|
حدث في يوم العيد
شوقية عروق منصور
الحوار المتمدن-العدد: 6248 - 2019 / 6 / 2 - 20:41
المحور:
الادب والفن
قصة قصيرة حدث في يوم العيد
شوقية عروق منصور كنت متباهية بثوبي المخملي الأحمر ، أذكر أن أمي اشترت قطعة قماش المخمل من جارتنا أم خليل التي كانت تزور مدينة القدس بمناسبة عيد الميلاد على زمن "بوابة مندلبوم " كانت أم خليل تقول لأمي " حجة وفرجه " وفعلاً عندما كانت تعود من زيارة الأماكن المقدسة و اقاربها في مدينة القدس ، كان أول عمل تقوم به في اليوم التالي اللف على بيوت الحارة وتسليم كل بيت البضاعة التي قاموا بطلبها ، وكانت البضائع غالباً تتميز بالصحون الخزفية و فناجين القهوة و أقمشة من المخمل والحرير والسيتان، خاصة للعرائس ،لأن مثل هذه الأقمشة تكاد أن تكون مفقودة ، عدا عن الأقلام والساعات والمظلات الرجالية السوداء . كانت عودة أم خليل تحمل أشواق الذين خرجوا من الوطن ولم يستطيعوا الرجوع إليه ، لكن الأشواق لرؤية البضائع كانت تحمل لهفة الحرمان التي نعيشها . لذلك كان فستان المخمل الأحمر بالنسبة لطفلة في الخامسة هو كنزها الذي امتلكته في يوم العيد ، بعد أن قامت بخياطته عند " سندورة " المرأة السمينة التي كانت تسكن في الطابق الأرضي في بناية تابعة للمستشفى الفرنسي في الناصرة أو كما كانوا يطلقون عليها بناية " راهبات المحبة " . انتظرت صباح العيد بلهفة وشوق ، الفستان الأحمر المعلق أمامي يرسل نظراته الي ويطالب بلمسي، وكلما اقتربت منه ابتعدت خوفاً من أن يتلوث ، وعندما ارتديته تجسدت بهجة الطفولة في المرآة التي حملت صورتي المزنرة بتوهج الفرح . في الطريق المختصرة الى بيت جدي ، حيث كانت الطريق المختصرة أسهل علي من الشارع الرئيسي المليء بالسيارات ، كنت أجمع في عقلي كم من القروش ستكون بحوزتي عند رجوعي الى البيت ، أجمع وأطرح ، والأيدي التي ستمتد الى الجيوب أو تفتح الجزادين ، وتذكرت جدتي التي كانت تمد يدها حتى اقبلها قبل أن تناولني العيدية ، مع أن قبلة اليد كانت تغيظني لأنني كنت أشعر أن جدتي تحب تقبيل يدها من باب حب السيطرة ، وقلت في نفسي ما دامت هذه عادتها فعلي أن أقبل اليد حتى أكسب العيدية . وفجأة برزت من طريق جانبي امرأة لا أعرفها ، ضخمة الجثة وشعرها المبلول بالمياه ما زال ينقط فوق فستانها الممزق ، وقفت لم أستطع التحرك ، شعرت بثقل في خطواتي ، وتذكرت أنني سمعت عن هذه المرأة المجنونة من نساء الحارة، ولطالما رددوا أمامي أسمها " خيرية " . لم التفت اليها ، حاولت الاستمرار في طريقي ، لكن المرأة اقتربت مني وانهالت علي بالضرب دون سبب ، هربت منها ولجأت إلى شجرة صبار كانت مزروعة على جانب الطريق ، شعرت بالشوك يغرس في جسمي ، لاحقتني الى شجرة الصبار وأخذت تضربني بشدة وانا أصرخ وازداد صراخي عندما رأيت فستاني المخمل قد تمزق ، و"التنتنا" التي تزين اطراف الفستان تمزقت ، ورأيت المرأة تمسك بطرف التنتنة وتشدها حتى نزعتها من مكانها ، ورغم صراخي لم يأت أحد لنجدتي . من بعيد رأيت امرأة تصرخ عليها وتناشد أحد الرجال بتخليصي من تلك المجنونة ، فتقدم الرجل وأمسكها وطلب مني الهرب . رجعت إلى البيت، ما أن رأتني أمي بهذه الحالة حتى جن جنونها ، وأخذت تفتش في جسمي عن الضربات واللكمات وتحاول نزع الشوك الملتصق بجسدي ، لكن أنا نسيت الضرب والشوك المتغلغل والذي ينخزني ، فقط كان بكائي على فستاني الأحمر الذي كان بالنسبة لي عيداً حقيقياً للمباهاة بين البنات . أذكر أنني رافقت والدتي إلى عائلة المرأة المجنونة الذين اعترفوا أن أبنتهم هربت سراً إلى الطريق ، مع أنهم طوال الوقت يربطونها بحبل خوفاً من الهرب ، لكن حظي السيء أوقعني بين يديها ، وأخذ الأب يعتذر والأم تدعو الله كي يأخذ ابنتها حتى ترتاح ، فهي بالنسبة لهم فضيحة ، حيث بين فترة وأخرى تهرب الى الطريق ، وتضرب المارة ،هناك من يتصدى لها ويضربها ، وهناك من يفلت منها ويهرب ، لكن أنا كنت ضحيتها لأنني صغيرة و من صعب الإفلات من قبضتها . امام العيون البائسة الحزينة لعائلة المرأة المجنونة والحيرة التي تمددت على ملامح الأم التي كانت تشعر بالذنب لأنها أنجبتها ، أما الأب فقد كان العجز ظاهراً على يده المرتعشة والسيجارة التي تتوسط أصابعه ، والتي يتآكل رمادها ويسقط على الأرض قبل أن يضعها على شفتيه . أخذت أمي تعدد قيمة فستان المخمل الأحمر الذي اشترته خصيصاً من مدينة القدس ، وقيمة خياطته عند " سندورة " فقد كلفها الكثير ، والأب يهز برأسه والأم ترسم فوق ملامحها الحيرة من هذا البلاء الذي وقع عليهم في يوم العيد . وبينما هم يتحدثون دخل جدي الذي جاء بسرعة بعد أن سمع بما حدث لي، وأخذ يلوم والدتي التي جاءت لعتاب أهل الفتاة . صافح جدي والد المرأة المجنونة وتمنى له عيداً مباركاً ، عندما خرجنا قال جدي لوالدتي : - الا يكفي أن ابنتهم مجنونة وتسبب لهم المشاكل ؟؟ الله يساعدهم ..! رفضت أمي الاصغاء له .. وقالت : - اذا مجنونة عليهم ربطها ، حتى لا تتعرض لحدا ! ناولني جدي العيدية .. ليرة كاملة .. فرحت بها .. وقال لي أنه سيأتي بعد الظهر مع أخوالي لكي يقوموا بمعايدة أمي ، وبالطبع معايدتي ستكون قبل معايدة أمي ! رجعت الى البيت بعد أن أقنعتني أمي بأن أبقى في البيت ، وفي الغد ستأخذ الفستان عند الخياطة وتحاول إصلاحه . بعد الظهر كنا ننتظر جدي وأخوالي .. وفجأة سمعنا أصواتاً وضجيجاً ، فقد هاجمت المرأة المجنونة جدي ، ولولا خالي الذي استطاع تخليصه من بين يديها ، بعد أن تمزق القمباز وتمزقت الحطة ونثرت خيطان العقال .. لكانت الضربات قضت على جدي الذي كان يعاني من عدة أمراض . بعد سنوات طويلة سمعت ان المرأة المجنونة قد تزوجت من رجل غريب يعيش خارج البلدة، وكان والدها قد كتب لها في وصيته عدة دونمات من ارض تقع في مدخل البلدة ، ولم أعد اسمع عنها شيئاً .. حتى رأيتها على شاشة التلفزيون من خلال احد البرامج التي تدور حول بيوت العجزة والمسنين ، فقد كانت تعاني من الوحدة ، فلا أحد يزورها ، وأولادها ابتعدوا عنها ، كانت تتكلم بهدوء وحزن ومرارة امرأة تواجه ظلم الحياة .. اشفقت عليها ونسيت فستان المخمل الأحمر .
#شوقية_عروق_منصور (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فنجان التطبيع ودف الرفض
-
صالحة تفوز بالجائزة ونحن نركب الحنتوش
-
اضربوا الرجال .. وبيضة على رأس كل مسؤول
-
المرأة الفلسطينية وتوهج الثامن من آذار
-
اطلعوا برة .. وجاء أبو عواد وقال : آه يا ديسكي
-
يهودية وسعودية وبينهما طفلة يمنية
-
الرقص في وارسو بعيدا عن طريق سموني
-
مقتل الخاشقجي ودموع فرح
-
هل ستقوم مصر بتصدير الكلاب
-
أنا في دار الصياد
-
عندما يموت البحر من الجوع
-
حرب الدم في داخل حبة بندورة
-
الزائر الفلسطيني دفنه الحنين والزائر الاسرائيلي شبع من الترح
...
-
قانون القومية يرقص رقصة الكيكي في ذكرى المجزرة
-
ما زلت انتظر عودة ساعة جدي
-
ريفلين وليبرمان لن يجدوا أنفاق الاصرار
-
بدنا نلعن أبوه
-
قتله لكن فقراء
-
الشهيد نجمة في السماء والاسم المجهول لى الارض
-
قانون العنزة السوداء في حذاء نتنياهو
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|