|
ألف باء الشيوعية-الفصل الرابع: تطور الرأسمالية يؤدي إلى الثورة الشيوعية
بوخارين و بريوبراجنسكي
الحوار المتمدن-العدد: 1541 - 2006 / 5 / 5 - 11:53
المحور:
الارشيف الماركسي
(الإمبريالية، الحرب، وانهيار الرأسمالية)
-الرأسمالية المالية –الإمبريالية –النزعة العسكرية –الحرب الإمبريالية 1914-1918 –رأسمالية الدولة والطبقات –انهيار الرأسمالية ودور الطبقة العاملة –الحرب الأهلية –أشكال الحرب الأهلية وأكلافها –الفوضى أو الشيوعية.
الرأسمالية المالية
قلنا سابقا أن الرأسماليين يعيشون في حالة نزاع حاد ودائم فيما بينهم خلال تنافسهم على الأسواق، وأن النتيجة الحتمية لهذا النزاع هي انتصار الرأسماليين الكبار. هكذا ينهار الرأسماليون الصغار، ويتراكم رأس المال ووسائل الإنتاج في يد كبار الرأسماليين (ظاهرة تكثف وتمركز رأس المال). في الثمانينات من القرن التاسع عشر كانت عملية تمركز رأس المال قد قطعت شوطا كبيرا. وحل عدد كبير من الشركات المساهمة، والمشاريع التعاونية، محل أرباب العمل الأفراد (فلنذكر أن هذه «التعاونيات» كانت شركات يساهم فيها الرأسماليون).
ما مغزى هذا التطور؟ لماذا ظهرت الشركات المساهمة؟ الجواب بسيط. جاء وقت أصبح فيه إنشاء مشروع رأسمالي جديد يتطلب كمية كبيرة من رؤوس الأموال. فالمشاريع الضعيفة من حيث رؤوس أموالها كانت تملك حظا قليلا في الحياة. ذلك أنها كانت مطوقة بالمنافسين الأقوياء من كل الجهات، أي بالمشاريع التي تنتج على نطاق واسع. لذا، فلكي لا يقضي على مشروع رأسمالي في المهد، كان لا بد من بنائه على أسس راسخة. ولكن الذين يستطيعون بناء مثل هذه الأسس الراسخة هم الذين يملكون وفرة من رؤوس الأموال. هكذا كانت الشركات المساهمة وليدة تلك الحاجة إلى كميات كبيرة من رؤوس الأموال. وتتلخص قضية الشركات المساهمة باستغلال حفنة من كبار الرأسماليين لرؤوس الأموال المجمعة لدى الرأسماليين الصغار أو للمدخرات المتراكمة بين أيدي الفئات غير الرأسمالية (الموظفون، الفلاحون، المستخدمون،الخ). ويتم ترتيب الأمور على النحو التالي. الكل يقدم حصته من رأس المال. والكل يحصل على «سهم» أو عدة «أسهم». وفي مقابل المال المدفوع، يحصل كل من المساهمين على «شهادة حيازة سهم» من أسهم الشركة، تتيح له حق الحصول على نسبة معينة من أرباحها. وبهذه الطريقة، يؤدي تراكم الكميات الصغيرة من رؤوس الأموال إلى ولادة شركات رأسمالية مساهمة كبيرة.
عندما ظهرت الشركات المساهمة لأول مرة، بدأ بعض المفكرين البرجوازيين، وأيضا بعض الاشتراكيين من دعاة التعاون الطبقي، التبشير بأن عهدا جديدا قد بدأ. فأعلنوا أن الرأسمالية لن تؤدي إلى سيطرة حفنة من الرأسمالية. بل بالعكس تماما. فالعامل يستطيع الآن أن يوفر بعضا من دخله لشراء الأسهم، وهكذا يتحول كل عامل إلى رأسمالي. واعتبر هؤلاء المفكرون أن رأس المال يصبح «ديموقراطيا» على نحو متزايد، بحيث تزول الفوارق بين الرأسماليين والعمال دون حاجة إلى ثورة.
طبعا هذا كله هراء وكلام سخيف. فقد سارت الأمور بطريقة مختلفة كليا. وكل ما في الأمر أن الرأسماليين الكبار استعانوا بالرأسماليين الصغار خدمة لمصالحهم. وإذا بتمركز رأس المال يسير بوتيرة متسارعة لم يعرفها من قبل، بعد أن باتت المنافسة محصورة بالنزاع بين شركات مساهمة جبارة.
والحقيقة أن تمركز رأس المال خطا خطوة جديدة على أمام. فخلال العقود الأخيرة، حلت تجمعات رأسمالية كبيرة –عرفت باسم «النقابات الاحتكارية» و«التروستات»- محل المشاريع الرأسمالية الفردية والشركات المساهمة الفردية. لماذا نشأت هذه التجمعات؟ وما مغزى قيامها؟
لنفترض أن الرأسماليين الصغار اضمحلوا كليا في أحد فروع الإنتاج، كالنسيج أو الصناعات الهندسية مثلا. ولم يبق إلا خمس أو ست شركات مساهمة كبيرة، تحتكر إنتاج النسبة الأعلى من سلع هذين الفرعين الصناعيين. هذه الشركات تعيش حالة منافسة شرسة وحادة، الأمر الذي يؤدي إلى انخفاض أسعار سلعها، وبالتالي إلى انخفاض أرباحها جميعا. ولنفترض الآن أن شركتين هي الأكبر والأقوى بالمقارنة مع الشركات الباقية. فنجد أنهما قادرتان على الاستمرار في النزاع إلى حين انهيار الخصوم الآخرين. ولنفترض أن قوة هاتين الشركتين متعادلة: كمية الإنتاج واحدة، وأنواع الآلات واحدة، وعدد العمال واحد، وأخيرا ليس ثمة من فوارق كبيرة في كلفة إنتاج السلع بينهما. فما النتيجة؟ لا يستطيع أي منهما الانتصار في المعركة، وكلاهما قد أصابه الإنهاك وانخفضت أرباحه. هنا تصل الشركتان إلى نتيجة واحدة: لماذا نبقى نخفض الأسعار في المضاربة بيننا؟ أليس من الأفضل أن نتحد معا لمص دماء جمهور المستهلكين؟ إن اتحادنا يزيل المنافسة، ويسمح لنا بالسيطرة على السوق، فنستطيع رفع الأسعار قدر ما يحلو لنا.
هكذا تولد المجموعات، والتكتلات الرأسمالية، التي نسميها «النقابات الاحتكارية» أو «التروستات». والذي يميز «النقابات الاحتكارية» عن «التروست» أن الأولى تقوم على اتفاق بين الرأسماليين على عدم بيع سلعهم من دون حد معين، أو على المشاركة في تلبية الطلبيات، أو على الانقسام الجغرافي للسوق (أنت تحصر مبيعك في هذه المقاطعة، وأنا، من جهتي، أحصره في مقاطعة ثانية)، إلى ما هنالك. وفق هذا الترتيب، لا يحق لإدارة «النقابة الاحتكارية» إغلاق أي مصنع، ويبقى كل طرف من أطراف العصبة متمتعا بشيء من الاستقلال. أما بالنسبة لـ«التروست»، فإن الاندماج بين الأطراف وثيق إلى درجة أن كل شركة تخسر استقلالها. ويحق لإدارة «التروست» إغلاق مصنع معين، أو إعادة بنائه، أو نقله إلى مكان آخر، أو التصرف به حسبما تمليه مصلحة «التروست» العامة. طبعا، في ظل هذا التدبير يظل صاحب الشركة (أو أصحابها) يحصل الأرباح التي تدرها شركته، وقد ترتفع هذه الأرباح عما كانت عليه من قبل، إلا أن إدارة المصانع والشركات المنضوية في «التروست» تكون بيد إدارة «التروست» نفسه.
تمارس «النقابات الاحتكارية» و«التروستات» سيطرة شبه مطلقة على السوق. وهي لا تخاف المزاحمة، لأنها قضت عليها كليا. وحل محل المزاحمة، الاحتكار الرأسمالي، أي سيطرة تروست واحد على السوق.
وهكذا نجد أن تمركز رأس المال يؤدي تدريجيا إلى القضاء على المزاحمة. وهكذا تحفر المزاحمة قبرها بيدها. وكلما تسارع نمو الرأسمالية، تتسارع عملية التمركز، وتتسارع عملية انهيار الرأسماليين الصغار. وهكذا، يظهر أن تمركز رأس المال، يشكل، في نهاية المطاف، الضربة القاضية للمزاحمة. فقد حلت هيمنة التجمعات الرأسمالية، أي حل حكم «النقابات الاحتكارية» و«التروستات الرأسمالية» محل «المنافسة الحرة».
والواقع أن «النقابات الاحتكارية» و«التروستات» لا تقتصر على تجميع الشركات المنتمية إلى فرع صناعي واحد. فمع الوقت، تبدأ بشمول عدة فروع إنتاجية. كيف يتم ذلك؟
إن فروع الإنتاج ترتبط بعضها ببعض بالدرجة الأولى من خلال البيع والشراء. لننظر مثلا إلى إنتاج خام الحديد والفحم. إننا نتعاطى هنا مع منتجات تستخدم كمواد خام لمعامل صب الحديد والمشاغل الهندسية، وهذه المصانع تنتج بدورها الآلات، والآلات تشكل وسائل الإنتاج في سلسلة من الفروع الأخرى، إلى ما هنالك. لنفترض أننا نملك مصنعا لصب الحديد. إنه يشتري خام الحديد والفحم. إن مصلحة هذه الشركة هي بالطبع أن تشتري خام الحديد والفحم بأرخص سعر ممكن. ولكن ماذا لو كان خام الحديد والفحم تحت سيطرة «نقابة احتكارية» ثانية؟ إذ ذاك يبدأ نزاع بين «النقابيين الاحتكاريين» الذي ينتهي إلى انهيار إحداهما أو الاندماج بينهما. وفي كلا الحالين، تولد نقابة احتكارية جديدة تضم فرعي الإنتاج. ومن البديهي أن مثل هذا الاندماج قد يحصل ليس فقط بين فرعين إنتاجين، وإنما أيضا بين ثلاثة أو حتى عشرة فروع. وهذا ما نسميه بالشركات «المجمعة».
وهكذا فإن النقابات الاحتكارية والتروستات لا تقتصر على تنظيم فروع إنتاجية مفردة، وإنما تصهر في تنظيم واحد أنواعا مختلفة من الفروع الإنتاجية. فتوحد فرعا مع آخر، مع ثالث ورابع، إلى آخره. في السابق كان أرباب الأعمال مستقلين كل في فرعه، وكان الإنتاج موزعا على عشرات الألوف من المصانع الصغيرة. ولكن، في مطلع القرن العشرين، كان الإنتاج قد أصبح متمركزا بيد تروستات جبارة تهيمن كل منها على عدة فروع إنتاجية.
على أن إتحاد فروع الإنتاج الانفرادية تم بطريقة أخرى غير طريقة أخرى طريقة تشكيل «المجمعات» الصناعة. وعلى القارئ أن يركز اهتمامه الآن على ظاهرة أهم من المشاريع الرأسمالية «المجمّعة»، نعني بها سيطرة المصارف.
لا بد، بادئ بدء، من كلمة عن المصارف بشكل عام.
قلنا سابقا أنه مع نمو التمركز الرأسمالي، برزت الحاجة إلى رؤوس أموال قالبة للتوظيف المباشر في إنشاء المشاريع الرأسمالية الكبيرة. وكانت هذه الحاجة هي أحد أسباب ظهور الشركات المساهمة. ذلك أن إنشاء مثل هذه المشاريع أخذ يتطلب كميات متزايدة من رؤوس الأموال.
لننظر الآن إلى ما يفعله الرأسمالي بالأرباح التي يجنيها. نعرف أنه ينفق البعض منها على سد حاجاته المباشرة:الطعام، الكساء، وغيرها. أما الأرباح الباقية فإنه «يدخرها». والسؤال هنا: كيف يفعل ذلك؟ وهل باستطاعته، في أية لحظة يشاء، أن يوسع عمله، وأن يكرس أرباحه «المدخرة» لهذا الغرض؟ لا، أنه لا يستطيع ذلك. وذلك للسبب التالي: يتدفق المال إلى خزائن الرأسمالي باستمرار، هذا صحيح. لكنه يتدفق بكميات قليلة. فالسلع التي ينتجها تباع بالتدريج، ويصله ثمنها تدريجيا. إنه طبعا يتطلب تراكم كميات كبيرة من هذه الأموال إذا كان يريد استخدامها لتوسيع مصانعه. لذا يضطر إلى انتظار الوقت الذي يتأمن له فيه الكمية المطلوبة لشراء آلات جديدة مثلا. ولكن ما العمل، إلى حين توافر هذه الكمية؟ إنه لا يستطيع استخدام أمواله التي تبقى مجمدة. ثم أن هذا لا يحصل لرب عمل واحد أو اثنين، لكنه يحصل لجميع الرأسماليين. إن «رأس المال الحر» متوافر دائما. لكننا أشرنا أن ثمة طلبا على رؤوس الأموال. وهكذا توجد رؤوس أموال مجمدة من جهة، وتوجد، من جهة ثانية، حاجة لمثل رؤوس الأموال هذه. ومع تسارع عملية تمركز رأس المال، يتصاعد الطلب على كميات كبيرة من الأموال كما تتزايد كمية رؤوس الأموال «الحرة» المتوافرة. إن مثل هذه الظروف هي التي تمنح المصارف كل أهميتها، فالرأسمالي، الذي لا يرغب في تجميد أمواله، يودعها في المصرف. والمصرف بدوره يقرضها إلى الذين يحتاجون إليها من أجل تطوير مشاريعهم الاقتصادية القديمة أو من أجل تأسيس المشاريع الجديدة. بعض الصناعيين يودعون أموالهم في المصرف، والمصرف بدوره يسلفها لصناعيين آخرين. وهؤلاء يستعينون برأس المال المقترض لاستخراج فضل القيمة. ثم يدفعون قسما من مداخيلهم للمصرف تسديدا للفوائد. ويدفع المصرف بدوره، قسما من هذه الفوائد للمودعين، ويستقي القسم المتبقي الذي يشكل الأرباح المصرفية. هكذا تتم الصورة. ولذا نفهم لماذا تزايدت أهمية المصارف واتسع دورها ومجال نشاطها بطريقة مذهلة خلال الطور الأخير من نمو النظام الرأسمالي. إن رؤوس الأموال التي تمتصها المصارف تتزايد باستمرار. ويترافق ذلك مع ارتفاع توظيف رؤوس الأموال المصرفية في الصناعة. إن رأس المال المصرفي «متحرك» دائما في الصناعة، أي أنه يتحول إلى رأس مال صناعي. وهكذا تصبح الصناعة تابعة للمصارف التي تدعمها وتمدها برؤوس الأموال. هكذا يندمج رأس المال المصرفي برأس المال الصناعي. فيتولد نمط من رأس المال يعرف باسم «رأس المال المالي».
تلخيصا نقول: إن رأس المال المالي هو رأس المال الصناعي وقد جرى تطعيمه برأس المال المصرفي.
يقوم رأس المال المالي، من خلال المصارف، بتوثيق أواصر الصلة بين كافة فروع الصناعة، بنسبة تزيد عن عما حققه أصلا تجميع المشروعات الصناعية. لماذا؟
لنفترض أن لدينا مصرفا كبيرا، يمد بالمال عددا كبيرا من المشروعات الصناعية، أو عددا من النقابات الاحتكارية. طبيعي، إذن، أن تكون مصلحة هذا المصرف في إحلال الوفاق بين هذه المشروعات التابعة له. ذلك أنه يوحدها جميعا. من هنا، فإن سياسته الثابتة ترمي إلى تحقيق اندماج كافة هذه المشروعات في هيئة واحدة يتولى هو إدارتها. وهكذا، يبدأ المصرف بالإمساك بزمام الأمور في سلسلة من الفروع الصناعية. ويتولى موظفوه المناصب الإدارية الرفيعة في التروستات والشركات الافرادية.
وفي نهاية المطاف، نصل إلى الصورة التالية: صناعة البلد ككل منخرطة في نقابات احتكارية وتروستات ومشروعات مجمعة. وكل هذه توحدها المصارف. وعلى رأس الحياة الاقتصادية للبلد تتربع حفنة من أصحاب المصارف يديرون الصناعة بأسرها. أما سلطة الدولة، فإنها تنفذ مشيئة أصحاب المصارف وأصحاب التروستات.
الإمبريالية
تؤدي هيمنة رأس المال المالي، في الأقطار الافرادية، إلى وضع حد نسبي لفوضى الإنتاج الرأسمالي. وإذا بمختلف المنتجين، الذين كانوا يزاحمون بعضهم البعض، يرصون صفوفهم في رأسمالية الدولة الاحتكارية.
ولكن ما الذي يحصل، والحالة هذه، لأحد التناقضين الأساسين في المجتمع الرأسمالي؟ فقد قلنا سابقا أن الرأسمالية ستنهار حتما بسبب فوضى الإنتاج وبسبب الصراع الطبقي. وإذا كان أحد هذين التناقضين (انظر المادة بعنوان «التناقضان الأساسيان في النظام الرأسمالي» لم يعد فاعلا، ألا يعني ذلك أن توقعنا انهيار الرأسمالية لا يرتكز إلى أساس متين؟
النقطة الرئيسية التي يجب مناقشتها هي التالية: الحقيقة أن المزاحمة وفوضى الإنتاج لا زالا قائمين وفاعلين. أو لعله من الأصح أن نقول أن المزاحمة تخفت في مكان لتعود إلى الظهور في مكان آخر. وسنحاول شرح هذا القول بشيء من التفصيل.
إن الرأسمالية المعاصرة رأسمالية عالمية. فكل الأقطار مترابطة بعضها ببعض، يشتري بعضها من بعض ويبيع. وما من بلد إلا ويرزح تحت وطأة الرأسمالية، ما من بلد يكفي نفسه بنفسه.
السؤال الآن هو التالي: هل أن الرأسمالية المالية تقضي على المزاحمة في السوق العالمية؟ هل تصل إلى حد تكوين جهاز عالمي موحد لكونها توحد الرأسماليين في الأقطار الافرادية؟ لا، بالطبع. إن فوضى الإنتاج والمزاحمة يزولان كليا تقريبا في كل بلد بمفرده لأن أرباب العمل الأفراد قد اتحدوا لتشكيل رأسمالية دولة احتكارية. لكن النزاع بين رأسماليات الدولة الاحتكارية يزداد حدة وشراسة. وهذا ما يحصل دائما عندما يتمركز رأس المال. عندما تموت السمكات الصغيرة، ينخفض عدد المنافسين بالضرورة، ولا يبقى إلا السمك الكبير. تتم المنافسة بين كبار الرأسماليين على نطاق واسع، وبدلا من النزاع بين أرباب عمل أفراد، تتم المنافسة بين التروستات. وعدد التروستات هو بالطبع أقل من عدد الرأسماليين الأفراد. هكذا يكون النزاع أشرس وأشد تدميرا. وبعدما ينجح الرأسماليون في احد البلدان من إسداء هزيمة لمنافسيهم الأقل شأنا، وينتظمون في رأسمالية دولة احتكارية، ينخفض عدد المنافسين مجددا. ذلك أن المنافسة باتت محصورة بين القوى الرأسمالية الجبارة. ومثل هذه المنافسة تتطلب إنفاقا وهدرا نادري المثيل. إن النزاع بين رأسماليات الدولة الاحتكارية يعبر عن نفسه في أيام «السلم» بسباق التسلح، وسرعان ما يؤدي هذا السباق إلى الحرب.
وهكذا، فبينما تقضي الرأسمالية المالية على المنافسة داخل كل البلد، فإنها مع الوقت تؤدي إلى نشوب منافسة حادة ومريرة بين الدول المختلفة.
كيف يحصل ذلك؟ لماذا تؤدي المنافسة بين البلدان الرأسمالية، في نهاية المطاف، إلى اعتماد سياسة توسعية، كما تؤدي إلى اندلاع الحروب؟ لماذا لا تكون هذه المنافسة سلمية؟ عندما يتنافس اثنان من أصحاب المصانع، فإن واحدا منهما لا يهجم على الثاني وبيده خنجر، وإنما يسعى إلى سلبه زبائنه بالوسائل السلمية. فلماذا ترتدي المنافسة على صعيد السوق العالمية هذا الشكل المتوحش؟ لماذا يضطر المتنافسون إلى اللجوء لقوة السلاح؟
كل هذه الأسئلة تتطلب إجابات مفصلة.
لننظر إلى سبب التغيير الذي طرأ على سياسة البرجوازية عند الانتقال من الرأسمالية القديمة حيث تسود المنافسة الحرة إلى الرأسمالية الجديدة حيث تهيمن الرأسمالية المالية.
ولنبدأ بما يسمى السياسة الجمركية. تسعى الحكومات البرجوازية إلى حماية رأسمالييها في النزاع الدولي، لذا فقد اعتمدت التعرفات الجمركية كسلاح في هذا النزاع. عندما كان أصحاب مصانع الغزل والنسيج الروس، مثلا، يخافون من أن يدخل منافسوهم البريطانيون والألمان سلعهم إلى روسيا ويخفضون الأسعار، أقدمت الحكومة الروسية على فرض رسم على استيراد المنسوجات البريطانية والألمانية. وطبيعي أن يؤدي ذلك إلى إعاقة استيراد روسيا للمنتجات الأجنبية. عادة يعلن الصناعيون أن الرسوم الجمركية ضرورية لتشجيع الصناعة المحلية. ولكننا، إذا درسنا السياسيات الجمركية للدول المختلفة، نجد أن فرض مثل هذه الرسوم جاء تلبية لغرض آخر. فخلال العقود الأخيرة من الزمن، كان أكبر البلدان وأقواها هي التي أثار رأسماليوها أكبر قدر من الضجة مطالبين برفع الرسوم الجمركية على الاستيراد ونجحوا في فرض مثل هذه الرسوم. وكانت الولايات المتحدة السباقة في هذه المضمار. فهل أن منافسة السلع الأجنبية تسيء إلى مثل هذا البلد؟ «لماذا كل هذا الضجيج، يا جون؟ من هو الذي يسيء إليك. أنت هو المعتدي!».
ما معنى ذلك كله؟ لنفترض أن الاحتكارات تسيطر على صناعة النسيج في بلد معين. ما ذا يجري عندما يفرض رسم على استيراد النسيج؟ الرأسماليون الاحتكاريون يصيبون عصفورين بحجر واحد. أولا يتحررون من المزاحمة الأجنبية. وثانيا، يرفعون الأسعار، بالنسبة للمستهلكين في بلدهم، بنسبة تعادل تقريبا نسبة الرسم الجمركي المفروض. لنفترض أن الرسم على استيراد الأنسجة هو ليرة لكل متر. في مثل الحالة، لن يتردد احتكاريو مصانع النسيج عن إضافة 57 -100 على سعر سلعهم. لو لم تكن الصناعة احتكارية، لادت المنافسة الداخلية بين الرأسماليين فورا إلى خفض الأسعار. أما والنقابات الاحتكارية تهيمن على هذه الصناعة، فإنها لن تجد صعوبة في رفع الأسعار، لأن الحواجز الجمركية تحول دون دخول المزاحم الأجنبي، والسيطرة الاحتكارية تقضي على المزاحمة داخليا. وبالقدر الذي يظل البلد يستورد الأقمشة، ترتفع عائدات الدولة، بينما الصناعيون الاحتكاريون يجنون الأرباح الإضافية بسبب ارتفاع الأسعار. ولكن هذا كله لا يحصل إلا إذا كانت الاحتكارات والتروستات متحكمة بصناعة النسيج.
ثم أن هذا ليس كل ما في الأمر. بفضل الأرباح الإضافية، يستطيع الصناعيون الاحتكاريون إدخال سلعهم إلى بلدان أخرى وبيعها بأسعار منخفضة بهدف القضاء على المزاحمين في أسواق تلك البلدان. وهذا ما يتم فعلا. فاحتكار السكر الروسي مثلا حافظ على سعر السكر مرتفعا نسبيا في روسيا، بينما باعوه في إنكلترا بأسعار منخفضة إلى درجة لا تصدق على أمل القضاء على مزاحميهم في ذلك البلد. وقد شاع القول أن الخنازير الإنكليزية تعيش على السكر الروسي. وهكذا، فإن التعرفة الجمركية تساعد الاحتكارات الصناعية على نهب مواطنيهم من جهة وعلى القضاء على المزاحمين الأجانب من جهة ثانية.
أما نتائج هذه السياسية فإنها بالغة الأهمية. بديهي أن أرباح الاحتكارات ترتفع بنسبة زيادة عدد المستهلكين، أي بزيادة عدد الذين تشملهم الحواجز الجمركية. فإذا كان المجال ضيقا، كانت فرص جني الأرباح قليلة. أما إذا كانت المساحات التي تشملها الرسوم الجمركية واسعة ومكتظة بالسكان، تزداد بالتالي فرص جني الأرباح. هنا تكون الأرباح الإضافية طائلة، تسمح بالتصرف بجرأة في السوق العالمية، مع ثقة أكيدة بالنجاح. ولكن مجالات انطباق الرسوم الجمركية تكون بالعادة حدود الدولة نفسها. فكيف يمكن توسيع هذه الحدود؟ بالسيطرة على بلدان أخرى، بضمها إلى حدود البلد الأم، وإلى مجال حكم دولة هذا البلد. لكن هذا يعني اندلاع الحروب. هذا يعني أن هيمنة الاحتكارات ملازمة حتما لحروب الغزو. كل دولة رأسمالية تسعى إلى توسيع حدودها، وهذا ما تمليه مصالح التروستات، مصالح الرأسمالية المالية. والذي يتحدث عن توسيع الحدود يتحدث عن شن الحرب.
بهذه الطريقة تؤدي السياسة الجمركية للتروستات والاحتكارات، وسياساتها في السوق العالمية، إلى المجابهات العنيفة. لكن ثمة عوامل إضافية تساعد على نشوب الحرب.
قلنا أن تطور الإنتاج يؤدي إلى التراكم المستمر لفضل القيمة. وفي كل بلد عرف التطور الرأسمالي المتقدم، توجد كتلة متنامية من رأس المال الإضافي يدر أرباحا أقل من تلك التي يدرها لو وظف في البلدان المتخلفة. وكلما ازداد حجم رأس المال الإضافي المتراكم في بلد معين، ازدادت المساعي لتصدير رأس المال، أي لتوظيفه في الخارج. وهذا هدف تشجع عليه الرسوم الجمركية. فالواقع أن الرسوم على الاستيراد تعرقل استيراد السلع إلى حد بعيد. فعندما فرض الصناعيون الروس رسوما جمركية مرتفعة على السلع الألمانية المستوردة، بات من الصعب على الصناعيين الألمان إدخال منتجاتهم إلى روسيا.
ولكن، عندما اصطدم الرأسماليون الألمان بالعقبات الواقفة في وجه إدخال منتجاتهم لروسيا، وجدوا لأنفسهم مخرجا آخر. فبدأوا يصدرون رؤوس الأموال إليها. بنوا المصانع في روسيا، واشتروا الأسهم في المشاريع الرأسمالية الروسية أو أسسوا مشاريع جديدة ووفروا رؤوس الأموال لانطلاقتها. فهل وقفت الرسوم الجمركية عقبة أمام عملية التصدير هذه؟ كلا. بل العكس، فإن الرسوم الجمركية ساهمت إيجابيا في تدفق رؤوس الأموال على روسيا. والسبب بسيط. عندما يملك الرأسمالي الألماني مصنعا في روسيا، وينضم بالتالي إلى النقابة الاحتكارية «الروسية»، تصبح الرسوم الجمركية الروسية وسيلة تمكنه من جني المزيد من الأرباح. وهكذا فالرسوم على الاستيراد تساعده على نهب الجماهير الروسية مثلما تساعد زملاءه الرأسماليين الروس.
على أن رأس المال ينتقل من بلد لآخر ليس فقط لتأسيس المشاريع الجديدة أو لتدعيم المشاريع القائمة أصلا. ففي العديد من الحالات يتخذ شكل رأس المال شكل قرض لحكومة البلد المعني بالأمر، قرض بفائدة محددة. هذا يعني أن الحكومة التي تتلقى القرض تزيد الدين الأهلي، وتصبح مدينة للحكومة التي قدمت القرض. في حالات كهذه، تعمد الحكومة المدينة إلى تقديم كل القروض (وبخاصة القروض الحربية) بين صناعيي الدولة الدائنة. وهكذا تنتقل كميات هائلة من رؤوس الأموال من دولة إلى أخرى، بعضها على شكل توظيفات مباشرة في البناء والصناعة وبعضها الآخر يتخذ شكل القروض الحكومية. وتصل عمليات تصدير رؤوس الأموال إلى أحجام خيالية في ظل سيطرة الرأسمالية المالية.
بالإضافة لذلك، تترتب على تصدير رؤوس الأموال نتائج هامة. تتنافس الدولة القوية على السيطرة على الأراضي أو الدولة التي تريد تصدير رؤوس الأموال إليها. ولكننا نريد لفت الأنظار هنا إلى نقطة إضافية. عندما يصدّر الرأسماليون رؤوس الأموال إلى بلد «أجنبي»، فإنهم يجازفون ليس بكمية من السلع، وإنما بمبالغ ضخمة من المال، تبلغ الملايين أو حتى المليارات. فمن البديهي أن يرغبوا في السيطرة الكاملة على هذه البلدان وان يرسلوا الجيوش لحماية رؤوس الأموال المصدرة. وهكذا يتولد في الأقطار المصدرة طموح لإخضاع تلك البلدان لسلطة حكوماتهم، بحيث تزول كافة المجازفات –أي يتولد طموح لغزوها وضمها إلى البلد «الأم». ينجم عن ذلك منافسة بين مختلف الدول القوية والمستغِلة على غزو البلدان المستضعفة.
وطبيعي أن تؤدي هذه المنافسة، في نهاية المطاف، إلى الصدام بين اللصوص المتنافسين. من هنا، أدى تصدير رؤوس الأموال إلى نشوب الحرب.
يبقى علينا معالجة بعض النقاط الإضافية. يحتدم النزاع على الأسواق مع نشوء الاحتكارات وبناء الحواجز الجمركية. ففي نهاية القرن التاسع عشر لم يكن هناك بلد واحد يتمتع بحرية تصدير السلع، ولا منطقة واحدة لم تطأها قدم الرأسماليين. وشهدت تلك الفترة ارتفاعا كبيرا في أسعار المواد الأولية. المعادن والأصواف والخشب والفحم والقطن –كلها ارتفعت أسعارها. وفي السنوات التي سبقت الحرب مباشرة شهد العالم نزاعا حادا للسيطرة على الأسواق، وصراعا جديدا للبحث عن موارد جديدة للمواد الأولية. كان الرأسماليون يجوبون العالم بحثا عن مناجم فحم جديدة، عن مستودعات جديدة لخامات المعادن، كانوا يتصيدون الأسواق الجديدة ليصدروا إليها منتجات صناعتهم المعدنية، كانوا يفتشون عن جمهور «جديد» من المستهلكين لينهبوه. في السابق، كان المتنافسون في بلد معين يكتفون بالمنافسة «السلمية»، ويحافظون على علاقات معقولة فيما بينهم. لكن تغيرات كبيرة حدثت مع هيمنة المصارف والتروستات. لنفترض أنه قد جرى اكتشاف مستودعات جديدة للنحاس. فورا يسيطر عليها مصرف أو تروست، ويضعها كليا تحت سيطرته، أي يحتكرها. ولا يبقى أمام الرأسماليين الآخرين إلا ندب حظهم العاثر. إن الاعتبارات ذاتها تنطبق على النزاع من أجل السيطرة على الأسواق. لنفترض أن كمية من رؤوس الأموال تسللت إلى إحدى المستعمرات. وجرى تنظيم بيع السلع على نطاق واسع، تحت سيطرة شركة كبيرة. تفتح هذه الشركة فروعا لها في المستعمرة، وتمارس نفوذها على السلطات المحلية ساعية بذلك، عبر ألف حيلة ومناورة، للهيمنة على السوق، لتأمين موقع احتكاري لها وطرد المزاحمين. ومن البديهي أن يتصرف الرأسماليون الاحتكاريون وكبار أصحاب التروستات حسب طبيعتهم. إن «الأيام الحلوة القديمة» قد انقضت. وها أننا نعيش في زمن اللصوص الاحتكاريين.
لذا فلا بد من أن يترافق نمو رأس المال مع احتدام النزاع على الأسواق والمواد الأولية، وهذا أمر يفضي حتما إلى المجابهات العنيفة.
خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر سيطر «اللصوص الكبار» على مناطق عديدة تابعة لأمم مستضعفة. فبين 1876 و1914، ضمت «الدول الكبرى» ما يقارب 10 ملايين ميل مربع من الأراضي إليها. بكلمة أخرى، سيطرت هذه الدول على مساحات تشكل ضعفي مساحة أوربا نفسها. واقتسم اللصوص الكبار العالم بأسره فيما بينهم، وتحولت باقي الأقطار إلى مستعمرات تابعة ومستعبَدة.
وغني عن القول أن البلدان الضعيفة وغير المحمية هي أول من سقط تحت هيمنة اللصوص. كانت أول من تعرض للدمار. تماما، مثلما يكون الحرفيون أول من يتعرض للانهيار نتيجة صراعهم مع الصناعيين. بدأت احتكارات الدولة –أي الرأسماليون الكبار المنظمون لأغراض النهب- بتدمير الحكومات الضعيفة ومصادرة أملاكها. وتطورت عملية تمركز رؤوس الأموال، على الصعيد الاقتصادي العالمي، بالطريقة المعهودة: أصيبت الدولة الثانوية بالإفلاس والانهيار، بينما تراكمت الأموال لدى الدول الكبرى وتضاعفت ثرواتها وقواها. وما أن استكملت الدول الكبرى عملية السيطرة على العالم، حتى بدأت تتنازع فيما بينها. فكان لا بد للقراصنة من أن يتنازعوا فيما بينهم على الغنائم وعلى اقتسام العالم. لم يبق في الساحة إلا الدول اللصة الكبيرة، ونشب فيما بينها صراع حياة أو موت.
الإمبريالية هي بالتحديد سياسة الغزو التي تتبعها الرأسمالية المالية في النزاع على الأسواق والمواد الأولية ومجالات استثمار رؤوس الأموال. الإمبريالية وليدة الرأسمالية المالية. وتماما مثل النمر لا يستطيع أن يعيش على أكل الأعشاب، كذلك فإن الرأسمالية المالية لا تستطيع أن تعيش بدون انتهاج سياسة غزو ونهب وعنف ودمار. والرغبة الجامحة لكل من دول الرأسمالية المالية الاحتكارية هي السيطرة على العالم، وبناء إمبراطورية عالمية يسيطر عليها حفنة من الرأسماليين المتعددي الجنسيات.
من هنا فإن سيطرة الرأسمالية المالية تؤدي حتما إلى زج البشرية جمعاء في أتون الحرب لمصلحة أصحاب المصارف والاحتكارات، حرب لا تخاض حماية للوطن وإنما في سبيل نهب أوطان الآخرين، في سبيل إخضاع العالم للرأسمالية المالية في البلدان المنتصرة. هكذا كانت طبيعة الحرب العالمية الأولى (1914-1918).
النزعة العسكرية
إن حكم راس المال المالي، حكم ملوك المصارف والتروستات، يعبر عن نفسه في ظاهرة أخرى بالغة الأهمية هي ظاهرة النمو الذي لا مثيل له في الإنفاق على التسلح –على الجيش والبحرية والطيران. والسبب بديهي. في الأزمنة الغابرة، لم يحلم أي لص بالسيطرة على العالم. أما الآن، فإن أفكار الإمبرياليين متجهة نحو هذا الهدف. ولم يعرف التاريخ مثل هذا السباق بين التروستات الجبارة. وبنتيجة ذلك، يتعزز تسليح الدول. والدول الكبرى، أي اللصوص المحترفون الكبار، تراقب بعضها بعضا، لأن كلا منها يخاف أن يقدم جاره على طعنه من الخلف. من هنا تضطر كل دولة كبيرة على بناء جيش، ليس فقط للسيطرة على المستعمرات وقمع العمال داخليا، وإنما أيضا لمحاربة اللصوص الآخرين. وعندما تدخل إحدى الدول سلاحا جديدا، لا بد للدول الأخرى من أن تحذو حذوها، أو حتى أن تسبقها في هذا المجال، مخافة أن تخسر السباق. هكذا يولد سباق محموم على التسلح، تحاول كل دولة فيه أن تنتصر على الأخرى. وتولد الشركات الضخمة، تروستات «ملوك المدافع» من أمثال «بوتيلوف» و«كروب» و«أرمسترونغ» و«فايكرز» [5] وغيرهم. وتجني احتكارات السلاح هذه أرباحا خيالية. فهي على صلة وثيقة بقادة الجيوش، كما تسعى إلى صب الزيت على النيران المشتعلة، وزيادة فرص النزاع، ذلك أن أرباحها تعتمد على اندلاع الحروب.
تلك كانت اللوحة المجنونة للمجتمع الرأسمالي عشية الحرب العالمية. رأسماليات الدولة الاحتكارية تعج بالحراب، وكل الترتيبات جاهزة –برا وبحرا وجوا- للنزاع الدولي، وتقتطع النفقات العسكرية والبحرية حصة متزايدة من موازنات الدول... ملوك السلاح يملأون خزائنهم بالذهب. والعالم بأسره يهرع بخطى متسارعة نحو أشد الحروب هولا، نحو الحرب الإمبريالية العالمية.
الحرب الإمبريالية 1914-1918
كان لا بد لسياسة «الدول الكبرى» الإمبريالية من أن تفضي إلى مجابهة عاجلا أم آجلا. وما من شك في أن لعبة النهب التي ساهمت فيها كل «الدول الكبرى» هي السبب الحقيقي لاندلاع الحرب. إن الأبله هو وحده الذي يتمسك بالاعتقاد أن الحرب قد نشبت لأن «الصربيين» قتلوا ولي العهد النمساوي، أو لأن الألمان اجتاحوا بلجيكا. في البدء، دار سجال طويل من أجل تحديد المسؤول الفعلي عن الكارثة. الرأسماليون الألمان زعموا أن روسيا كانت المعتدية، بينما الروس يعلنون أن الألمان هم المبتدئون. في بريطانيا، ساد الاعتقاد أن الإنكليز دخلوا الحرب دفاعا عن «بلجيكا النبيلة الصغيرة». وفي فرنسا كذلك، كان الجميع يكتبون ويزعقون وينشدون إثبات الدور النبيل الذي تلعبه فرنسا في الدفاع عن الأمة البلجيكية الباسلة. أما في النمسا وألمانيا، فقد شاع الاعتقاد أن هذين البلدين يخوضان حربا دفاعية لصد هجوم «الكوزاك».
هذا كله هراء. من ألف إلى يائه. كله خداع للعمال. وكان الخداع ضروريا لكي تتمكن البرجوازية من دفع جنودها إلى الحرب. ولم تكن تلك المرة الأولى التي تلجأ فيها البرجوازية إلى مثل هذه الأساليب. فقد رأينا سابقا كيف ادخل الاحتكاريون التعرفات الجمركية العالية من أجل تسهيل عملية غزو الأسواق الخارجية في الوقت نفسه الذي يواصلون فيه نهب مواطنيهم. كانت الرسوم الجمركية أسلحة هجومية بالنسبة إليهم. لكن البرجوازية تصر على أن الهدف من فرض الرسوم الجمركية هو حماية الأسواق المحلية. وهذه هي الحجة نفسها التي استخدمت لتبرير الحرب. إن النقطة الجوهرية في الحرب الإمبريالية الرامية إلى إخضاع العالم لنير الرأسمالية المالية هي أن جميع المساهمين فيها كانوا غزاة ومعتدين. وهذا أمر بات واضحا كل الوضوح حاليا. زعم عملاء النظام القيصري أنهم يدافعون عن أنفسهم. ولكن عندما فتحت ثورة أكتوبر الوثائق الحكومية ونشرت المعاهدات السرية، ظهرت الأدلة الوثائقية على أن كلا من القيصر وكرنسكي كان قد اتفق مع الإنكليز والفرنسيين على خوض حرب لاقتسام المغانم، للاستيلاء على القسطنطينية، ونهب تركيا وإيران، ولاقتطاع «غاليسيا» من النمسا. هذه أمور باتت واضحة الآن وضوح الشمس.
كذلك تساقطت الأقنعة عن وجه الإمبرياليين الألمان. فكروا في صلح «بريست-ليتوفسك»، فكروا في نهب بولونيا وليتوانيا وأوكرانيا وفنلندا. لقد كشفت الثورة الألمانية العديد من الحقائق. وتبين لنا، من الأدلة الوثائقية، أن ألمانيا مستعدة للغزو من أجل المغانم، وأنها كانت تخطط للاستيلاء على مساحات واسعة من الأراضي الأجنبية والمستعمرات.
ولكن ماذا بشأن قوى الحلفاء «النبيلة»؟ تساقطت الأقنعة عن وجوههم هم أيضا. فلم يعد أحد مقتنعا بـ«نبلهم» بعد صلح «فرساي». لقد نهبوا ألمانيا حتى العظم، وطالبوها بدفع 12.500.000.000 فرنك كتعويضات حرب. استولوا على البحرية الألمانية كلها، وعلى كافة المستعمرات الألمانية. صادروا قاطرات سكك الحديد والمواشي ريثما تدفع ألمانيا تعويضات الحرب. واجتاحوا روسيا من الشمال والجنوب. الحلفاء «النبلاء» كانوا يخوضون الحرب أيضا بقصد النهب. كشف البلاشفة كل ذلك منذ أول أيام الحرب. لكن القليلين صدقوهم آنذاك. أما اليوم، فكل إنسان صحيح العقل يرى أنهم كانوا على حق. إن الرأسمالية المالية لص جشع ومتعطش للدم، مهما تكن قومية الرأسماليين، فسيان أكانوا روسا أم ألمان، فرنسيين أم إنكليز، يابانيين أم أمريكيين.
وهكذا نرى أنه من السخف القول، في معرض الحديث عن الحرب الإمبريالية، أن هذا الطرف الإمبريالي كان المعتدي، بينما الطرف الآخر كان يدافع عن نفسه ليس إلا. إن مثل هذه الأقوال تطلق بهدف واحد –خداع العمال. الحقيقة أن الدول الكبرى بدأت بالاعتداء على الشعوب المستضعفة بقصد استعمار أراضيها، وكانت كافة هذه الدول تملك المخططات لنهب العالم بأسره، وفي كل بلد رأسمالي، كان الرأسماليون يحلمون بإخضاع العالم للرأسمالية المالية الوطنية.
وما أن نشبت الحرب، حتى كان محتما عليها أن تتحول إلى حرب عالمية. والسبب واضح كل الوضوح. فالعالم كله تقريبا كان مقسما بين «الدول الكبرى» التي كانت مشدودة بعضها إلى بعض بروابط النظام الاقتصادي العالمي. فلا عجب، إذن، أن تشمل الحرب جميع البلدان، في نصفَي الكرة الأرضية.
وسرعان ما زج في الأتون الدامي كل من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وبلجيكا وروسيا وألمانيا والنمسا والمجر وبلاد الصرب وبلغاريا ورومانيا ومونتي نيغرو واليابان والولايات المتحدة والصين وعدد من الدول الصغرى. وكان تعداد سكان العالم آنذاك حوالي 1.500.000.000 نسمة عانوا من مآسي الحرب التي فرضتها عليهم حفنة من المجرمين الرأسماليين بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. ولم يكن العالم قد عرف من قبل ذلك الحشد من الجيوش الجرارة، ولا آلات الموت والدمار الجبارة التي زجت في الحرب الإمبريالية العالمية. وسخرت بريطانيا وفرنسا لخدمة رأسمالييها ليس الإنكليز والفرنسيين وحسب وإنما أيضا الآلاف المؤلفة من سكان المستعمرات، أبناء الشعوب السوداء والصفراء. لم يتردد اللصوص المتمدنون من تجنيد آكلة اللحوم في جيشوهم عندما حان أوان أكل لحم البشر. وقد تم كل ذلك باسم أنبل المثل.
رأسمالية الدولة والطبقات
تميزت الحرب الإمبريالية عما سبقها من الحروب ليس فقط بالنسبة لاتساع رقعة الصراع وآثاره المدمرة، وإنما أيضا بسبب إخضاع كل الحياة الاقتصادية للأقطار المساهمة في تلك الحرب للأغراض الحربية. في السابق، كانت البرجوازية تشن حروبها وتكتفي بتمويلها. غير أن الحرب العالمية شملت بلدانا رفيعة التطور وبلغت من الاتساع حجما لم يعد إنفاق المال وحده يكفي لاستمرارها. فبات من الضروري تكريس كل إنتاج مصانع صب الفولاذ لصنع المدافع الثقيلة، التي كان عيارها يرتفع باستمرار، واستخراج الفحم للأغراض العسكرية فقط، وتسخير المعادن والأنسجة والجلود، وسواها خدمة للمجهود الحربي فقط. فكان من الطبيعي أن تكون رأسماليات الدولة الاحتكارية الأوفر قدرة على تسخير الإنتاج والنقل لأغراض الحرب هي الأوفر حظا في الانتصار.
كيف يتحقق ذلك، الواضح أن الوسيلة الوحيدة لتحقيقه هي المركزة الكاملة للإنتاج. فمن الضروري ترتيب الأمور ليتم الإنتاج على نحو منسجم، ويخضع كليا لسيطرة قيادة الأركان، بحيث يمكن تنفيذ أوامر الجنرالات والماريشالات بدقة تامة. كيف حققت البرجوازية ذلك؟ لم يكلفها الأمر جهد كبير. لبلوغ هذا الهدف، كان لا بد للبرجوازية من أن تضع الإنتاج الفردي، والتروستات والاحتكارات المملوكة فرديا تحت تصرف دولة النهب الرأسمالية. وهذا ما قامت به فعلا طوال فترة الحرب، إذ «عبأت» الصناعة و«عسكرتها»، أي وضعتها تحت أوامر الدولة والسلطات العسكرية. ولكن كيف تم ذلك؟ قد يسأل بعض القراء: «هذا يعني تخلي البرجوازية عن أرباحهم. هذا يعني تأميم الصناعة! عندما يسلم كل شيء للدولة، ماذا يتبقي من دور للبرجوازية، وكيف يكيف الرأسماليون أنفسهم مع هذه الظروف المستجدة؟».
الحقيقة أن البرجوازية وافقت على هذا الأجراء. ولكن ليس في ذلك ما يثير الدهشة. ذلك أنه لم يجر تسليم الاحتكارات والتروستات المملوكة فرديا إلى الدولة العمالية، وإنما جرى تسليمها إلى الدولة الإمبريالية، إلى الدولة التي تسيطر عليها البرجوازية. فالرأسماليون نقلوا ممتلكاتهم من جيب إلى آخر، دون أن يخسروا شيئا من هذه الممتلكات.
لا يجوز أن ننسى الطبيعة الطبقية للدولة. لا يجوز النظر إلى الدولة على أنها «طرف ثالث» يقف فوق الطبقات. فالدولة جهاز طبقي من قمتها حتى قاعدتها. في ظل الدكتاتورية العمالية تكون الدولة جهازا للطبقة العاملة. وفي ظل هيمنة البرجوازية، تكون الدولة جهازا اقتصاديا مثلها كمثل التروست والاحتكار.
هكذا نرى أن البرجوازية، عندما سلمت الاحتكارات والتروستات المملوكة فرديا إلى الدولة، إنما كانت تسلمها إلى دولتها هي، إلى دولة النهب الرأسمالية، وليس إلى الدولة البروليتارية. وبالتالي، فإن البرجوازية لم تخسر شيئا في عملية الانتقال هذه... لا بل أن البرجوازية قد ربحت من هذه الصفقة. لأن تمركز الصناعة بيد الدولة يسمح لآلة الحرب بأن تعمل على نحو أفضل، وهذا ما يضاعف إمكانات إحراز النصر في حرب النهب.
فلا عجب إذن أن تنمو رأسمالية الدولة خلال الحرب وتحل محل رأسمالية التروستات والاحتكارات المملوكة فرديا في كل الأقطار الرأسمالية تقريبا...
وقد جرى الانتقال إلى رأسمالية الدولة بأشكال متعددة. في العديد من الحالات، احتكرت الدولة الإنتاج والتجارة. وقد عنى ذلك وضع كافة فعاليات الإنتاج والتجارة بيد الدولة البرجوازية. وفي أحيان أخرى، لم يتم هذا الانتقال دفعة واحدة وإنما بالتقسيط، إذ أقدمت الدولة على شراء بعض أسهم الاحتكارات والتروستات. هكذا أصبحت المشروعات الاقتصادية مملوكة مناصفة بين القطاع الخاص والدولة، غير أن الدولة البرجوازية كانت الطرف الذي يتولى تسيير شؤونها واتخاذ القرارات الخاصة بها.
وحتى المؤسسات التي ظلت بيد القطاع الخاص لم تفلت من الرقابة الحكومية. وكانت التشريعات الخاصة تقضي على هذه المؤسسات أن تشتري المواد الأولية من شركات معينة، وكان على هذه الأخيرة أن تبيعها بكميات وأسعار محددة سلفا. وقد حددت الدولة وسائل العمل، ونوع المواد الواجب استخدامها في الإنتاج.
هكذا حلت رأسمالية الدولة محل الرأسمالية الفردية.
إن رأسمالية الدولة تعني امتلاك البرجوازية الكبيرة للمزيد من القوة. في الدولة العمالية، أي في ظل دكتاتورية الطبقة العاملة، تكون الطبقة العاملة قوية بقدر ما يكون هناك انسجام بين السلطة السوفييتية والنقابات والحزب الشيوعي وغيرها من أجهزة تلك السلطة. وما ينطبق على دكتاتورية الطبقة العاملة ينطبق أيضا على دكتاتورية البرجوازية حيث تنمو قوة الطبقة الرأسمالية بنسبة النجاح الذي تحققه كافة الأجهزة والمؤسسات البرجوازية في التنسيق المتناغم فيما بينها. وهكذا فإن رأسمالية الدولة، التي تخضع كافة هذه المؤسسات لسلطة مركزية واحدة وتحولها إلى أجزاء من آلة ضخمة واحدة، تقدم مساهمة جبارة لتدعيم قوة رأس المال. إن دكتاتورية البرجوازية تبلغ ذروتها مع قيام رأسمالية الدولة.
والواقع أن رأسمالية الدولة –إذا وحدت ونظمت البرجوازية وضاعفت بالتالي من قوة الرأسمالية –تؤدي إلى إضعاف الطبقة العاملة إلى حد كبير. ففي ظل رأسمالية الدولة يتحول العمال إلى رقيق أبيض تستعبده الدولة الرأسمالية. يحرموا من حق الإضراب، ويجندوا ويفرض عليهم الانضباط العسكري. وتصدر الأحكام بالسجن على كل من يرفع صوته منددا بالحرب. وقد حرم العمال في العديد من الأقطار من حق التنقل كما حرموا من حق الانتقال من مصنع إلى آخر. وهكذا سقط العمال المأجورون «الأحرار» [6] إلى مصاف الأقنان. وقضى عليهم بالموت في ساحات القتال ليس دفاعا عن قضيتهم هم، وإنما دفاعا عن قضية أعدائهم. واضطروا إلى العمل المضني حتى الإنهاك والموت، ليس لصالحهم ولصالح رفاقهم وأبنائهم، وإنما لصالح مستغِليهم ومضطهديهم.
انهيار الرأسمالية ودور الطبقة العاملة
هكذا ساهمت الحرب في مركزة وتنظيم الاقتصاد الرأسمالي. والمهمة التي بدأتها الاحتكارات والمصارف والتروستات والشركات المجمَّعة، دون أن تنجزها، تولت رأسمالية الدولة إنجازها بأسرع وقت. فربطت الأجهزة الضابطة للإنتاج والتوزيع في شبكة واحدة. ومهدت بذلك السبيل، أفضل من أي وقت مضى، لسيطرة البروليتاريا على الإنتاج الكبير وقد بات شديد التمركز.
وكان لا بد للحرب، التي ألقت بكل أعبائها على كاهل الطبقة العاملة، من أن تؤدي إلى انتفاض الجماهير البروليتارية. فالسمة المميزة لتلك الحرب كانت طابعها الدموي الإجرامي الذي لا مثيل له من قبل. تقدم بناء الجيوش خطوات شاسعة إلى أمام. وتوزعت البروليتاريا بين ساحات القتال المختلفة. وتبين التقارير أن عدد القتلى والجرحى والمفقودين، بين بداية الحرب وآذار-مارس 1917، بلغ 25مليون نسمة، وأن عدد القتلى وحده بلغ 8 ملايين قتيل في أول كانون الثاني-يناير 1918. وإذا افترضنا أن متوسط وزن الجندي هو 150 رطلا، فهذا يعني أن الرأسماليين حملوا إلى السوق –بين آب-أغسطس 1914و1 كانون الثاني-يناير 1918 -1200 مليون رطلا من اللحم البشري العفن. ولكي نقدر الخسائر البشرية بأدق ما يمكن، يجب أن نضيف إلى هؤلاء بضعة ملايين من الذين أصيبوا بعاهات دائمة. إذا أخذنا مرض «السيفلس» وحده، نجد أنه قد انتشر بفضل الحرب إلى مدى مستبعد التصديق، بحيث باتت الإصابات به شاملة للعالم كله. وبنتيجة الحرب، تدنت قدرات البشر الجسدية. ذلك أن صحيحي البنية، الذين كانوا زهرة شعوبهم قد أبيدوا. وغني عن القول أن العمال والفلاحين هم الذين تحملوا القسط الأوفر من خسائر الحرب.
في التجمعات الكبيرة في الدول المتحاربة نجد جاليات بأكملها قد شلت أو شوهت بطريقة بشعة، أناس أصيبوا في وجوههم يرتدون الأقنعة ويجلسون في البؤس كشواهد حية على روعة الحضارة البرجوازية.
لم تكن مصيبة البروليتاريا الوحيدة أنها خسرت الملايين في ساحات القتال. بالإضافة لذلك، ألقيت أعباء لا تطاق على كواهل الذين بقوا على قيد الحياة. كانت الحرب تتطلب إنفاق الأموال الطائلة. وفي الوقت الذي كان أصحاب المصانع يراكمون الأرباح الطائلة –المسماة «أرباح الحرب»- كان العمال يدفعون الضرائب الباهضة للمساهمة في المجهود الحربي. وكانت أكلاف الحرب لا تنفك تتصاعد دون حد. في خريف عام 1919، أعلن وزير المالية الفرنسي، أثناء مؤتمر الصلح، أن اكلاف الحرب بلغت «ترليون» فرنك. لا يسهل إدراك مغزى هذه الأرقام. في السابق كانت المسافة بين نجم وآخر تقاس بمثل هذه المقاييس، وها أنها تستخدم الآن لقياس أكلاف سنوات المجازر البشرية. الترليون هو مليون من مليونات الفرنكات (1.000.000×1.000.000)!! تلك كانت مبتكرات الحرب التي خطط لها الرأسماليون. وحسب تقدير آخر، بلغت أكلاف الحرب ما يلي:
ملايين الجنيهات الإسترلينية أكلاف العام الأول 9.100 أكلاف العام الثاني 13.650 أكلاف العام الثالث 20.470 النصف الأول من العام الرابع 15.350 المجموع 58570 مليون
ثم ارتفعت أكلاف الحرب لتبلغ أرقاما مذهلة. فكان لا بد من إيجاد المبالغ الخيالية لتغطية هذه الأكلاف. وبالطبع كانت البلدان الرأسمالية قد بدأت بإلقاء الأعباء التي لا تطاق على كاهل الطبقة العاملة، بواسطة الضرائب المباشرة أو الرسوم على المواد الاستهلاكية أو برفع متعمد في أسعار السلع لدوافع «وطنية» لدفع البرجوازية نفسها إلى المساهمة في المجهود الحربي. وظلت الأسعار في ارتفاع. غير أن الصناعيين، وبخاصة أصحاب الصناعات الحربية، كانوا قد جنوا أرباحا خيالية.
كانت السلع الرئيسية المنتجة خلال الحرب هي القذائف، والمتفجرات والمدافع الثقيلة، والدبابات، والطائرات، والغازات السامة والبارود وغيرها. وقد أنتجت بكميات كبيرة جدا. وفي الولايات المتحدة نبتت المدن الجديدة، كالفطر، حول المصانع الحربية. وبسبب تهافت أصحاب هذه المصانع على جني الأرباح بأسرع وقت، كان الكثير من الإهمال يشوب الإنتاج، الأمر الذي أدى إلى الانفجارات. وبالطبع جنى أصحاب مصانع الذخيرة أرباحا طائلة بحيث ازدهرت صناعاتهم بسرعة مذهلة. أما بالنسبة لعامة الشعب، فكانت أوضاعه المعيشية تتدهور باستمرار. وكانت السلع ذات القيمة الفعلية –أي الأغذية والكساء وما شابهها –تنتج بكميات متضائلة. القذائف والبارود تسمح للناس بأن يقتلوا ويدمروا، ولكنها عديمة الفائدة كطعام أو كساء. ورغم ذلك، فقد وجهت كافة طاقات الدول المتحاربة نحو إنتاج البارود وغيره من أدوات الدمار. بينما انخفض إنتاج السلع الضرورية. استدعى العمال للخدمة في الجيوش، وجرى تحويل الصناعات المنتجة لأغراض الإنتاج الحربي وحده. فكان هناك نقص متزايد في السلع الضرورية، الأمر الذي أدى إلى ندرة المواد الغذائية وإلى ارتفاع الأسعار بطريقة جنونية.
نقص في الخبز، نقص في المحروقات، نقص في كافة المواد الضرورية، نقص في المواد الضرورية على الصعيد العالمي يقابله استنزاف البشر عالميا –هذه هي النتائج الأساسية للحرب الإمبريالية المجرمة.
وفي نهاية المطاف، بدأ الإنتاج الحربي نفسه يشعر النقص في الفحم والفولاذ والضروريات الأخرى. وعم الفقر كل الأقطار، باستثناء الولايات المتحدة. الجوع والبرد والدمار تزحف على الكرة الأرضية. وغني عن القول أن أكثر الذين عانوا منها هم أبناء الطبقة العاملة الذين أخذوا يتململون ويتذمرون. فأعلنت الحرب عليهم، ودارت رحى حرب جديدة صبت فيها دول النهب البرجوازي كل طاقتها. وتعرضت الطبقة العاملة لأبشع أنواع العنف والاضطهاد في كل الأقطار، سيان أكانت ملكية أم جمهورية. ولم يحرم العمال من حق الإضراب وحسب وإنما قمعت بشراسة أيضا أية مبادرة تحرك عندهم. هكذا أدت هيمنة الرأسمالية إلى اندلاع الحرب بين الطبقات.
كان النظام الرأسمالي آخذا في الانهيار. إن فوضى الإنتاج أدت إلى اندلاع الحرب، والحرب أدت بدورها إلى احتدام الصراعات الطبقية. وهكذا أدت الحرب إلى الثورة. أي أن الرأسمالية كانت آخذة بالانهيار تحت وطأة تناقضيها الأساسيين. وافتتحت حقبة انهيار الرأسمالية. فلننظر إلى هذا الانهيار بدقة أكبر.
هناك نسق واحد يقوم عليه بناء المجتمع الرأسمالي. فالمصنع منظم داخليا مثل مكتب في الإدارة الحكومية أو مثل فرقة في الجيش الملكي. في القمة يأمر الأغنياء ويحكمون. وفي الأسفل تجد الفقراء والعمال والمأجورين الذين يطيعون الأوامر. وبينهما تجد المهندسين و«ضباط الصف» (الوكلاء) وكبار الموظفين وغيرهم. من هنا، فإن المجتمع الرأسمالي يستطيع المحافظة على نفسه طالما أن الجندي العادي (الذي ينتمي إلى الطبقة العاملة) يطيع أوامر الضابط (المنتمي إلى الأرستقراطية أو ملاك الأرض أو البرجوازية الكبيرة)، وطالما أن الموظفين في الإدارات الحكومية يطيعون رؤساءهم الأغنياء، وطالما أن العمال في المصانع يطيعون أوامر المدراء الكبار أو أصحاب المصانع الذين يعيشون على ابتزاز فضل القيمة. ولكن ما أن تدرك الجماهير الكادحة أنها ليست إلا أدوات بيد أعدائها، تنفصم العرى التي تربط الجندي العادي بالضابط والعامل بصاحب المعمل. فيرفض العمال الانصياع لأوامر أرباب العمل. ويعصي الجنود العاديون أوامر ضباطهم. ويتجاهل المواطنون أوامر رؤسائهم. وتبدأ مرحلة يتراخى فيها الانضباط القديم، هذا الانضباط الذي سمح للأغنياء بأن يحكموا الفقراء، وسمح للبرجوازية بنهب العمال. وتستمر هذه المرحلة إلى أن تتمكن الطبقة الجديدة –البروليتاريا- من إخضاع البرجوازية، وإجبارها على خدمة العمال، أي أنها تستمر إلى حين ولادة انضباط اجتماعي من نمط جديد.
إن هذا الوضع –حيث دحر النظام القديم ولكن دون أن ينشأ النظام الجديد –لا يمكن حسمه إلا بانتصار البروليتاريا النهائي عبر الحرب الأهلية.
الحرب الأهلية
الحرب الأهلية حرب طبقية بالغة الحدة، تحصل عندما يتحول الصراع الطبقي إلى ثورة. إن عبيد رأس المال هم الذين خاضوا الحرب الإمبريالية العالمية بين معسكري الدول البرجوازية، وهي حرب خيضت من أجل اقتسام العالم. وقد ألقت هذه الحرب أعباء جسيمة على العمال إلى درجة أن الصراع الطبقي تحول إلى حرب أهلية يخوضها المضطهَدون ضد مضطهِديهم- والحرب الأهلية هي الحرب العادلة الوحيدة، حسب رأي ماركس. كان طبيعيا جدا أن تنتهي الرأسمالية إلى اندلاع الحرب الأهلية، وأن تنتهي الحرب الإمبريالية بين الدول البرجوازية إلى حرب بين الطبقات. لقد تكهن حزبنا بهذا التطور في مطلع الحرب، عام 1914، عندما لم يكن أحد يحلم بالثورة. لكنه كان واضحا أن أعباء لا تطاق كالتي فرضتها الحرب على الطبقة العاملة لا بد أن تؤدي إلى انتفاضة البروليتاريا. كما كان واضحا أن البرجوازية عاجزة عن تأمين سلم دائم، ذلك أن المصالح التي يدور عليها الصراع بين كتل اللصوص المختلفة مصالح حيوية جدا.
ولقد صحت كافة توقعاتنا. اندلعت الحرب الأهلية ضد المضطهِدين، عقب سنوات الحرب والوحشية والدمار الرهيبة. وقد افتتحت هذه الحرب الأهلية مع الثورتين الروسيتين في آذار –مارس وتشرين الثاني- نوفمبر 1917، واستمرت مع الثورات الفنلندية والهنغارية والنمساوية والألمانية وغيرها. إن البرجوازيات عاجزة عن تحقيق سلم دائم. انتصر الحلفاء على ألمانيا في تشرين الثاني –نوفمبر 1918، وجرى التوقيع على صلح اللصوص في «فرساي» بعد عدة أشهر من ذلك، ولكن ما من أحد يدري متى تتم التسوية النهائية. فمن الواضح للجميع أن سلم «فرساي» لن يستمر. فقد نشبت الخلافات بين اليوغسلافيين والإيطاليين، بين البولونيين والتشيكيين، بين اللاتيفيين والألمان. بالإضافة لذلك، التقت كافة الدول البرجوازية في حلف واحد للهجوم على الجمهورية العمالية الروسية المنتصرة. هكذا نجد أن الحرب الإمبريالية انتهت إلى حرب أهلية، التي لا بد وأن تكون حصيلتها انتصار البروليتاريا.
إن الحرب الأهلية ليست وليدة مزاج حزب من الأحزاب، ولا هي بالتأكيد وليدة الصدفة. الحرب الأهلية تعبير من تعبيرات الثورة، وقد كانت الثورة حتمية كليا لأن حرب اللصوص الإمبرياليين قد فتحت أعين أوسع الجماهير العمالية.
إن الحرب الأهلية مجابهة مسلحة بين طبقتين متعارضتي المصالح كليا في المجتمع الرأسمالي. في الأحوال العادية، تطمس واقعة أساسية من وقائع المجتمع الرأسمالي، وهي كونه منشقا إلى شقين، كونه مكونا من مجتمعين اثنين. لماذا؟ لأن العبيد يطيعون أسيادهم. لكن الحرب الأهلية تضع حدا لهذه الطاعة الخانعة، وتؤدي إلى تمرد المضطهَدين ضد المضطهِدين. ومن الواضح أنه يتعذر «التعايش بسلام وتناغم» بين الطبقات في مثل هذه الحالة. فينقسم الجيش بين «حرس أبيض» يمثل الأرستقراطية والبرجوازية والعناصر الغنية من أصحاب المهن الحرة وغيرها وبين «حرس أحمر» يمثل العمال والفلاحين. كذلك يصبح من المستحيل أن يجلس أصحاب المصانع والعمال تحت سقف برلمان واحد، مهما كان نوعه. فكيف يمكن لهؤلاء وأولئك الالتقاء «سلميا» في البرلمان بينما هم يتبادلون إطلاق الرصاص في الشوارع؟ في زمن الحرب الأهلية، ترفع طبقة السلاح ضد طبقة أخرى. لهذا كان لا بد للصراع من أن يؤدي إلى انتصار هذه الطبقة أو تلك. فلا يمكن للصراع أن ينتهي باتفاق أو بأي شكل كان من أشكال المساومة. هذه حقيقة تثبتها كليا تجربة الحرب الأهلية في روسيا وسواها (كألمانيا والمجر مثلا). فلا بد للحرب الأهلية من أن تفضي إلى دكتاتورية البروليتاريا أو إلى دكتاتورية البرجوازية. فالواقع أن حكم الطبقات الوسطى وأحزابها (كالحزب الاشتراكي الثوري، والحزب المنشفي وغيرهما) ما هو إلا فترة انتقال بين هذه الدكتاتورية أو تلك. فعندما أطيح بالسلطة السوفييتية في المجر، بمساعدة المناشفة، حل محلها «حكم ائتلافي» لفترة وجيزة فقط، ثم قام حكم استبدادي رجعي. بين الحين والآخر ينجح الحزب الاشتراكي الثوري الدستوري من الاستيلاء على الحكم في «أوفا» و«عبر الفولغا» أو سبيريا، لكنه يطاح به على يد الأميرال كولشاك خلال 24 ساعة، يدعم من كبار الرأسماليين وملاك الأرض. وهذا يعني حلول دكتاتورية الرأسماليين وملاك الأرض محل دكتاتورية العمال والفلاحين.
أشكال الحرب الأهلية وأكلافها
لقد افتتحت الثورة الروسية عصر الحروب الأهلية، غير أنها لم تكن غير الطور الأول من ثورة شاملة على نطاق العالم بأسره. ولقد اندلعت الثورة في روسيا قبل غيرها، لأن تفكك الرأسمالية بدأ في روسيا قبل الأقطار الأخرى. كانت البرجوازية الروسية وملاك الأرض الروس يطمحون في غزو القسطنطينة وغاليسيا. وقد أعدوا طبخة حرب عام 1914 بالتعاون مع حلفائهم. لكنهم انهاروا قبل غيرهم، بسبب ضعفهم والفوضى السائدة في صفوفهم. فظهرت الفوضى والمجاعة في روسيا قبل ظهورهما في أي مكان آخر. لهذا السبب، كان من اليسير على البروليتاريا الروسية أن تقضي على أعدائها الطبقيين. ولهذا كان العمال الروس السباقين إلى إحراز النصر الحاسم وإقامة دكتاتوريتهم.
هناك اعتقاد سائد أن شراسة الحرب الأهلية في بلدنا عائدة إلى تخلفنا أو إلى بعض «السمات» الآسيوية المميزة. ومن عادة خصوم الثورة في أوربا الغربية القول أن «الاشتراكية الآسيوية» مزدهرة في روسيا، بينما التغيير الثوري في الأراضي «المتمدنة» سوف يتحقق دون حاجة إلى المجازر. هذا هراء طبعا. إن مقاومة البرجوازية سوف تكون أعنف حيث قطع تطور الرأسمالية شوطا طويلا. هناك تكون الانتلجنسيا (أصحاب المهن الحرة، الفنيون، المهندسون، الضباط، الخ) أكثر تضامنا مع رأس المال، وبالتالي أشد عداء للشيوعية. فلا بد للحرب الأهلية في تلك البلدان من أن تكون أشرس منها في روسيا. والواقع أن مسيرة الثورة الألمانية قد أثبتت أن الحرب تكون أكثر ضراوة في الأقطار التي أحرزت فيها الرأسمالية أكبر قدر من التقدم.
وتكتسب الحرب الأهلية أشكالا جديدة كلما قطعت المزيد من الأشواط. حيثما تكون البروليتاريا مضطهدة إلى درجة لا تطاق، تتحول الحرب الأهلية إلى ثورة ضد سلطة البرجوازية. ولكن لنفترض أن البروليتاريا انتصرت في أحد البلدان واستولت على سلطة الدولة. فماذا يحصل؟ تجد البروليتاريا تحت تصرفها قوة الدولة المنظمة، وجيشا بروليتاريا وكافة المؤسسات الرسمية. فيترتب على البروليتاريا إذ ذاك أن تحارب البرجوازية المحلية التي تنظم المؤامرات وحركات التمرد ضد السلطة البروليتارية. ثم أن البروليتاريا المنظمة في دولة سوف تضطر إلى محاربة دول برجوازية. هنا تكتسي الحرب الأهلية شكلا جديدا، ذلك أن الحرب الطبقية تتحول إلى حرب عادية عندما تخوض الدولة البروليتارية الحرب ضد الدول البرجوازية، لأن المسألة لم تعد مجرد محاربة العمال للبرجوازية، وإنما باتت مسألة خوض الدولة العمالية لحرب رسمية ضد دول رأس المال الإمبريالية. أما هدف مثل هذه الحرب فهو انتصار الشيوعية وإقامة دكتاتورية البروليتاريا، وليس هدفها طبعا نهب ثروات الآخرين. وهذا ما حصل فعلا. فبعد قيام الثورة الروسية في نوفمبر 1917، هاجم الرأسماليون الحكومة السوفييتية من كافة الجهات –هاجمها البريطانيون والألمان والفرنسيون والأمريكيون واليابانيون وغيرهم. ومع انتقال عدوى الثورة الروسية إلى عمال القطار الأخرى: تضافرت قوى الرأسمالية العالمية للانقضاض على الثورة وقامت مساع حثيثة لإقامة حلف للصوص الإمبرياليين ضد البروليتاريا.
بناء على مبادرة للمخادع ولسن، زعيم الرأسمالية الأمريكية، قامت محاولة لإنشاء مثل هذا الحلف فيما سمي مؤتمر «فرساي» للسلام. وأطلق على تحالف اللصوص هذا اسم «عصبة الأمم»، وكان المقصود بها أن تكون «عصبة للشعوب». لكنها في الحقيقة لم تكن كذلك على الإطلاق، وإنما كانت عصبة للرأسماليين وممثليهم السياسيين في كافة الأقطار.
وكان الهدف من إنشاء مثل هذه «العصبة» تأسيس تروست عالمي جبار يبسط قبضة الاستغلال على كل ركن من أركان المعمورة، ويسحق تمردات وثورات الحركة العمالية بأقصى قدر ممكن من الوحشية. أما القول أن «عصبة الأمم» قد تأسست لتدعيم السلام فحديث خرافة ليس إلا. فالواقع أنها قد تأسست خدمة لهدف مزدوج: تكثيف استغلال البروليتاريا وعبيد المستعمرات في العالم أجمع، وسحق الثورة العالمية المتوقعة.
وبقدر عنف الهجوم البروليتاري، زاد الرأسماليون من رص الصفوف. كتب ماركس وانغلز عام 1848 في «البيان الشيوعي»: «أن شبحا يجول فوق أوربا، هو شبح الشيوعية. ولقد تجمعت كل قوى أوربا القديمة في حلف مقدس لطرد هذا الشبح: البابا والقيصر، مترينخ وغيزو، الراديكاليون الفرنسيون والشرطة الألمانية».
لقد انقضت سنين عديدة منذ ذلك التاريخ. واكتسى شبح الشيوعية لحما ودما. ولا تقتصر الحملة هذه على «أوربا القديمة» وإنما تشمل العالم الرأسمالي بأكمله.
ومهما يكن من أمر، فإن «عصبة الأمم» ستعجز عن تحقيق هدفها المزدوج: إعادة تنظيم العالم في تروست واحد جبار وقمع الثورة على نطاق العالم كله. إذ أنه لا يوجد قدر كاف من الوحدة بين القوى الكبرى. فالولايات المتحدة تعادي اليابان، وكلا القوتين يتسلح تمهيدا للصدام. كذلك لا يعقل أن توجد مشاعر ود متبادلة بين ألمانيا المهزومة وبين دول «الحلفاء» اللصوص مدعي «النزاهة». وهذا بالتأكيد يشكل صدعا في الجبهة الرأسمالية. ثم إن الدول الصغرى تتحارب فيما بينها. والأهم من ذلك هو قيام انتفاضات وحروب في المستعمرات –في الهند ومصر وايرلندا وغيرها. البلدان المستعبَدة تباشر النضال ضد الأسياد الأوروبيين «المتمدنين» الذين يسوقونها سوق العبيد.وتضاف إلى الحرب الأهلية، تضاف إلى الحرب الطبقية التي تشنها البروليتاريا ضد البرجوازية الإمبريالية انتفاضات المستعمرات التي تساهم في تدمير أسس الصنمية العالمية للإمبريالية. وهكذا نجد النظام الإمبريالي آخذا بالانهيار تحت وطأة مجموعتين من العوامل. فمن جهة، هناك حركة البروليتاريا الصاعدة، والحروب التي تخوضها الجمهوريات البروليتارية، وانتفاضات وحروب الأمم التي استعبدتها الإمبريالية. وهناك، من جهة أخرى، التعارضات والتناقضات بين الدول الرأسمالية الكبرى. لذا نجد الفوضى الكاملة تحل محل «السلام الدائم»، وبدل القمع الشامل للبروليتاريا، نجد الحروب الأهلية المحتدمة. وفي هذه الحروب، تتضاعف قوى البروليتاريا بينما تتلاشى قوى البرجوازية. وأن النتيجة الحتمية لهذا الصراع لا بد وأن تكون انتصار البروليتاريا.
على أن انتصار البروليتاريا لن يتحقق بسهولة. فالحرب الأهلية، مثلها كمثل أية حرب أخرى، تتطلب التضحيات بالبشر وبالامكانات المادية. والواقع أن هذه هي أكلاف أية عملية ثورية. من هنا فإن نسبة الدمار الناتج عن الاعتداءات الإمبريالية ستكون عالية في الأطوار الأولى من الحرب الأهلية. ومن البديهي أن تتأثر حياة المصانع سلبيا عندما يغادرها أفضل العمال إلى الجبهة ليدافعوا عن أنفسهم بالسلاح ضد ملاك الأراضي والعسكريين، بدلا من أن يخصصوا وقتهم للإنتاج أو لتنظيمه. وما من شك في أن الفوضى الناجمة عن الحرب الأهلية مضرّة، وخسارة الرفاق في القتال باهضة الثمن. لكن تلك أمور حتمية في أية ثورة.
ولا بد لنا أن ندرك أن ثورة بضخامة الثورة البروليتارية الشاملة، التي تطيح بنظام استغلال تم بناؤه طوال قرون، ستكون باهضة الأكلاف. ولقد باتت الحرب الأهلية تخاض على صعيد العالم كله. وتتخذ في بعض الأحيان شكل حرب تشنها الدول البرجوازية ضد الدول البروليتارية. وأن الدول البروليتارية التي تدافع عن نفسها ضد اللصوص الإمبرياليين تخوض حربا طبقية، التي هي في حقيقتها حرب مقدسة. لكن ضريبة هذه الحرب هي الدم. وكلما اتسعت الحرب، ارتفع عدد الضحايا، واتسع نطاق الدمار.
لكن ارتفاع أكلاف الثورة لا يجعلنا نصرف النظر عن الثورة نفسها. فالنظام الرأسمالي، الذي هو وليد عملية نمو استغرقت قرونا بأكملها، جرى تتويجه بحرب إمبريالية وحشية سالت فيها انهار من الدماء. فهل يمكن مقارنة النتائج التدميرية للحرب الأهلية بخسارة ثروة البشرية المتراكمة الناجمة عن الحرب الإمبريالية؟
يجب على البشرية أن تضع حدا نهائيا للرأسمالية. وأن التمسك بهذا الهدف يجعلنا نتحمل فترة الحرب الأهلية، ونمهد الطريق للشيوعية التي تداوي كل جراحنا، وتؤدي مباشرة إلى النمو الكامل للقوى الإنتاجية للإنسانية جمعاء.
الفوضى أو الشيوعية
مع نمو الثورة، تتحول إلى ثورة عالمية للأسباب نفسها التي أدت بالحرب الإمبريالية إلى التحول إلى حرب عالمية. كل البلدان الهامة مترابطة بعضها ببعض، وتشكل جميعها أجزاء من الاقتصاد العالمي. ولقد خاضت معظمها الحرب، وأكسبتها الحرب فهما مشتركا للأمور. ولقد أدت الحرب في كافة هذه البلدان إلى دمار هائل، والمجاعة واستعباد البروليتاريا. وسادها تفكك بطيء للرأسمالية، الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى الثورة ضد الانضباط الوحشي في الجيش والمصنع والمشغل... وأن الحتمية نفسها التي تحكمت بهذه الأمور أدت إلى قيام ثورة البروليتاريا الشيوعية.
يصعب وقف تدهور الرأسمالية حين يبدأ. وكذلك الأمر بالنسبة لنمو الثورة. والواقع أن انهيار الرأسمالية كان محتما. وكل محاولة لبناء مجتمع إنساني حقا على الأسس الرأسمالية القديمة محكومة سلفا بالفشل الذريع. والواقع أن الجماهير البروليتارية قد بلغت درجة من الوعي الطبقي تدفعها إلى رفض العمل في خدمة رأس المال. كذلك ترفض هذه الجماهير أن تنحر بعضها بعضا من أجل مصالح الرأسمالية أو تنفيذا لسياساتها الاستعمارية... ومثلما يستحيل إعادة فرض الانضباط الإمبراطوري على الجيوش الحديثة، يستحيل أيضا إجبار الجنود ذوي الأصل النبيل على الخضوع لنير الجنرالات ذوي الأصل النبيل، وإعادة فرض الانضباط الرأسمالي على العمل، وإجبار العمال للكدح خدمة للسيد والفلاحين خدمة للمالك العقاري. البروليتاريا هي وحدها القادرة على تحقيق انضباط جديد في العمل.
هكذا نجد أمامنا واحدا من خيارين فقط. فإما الفوضى الكاملة، ونار الجحيم، والمزيد من العسف والاضطراب، أي الفوضى المطلقة، وأما الشيوعية...
إن الشيوعية هي خلاص البشرية الوحيد. ولما كانت الشيوعية لا تتحقق إلا على يد البرولتاريا، فإن هذه الطبقة هي المخلص الفعلي للبشرية من أهوال الرأسمالية، من وحشية الاستغلال، من السياسات الاستعمارية، من المجاعة والانتكاس إلى العهود البربرية والقهر، من كافة المسوخ التي تمخضت عنها الرأسمالية المالية والإمبريالية. هنا يكمن المغزى التاريخي الرائع للبروليتاريا. قد يعاني العمال من الهزائم في معارك افرادية وحتى في بلدان افرادية. لكن انتصار البروليتاريا النهائي أكيد وانهيار البرجوازية حتمي.
صفحات المقال : >
[1] الأحصنة في روسيا كانت تستخدم للحراثة و«الذي لا حصان له» تعبير يطلق على الفلاح الفقير. –المترجم-
[2] «بوتيلوف» احتكار للسلاح في روسيا، و«كروب» في ألمانيا، و«أرمسترونغ» و«فايكرز» في إنكلترا...
[3] أي الذين يتمتعون ب«حرية» بيع قوة عملهم لرب العمل الذي يختارونه. –المترجم-
[4] الشرح هنا يتناول الوقف من الدفاع عن الوطن في ظل الرأسمالية الاحتكارية التي تحولت إلى قوة استعمارية. ولا يتناول بالطبع مهام الطبقة العاملة في حروب الدفاع عن الوطن، أو في الحروب الوطنية التحررية، ضد الغزو الاستعماري. -المترجم-
[5] «بوتيلوف» احتكار للسلاح في روسيا، و«كروب» في ألمانيا، و«أرمسترونغ» و«فايكرز» في إنكلترا...
[6] أي الذين يتمتعون ب«حرية» بيع قوة عملهم لرب العمل الذي يختارونه. –المترجم- ****
نسخ إلكتروني: جريدة المناضل-ة
#بوخارين_و_بريوبراجنسكي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ألف باء الشيوعية-الفصل الثالث: الشيوعية وديكتاتورية البروليت
...
-
ألف باء الشيوعية - الفصل الثاني:تطور النظام الرأسمالي
-
ألف باء الشيوعية - الفصل الأول:النظام الرأسمالي
المزيد.....
-
اليساري ياماندو أورسي يفوز برئاسة الأورغواي خلال الجولة الثا
...
-
حزب النهج الديمقراطي العمالي يثمن قرار الجنائية الدولية ويدع
...
-
صدامات بين الشرطة والمتظاهرين في عاصمة جورجيا
-
بلاغ قطاع التعليم العالي لحزب التقدم والاشتراكية
-
فيولا ديفيس.. -ممثلة الفقراء- التي يكرّمها مهرجان البحر الأح
...
-
الرئيس الفنزويلي يعلن تأسيس حركة شبابية مناهضة للفاشية
-
على طريق الشعب: دفاعاً عن الحقوق والحريات الدستورية
-
الشرطة الألمانية تعتقل متظاهرين خلال مسيرة داعمة لغزة ولبنان
...
-
مئات المتظاهرين بهولندا يطالبون باعتقال نتنياهو وغالانت
-
مادورو يعلن تأسيس حركة شبابية مناهضة للفاشية
المزيد.....
-
مقدمة في -المخطوطات الرياضية- لكارل ماركس
/ حسين علوان حسين
-
العصبوية والوسطية والأممية الرابعة
/ ليون تروتسكي
-
تحليل كلارا زيتكن للفاشية (نص الخطاب)*
/ رشيد غويلب
-
مَفْهُومُ الصِراعِ فِي الفسلفة المارْكِسِيَّةِ: إِضاءَةِ نَق
...
/ علي أسعد وطفة
-
من أجل ثقافة جماهيرية بديلة 5 :ماركس في عيون لينين
/ عبدالرحيم قروي
-
علم الاجتماع الماركسي: من المادية الجدلية إلى المادية التاري
...
/ علي أسعد وطفة
-
إجتماع تأبيني عمالي في الولايات المتحدة حدادًا على كارل مارك
...
/ دلير زنكنة
-
عاشت غرّة ماي
/ جوزيف ستالين
-
ثلاثة مفاهيم للثورة
/ ليون تروتسكي
-
النقد الموسَّع لنظرية نمط الإنتاج
/ محمد عادل زكى
المزيد.....
|