لماذا لن تقوم امريكا ببناء العراق؟
الفرق بين عراق اليوم والمانيا او يابان بعد الحرب العالمية الثانية.
الكثير من المؤمنين بضرورة الحرب التي تنوي امريكا شنها ضد العراق يتصورون بان الولايات المتحدة ستقوم ببناء العراق بعد هذه الحرب، كما حدث مع المانيا و اليابان بعد الحرب العالمية الثانية.
كما ان امريكا نفسها رغم كثرة حروبها و تدخلاتها منذ بروز النظام العالمي الجديد، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي لم تتحدث عن بناء اي من الدول التي تدخلت فيها بالقدر الذي يحدث الان مع العراق.
هناك اربعة اسباب تدفع الكثيريين الى الاعتقاد بان الولايات المتحدة ستقوم ببناء العراق بعد انتهاء الحرب: اولا وجود مثل هذه التجربة من قبل، اي تجربة اليابان و المانيا، ثانيا ان العراق يختلف عن بقية الدول التي تدخلت فيها الولايات المتحدة كونه بلد غني بثرواته الطبيعية مما يسهل هذه العملية، ثالثا وجود معارضة ضخمة ضد الحرب سواءا على المستوى الشعبي اوعلى مستوى الدول الامر الذي يشكل ضغط هائل على الولايات المتحدة، لذا لن يكون بمقدوها شن حرب على العراق ومن ثم الانسحاب وتركه دون اقامة شئ افضل مما هو موجود الان وبنائه اقتصاديا ، رابعا يعتقدون ان اهداف و مصالح امريكا قد تغيرت عن اهدافها و مصالحها اثناء الحرب الباردة، فمن مصلحة امريكا القضاء على الانظمة الدكتاتورية في الدول الفقيرة المسماة ( بدول العالم الثالث) واقامة انظمة لبرالية مما يسهل الاستثمار فيها وانتقال رؤوس الاموال اليها ودمج المناطق العصية، كمنطقة الشرق الاوسط بالمنظومة الراسمالية المتقدمة.
رغم كل هذه الاسباب التي تقدم والتي تبدوا معقولة ومقنعة بان الولايات المتحدة ستقوم ببناء العراق بعد هذه الحرب، برأي هذا ان لن يحدث، و سيكون العراق واحدا من الدول التي تتدخل فيها امريكا لتتركها مع بعض التغيرات السطحية.
عمليا لم نجد في السنوات الاخيرة ان قامت امريكا ببناء اي بلد رغم كثرة تدخلاتها كما قلنا. ان اهم حملة بناء قامت بها ليست امريكا وحدها بل الغرب ككل كانت في كوسوفو ولكن رغم كل الدعاية و الزخم الاعلامي الذي رافق عملية ( البناء) هذه الا ان العملية قد ظلت اقرب الى الدعاية منها الى عمل جدي. لقد تدهورالوضع المعاشي للمواطن في كوسوفو اضعاف المرات قياسا بعهد الاتحاد اليوغسلافي رغم تخلف و تفسخ هذا النظام من الناحية السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية.
واخر هذه الامثلة كان افغانستان. ان الذي انجز من قبل امريكا وحلفائها في مجال البناء وفي المجال السياسي و الاجتماعي لهو تافه جدا. فالانجاز الذي تحقق هنا لم يكمن في التغيير التي قامت به امريكا بحد ذاته بل يكمن في رجعية وتخلف حركة طالبان، بحيث ان ازالة هذا النظام شكل تغيرا ملموسا، ولابد ان يكون ايجابيا بغض النظر عن الذي يخلف هذا النظام. ان الاحصائيات و الارقام الموجودة في مجال البناء تثير الضحك. ففي الوقت الذي يحتاج ادنى حد من البناء في بلد مثل افغانستان الى مليارات الدولارات تظل المساعدات الدولية في حدود الملايين و على مدى سنوات او حتى عقود. يكفي ان نعرف ان استراليا على سبيل المثال و هي احد حلفاء امريكا المتحمسين و معروفة في مجال المساعدات الدولية،بلغت قيمة اكبر مساعدة خارجية في تاريخها والمقدمة الى افغانستان اربعين مليون دولار استرالي فقط. كما ان الحكومة الاسترالية و التي هي الدولة الثانية بعد بريطانيا في دعمها للولايات المتحدة في حربها على العراق قد تبرعت لحد الان بعشرة ملايين فقط لاعمار العراق بعد الاطاحة بصدام حسين، وهو المبلغ الكافي لبناء احد الجسور او البنايات او المستشفيات........ من بين المئات التي سيتم تدميرها في هذه الحرب. ان ارقام مساعدات بقية الدول سواءا المقدمة الى افغانستان او العراق لاتختلف عن المساعدات الاسترالية كثيرا.
ان الاسباب التي دفعت امريكا الى بناء المانيا و اليابان غير متوفرة في حالة العراق.
اولا: ان احد اهم تلك الاسباب التي دفعت بامريكا الى بناء اليابان و المانيا كان وجود قطب معادي، في الاتحاد السوفيتي و الدول التي دارت في فلكه. كان هذا القطب في قمة قوته وكان وتيرة نموه الاقتصادي لاتزال سريعة. لذا كان بناء اليابان و المانيا احدى ضرورات الصراع الايدولوجي والاقتصادي والسياسي ضد هذا القطب، اي قطب راسمالية الدولة و المسمى بالقطب الاشتراكي. ان و جود اليابان كبلد متطور اقتصاديا يتبنى النموذج الاقتصادي والايدولوجي والسياسي الموجود في قطب رأسمالية السوق الحر، في شرق اسيا كان مهم جدا لوضع حد لنفوذ الاتحاد السوفيتي هناك، كما كان وجود المانيا غربية متطورة اقتصاديا و تمثل قطب راسمالية السوق الحر ايدولوجيا و سياسيا واقتصاديا في الجهة الاخرى من جدار برلين مهما في هذا الصراع. ان اهمية نظام رأسمالية السوق الحر وايدولوجيته تظهر عندما يقارن مع انظمة وايدولوجيات اخرى اكثر رجعية و تخلف، لذا فان وجود المانيا غربية متطورة تمثل هذا النظام بمحاذات المانيا الشرقية المتخلفة نسبيا و تنتمي الى قطب راسمالية الدولة كان جزء مهم من هذا الصراع و ضروي جدا للكشف عن تفوق امريكا وراسمالية السوق الحر. هذا السبب غائب بالنسبة لعراق اليوم. رغم الاستقطاب الذي حدث مؤخرا و بروز فرنسا و المانيا و روسيا كقطب بوجه امريكا مستمدة الشجاعة من الجبهة التقدمية في العالم، الا ان الصراع بينها و بين امريكا هو صراع بين قطبين يمثلان نفس الايدولوجية و نفس النظام الاقتصادي و السياسي. لايوجد صراع ايدولوجي بينها وبين امريكا وحلفائها. حسم هذا الصراع يعتمد بالشكل الاساسي على القوة الاقتصادية و بشكل غير مباشر على القوة العسكرية لكل قطب.
ثانيا: ان الفرق بين المانيا و اليابان من جهة و بين امريكا من جهة اخرى من ناحية التطور الاقتصادي، و خاصة في مجال البنية التحتية ووجود ايدي عاملة متطورة و القوة الشرائية للفرد اثناء الحرب العالمية الثانية كان ضئيلا، لذا لم يجد الرأسمال من الناحية العملية و الربحية اي مشكلة في الانتقال الى تلك البلدان. اما الفرق بين امريكا و العراق كما هو الحال مع بقية دول الفقيرة فهو شاسع، لذا يصعب من الناحية الفنية على الراسمال الاستثمار في دولة مثل العراق في كثير من المجالات، هذا وان كان تاثير هذا العامل ضئيلا بالنسبة الى العراق قياسا بدولة مثل افغانستان مثلا. فالفرق بين العراق وافغانستان كبير جدا، لذا فان فرصة العراق في هذا المجال لاتقاس بفرصة افغانستان.
من جهة اخرى فان اقتصاد الرأسمالية المتطورة وهو في حالة ركود يحتاج اليوم الى اسواق جديدة اكثر من حاجتها الى مواقع استثمار. ان الفرصة التي توفرت في فترة تاريخية محددة اثناء الحرب الباردة لدول مثل كوريا الجنوبية وهونك كونك وماليزيا وسنغافورة والبرازيل وغيرها و التي شهدت استثمارات قوية من الدول المتقدمة قد فاتت ولن تتوفر لبقية الدول التي لاتزال متخلفة اقتصاديا. ان مشكلة الرأسمال في الدول المتقدمة الان كما قلنا تكمن في تراكم انتاجها وعدم وجود اسواق كافية قادرة على امتصاص هذا الانتاج، اكثر من حاجتها الى مراكز جديدة للاستثمار. لذا تسعى الدول المتقدمة عندما يتوفر لها الفرصة بتحويل الدول الفقيرة الى اسواق ثابتة لمنتوجاتها و ليس الى مرالز امينة لاستثماراتها.
وهناك عامل اخر قوي جدا يقع ضمن هذه النقطة وهي عدم استقرار الدول الفقيرة من الناحية السياسية مما يصعب على رؤوس الاموال المخاطرة و الانتقال الى هذه الدول. وهذا يصح اكثر بالنسبة لمنطقة الشرق الاوسط، التي بقيت منطقة حرم الغرب على نفسه الدخول فيها خاصة في مجال الاستثمار، بسبب الحواجز الهائلة بين الغرب و هذه المنطقة ووجود الاسلام السياسي وتحوله الى قوة سياسية مؤثرة نتيجة الصراع العربي الاسرائيلي والسياسات الغربية تجاة شعوب تلك المنطقة. حيث يصعب على الرأسمالي الغربي ان يرى هذه المنطقة كمنطقة نفوذه و كساحة لاستثماراته.
والاكثر في ذلك فان عدم اسقرار الدول المتاخرة سياسيا ليس ناتجا عن وجود حركات معادية للغرب او تشكل خطر على الاستثمارات في تلك البلدان فقط، بل ان لعدم استقرارها اسباب طبقية ايضا . فالبرجوازية في هذه الدول لكي تتمكن من المنافسة مع البرجوازية في الدول المتطورة و تحصل على حصة من استغلال الطبقة العاملة ولو في بقعة جغرافية محددة تحتاج الى استغلال فظيع للطبقة العاملة في تلك البقعة الجغرافية على شكل ساعات عمل طويلة، ظروف عمل قاسية، رواتب تافهة......الخ، وهذا يحتاج الى قمع سياسي، و الى نظام قمعي دكتاتوري. أذا توقفت البرجوازية في هذه الدول عن القمع ليوم واحد سوف تزاح عن الحكم من قبل الجماهير المظطهدة. لذا يستحيل على البرجوازية اقامة انظمة برلمانية في هذه الدول. وهذا هو السبب في عدم قيام ديمقراطيات على النمط الغربي في الدول المتخلفة ليس في منطقة الشرق الاوسط فحسب بل العالم كله. وهذا ما يبعد الاستثمارات. الاستثمار لاينتقل الى دولة تحكمها دكتاتورية مطلقة. هناك علاقة قوية بين مستوى التطور الاقتصادي وقوة الاستثمار من جهة ونوع الديمقراطية البرجوازية التي تحكم اي بقة في العالم من جهة اخرى. لذا فقيام نظام غير دكتاتوري في العراق لايمكن ان يتم بقرار امريكي بل يتطلب شروط موضوعية والتي هي خارجة عن ارادة امريكا. بمعنى اخر، حتى ولو ارادت امريكا اقامة ديمقراطية برجوازية في العراق واتفق ذلك مع مصالحها فهناك اسباب تحول دون قيامها.
لذا تبقى تلك البلدان وحتى الغنية منها اسواق اكثر من كونها مراكز استثمار و حتى الاستثمارات التي تتم فيها هي في مجالات محدودة يكون بامكان الرأسمال التحرك فيها بسرعة نسبيا. اذ لايوجد انتقال للتكنلوجيا الى تلك الدول كما حدث مع اليابان و المانيا. العراق لايشذ عن تلك القاعدة. ستقوم الشركات الغربية بالاستثمار في مجالات محدودة وفي الميادين التي تحتاج الى فترات زمنية محدودة وستقوم بالاستفادة من العراق كسوق لصرف منتوجاتها دون ان يتحول الى مركز صناعي ..
فالعراق كالدول المتاخرة الاخرى سيظل يدور في حلقة خبيثة مفرغة، اذ لانه بلد متاخر وغير مستقر، لن ينتقل اليه الرساميل وبما ان الرساميل لاتنتقل اليه لذا فانه سيبقى متاخرا.
وستبقى ادعاءات امريكا في اقامة ديمقراطية في العراق وبناء اقتصاده بعد الحرب ادعاءات وجزء من الدعاية الحربية وستبقى احلام المعارضة العراقية التي تدور في فلك امريكا في هذا الصدد سرابا ستتنتهي قريبا.