عادل صالح الزبيدي
الحوار المتمدن-العدد: 6245 - 2019 / 5 / 30 - 10:08
المحور:
الادب والفن
الشعر البريطاني الحديث والعلم (3)
عادل صالح الزبيدي
تتناول الدراسة الحالية العلاقة بين الشعر البريطاني الحديث والعلم. في دراسة سابقة تناولنا هذه العلاقة على الصعيد النظري والفلسفي والجمالي، أما في هذه الدراسة فسوف نتناول الجانب التطبيقي منها من خلال تبيان مواضع تأثر الشاعر الحديث بنظريات ومكتشفات العلم الحديث وتطبيقاته التكنولوجية فيما يكتب من شعر وكيف انعكس ذلك على موضوعات الشعر وأساليبه وفنونه.
*************
في السنة ذاتها التي ظهرت فيها قصيدة ((الأرض اليباب)) ظهرت قصيدة مختلفة تماما في غرضها وأسلوبها لشاعر يقف على أرضية تختلف كل الاختلاف عن الأرضية التي يقف عليها اليوت والشعراء الحداثيون الآخرون. نشر الشاعر الفريد نويز (1880 – 1958) المجلد الأول من المجلدات الثلاثة لقصيدته الملحمية في الشعر المرسل ((حاملو المشاعل)) خلال الأعوام (1922، 1925، 1930). إن كانت ((الأرض اليباب)) في إحدى معانيها صورة لعالم يكون فيه الإنسان ممزقا بين المعتقد وبين انعدامه، بين قيم وعقائد الماضي وبين لا جدوى وفوضى الحاضر، أي باختصار بين العلم والدين، فان قصيدة ((حاملو المشاعل)) لا تنذر بأي تهديد من قبل العلم على الإيمان الديني. فالشاعر نويز، على العكس من اليوت، يميل الى إنهاء الخلاف وإيجاد توافق بين العلم والدين، معبرا بحماسة وتفاؤل عن إمكانية تأسيس عقد توافقي بين الحقائق والمكتشفات العلمية وبين المعتقدات المسيحية.
في قصيدته التي أوح زيارة له قام بها الى مرصد ماونت ولسن في كاليفورنيا، يعبر الشاعر نويز عن احتفائه بالعلم ويرسم صورا وتأملات عن رجال العلم من أمثال كوبرنيكوس وتايكو براخ وكبلر وغاليليو ونيوتن ووليم هرشل—رجال يعتقد أنهم "تداولوا النار ]نار المعرفة] من عصر الي عصر." (1) وكان غرض الشاعر التعبير عن ان "تاريخ الاكتشاف العلمي يمتلك وحدة ملحمية – وحدة هدف ومسعى – بمثابة مشعل واحد ينتقل من يد الى يد عبر القرون." (2) بتوظيفه استعارة المشعل من اجل تقديم عرض شعري لتقدم العلم عبر التاريخ باتجاه الحقيقة، يحيي الشاعر أولئك الباحثين عن الحقيقة العظام واصفا إياهم على أنهم
مكتشفو الصمت، الرواد المنعزلون،
السجناء والمنفيون، شهداء الحقيقة
الذي تناقلوا النار من عصر الى عصر؛
أولئك الذين خطوة بعد خطوة دحروا الليل
وناضلوا عاما بعد عام من اجل قبس آخر
بين النجوم عن القانون المطلق، دليلهم...
ويواصل نويز بمنتهى الحماس مديح أولئك الذين " شاهدوا / تلك المنظومات الكواكبية البعيدة،" أولئك "الحالمون بالأحلام، مشيدو أملنا،/ الشافون ومضمدو الجروح..." وهكذا.
في وصفه لمرصد ماونت ولسن و"تلسكوبه الجديد العظيم، ذي المائة بوصة،" يخاطب الشاعر تلك الآلة الكبيرة، بوصفها "أنبل سلاح صنعه الإنسان" يستطيع من خلالها أولئك الرواد، "مستكشفو السماء" ان يهاجموا "ذلك الظلام مرة أخرى ويظفروا بعوالم جديدة." وبهذا يصبح التلسكوب رمزا لسعي الإنسان الطويل الأمد من اجل الحقيقة:
أشرق عاليا في السماء
مفعما بكل أفكار وآمال وأحلام
عقل الإنسان المغامر.
وفي تتبعه لتاريخ العلم وتقدمه على مر العصور، يجد نويز قصة العلم الحقيقية في المنجزات البطولية العظيمة للعلماء، فينشد:
عن أولئك الذين امسكوا بالنار البروميثيوسية الطاهرة
واحدا عن الآخر، كل يصيح بينما هو يهبط
مناديا الآخر الذي ينتظر، يتوجه الشباب والفرح...
-- متطلعا الى مستقبل مشرق، الى "عصر جديد عظيم،" الى "عالم جديد عظيم،" عالم مستقبلي تجعل درجة روعته الشاعر يشعر بروع تخيله او تصوره.
تكمن محاولة نويز التوفيق بين الدين والعلم في اعتقاده بعدم وجود تعارض جوهري بين جوهر كل منهما ان فهمناهما فهما صحيحا. وكما لمح في دراسته المعنونة ((الإله المجهول)) 1934، والتي قام فيها "بسرقة أسلحة اللا أدريين من اجل تدعيم الإيمان" كما يعبر ديريك ستانفورد، فان العلم لا يتعارض مع الدين إلا إذا تبنى موقفا وضعيا غريبا على أدواته الحقيقية. (3) وكذلك في ((حاملو المشاعل))، فان نويز لا يتطلع إلى قدرة العلم على شرح قوانين الفلك والكواكب فحسب، بل أيضا إلى قدرته على خلاص البشرية. انه يؤمن بأن العلم قوة خلاصية عظيمة، انها فعل "محبة، بشرية وإلهية،/ تستطيع تحويل كل الضعف إلى قوة." وهكذا يتساءل:
أ ليس ثمة أغنية
تلامس هذا الكون المتحرك من القوانين
بنور مطلق، وميض ذلك الفجر العظيم
الذي سيبزغ ولو على أنقاض المعابد
ببهاء اشد نقاء، ويعيد البشرية
من أحلامها الأشد ظلاما التي حتى لوكريشيوس عرفها،
الى رؤى تلك القوة الواحدة التي تقود العالم.
فكيف على البشرية ان تجدها؟
والجواب بالنسبة لنويز يكمن في الانجازات العظيمة للعلم التي لها القوة الخلاصية هذه، وفي اعتقاده بأن ليس إلا من خلال البحث المقدس عن الحقيقة يستطيع العلم يخلص البشرية من نفسها:
ليس إلا عبر تلك الأبواب
التي تنفتح إلى الداخل، في كل روح على حدة
تمنح كل إنسان تواصلا مع روح الجميع
التي تحيا في كل حياة، لكن لا ان توجد
او تعرف، بالنظر نحو الداخل، كل لوحده
يلتقي الرب الأبدي الذي لا يدرك.
يصرح الناقد جون بيوكان برأيه واصفا قصيدة نويز على انها "ملحمة إيمان عظيمة، ستصبح وفق قناعتي واحدة من أكثر الأشياء ديمومة في عصرنا." (4) قد لا يصف العديد من النقاد قصيدة ((حاملو المشاعل)) بعبارات كهذه، ولا حتى يعدونها قصيدة تمثل أفضل إعماله؛ فقليل من القراء سيقرؤونها من اجل المعلومات العلمية التي تضعها القصيدة في المتناول بنظم شعري (كما في المقاطع في المجلد الثاني التي تتناول المناظرة الشهيرة حول النظرية الداروينية التي جرت في جامعة اوكسفورد بين الدوس هكسلي والقس ولبرفورس)؛ وربما سيعدها عدد اقل من النقاد والقراء عملا فنيا عظيما. إلا أنها ستبقى، بقدر تعلق الأمر بالدراسة الحالية، محاولة واسعة النطاق لعقد الصلة الوثيقة بين الشعر والعلم.
وقرب نهاية عشرينيات القرن العشرين، قام شاعر أفضل من نويز بمحاولة مشابهة لعقد مثل هذا التوافق، ولو من نوع مختلف. في العام 1929 نشر روبرت بريجز (1844-1930) قصيدته الفلسفية الطويلة ((إنجيل الجمال)). مستقيا أفكاره من مصادر متنوعة وكثيرة كافلاطون وارسطو والمسيحية والفلسفة وعلوم الطبيعة الحديثة، يصنع بريجز نوعا من الدمج والانصهار بين هذه العناصر جميعا ليخرج بنظرة توافقية متفائلة تتفاعل فيها طبيعانية/مادية العلم مع مثالية الدين، النظرية التطورية مع العقائد الأخلاقية المسيحية والجمالية التي تسعى الى ان يستعيد الإنسان كرامته وموقعه/مكانته المركزي في الكون. وكما يشير دوغلاس بوش، فان قصيدة ((إنجيل الجمال))، على الرغم من كونها القصيدة الأكثر طموحا بعد قصيدة ((في الذكرى)) للشاعر الفيكتوري الفرد لورد تنيسون في محاولتها التوفيق بين النظرية التطورية وبين مصير الإنسان وكرامته الأخلاقية، إلا أنها لا تمتلك القدرة على ان تجد لها مكانة تؤهلها لأن تكون قصيدة مكافئة او مقاربة لعيون القصائد في الشعر الحديث. (5) نقتبس المقطع الآتي من الكتاب الأول من القصيدة:
ولكن أ يمكن ان يكون ثمة إرادة أو غرض في الطبيعة؟
ذلك الكون الخارج عن إحساسنا القادر على الإدراك،
الذي حين نتفحص كنهه فإننا لا نفكر إلا كي نجد
بنية من الذرات العمياء التي استعبدتها عاداتها،
اوبعكس ذلك، ونحن نتفحص أحاسيسنا، نشك بأنها
حلم لمظهر فارغ وتصوير عدمي – (6)
الا ان الفوضى التي عمت في العقود الأولى من القرن العشرين وانهيار الأطر القديمة للمعتقدات الدينية والأخلاقية والفلسفية التي زعزعها العلم الحديث خلقت واقعا لم يشهد تاريخ البشرية مثيلا له في شدة تعقيده، مما جعل ذلك يبدو للشعراء، كغيرهم من المفكرين، امرأ لا يمكن تجاهله و التهرب منه او إيجاد حلول له بمثل هذه المحاولات التوفيقية.
-----------------------------------
الهوامش:
Quotations from Noyes’s poem are taken from W. Eastwood, A Book of Science Verse: The Poetic Relations of Science and Technology (London: Macmillan, 1961), in which a section from Volume One of the poem is included on pp. 194-202, with no line numbers provided.
The poet’s own words as quoted by Kory Wein, “Relighting the Torch of History of Science: Construction of Time in Alfred Noyes’s The Torch-Bearers: Watchers of the Sky” , no page number.
Derek Stanford, “Alfred Noyes” , no page number.
Quoted in Harry Blamires, Twentieth-Century English Literature (London: Macmillan, 1982, 1986), p. 11.
Douglas Bush, Science and English Poetry, p. 156.
Robert Bridges, The Poetical Works of Robert Bridges (London: Oxford U. P., 1953), p. 579.
#عادل_صالح_الزبيدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟