|
إستذكارات - كاميران رؤوف: تتأرجح بين الأداء الكاريزماتي وتأجيج الذاكرة
عدنان حسين أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 1540 - 2006 / 5 / 4 - 11:03
المحور:
الادب والفن
غالباً ما تُهيمن الأعمال المسرحية ذات النَفَس التراجيدي على المتلقي بوصفه مشاهداً عضوياً، فاعلاً في التلقي، ومنفعلاً بالحدث في إطاره المأسوي الذي ينكأ جرحاً دفيناً في النفس البشرية النبيلة، ويوقظ فيها الخزين الراكس من الذاكرتين الفردية والجمعية على حد سواء. وتأتي أهمية مسرحية " ذكريات " للكاتب والمخرج المسرحي الكردي كاميران رؤوف في أنها توقظ الجانب الأخطر من ذاكرة الضحايا العراقيين، كما أنها تسلط دائرة الضوء على ذاكرة " الجلادين " بوصفهم رموزاً للقمع والإستبداد والوحشية. إن فكرة الهروب، والتهجير القسري، والعزل، وما إلى ذلك من ظواهر سلبية باتت شائعة " ومألوفة " في العراق بسبب ممارستها المنهجية من قبل سلطة البعث التي حكمت البلاد بالحديد والنار على مر ثلاثة عقود ونصف العقد، حيث شهد العراق هجرات جماعية قسرية من شمال الوطن إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه، وبالعكس حسبما تقتضيه الظروف والحجج الأمنية الواهية التي كان يبتكرها النظام بين أوان وآخر. ومسرحية " ذكريات " التي كتبها وأخرجها كاميران رؤوف تعالج جانباً من جوانب الهجرة القسرية، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي. وعلى رغمٍ من أن الخلاص الفردي ليس حلاً، إلا أن الأزمات والظروف القاهرة كانت تُجبِر الإنسان الكردي أن ينجو بجلده كلما وقعت كارثة جديدة في كردستان، تماماً، كما هو حال الشخصيات الخمس التي فرّت من شمال العراق عبر الحدود التركية، ووصلت إلى هولندا طالبة حق اللجوء السياسي أو الإنساني. وفي مركز من مراكز اللجوء الهولندي تنطلق هذه الذكريات إلى حيّز الوجود، وتحتك بعضها ببعض لتشيّد بنية النص المسرحي الذي أبدعه المؤلف كاميران رؤوف، هذا المخرج العراقي الكردي الذي يتميز بخبرته الطويلة سواء في التمثيل أو الإخراج أو التأليف المسرحي، وقد نال العديد من الجوائز في المهرجانات المحلية والعالمية التي تعزّز هاجسه الإبداعي وإخلاصه التام لخشبة المسرح. تأجيج الذاكرة لا شك في أن الذاكرة العراقية الراهنة مكتظة بالوقائع والأحداث، ومثقلة بالمصائب والويلات التي " إجترحها " النظام الفاشي السابق، وأغرق خارطة الوطن بدماء العراقيين، فصار لكل شريحة من شرائح المجتمع العراقي " أرشيفاً " من الكوارث والمحن التي حلّت بهم. ومن بين صفحات هذا الأرشيف إنتقى كاميران رؤوف خمس حكايات، نسج منها " ثيمته " المسرحية التي إنضوت تحت عنوان " ذكريات ". وعلى رغمٍ من روح المأساة التي تهيمن على القصص الخمس، إلاَ أن نوافذ الأمل ما تزال مشرعة أمام شخصيات العرض المسرحي، والذين هم صورة مصغرة للشعب الكردي برمته. ولتأجيج هذه الذاكرة لا بد من العودة إليها بين حين وآخر، ووخزها بقوة لممارسة فعل الإستذكار، وإستخراج خزينها التراجيدي الذي لا يُبطِل بفعل تقادم السنوات. ومن خلال خبرته المتراكمة إستطاع كاميران رؤوف أن ينتقي " ذكريات " مهمة تنطوي على أبعاد درامية مؤثرة لا تغادر ذاكرة المتلقي بسهولة. تقوم بنية العرض المسرحي، والذي قُدِّم باللغة الهولندية، على خمس شخصيات تتوفر على ذاكرة متخمة بالخوف والكوابيس والوقوف عند حافة الموات لمرات عديدة. وربما كان وقع الشخصيات النسوية الثلاث أكثر درامية، ومأسوية من الشخصيتين الذكوريتين بفعل المصائب التي حلّت بهنَّ. فالشخصية الأولى روناك والتي جسّدتها الفنانة الهولندية " أديث زفنكيلس " فقدت إبنها في أثناء مغامرة الهروب عبر الحدود التركية، ومنها إلى المنفى الهولندي، حيث تسرد قصة معاناتها الممضة مع " مافيات " المهرّبين، واللصوص، وتجار الحروب. أما الشخصية النسائية الثانية فهي خوشي التي أدتها الفنانة " أوات دزئي "، والتي فقدت هي الأخرى شقيقها الذي سقط في هوّة وادٍ عميق في أثناء رحلة الهروب المُفجعة. أما الشخصية النسائية الثالثة التي لامست عواطف الجمهور، وهزّت مشاعره فهي شخصية الشاعرة ساوزا التي جسدتها بدقة عالية، وبحس تعبيري فائق " شنو شمال ". وقد تعاطف الجمهور معها لأكثر من سبب، فهي مغتصبة من قبل " حراس الحدود " الذين يُفترض بهم أن يوفروا للمواطنين كل أشكال الحماية، لا أن ينتهكوا أعراضهم، ومن جهة ثانية فقد كان أداؤها متمكناً إلى الدرجة التي تقمصت فيها شخصية الشاعرة، وتماهت فيها، كما أنها إستطاعت أن تنوّع في الأداء على مدار العرض المسرحي، وتخطف الأضواء في عدد غير قليل من المواقف المؤثرة. أما الشخصيتان الأخريان فهما رزكار والتي جسدها ببراعة الفنان " شمال علي " المعروف بخبرته الواسعة في فن التمثيل المسرحي والسينمائي، وإسترخائه على خشبة المسرح إلى الدرجة التي يستطيع من خلالها إمتصاص زخم التوتر الموجود لدى أقرانه في الحدث الممسرح. وقد أدى دور الفدائي " البيشمركة " الذي إنقطع للدفاع عن القضية الكردية سنواتٍ طوالاً وواجه خلالها الكثير من المصاعب والملمات بحيث لم تعد تثيره المشكلات العابرة. أما آشتي فهو الشخصية الخامسة التي أداها الفنان " شورش دزئي " حيث جسّد شخصية الأستاذ الجامعي الذي يمتلك القدرة على التواصل مع الآخر الأوروبي. تمكّن كاميرا رؤوف مؤلف النص ومخرجه أن يجمع هذه الشخصيات الخمس في مركز للجوء في هولندا، وتركها تستذكر خيوط هذه الأحداث التي مرّت عليهم جميعاً. وعلى رغمٍ من أن الرسالة الفكرية لهذا النص المسرحي هي التواصل مع الآخر الأوروبي، وإحاطته علماً بخلفية القضية الكردية، وما ينجم عنها من معلومات مباشرة، إلا أن هناك متعة بصرية أخرى ساهمت فيها الشخصيات المنتقاة بعناية فائقة من قبله، والديكور المعبّر لسيروان جمال الذي أثث المكان، وشغل فضاء العرض المسرحي، وصنع من مكوناته الأساسية معطى بصرياً لا يقل أهمية عن النص، والممثلين، والمؤثرات السمعية والبصرية التي شدّت من العرض المسرحي وجعلته متماسكاً، ورصيناً، وفاعلاً على رغم من دورانه في الفلك الواقعي الذي يعوّل على التعبيرية تارة، وعلى الحس التجريبي المخَفف تارة أخرى. ويبدو أن المخرج قد إنتبه إلى أهمية المكان، فقسّم خشبة المسرح إلى قسمين أساسيين، الأيمن للنساء الثلاث، والأيسر للرجلين، لكنه قبل إنتهاء العرض المسرحي جمع الشخصيات الخمس على طاولتين متلاصقتين ليوحي لنا بأن المحنة واحدة، وأن الإنتصار عليها قد يأتي حتى من خلال فكرة الخلاص الفردي التي جمعت هذه الشخصيات الهاربة من مصيرها المحتوم هناك، غير أنها نجت بأعجوبة، وعادت لإستئناف حياتها من جديد في جو من الحرية والمساواة والعدل الإنساني، الأمر الذي يذكرنا بأن هذه الحياة الجديدة التي تضمهم الآن بما فيها من قيم إنسانية، هي ما كانوا يسعون لتحقيقيها هناك في الأرض المُستلبة من قبل " الغزاة المحليين! ". جاذبية الأداء لا بد من الإشادة بقدرات شمال علي " عبه ره ش "، هذا الفنان الذي كرّس حياته لخشبة المسرح الكردي، وأدى العديد من الأدوار، وقد نجح في مجملها لأنه يعرف ماذا يريد، كما أنه يُدرك ما يحتاجه المخرج أيضاً. وفضلاً عن ذلك فإن شمال علي يتوفر على شخصية كارزماتية تشد المتلقي إليه. كما أن أداءه الهادئ الرصين يضعه في صلب إهتمام المشاهد الذين يتابعون بشغف كل حركاته، وسكناته المحسوبة، فلا ترهل في جملته، ولا بلادة في إيماءاته. كما تجدر الإشارة إلى أن الممثلة الهولندية " أديث زفنكيلس " قد أثرتْ العرض المسرحي، وإندمجت فيه، وكأنها إمرأة قادمة فعلاً من كردستان العراق. ولعل خبرة المخرج كاميران رؤوف هي التي ردمت المسافة بين الممثلين المحترفين والهواة الذين إشتركوا في إنجاح هذا العرض المسرحي، وجهود المخرج لم تذهب سدىً في الإرتقاء بقابلية الممثلين الهواة الذين تألقوا ثلاثتهم على الخشبة، ونالوا من التصفيق أكثر ما ناله المحترفون في بعض المشاهد المؤثرة. كما لعب الحس الفكاهي البسيط بكسر نمطية الأداء المسرحي الذي تتطلبه التراجيديا، وخصوصاً في مشهد ساوزا الأخير عندما إشترت علبة عصير ظنته عنباً، لكنه تبين أن محتويات هذه العلبة كانت نوعاً من أنواع النبيذ. كما أن هناك بعض المشاهد خفيفة الظل لشمال علي هي التي منحت العرض المسرحي بعض الشفافية، وأنفذته من أجواء التراجيديا المفجعة على إعتبار أن المسرحية تنتهي نهاية سعيدة تبشّر بمستقبل واعد يشرق على كرد العراق، تماماً كما القمر الذي توسط سماء العرض المسرحي، وأغرق بهالته الفضية العيون المنبهرة التي تتطلع إليه بنشوة عارمة.
#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مُلوِّن في زمن الحرب لكاظم صالح ينتزع جائزة الجزيرة الخاصة:
...
-
في شريط - قطع غيار - لجمال أمين: كائنات معطوبة، فقدت الأمل ب
...
-
وفاة الكاتب الهولندي المثير للجدل خيرارد ريفه: موضوعاته المف
...
-
الفيلم التسجيلي - السجين رقم 345 - والإنتهاكات المروّعة لحقو
...
-
راشيل كوري.. ضمير امريكي ليحيي بركات: شريط تسجيلي يوثق لسياس
...
-
مهرجان الجزيرة الدولي الثاني للإنتاج التلفزيوني يعلن عن: ولا
...
-
إختتام الدورة الثانية لمهرجان الجزيرة الدولي للإنتاج التلفزي
...
-
المخرج الأردني محمود المسّاد: تجربة التمثيل مهمة بالنسبة لي،
...
-
في الدورة الثانية لمهرجان الجزيرة للإنتاج التلفزيوني
-
مجلة المصير في عددها المزدوج الجديد: ملف خاص عن مهرجان روترد
...
-
الأبعاد الرمزية وترحيل الدلالة في فيلم - أحلام - لمحمد الدرا
...
-
عدد جديد من مجلة - الألوان الكونية - المتخصصة في الفن التشكي
...
-
صدور العدد الثاني من مجلة سومر
-
شريط - عراقيون وسينما - للمخرج خالد زهراو: محاولة لرسم معالم
...
-
في فيلمه التسجيلي - السويس... الذاكرة المنسية -:المخرج أحمد
...
-
الفنانة العراقية عفيفة العيبي في معرضها الجديد: هيمنة الفيكر
...
-
المخرجة الإيرانية سبيدة فارسي في فيلمها الروائي الثاني - نظر
...
-
المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: أشعر بأننا لم يعد لدينا ما نر
...
-
مذكرّات - وصمة عار - للباكستانية مختار ماي التي تعرضت للإغتص
...
-
وصمة عار - باللغتين الفرنسية والألمانية في آنٍ واحد: قصة حيا
...
المزيد.....
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|