|
حروب الداخل وشروخها الإنسانية
رولا حسن
الحوار المتمدن-العدد: 1539 - 2006 / 5 / 3 - 12:03
المحور:
الادب والفن
«سيدي وحبيبي».. هدى بركات في روايتها «سيدي وحبيبي» الصادرة عن دار النهار ـ بيروت، تقدم رؤية مختلفة للحرب عن تلك التي شهدناها في روايتها السابقة «حارث المياه» والتي حولتها الرومانسية المثخنة بالحنين إلى قصيدة في حب بيروت وفرصه لإقامة حلم أرضي متخيل وسط الدمار والحرائق والأحلام المحطمة.. وإن كان بطل الرواية السابقة قد حاول النجاة من التهلكة بالتحول إلى روبنسون كروزو، والتحصن داخل جزيرة تمنعه من الانزلاق إلى هاوية اليأس فإن بطل الرواية الجديدة يعجز عن تحقيق ذلك وكأن السلم الهزيل الذي تمخضت عنه حروب اللبنانيين كان أقسى من الحروب نفسها ليس لأنه لم ينتج عنه أي مشروع تغييري بل لأنه كان الوجه الآخر للحرب والأرضية المناسبة لخروج شياطين الداخل من سجنها ووصول التصدع إلى آخره.. تجدر الإشارة إلى أن الرواية مكتوبة بلسان المذكر لا المؤنث حيث يورد البطل وديع فصولاً متعددة من مسيرة حياته بدءاً من الطفولة إلى المراهقة وتنتهي في فترة الشباب المترافقة مع وصول الحرب اللبنانية إلى منعطفاتها وأكثر مراحلها وحشية وضراوة وتحللاً من القيم فيما تتكفل سامية زوجة وديع المختفي في نهاية الرواية بتقديم ما خفي من تفاصيل الأحداث، ودلالة ذلك هو قدرة الإبداع على تجاوز ثنائية الذكورة والأنوثة الصافيين تجاه المناطق المشتركة التي تمكن الرجل من النطق بلسان المرأة والمرأة من التماهي مع الرجل في حالة الخلق. وثمة دلالة ثانية يمكن استنتاجها من الكتابة بلسان المذكر فهي تتعلق بالمسافة التي تفصل بين المؤلف والراوي في نظام السرد حيث إن الأول ـ فيما يتقمص الثاني ـ يختفي تماماً ليترك له فرصة الحياة بمعزل عنه وبمجرد أن يمسك الراوي بضمير المتكلم يصبح وحده المعني بشؤون حياته ويصبح تغييب المؤلف شرطاً أساسياً لاستقامة العمل الروائي؛ ولكن اختيار هذه التقنية من جهة ثانية يمنع الراوي من أن يتحول إلى مشاهد «كلي القدرة» على حد تعبير يوسا لأنه يصبح محكوماً بالزاوية الواحدة التي يرى الحياة من خلالها والتي قد تحجب عنه الكثير من الحقائق لذا كان لابد لسامية ـ الراوي المساعد ـ من التدخل لكشف بعض الحقائق الخافية على وديع لوضع لمسة الختام على الراوية بعد اختفاء الأخير. في «سيدي وحبيبي» تلعب هدى بركات لعبة الأزمنة فتنتقل بحرية بين الزمن التسلسلي للحدث وبين الزمن المستعاد على طريقة «الفلاش باك» وصولاً إلى النهاية في زمن ثالث يتولاه الراوي الآخر في حال غيبة الراوي الأول.
الرواية تبدأ بحديث بطل الرواية الغامض عن افتتانه برجل آخر تحول بالنسبة إليه إلى حبيب وسند وملاذ مع ترك الهامش مفتوحاً لكل الإيحاءات المترتبة على اعتراف كهذا تضع ذلك العشق في خانة الرمز: «أحببته حباً لا يوصف. ليس بسبب أني لا أحسن الوصف أو بسبب عدم قدرتي على الكلام والاستفاضة فيه حين يتعلق الأمر بي بداخلي ومشاعري بل لأن ذلك الحب يبقى غامضاً لم أسمع أحداً يتحدث بمثله». ستمر صفحات لكي يكتشف القارئ أن الرجل المقصود بالحب ليس سوى المدير الجديد للشركة التي يعمل فيها وديع في قبرص بعد هربه من حرب لبنان وبعد موت المدير السابق الذي كان يسبب لوديع الخوف والقلق والرعب. يبدأ الراوي وديع من زمن البدايات حيث نتعرف على الفتى المراهق الخجول الذي يجلس في المقاعد الأمامية في الصف تاركاً المقاعد الخلفية للمشاكسين والفوضويين وأيضاً نتعرف إلى أيوب زميل وديع الفقير وإلى والد وديع الذي يعمل طباخاً لدى أحد الأثرياء ويطعم زوجته وابنه من بقايا مائدته غير أن أحداثاً مفاجئة تحول مجرى حياة وديع وتنقله من واقع إلى آخر والبحث عن دور له خارج البيت والمدرسة ونظام القيم الذي يحيط به. فحين تموت أمه بسبب الفقر وتحكم الميليشيات الذي يجعل من غسيل الكلى علاجاً مقتصراً على الأثرياء وحين يرى وديع الطريقة التي يعامل بها والده والذل الذي يعانيه وحين تبدأ عصابة من تلامذة المدرسة التنكيل به لا يجد البطل المراهق بداً من الانضمام إلى عصابة من الشباب الأشقياء كخيار لرد المهانة والذل وطريقة لاسترجاع الإحساس بالكرامة برغبة جامحة في الانتقام للعائلة بالرغم من أن وديع لم ينخرط وعصابته في الأحزاب والميليشيات المتناحرة لكن ما فعله لا يقل دموية وشراسة حين اعتمد القتل والتهريب والاتجار بالمخدرات طريقاً للوصول إلى ما يريد فلم يتورع عن قتل خال زوجته حين ظنه عثرة في طريق طموحه. أو حتى الإيعاز بقتل رفيقه أيوب حين شك بإخلاصه.. له هذا الانقياد الأعمى للمال والسلطة وللرغبة في الانتقام من الطفولة المبتورة وعقد النقص الكثيرة توصل أسلوب الرواية إلى ذروته ويحوله إلى استبطان عميق وتقص نفسي لأحوال بطل الرواية وتداعياته وهو يهبط إلى قيعان الهلوسة. لكن وديع يسقط أيضاً فريسة قوانين الحرب نفسها ليكتشف في لحظة صدق مع الذات أن لا أحد يستطيع النجاة بنفسه من هذا الهلاك المحتم حيث السرقة والقتل والكذب والرياء طرق إجبارية للبقاء على قيد الحياة لذا يهرب وديع مع زوجته سامية إلى قبرص تاركاً وراءه كل الثروة التي جمعها إبان الحرب، وأباه أيضاً عرضة للقتل من قبل العصابات التي تطلب رأسه.
ما تريد هدى بركات قوله، وربما تأكيده أنه لا أحد يستطيع الخروج سليماً ومعافى من حرب طاحنة كحرب لبنان حيث تدخل الحرب إلى رأس وديع على شكل هلوسات وحمى ورعب من كل شيء يحيط به بحيث يفقد البطل الاتصال مع محيطه الى درجة العجز وفقدان الرغبة ووسط هذا الخوف الذي يتجسد عبر خوفه الشديد من شخصية المدير السابق تتحول شخصية المدير الجديد بما تحمله من سلاسة وألفة إلى بر الأمان ولكي يتطهر من الإثم يريد بتر الزمن الأسود والعودة هارباً إلى طفولته بما فيها من قسوة فإن ذلك بالنسبة إليه أقل هولاً من جحيم الشباب الذي عاشه إبان الحرب. هنا وحين يختفي وديع عن مسرح الرواية تتوقف في الوقت ذاته مهمته في السرد حيث تتولى سامية المهمة متكفلة بملء كل الفراغات غير المفهومة من الخاتمة.. فسامية هي من يخبرنا عن انقطاع حبل النجاة الذي توهمه، وديع عبر شخصية مديره الجديد حين يرى بأم عينيه مثالب من رأى فيه «سيده وحبيبه» وضعفه أمام صاحب الشركة وسامية أيضاً من يخبرنا عن خيانتها لوديع مع المدير الذي منحه زوجها ثقته كاملة وعن عملها الليلي في إحدى البارات من أجل الإنفاق على بيتها الزوجي المتهاوي.. وهي إذ تتحدث عن اختفاء وديع تمتنع في الوقت ذاته عن إعطاء سبب أكيد وثابت عن اختفائه واضعة هذا الاختفاء في مهب احتمالات كثيرة منها ذهابه للتسكع في باريس أو تواطؤه السري مع مديره «الشاذ» أو التحاقه بأيوب الذي نجا بأعجوبة من الموت.. ولعل هذه النهاية المفجعة الملفّعة بغموضها تستفز مخيلة القارئ وتدفعه إلى المشاركة في إتمام التفاصيل على طريقته.. الوقت الذي مر على انتهاء الجانب الدموي من حرب لبنان لم يكن كافياً لإيقاف حروب أعنف هي حروب الداخل وشروخها الإنسانية العميقة.. والبدء من جديد ليس أمراً بهذه البساطة مادامت أوزار الشعور بالذنب تلاحق الإنسان أينما ذهب.. واختفاء وديع في الرواية ليس سوى المعادل الرمزي للعجز عن الخروج من مأزق الحرب والانسحاب للخلف كي يتاح لمن يأتي فرصة البدء من جديد.
#رولا_حسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-الطوارق- حكاية الصحراء في مرآة التخييل الروائي
المزيد.....
-
مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” ..
...
-
مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا
...
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|