أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شقير - الغسيل/ قصة قصيرة















المزيد.....

الغسيل/ قصة قصيرة


محمود شقير

الحوار المتمدن-العدد: 6243 - 2019 / 5 / 28 - 17:45
المحور: الادب والفن
    


الغسيل
قصة: محمود شقير
أفاق من نومه مذعورًا.
فتح عينيه بصعوبة وهو بفركهما بطرف إصبعه. كانت أمه تحدق في وجهه وهي تستعيذ بالله من الشيطان الرحيم، تلمست جبينه بباطن كفها:
-كنت تهذي طوال الليل.
نهض من السرير واتجه إلى الحمّام. أدرك وهو يغتسل أن حياة الإنسان في بعض مناطق هذا العالم الفسيح لا تزيد في قيمتها عن قشرة بصل. كان والده يردد دائمًا مثل هذا القول قبل أن يقتله رصاص الأعداء على النهر. لم يكن والده يحمل فلسفة خاصة في الحياة؛ ومع ذلك، علمته سنوات الفقر الطويلة، والخضوع المر للحكومات المتعاقبة أن يستنتج أفكارًا صائبة في بعض الأحيان.
غادر الحمام ودلف إلى غرفة الضيوف؛ صورة أبيه ذات الإطار الأسود معلقة على صدر الحائط وقد علاها الغبار، شعر بالذنب لأن أباه لم يظفر بجنازة لائقة، ويبدو أن أمه ساورها الشعور نفسه، فراحت تستغل كل فرصة لتوجه الحديث صوب مآثر زوجها الشهيد.
اقترب من الصورة وأزال ذرات ا لغبار المتراكمة على إطارها؛ وفي الأثناء وطن نفسه على الاعتقاد بأنه يحتاج إلى إرادة قوية لكي يتحدى الصعاب ويواصل المسيرة، ولذلك لم يشأ أن يخبر أمه بأمر التبليغ الذي استلمه البارحة من مركز الشرطة؛ فهو لا يحب الاستماع إلى مواعظها، وقرّر الذهاب إليهم من دون علمها؛ وهكذا طلب منها فقط أن توقظه في وقت مبكر.
فتح النافذة التي تطل على بيت الجيران؛ تنحنح بصوت مقصود، لم تصعد ابنة الجيران إلى سطح البيت، فالوقت ما زال مبكرًا، وهي في العادة تصعد في الساعة الثامنة؛ تنشر على حبل الغسيل بعض الثياب ثم تنصرف.
تنغّص وتساءل عن الحكمة من خلق النساء ما دام حتى الآن لم يتعرّف إلى امرأة تكون شريكته في هذه الحياة القاسية. بذل جهودًا مضنية؛ ضاعت كلها سدى، بحثًا عن شريكة العمر، لكنه تجنب دومًا الاقتراب من البنات المنحدرات من أسر عريقة في الحفاظ على الشرف الرفيع؛ حدّ استخدام السكاكين وإراقة الدماء لدى أي التباس في العلاقة. كان يرتعب من مجرد التفكير بتلقي طعنة في الخاصرة لأنه غمز بعينه لإحدى البنات.
ابنة الجيران تبادله نظرات حيية، وحتى اللحظة لم تتجاسر على الاقتراب منه؛ ولم يتجاسر هو الآخر على الاقتراب منها، رغم أن أباها يبدو وادع المظهر وأخوتها صغار السن لا يفكرون بعد باستخدام السكاكين.
دخلت الأم خفيفة الخطو وأزاحته من النافذة، ثم أغلقتها:
-هذه النافذة يجب ألا تفتح أبدًا.
ثم عادت إلى المطبخ؛ وظل هو منطرحًا فوق أحد المقاعد تلوب في صدره أقذع الشتائم. انبعث من مكان ما في البيت صوت المذياع، يضغط المذيع على الكلمات بطريقة متبجحة. نهض أحمد محنقًا: إنهم لا يكفون عن الكذب. مضى نحو المذياع وأخرسه في عصبية ظاهرة.
أطلت الأم من باب المطبخ؛ وكانت تحتشد في رأسها أفكار عدة:
-هذه البنت لا تناسبك، كم مرة قلت لك هذا الكلام؟! تركب البسكليت والكرسي يدخل بين فخذيها دون حياء.
أضافت:
-سوف أخطب لك ابنة خالك.
-لن أخطب ابنة خالي.
ارتدى ملابسة على عجل؛ اعترضته أمه وهو يحاول الخروج:
-عليك أن تتناول طعام الفطور.
رفض الانصياع لرغبتها وخرج؛ مضى إلى مركز المدينة، توقف عند بائع الصحف، تناول صحيفته اليومية، وحينما همّ بالابتعاد سأله البائع:
-ما هي أخبارك؟
-لا جديد.
مضى متمهلاً وهو يتصفح العناوين البارزة، ولم يجزم إن كان بائع الصحف يعمل مخبرًا؛ فقد يكون أصدقاؤه مبالغين بعض الشيء فيما قالوه عنه. دخل المقهى؛ طلب فنجانًا من القهوة، انهمك يقلب أوراق الصحيفة: قطع أراضٍ للبيع، مطلوب سكرتيرة، أفخر أنواع الأجواخ الانكليزية تجدونها في محلاتنا، ثم قفز قليه إلى حلقه حينما قرأ: براءة واستنكار. ارتشف قهوته بعصبية والتقطت عيناه الحروف الكريهة: أنا.. أستنكر كل الأحزاب وخاصة الحزب.. الهدام.
التصقت حثالة الفنجان بحلقه فأخذ يسعل. كوّر الصحيفة بين يديه، ضغط عليها، طوّح بها في عرض الشارع، مرت سيارة بمحاذاتها، تمنى أن تصعد العجلة فوقها وتسويها بالإسفلت، لكنها ضربتها من جانب، فانقذفت بعيدًا لصق الرصيف؛ شعر بتأنيب ضمير؛ حملها وألقى بها في حاوية قريبة للقمامة.
تسكع في شوارع متطاولة؛ وتلهى بتأمل أجساد النساء، وتذكر أنه لم يتزوج حتى الآن؛ وبعد شهرين يحل عيد ميلاده الخامس والثلاثين. اعتقد أن ذلك لا يحدث صدفة، وصل به التفكير حد اتهام مؤسسات كبرى تتآمر على الإنسان في هذه البقعة من الكون، فتحيل حياته إلى كومة من نثارة الخشب؛ وذهبت به اللهفة إلى المرأة حدّ الاعتقاد أنها هي الجنة التي جاء ذكرها في الكتب المقدسة، فقرر ألا يستسلم لليأس.
اتجه إلى البناية الفخمة المتجهمة ذات النوافذ الصغيرة؛ قال للحارس:
-أنا مطلوب.
حدّق فيه باستخفاف:
-ماذا؟
-لديّ مقابلة هنا.
ساروا به عبر دهاليز طويلة؛ بدأ الخوف ينغل في عروقه كالحشرات المتراكضة. إنها المرة الأولى التي يأتي فيها إلى هذه البناية. حاول أن يقنع نفسه بكلمات تلفظت بها شفتاه في خفوت: أنت صاحب قضية. لكن خوفه ظل يتصاعد.
أدخلوه غرفة واسعة؛ فيها رجل يتلهى بالنظر إلى مجلة ملونة، حدجه الرجل بنظرة قاسية وسأله:
-أين تقضي أوقات فراغك؟
-في البيت.
-وغير البيت؟
-في المقهى أحيانًا.
-مع من تجلس في المقهى؟
-أجلس وحدي.
-أنت تكذب، تذكّر جيدًا.
-كما قلت لك؛ أجلس وحدي.
-ماذا تفعل وحدك؟
-أتأمل الدنيا من حولي.
دخل رجل آخر ضخم الجثة مفتول الذراعين، حدّق في وجه أحمد تحديقة عدائية. تبادل مع الرجل الأول نظرات مثيرة للقلق. قال الأول:
-هيّا قل له ما ذكرته لي لعله يصدقك.
ارتبك أحمد وقال:
-ليس لدي ما أقوله؛ ماذا أقول له؟
صاح فيه الثاني:
-اخرس؛ هل تعتقد أنك في خان. هيّا تكلم.
ابتلغ أحمد ريقه:
-قلت إنني أقضي أوقات فراغي في البيت وأحيانًا في المقهى.
سكت أحمد، وقال الأول:
-أكمل؛ ماذا قلت أيضًا؟
-أجلس وحدي؛ أتأمل الدنيا من حولي.
احتدّ الثاني ولوح بعضلات يده أمام وجه أحمد:
-ولماذا تتأمل الدنيا من حولك؟
-التأمل ضروري للإنسان.
صفعه الثاني على وجهه:
-نعم، نعم، هل تعتقد أننا سندخل معك في جدل فلسفي؟!
ارتجف أحمد؛ حلت لحظات صمت. انفتح الباب ودخل رجل ثالث، نظر في وجه أحمد المحتقن؛ كانت عيناه تنمان عن شفقة وعطف. قال للرجلين الآخرين:
-إذا سمحتما؛ اخرجا وسأبقى معه.
انصفق الباب بهدوء، وقال الثالث:
-أنتم لا تتعاونون معنا، ولهذا تحدث أمور مزعجة.
وبعد لحظة:
-اسمع؛ لا أريد منك شيئًا كثيرًا، تصفي حسابك وتخرج.
-أي حساب؟
قال في هدوء مشوب بالتوتر:
-لا تتظاهر بالتغابي؛ نريد منك معلومات.
-أية معلومات؟
احتذّ الثالث وصاح فيه:
-أما حيوان صحيح؛ أصدقاؤك، معارفك، علاقاتك، كل شيء، فهمت؟
شعر أحمد لأول مرة أن خوفه ينقشع كغمامة صيف، وأدرك أنه محشور في زاوية ضيقة، وليس أمامه سوى المواجهة، وليكن ما يكون، قال في ثبات:
-لا أعرف شيئًا.
انفتح الباب. دخل رجال ثلاثة.
تحلقوا حوله. انهالوا عليه يضربونه بضراوة وهو يغتسل بدمه.



#محمود_شقير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الاتحاد الحيفاوية مسيرة نضالية حافلة
- قصص عدي مدانات/ مقالة
- عن العودة وحلم العودة
- عن الجبهة الوطنية الفلسطينية وتجربة الاعتقال والإبعاد
- إشكاليات التحديث الثقافي في فلسطين للباحث سعيد مضية.
- الفارس/ قصة
- زجاجة ماء/ قصة قصيرة جدًّا
- من دفتر اليوميات 24/3/2008
- عيد ميلادها
- من دفتر اليوميات23/03/2008
- من دفتر اليوميات/الاثنين17/03/2008
- من دفتر اليوميات11/03/2008
- يوميات/ الخميس 06/03َ/2008
- من دفتر اليوميات/ الثلاثاء/ 15/01/2008
- من دفتر اليوميات/ الخميس 03 /01 / 2008
- من دفتر اليوميات/ الثلاثاء 1/1/2008
- من دفتر اليوميات27/12/2007
- من دفتر اليوميات/ السبت8/12/ 2007
- من دفتر اليوميات/ الجمعة 23/11/2007
- من دفتر اليوميات/ الخميس 22 /11 / 2007


المزيد.....




- -قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
- مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
- فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة ...
- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...
- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
- بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شقير - الغسيل/ قصة قصيرة