
وقد أنشئ مكتب التنصت الألماني سنة 1916، وكان يتألّف ـ بالدرجة الأولى من مختصين بالرياضيات. وقد وضع الألمان قواعد تحدد أنواع الشفرات المسموح باستخدامها في كل ظرف من الظروف، ففي حدود ثلاثة كيلومترات من الخطوط الأمامية (أو ما كان يُعرف بمنطقة الخطر) لم يكن يُسمح بتبادل الاتصالات إلا باستخدام كود يُعرف بالكود ذي الأرقام الثلاثة. أما فيما سوى تلك المنطقة الخطرة، فكان يُسمح باستخدام كود آخر يُعرف بالكود ذي الحروف الثلاثة، وكانت يجري تبادل الرسائل بين الفرق والكتائب وبين قيادة الجيش باستخدام شفرة خاصة .
كما أعاد الجيش الفرنسي عسكرييّن متقاعدَين إلى الخدمة لفك الشفرات الألمانية , وقد كان لفرنسا في بداية الحرب ثمانية محطات اعتراضية، من بينها محطة في برج إيفل. وقد تمكنت فرنسا بواسطة هذه المحطات من اعتراض أكثر من مائة مليون كلمة من الرسائل اللاسلكية الألمانية أثناء الحرب.
وقد نجح محلل الشفرات الفرنسي جورج بانفان في فك رموز شفرة القيادات الالمانية , وأدى ذلك إلى تغير جوهري في سير المعارك، حيث استطاع الفرنسيون فك رموز رسالة نجحوا في اعتراضها وكانت عن إرسال ذخائر إلى الخطوط الأمامية تمهيدًا لهجوم ألماني، مما مكّن الفرنسيين من معرفة مكان وزمان الهجوم المرتقب، ومن ثم تمكنوا من صده. وقد عُرفت هذه الرسالة برسالة النصر.
--------------------
صراع الاكواد
-------------------
بحلول ١٩١٤ كانت السفن تستخدم اجهزة لاسلكية بمدى ٢٠٠٠كم , لذا انشات محطات اعادة بث في جميع انحاء العالم لاعادة الارسال , وفي تلك الحقبة لم يكن ممكنا معرفه مكان الارسال او محطة الارسال .
وكانت البحرية الانكليزية هي الاكبر والاقوى عالمياً الا انها منيت بخسائر كبيرة في بداية الحرب في عدة معارك بسبب ضعف الاستخبارات وتفوق الالمان استخبارياً حتى تأسيس الغرفة ٤٠ والتي تم تزويدها بسجل التأمين المصرفي الالماني على تجارتهم الدولية والذي حصل عليه البريطانيون من خلال البحرية للاسترالية التي حصلت عليه من سفينة معطوبة المانية وسجل الاشارات البحرية الالمانية من خلال سفينة معطوبة استطاعت البحرية الروسية الحصول عليها , بالاضافة الى سجل الرحلات الالماني والذي تم الحصول عليه من خلال الانكليز عندما انتشلوا طراد الماني غارق , فكانت تلك السجلات قاعدة البيانات للغرفة 40 .
وعلى الجانب الالماني , استطاع خبير يعمل في مكتب القائد العام للجيش الالماني في جبهة روسيا ان يفك الشيفرة الروسية , فأصبح لدى الألمان تفوق في الميدان لمعرفتهم نوايا الروس , وتعتبر انتصارات الالمان في معركة تاننبرغ ضد الروس وأسرهم ثلث القوات الروسية , هي اول معركة تحقق النصر فيها من خلال فك الشيفرة الاسلكية.
اما الجبهة الفرنسية , فبرغم تمكنها الاستخباري المبكر , الا ان مخابراتها اخفقت من تقدير قوة الالمان بشكل صحيح , وقدموا تقييماً للجنرال جوزيف جوفري قائد القوات الفرنسية مفاده ان الدفاعات البلجيكية ممتازة وأنَّ الجيش الالماني متعب ومعنوياته منهارة , الأمر الذي جعل الالمان يصلون الى مشارف باريس خلال خمسة اسابيع , وهو ما ادى لتنبه الانكليز والفرنسين لأهمية الاستخبارات , فأسسوا شبكة تجسس في بلجيكا - المحتلة المانياً - من ٢٠٠٠ عنصر تتجسس على القوات الالمانية .
-------------------
الجاسوسية
-------------------
كان العمل الاستخباري يتمثل في الحرب العالمية الاولى في ثلاث جوانب رئيسية هي نشر الجواسيس وفك الشيفرات والتنصت وكذلك التحقيق مع الاسرى والفارين بالإضافة الى الحصول على الوثائق من المقتولين وارض المعركة وغوارق السفن .
وكان التجنيد للتجسس في الحرب الاولى في اوساط المدنيين حيث لم يكن من السهل تجنيد الجنود والضباط بسبب الانضباط العالي حيث كانوا مشبعين بالقيم والمبادى , ومن النادر ان نسمع عن خيانة او تجنيد ضابط لصالح العدو خلال تلك الحرب.
كما اسست الحرب العالمية لفكرة تمدد الصراع الاستخباري في اراضي الدول المحايدة كسويسرا و اسبانيا وهولندا والسويد والدنمارك , والتي كان يدور على اراضيها الجهد التجسسي المتضارب بين المتحاربين , وهناك الكثير من قصص الجاسوسية التي تناولها المؤلفون في فترة الحرب العالمية الاولى والتي تدلل عن التوسع الاستخباري الذي دعت اليه الحاجة خلال الحرب .
-----------------------------------
الاستخبارات في الصدارة
-----------------------------------
لقد كانت الاستخبارات قبيل الحرب الاولى واحدة من وسائل القتال , ولكن لم ينظر اليها كعامل حاسم في الصراع , الا ان تجربة الحرب الكونية اثبتت للجميع بأن الاستخبارات هي من اساسيات الانتصار , ومن ثم ازدادت اهمية الاستخبارات لتصبح هي الموجه والمرشد للقادة وهي التي تضعهم في الاتجاه الصحيح , ممايعني ان اندلاع الحرب العالمية الاولى هو بداية دور وتقدم دور الاستخبارات على باقي محاور القوات المسلحة , وفهم القادة العسكر والسياسيين بأن الجيوش وقوتها لا تكفي للنصر بلا استخبارات.
ان هنالك الكثير من التفاصيل والنماذج التي تؤكد الادوار الاستخبارية الحاسمة في قلب معادلات الصراعات الحربية خلال الحرب العالمية الاولى , ومنها نموذج الاستاذ الجامعي الفرنسي جورجيس بانفين الذي يعمل في المكتب الثاني الاستخبارات العسكرية الفرنسية وقد تمكن من فك شفرة تقول بأن الهجوم الالماني سيكون في يوم ١ يونيو ١٩١٨ على منطقه كومبيين , الأمر الذي جعل للفرنسيين افضلية ساحقة ادت الى انتصار الجيش الفرنسي وانسحاب الجيوش الالمانية لاحقا من فرنسا.
كما ان الاستخبارات لعبت دوراً في التحالفات وتغيير موازين القوى , فأمريكا كانت تزعم انها محايدة وتمد بريطانيا وفرنسا بالمساعدات , الا ان بريطانيا كانت تسعى لتوريطها وادخالها الحرب , وبالفعل تمكنت الغرفة 40 البريطانية في ١٧ يناير ١٩١٧ من الحصول على برقية المانية بلسان وزير خارجية المانيا موجهة الى سفيره في واشنطن مفادها انهم سيطلبون من الامريكان التوقف عن دعم فرنسا وبريطانيا وان لم تكف عن ذلك يتم دعم المكسيك عسكرياً لإرجاع اراضيها المتنازع عليها مع امريكا , وتم ايصال البرقية للامريكان , ومنذ عام ١٩١٥ فتحت الاستخبارات الخارجية البريطانية فرعا في نيويورك لمساعدة الامريكان وتزويدهم بالمعلومات وفك شيفرات السفارة الالمانيه ومنع اعمال التخريب التي كانت تقوم بها المانيا سرا في امريكا .
وكان الالماني الدبلوماسي فرانس فون باين يدير تلك الاعمال التخريبية والتجسس واصبح نائب هتلر لاحقا , كما لاننسى الدور الاستخباري الالماني في اسقاط القيصرية الروسية والثورة البلشفية عام 1917 قبل ان تضع الحرب اوزارها .
ان تلك النماذج تشير الى ان الحرب الاولى قد برزت دور الاستخبارات كعلم وكسلاح مهم , ومن خلال الحرب أحست الدول حاجتها لأجهزة استخبارات محترفة ومستقلة , فأمريكا لمن تكن تمتلك جهازا خارجياً اثناء الحرب العالمية الاولى لكنها تداركت هذا النقص.
-------------
خلاصة
-------------
ان اهمية الاستخبارات كانت في تصاعد مستمر عبر التاريخ لكنه تصاعد بطيء وغير حاسم , الا ان الحرب الكونية التي اندلعت عام 1914 نبهت الدول والجيوش الى الدور الرئيسي والحاسم للجهد الاستخباري , فكانت نقطة تحول كبيرة في الصدارة الاستخبارية لدى صانع القرار , كما كانت الطامة الكبرى للدول التي تعاني من الضعف الاستخباري , وهو ما رأيناه رأي العين في العراق خلال حرب الخليج الاولى والثانية وحروبنا مع التنظيمات الارهابية وهو درس للجميع عن اهمية الاستخبارات .والله الموفق.
#بشير_الوندي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟