|
الذهب سلطان المعادن
عضيد جواد الخميسي
الحوار المتمدن-العدد: 6248 - 2019 / 6 / 2 - 23:49
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
الرمز الكيميائي للذهب ( Au ) ، اختصاراً لأصل الكلمة اللاتينية ـ أورم AURUM ، والتي تعني " الفجر الساطع " . الذهب من المعادن الثمينة ، ويُعدّ ملك المعادن وسلطانها ، وقد استخدم منذ العصور القديمة في صناعة كل من ، الحُلي ، العملات ، النقوش ، القوارب ، التماثيل ، وحتى في ديكورات المباني و قبور الموتى . وطالما انه لا يصدأ ، فالذهب أصبح رمزاً للخلود والقوة في العديد من الحضارات القديمة . جُعل الذهب في ندرته وصفاته الجمالية ، معدناً تتباهى به الطبقات الحاكمة لإظهار قوتها و مركزها الاجتماعي . فقد وجد لأول مرة على سطح الأرض بالقرب من الأنهار في آسيا الصغرى وبالتحديد في منطقة باكتولس ـ مملكة ليديا . أُستخرج الذهب من باطن الأرض حوالي عام 2000 قبل الميلاد من قبل المصريين ، وتمكّن الرومان من العثور عليه في أفريقيا ، وكذلك وجد في البرتغال وإسبانيا . لدى علماء الآثار دليلاً تاريخياً، على أن الرومان قاموا بصهر حُبيبات الذهب المستخرجة من الخامات ، مثل بايرايت الحديد ( الذهب الكاذب ـ يدخل في تركيبها ثنائي كبريتيد الحديد FeS2 ، لونها أصفر شاحب وذات لمعان ضئيل) . صُهرت تلك الحبيبات الذهبية المستخرجة مع معادن أخرى مثل الفضة و النحاس لزيادة قوتها وتغيير لونها ، وقد استخدمت فيما بعد لمجموعة واسعة من الأغراض .
الحُلي الذهبية في معظم الحضارات القديمة ، كان الذهب شائعاً في صناعة المجوهرات والفنون ، وذلك بسبب قيمته وصفاته الجمالية وليونته وقدرته على التحمل ، كما ان خاصيّة المرونة العالية لدى الذهب ، قد عرفها المصريون قبل غيرهم حوالي عام 2500 ق.م ، ولكنها لم تُستغل تجارياً . أُستخدم الإلكتروم (السبائك الطبيعية للذهب والفضة) في الحُلي من قبل المصريين قبل حوالي 5000 سنة ، وفي بلاد الرافدين منذ عام 4000 ق.م .إذ كانت الحُلي الذهبية والفضيّة والمجوهرات من الأحجار واللالىء ، يتزين بها الرجال و النساء على حد سواء في بلاد الرافدين . أمّا أوروك ، فهي أول مدينة في التاريخ القديم التي صنعت السلاسل الذهبية منذ عام 2500 ق.م ، ومن ثم عرفت صناعتها الحضارة المينوية أو المينوسية Minoan civilization ، نسبة إلى ملكها المؤسس "مينوس " في جزيرة كريت ، وذلك عند بداية الألفية الثانية قبل الميلاد ( العصر البرونزي ) . يعود الفضل الى المينويين في إنتاج أول الأسلاك الذهبية الرفيعة ، باستخدام مهاراتهم العالية في صناعة مجموعات مختلفة من الحلي والمجوهرات ، مثل القلائد ، الأساور، الأقراط ، الخواتم ، التيجان ، الحلق ، الدبابيس ، البروشات ، وغيرها من المصوغات . كان المينويون يمتلكون ذائقة فنية رفيعة يتفرّدون بها عن غيرهم من شعوب الحضارات الاخرى ، وذلك عندما أظهروا قدراتهم في صناعة نوع خاص من الحلي أسموه " الفلكري " ( Filigree ـ بمعنى ـ الصياغة بالتخريم ) حيث تسحب قضبان الذهب وجعلها أسلاك ملفوفة ورفيعة للغاية ، ومن ثم استخدامها في صناعة أنواع الحُلي ، والفلكري فنًّا مرموقاً من فنون الصياغة منذ آلاف السنين ، ولا زال كذلك حتى الوقت الحاضر . أهتمّ المينيون بصناعة الأشكال الفنيّة الدقيقة لتزيين التماثيل الصغيرة ، باستخدام صفائح ذهبية رقيقة ومحببة (زخرفة السطح مع حبيبات صغيرة ملحومة من الذهب) ، كما برعوا أيضاً في نقش المعادن المختلفة ، وهم من اخترع مادة " المينا " المنسوبة إليهم ، إذ أُستخدمت في تطعيم السلع الذهبية والفضيّة والنحاسية المنقوشة ( المينا ـ مزيج معدني بنسب معينة من الفضة المذابة والنحاس والرصاص مع مادة الفسفور وعناصر اخرى ) . في أمريكا الجنوبية ، تم استخدام الذهب بطريقة مماثلة من قبل شعب حضارة الشافين Chavin civilization في بيرو حوالي عام 1200 قبل الميلاد ، أمّا في منطقة نازكا ، الواقعة على الساحل الجنوبي من بيرو ، فقد أُتقن صبّ الذهب في عام 500 قبل الميلاد. واستخدم الرومان الذهب في ترصيع الأحجار الثمينة ، واستمرت الموضة في العصر البيزنطي باستخدام اللؤلؤ والأحجار الكريمة وصناعة المينا .
العملة النقدية استخدم الذهب لأول مرة كعملة معدنية في أواخر القرن الثامن قبل الميلاد في آسيا الصغرى ولكنها كانت بأشكال غير منتظمة ، و معظمها يحمل نقشاً من جانب واحد فقط ، وتمّ صناعتها من سبائك الإلكتروم الطبيعية . كما إن أولى العملات الذهبية النقية التي تحمل الصور، تعود إلى كرويسوس ملك ليديا في الفترة ما بين الأعوام 561 و 566 قبل الميلاد . عثر فريق آثاري في ساردس عاصمة مملكة ليديا على مصفاة للذهب تُعدّ حديثة في ذلك الوقت ، وعلى الرغم من أن أنقى أنواع الذهب الذي يوجد في الطبيعة يمكن أن يحتوي على مايقل عن 5٪ من الفضة ، إلا أن الليديين تمكنوا من استخلاص الذهب من مركباته باستخدام الملح ( NaCl كلوريد الصوديوم) وعند درجة حرارة تتراوح ما بين 600 و800 درجة مئوية ، إذ يتفاعل الملح كيمياوياً مع الفضة لينتج مركباً من كلوريد الفضة ( AgCl) الذي يتسامى بتأثير الحرارة العالية ، تاركاً وراءه الذهب الخالي من الشوائب لغرض استخدامه في سّك عملة معدنية موحدة نقية من الذهب الخالص . الحضارة الميسينية ( في مناطق بحر ايجه ـ أواخر العصر البرونزي ) أيضاً تداولت العملات الذهبية وعلى نطاق كبير، كما تبعتها الإمبراطوريتين اليونانية والرومانية في وقت لاحق . وعلى الرغم من أن الفضة كانت شائعة في استخدامها كعملة ، الا ان "البيزات " أو البيزه الرومانية ، كانت واحدة من العملات الذهبية الأكثر شهرة في القرون الماضية (من القرن الرابع إلى القرن الثاني عشر الميلادي ) ، واستخدمت لأول مرة في عهد الإمبراطور قسطنطين ، وتبلغ زنة الواحدة منها 12 غرام من الذهب الخالص .
الذهب في المقدّسات جُعل من قيمة وجمال الذهب الخالص شيء ضروري في المظاهر السياسية والدينية الهامة بشكل خاص مثل ، التيجان ، الصولجانات ، التماثيل الرمزية للآلهة والمحاربين الأبطال ، أباريق الشراب و كؤوسها ، وطقوس القرابين والنذور . كان دفن الحاجيات الذهبية في بعض الأحيان مع الموتى جزءاً من المراسيم المهمة في الجنائز ، ويُعدّ وجود هذه المادة النادرة والقيّمة في قداديس الموتى ، هي لأغراض التباهي وإثارة العجب . ولعل المثال الأكثر شهرة ما يسمّى قناع أغاممنون الذي عثر عليه في ميسينا . أمّا حضارة الإنكا في بيرو ، أُعتبر الذهب هو عَرَق إله الشمس " إنتي Inti"، وكان يستخدم لتصنيع مختلف الأشياء ذات الأهمية الدينية ، وخاصة الأقنعة وأقراص الشمس . في كولومبيا القديمة كان الذهب مقدّساً أيضاً ، فقد تمّ استخدامه دينياً على شكل مسحوق لتغطية جسم ملك المستقبل في حفل التتويج الفخم الذي جُعل منه أسطورة " إل دورادو ـ الرجل الذهبي "، وذلك بسبب بريقه وارتباطه بالشمس . صُنع من الذهب صفائح ورقائق ذهبية مزخرفة لتزيين المزارات ، والمعابد ، والمقابر، وتوابيت الموتى ، والتماثيل ، وأسلحة الزينة ، والدروع ، والفخاريّات ، والأواني الزجاجية ، والمجوهرات ، وذلك منذ العصور السومرية ، والبابلية ، و المصرية ، والآشورية ، ولعلَّ المثالين الأكثر شهرة ، القيثارة السومرية ، وقناع الموت للملك المصري " توت عنخ آمون " . استخدم الذهب كثيراً في طبابة الأسنان لمدة تزيد على 3000 سنة ، لكونه معدناً مرناً وغير قابل للصدأ . الأتروريون ( قبل الحضارة الرومانية ) في القرن السابع قبل الميلاد، جعلوا من الأسلاك الذهبية وسيلة لإصلاح الأسنان المتضررة لدى الحيوانات من الخيول والماشية . وأُدخل في صناعة أنسجة الأردية الملكية ، والطقوسية لكهنة المعابد. وقد استخدمه الأطباء في معالجة الجروح ، إذ سمّيت بـ"الجرعات السحرية " وفقاً لما ذكره المؤرخ بليني في القرن الأول ما قبل الميلاد ..
درجة النقاء أدت مخاوف المصريين من الذهب المغشوش إلى ابتكار طريقة لتحديد نقاوة الذهب ، وذلك حوالي عام 1500 قبل الميلاد (لربما قبل هذا التاريخ). تسمى هذه الطريقة ( المعايرة في النار ) وتتضمن بأخذ عيّنة صغيرة من المادة قيد الفحص لتوضع في بوتقة صغيرة تحتوي على كمية من الرصاص . و البوتقات القديمة تصنع عادة من رماد العظام ، وعندما تتقد البوتقة بتأثير الحرارة المرتفعة ، تعمل على امتصاص الرصاص وأي معادن أخرى في مكونّات العيّنة مخلّفة الذهب والفضة فقط في البوتقة ، ويتم التخلص من الفضة باستخدام حامض النتريك ، ومن ثمّ يوزن الذهب الخالص المتبقي ومقارنته بالوزن قبل الفحص أو الاختبار . كان العالم أرخميدس قد اكتشف طريقة في التعرّف على مقدار الذهب عندما يكون مخلوطاً مع المعادن الأخرى ، كما عرف أيضاً ، أن للذهب النقيّ كثافة نوعية ضعف كثافة الفضة النقيّة . ( لنا موضوع أكثر تفصيلاً عن أرخميدس ، سوف ننشره في وقت لاحق بعد مراجعة المصادر المتوفرة ) .
يُعّد الذهب مادة ثمينة على مدى التاريخ ، وقد بَذلت العديد من الحضارات القديمة جهوداً مضنية لإنتاج الذهب من خلال " الخيمياء " (بمعنى ، التحول الكيميائي للمعادن إلى ذهب باستخدام حجر الفلاسفة "lapis philosophorum " ) ، وهذا الحجر كان من خيال الإنسان ، وهو غير موجود أصلاً ، فقد كانت المحاولات الأولى في الصين خلال القرن الرابع قبل الميلاد ، وكذلك في اليونان القديمة ، وعلى الرغم من فشل جميع تلك المحاولات وغيرها ، إلا أنها أرست الى وضع الأسس الثابتة للكيمياء الحديثة … ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أريك غلاين ـ دليل أكسفورد للعصر البرونزي ـ مطبعة جامعة أكسفورد ـ 2012 . تيموثي كرين ـ رفقة الذهب ـ روزنديل للنشر ـ 1992 . رينولد هيغنز ـ المينوية والفن الميسيني ـ هدسون للنشر ـ 1997 .
#عضيد_جواد_الخميسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفضّة ، دموع القمر في العصر القديم
-
العري في فن العالم القديم
-
المدينة التاريخية الغامضة في السليمانية
-
قصص مصرية من برديّة وستكار ( الجزء 4/ ولادة الملوك)
-
قصص مصرية من برديّة وستكار ( الجزء 3/ خوفو و الساحر)
-
قصص مصرية من برديّة وستكار (الجزء الثاني / الجوهرة الخضراء)
-
قصص مصرية من برديّة وستكار ( الجزء الأول )
-
النحاس في العصور القديمة
-
جيش الطين
-
تربية الحيوان في العالم القديم
-
قصة إيزابيل أميرة صيدا وملكة إسرائيل
-
أسطورة جنائن بابل المعلّقة
-
بيت الأربع غرف
-
هذا ما حدث لمكتبة الاسكندرية الكبرى
-
إنهدوانا .. أول امرأة سومرية أديبة في التاريخ
-
النبيّ موسى ..حقيقة أم أسطورة ؟ ( الجزء الثالث )
-
النبيّ موسى ..حقيقة أم أسطورة ؟ ( الجزء الثاني )
-
النبيّ موسى ..حقيقة أم أسطورة ؟ ( 1 3 )
-
الديمقراطية الأثينية
-
الحب. الجنس . الزواج والزواج التجاري. الخيانة والطلاق..في بل
...
المزيد.....
-
بعد وصفه بـ-عابر للقارات-.. أمريكا تكشف نوع الصاروخ الذي أُط
...
-
بوتين يُعلن نوع الصاروخ الذي أطلقته روسيا على دنيبرو الأوكرا
...
-
مستشار رئيس غينيا بيساو أم محتال.. هل تعرضت حكومة شرق ليبيا
...
-
كارثة في فلاديفوستوك: حافلة تسقط من من ارتفاع 12 متراً وتخلف
...
-
ماذا تعرف عن الصاروخ الباليستي العابر للقارات؟ كييف تقول إن
...
-
معظمها ليست عربية.. ما الدول الـ 124 التي تضع نتنياهو وغالان
...
-
المؤتمر الأربعون لجمعية الصيارفة الآسيويين يلتئم في تايوان..
...
-
إطلاق نبيذ -بوجوليه نوفو- وسط احتفالات كبيرة في فرنسا وخارجه
...
-
في ظل تزايد العنف في هاييتي.. روسيا والصين تعارضان تحويل جنو
...
-
السعودية.. سقوط سيارة من أعلى جسر في الرياض و-المرور- يصدر ب
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|