|
عصير الحصرم 72
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 6232 - 2019 / 5 / 17 - 23:33
المحور:
الادب والفن
1 في طفولتنا، كانت البساتين الواقعة تحت الحي من الجهة الشرقية، تُدعى " الدايرة ". وذلك لأن جدول الماء، المتفرع عن نهر يزيد، كان يدور حول تلك البساتين ويجعلها كالجزيرة. لم يكن هناك نوع من الفاكهة، إلا ووجد في بساتيننا. بعض الأشجار المثمرة، مثل التين والتوت، كانت تعتبر سبيلاً؛ أي مباحة للعابرين والمتنزهين. أما بقية الأنواع، فإن لها أصحابها يرتزقون من بيع ثمارها. على ذلك، أشتهر عدد من نواطير الحي وكان أكثرهم هيبة " أبو علي حسينو ". ذات مرة، وكنا نعبث بأشجار الجوز في الدايرة، ظهر لنا أبو علي حسينو بهيئته المرعبة وجمدنا بمكاننا. عاقب كل منا بضربة عصا على كلتا يديه. في فترة الصبا، كان من بين أصدقائنا فتى قصير القامة، رقيق البدن، يُدعى " أبو عناد دقوري ". آنذاك، كنا نستمع كل مساء لأغنية أم كلثوم عند أحدنا. فلما صار الدور على أبو عناد، توجهت إلى بيته وقرعت الباب. وإذا أبو علي حسينو يخرج، ليسألني: " نعم، يا ابني؟ ". كان قد أصبح مسناً، ولكن سحنته ما زالت مخيفة. بقيتُ مبهوتاً، لا أنطق جواباً، لحين أن ظهر أبو عناد ودعاني للدخول. سألته، عمن يكون الرجل. فقال لي: " ومن سيكون غير أبي؟! ".
2 ليلاً، انتبهت إلى أن الخبز بنوعيه، السوري والإفرنجي، قد نفد من المنزل. تذكرت أنني اشتريت مؤخراً كيس طحين، والخميرة موجودة بالفريزة. تفقدت البراد، وإذا المرتديلا منتهية وكذلك الفطر. هذا الإهمال، سببه انشغالي بالفصل الأخير من الرواية والذي أخذ كل وقتي. كدت أغلق البراد، يائساً من إمكانية تدبير لوازم البيتزا، حين وقع نظري على الشنكليش. وكان هناك أيضاً الزيتون، بالإضافة إلى الطماطم والبصل. عند ذلك، بادرت إلى الطحين فجعلته عجيناً، مضيفاً إليه زيت الزيتون. بعد تخمير العجينة لمدة تقارب الساعة، قمت بفردها على صينية الفرن. بدأت باضافة الصوص ثم الجبنة الصفراء المبروشة. وكنت قبلاً قد جعلت الشنكليش خلطة مع الزيتون الأخضر والطماطم والبصل، وبالطبع زيت الزيتون. فرشت الخلطة على العجينة، ثم رشة زعتر يابس ( أوريغانو ). بعد حوالي ربع ساعة، خرجت البيتزا المبتكرة من الفرن، فتناولتها مع النبيذ الأحمر. على الأثر، وبدلاً من السهر على كتابة الرواية، مضيت في نوم متصل حتى الصباح!
3 ما أن شرعت بضرب كرت الأوتوبيس على الجهاز، حتى فاجأني السائق الصومالي بالسلام عليكم. هوَ والد زميل ابني الصغير منذ أن كان في الحضانة. ولأن امرأته من السودان، فإنه يتكلم العربية بلهجتها، مطعمةً بالمصرية كونه درس أيضاً في جامعة القاهرة. هذا الشاب اللطيف، والباسم الثغر دوماً، سبقَ أن فوجئ بدَوره عندما التقينا في مطعم بيتزا في بداية الشتاء. صاحب المطعم، وهوَ من كرد تركيا، أقترح عليّ ذلك اليوم تناول نوع من النبيذ الفرنسي مع الوجبة. وكنت طلبت بيتزا الجامبون مع الجمبري والفطر. فلما دخل ذلك الأخ الصومالي وشاهدني، اتجه الى طاولتي بعدما طلب بيتزا كباب من أجل البيت. نظر إلى " المعاصي " فوق طاولتي وبقي صامتاً. ولكنه لم يستطع أن يمنع نفسه عن سؤالي: " لاحظت أنكم الكرد، بشكل عام، لا مشكلة لديكم مع الخمر ولحم الخنزير؟ " " نعم، لأنّ مَن حرم الخنزير والخمر أساساً هم اليهود.. ونحن الكرد نكره اليهود! "، أجبته بلهجة جدية.
4 في المكتبة العامة، وبسبب تعبي من الجلوس مطولاً، قمتُ لأتجول بين رفوف الكتب. فعثرت على كتاب " حديقة مونيه "، وكنتُ قد قرأته مرات عدة في خلال وجودي بمدينة أوبسالا قبل سنوات. كلود مونيه ( 1840 ـ 1926 )؛ من أشهر الرسامين الانطباعيين في فرنسا. وقد أرتبط اسمه أيضاً بحديقته، في مزرعة " جيفرني " قرب باريس. قبل زيارتي للمزرعة في ربيع 2005، كنتُ كما سبقَ القول متأثراً كثيراً بقراءتي لكتاب عن حديقة الرسام. وأيضاً، كان هناك كتاب آخر، " مطبخ مونيه "، فيه الكثير من التفاصيل الحميمة عن حياته في المزرعة. حديقة منزلي في أوبسالا ( وكنتُ قد كتبت عنها أكثر من مرة هنا )، بدأت التخطيط لتشييدها مباشرةً عقبَ عودتي من باريس. الحديقة، كان حجمها ليس كبيراً، 7 × 10 أمتار، حيث جعلت لها سياجاً معدنياً بلون أخضر. تأثري بمزرعة مونيه، تجلى بالدرجات السبع، المنحدرة من مدخل الشرفة إلى باب الحديقة، علاوة على القوس المعدني، المتسلقة عليه عريشة ورد جوري. من أشهر أزهار مونيه، التي زرعتها بكثرة في حديقتي، " الكراسّه الصينية "؛ وهوَ نبات بعدة ألوان لزهوره، وأيضاً منه المتسلق والمتمدد ومنه على شكل الخميلة. أدهشت والدتي، ذات مرة، لما قلت لها أنني أضع أزهار الكراسه مع السلطة وأن طعمها لذيذ.
5 حينما سافرتُ إلى المغرب لأول مرة، كان قد مضى عقدان كاملان على وجودي في أوروبة. لحُسن الحظ، كانت إقامتي في هذا البلد الجميل محصورة كلها بمراكش، علاوة طبعاً على جولاتٍ في مدنه الأخرى. أقولها، بالنظر إلى شبه هذه الحاضرة للشام ـ كمدينة إسلامية، داخلية. الشبه بين المدينتين، العريقتين، يَنسَحِبُ عموماً على الموقع والطقس والطبيعة. كذلك الأمر، فيما يخصّ فنون العمارة والزخرفة والصنعة. متاهة الدروب والأسواق في مراكش، تجعلك تشعر كأنك في دمشق القديمة. التيه، ليسَ مجازاً حَسْب بل هوَ حقيقة أيضاً. إذ نادراً ما كنتُ أسأل المواطنين عن عنوانٍ ما لأثر أو مَعْلَم، مُفضلاً أن أهتدي إليه بنفسي. المرء، عندما يطول طريقُهُ إلى مكان معيّن ـ كما يقول باولو كويلو في " ساحرة بورتوبيللو " ـ يكتسبُ مُتَعاً إضافية من المشاهدة والمعرفة. لم يكن بالغريب، إذاً، أن أرمي نفسي دوماً في هذه المتاهة، تائقاً لإكتشاف المزيد من مفاتن المدينة. خِلَلَ شبكة من المَمرات المتداخلة، المُهيمن عليها الأقواسُ والبواكي والقناطر، يكاد المرءُ أن ينفصل من عالم المُعاصرة ويؤوب إلى ماضٍ لن يعودَ أبداً. في حقيقة الحال، فإنّ الإعتماد على الدواب ما زال ضرورياً في حاضرةٍ يتشكّل جلُّ سكانها من أناس ريفيين الأصل. ثمّة، نشهدُ استمرارَ أشكالٍ من الحياة البدائية، كما في استخدام وسيلة النقل القديمة؛ الكوتشي ( الحنطور ). كذلك سيُدهش الزائر حينما يرى عربة زبالة، يجرّها حمار، وهيَ تقوم بمهمتها في الشارع الرئيس لحيّ راقٍ، مثل " غيليز "، يقطنه الكثير من الأوروبيين. في هذا المقام، من المفيد ذكر ملاحظة معبّرة أوردها الأديب محمد شكري في أحد كتبه، تصوّر عقلية معظم الغربيين من سيّاح ومقيمين على حدّ سواء. وهيَ أنّ هؤلاء القادمين للمغرب، وكانوا قد وضعوا مُسبقاً في أذهانهم التمتعَ بحياةٍ بسيطة يفتقدونها في بلدانهم، لا يلبثون أن يبدأوا بالتذمّر والشكوى بسبب حنينهم لوسائل الراحة والرفاهية أو لصدمتهم حيالَ واقع المجتمع.
6 العاصمة المغربية، كانت زياراتي لها " عبورَ طريق " كما يُقال عادةً. وهيَ ذي أعوامٌ عشرة كاملة، تفصلني عن آخر مرة كنتُ فيها هناك. الرباط، امرأةٌ غريبةُ الأطوار. فاتنةٌ في النهار، كئيبةٌ ليلاً. أتذكّرُ وصولي إليها صباحاً في أول زيارة، قادماً في حافلة البولمان من شقيقتها المراكشية. فكم كنتُ منبهراً بسحرها عندئذٍ؛ هيَ المكتسية حلّة ناصعة بيضاء وزرقاء، كلون بحرها المحيط، ومزيّنة بلآلئ الأزهار. مدينةٌ نظيفة للغاية، أنيقةُ الأسوار والمداخل والأسواق، منظّمةٌ وآمنةٌ فوق كلّ ذلك. فطورنا في سناك صغير بمركز المدينة، المحروس بشجيرة موز مزدهرة، أستعيدُهُ كلّ مرةٍ كأنما هو لمحة من حلم. بعد دفعنا أوراقاً في السفارة السويدية، انحدرنا مشياً على الأقدام إلى مكانٍ مُجاور، فردوسيّ الصّفة، يُدعى " شالة ". إنه وادٍ واسع، مكتنفٌ بالأشجار المثمرة من كلّ نوع، يمرّ فيه نهرٌ عظيم. آثار رومانية وإسلامية، تتناثرُ بين الأشجار، فتزيد من إبهار المكان. من الجهة الأخرى للوادي، تطلّ مدينة " سلا " التاريخية؛ مهد السلالة العلوية الملكية. الغداء، تناولناه في المطعم السوري، " بابا غنوج "، القائم بمقابل محطة القطار الرئيسية. صاحبُ المطعم، احتفى بنا بكل لطف خصوصاً أنه من أهالي حيّ " الصالحية "، المُجاور لحيّنا بدمشق. مساءً، صدفنا مطعماً فخماً كان معظمُ زبائنه من الأوروبيين. خرجتُ من المطعم، أتلمّظُ طعمَ النبيذ الأحمر، اللذيذ. كان الوقتُ إذاك على حدود الثامنة مساء، فكم أدهشني خلوّ الشوارع من معظم المارة. ففي مراكش، اعتدتُ على مدينةٍ تسهر أسواقها وساحاتها ودروبها حتى الخامسة فجراً؛ أي إلى موعد صلاة الفجر. بهكذا شعور من الوِحْشَة، والحنين، اتجهنا إذاً إلى فندقٍ يقع بالقرب من أسوار المدينة القديمة. ثمّة، أتحفنا الموظفُ المناوب بلائحةٍ تبيّن السعرَ الباهظ لليلة الواحدة. لما سألته عن موعد الفطور، فإنه أجابني بكلّ خفّة: " نحن لا نقدّم أيّ وجبة هنا ". لاحقاً، علمتُ أنّ هذا التقليدَ العتيدَ شائعٌ في أغلب فنادق المغرب. الأدهى، كان ينتظرنا في الغرفة الصغيرة. كانت خالية من الحمّام. أما التواليت، الإفرنجي، فكان مُنتصباً بجلالة قدره بين سريريّ النوم.
7 جدّي لأمي، سبقَ أن تكلمت عنه مراراً؛ وأنه كان من وجهاء الحارة، كذلك عُرف بالكرم وطرافة الطبع فضلاً عن تعشق ملذات الحياة. وكان الجدّ يحيي في منزله العامر سهرة الإذاعة المصرية مع كوكب الشرق، وذلك في أول خميس من كل شهر، والتي بدأتها الإذاعة منذ ثلاثينات القرن الماضي. ثم أتى موعد ذلك الخميس، وكان الجد عائداً إلى المنزل في سيارته الفخمة، الفورد. دخل على جدتي، حاملاً كيساً ثقيلاً يحتوي على مصران الخروف كي تطبخ منها أكلة " الحفاتي ". ثم خرج، وقد سهى أن يخبرها بأن المطلوب أن تطبخها لضيوفه من أجل السهرة الكلثومية. مساء، بدأ توافد أولئك الضيوف وكانوا من الأقارب نساءً ورجالاً. ذهب الجد إلى المطبخ، فراعه أن امرأته قد أعدت عشاء عادياً. قال لها في جزع: " لقد عزمتهم على الحفاتي؛ فما العمل الآن؟ ". ثم اتفقا على أن تبادر هيَ إلى العمل فوراً بمساعدة نساء العائلة، بينما يتكلف من ناحيته إلهاء الرجال بالأنغام المنبعثة من جهاز الراديو. بعد ساعات، كان الضيوف يغالبون النعاس والحفلة انتهت. رجع الجد للمطبخ ليتفقد حال الطبخة المأمولة، فرأى أنها قاربت على النضوج. لما آب إلى ضيوفه، وجدهم جميعاً يغطون في النوم وشخير بعضهم يشق هدوء الليل.
8 عندما كنت مقيماً في مدينة أوبسالا ( السويد )، كان في منطقتنا رجل ستيني من دمشق. كان رجلاً يحب معاشرة الناس، ولكنه يحب الكذب أكثر من أي شيء آخر. ذات مرة، أعلنت شركة السكن أنها ستزيل تحت طائلة الغرامة أي صحن ستالايت ما لم يكن مثبتاً في الأرض بقاعدة حجرية. تباحثت بالموضوع مع صديقنا، فقال لي بثقة: " لديّ ست قواعد حجرية، فلا تأكل هم ". ولأنني لم أكن على دراية بعدُ بخصلته السلبية، فإنني شكرته قائلاً: " أنا لا أحتاج سوى لقاعدة واحدة. فلنضرب الحديد وهو حامٍ ". توكلنا على الله وانطلقنا. فإذا به يتجه إلى غير ناحية منزله، فلما سألته ردّ عليّ: " سر معي ولا تأكل هم! ". مررنا بعد مسير ربع ساعة برجل عراقي، كان يسقي حديقة شقته، فسأله صديقي إذا كان لديه قاعدة ستالايت زائدة. دمدم الرجل عابساً، ثم أعطانا ظهره. بعد ذلك، أخذني صاحبنا إلى مكان امتلأ بأعمدة حديدية مخلوعة من الرصيف، بسبب تصليحات هناك. قال بنبرة المانح الكريم: " هيا تناول واحدة من هذه الأعمدة مع قاعدتها الحجرية! ". فلما قلت له أن هكذا قاعدة تحتاج ستة رجال ليحملوها، فإنه قال بخفة: " والله؟ ". أخيراً، وصلنا قريباً من منزله. رفع الموبايل، ثم تمتم بكلام مبهم. بعدئذٍ، اعتذر بأنه مطلوب في البيت ويتوجب عليه أن يتركني. فقلت له: " والله؟! ".
9 تشدّني أسماءَ المقاهي، التي تحمل أسماء أعلام معروفين سواء في سماء الفن أو الأدب. في مدينة أوبسالا السويدية، كنتُ أؤثر ارتياد " مقهى شاغال "؛ وهوَ على اسم الرسام الروسي العظيم، الذي أمضى معظم حياته في فرنسا وفيها توفي. " مقهى الشارلو "، يبدو في الصورة مدخله، المحتفي بتمثال من الحجم الطبيعي لسميّه الرائع؛ شارلي شابلن. هذا المقهى، وكان يقع في حي غيليز الراقي بمدينة مراكش، أعتدتُ على الجلوس فيه بأوقات مختلفة من اليوم. بناء المقهى حديثٌ، ولكنهم احتفظوا بأشجار النخيل العملاقة، فجعلوها تنبثق بحرية من سقف الترّاس لمعانقة الضوء والشمس. كذلك ألِفتُ القعود هنالك بمقابل شاشة كبيرة، كانت تعرض على مدار الساعة أفلام شابلن الصامتة. بينما غالبية رواد المقهى، كانوا يفضلون متابعة مباريات كرة القدم ( وخصوصاً الدوري الإسباني ) على الشاشات الأخرى. مع الأسف، فلا ذاك المقهى السويدي ولا الآخر المراكشي، قد بقيَ محتفظاً باسمه وما يرمز إليه. كلاهما انتقلا على ما يبدو لملكية أناس لا علاقة لهم بالثقافة، فتحولا إلى شبيه المقاهي الأخرى.
10 منذ أن كنتُ في الصف السادس الابتدائي، وبفضل أستاذنا سليم الأيوبي، صرت معتاداً على قضاء ساعات في المكتبة الظاهرية، الكائنة في ظلال أهم أوابد دمشق؛ منائر المسجد الأموي وأبراج القلعة السلطانية. مع أواسط الثمانينات، غيرتُ وجهتي إلى " مكتبة الأسد " نظراً لحداثتها وحسن تنظيمها واحتوائها على مقصف يقدم الطعام والشراب. إلا أنني لم أكن أتوقع بحال، أن العقلية الأمنية المهووسة بعد أنفاس المواطنين، يمكن أن تلحق المرء إلى هكذا صرح ثقافي. مراقبو قاعة التاريخ، حيث كنت أمضي أكثر وقتي فيها، كانوا كالعادة من المنتفعين بحُكم القرابة أو الواسطة. وبالطبع، فالقاعات الأخرى جميعاً كانت محظوظة بأمثالهم. ذات يوم، عدت من المقصف بعدما أنهيت غدائي. ما أن هممت بفتح دفتري، الذي أعتدت على تسويد صفحاته بمعلومات من هذا الكتاب أو ذاك، إلا وفاجأني مراقب القاعة بالقول: " إنهم يطلبونك في المقصف من أجل قدح شاي لم تعده لمكانه! ". استغربت من الأمر، ولكنني آثرت الذهاب تحت نظرات الرجل الأشبه بالدب والمكتسي دوماً بالفيلد العسكريّ. هناك في المقصف، أخبروني بألا علم لديهم بشيء مفقود. لما عدت للقاعة، لمحت من خلال زجاج جدارها ذلك الدب وهوَ يقلّب في دفتري باهتمام وكما لو أنه يحتوي على وثائق سرية عن مؤامرة ضد بطل التشرينين.
11 فيما كنتُ بطريقي إلى المقهى، شهدتُ سقوط امرأة مسنة على الأرض. شأن زوجها، كانت المرأة تجر حقيبة سفر وهما قادمان من محطة القطار. تلقفها الرجل بين ذراعيه، وكان يحاول اعادتها للوعي بالطبطبة على وجهها. لما التفت إلى الوراء بعد نحو دقيقة، كان الخلق ما ينفكّون محيطين بكلا الزوجين. الحادثة، أعادتني سنيناً إلى الوراء هذه المرة. جارتنا السويدية، " آناليزا "، كانت تعمل قابلة في مستشفى مدينة أوبسالا ( حيث كنت أقيم آنذاك )، ومن ثم وصلت لسن التقاعد. زوجها، واسمه " كنت "، كان واضحاً أنه يكبرها قليلاً؛ بشعره القليل الأبيض وتجاعيد وجهه. كان متقاعداً، يقضي أغلب وقته في مجال الدعوة المسيحية. كلا الزوجين كانا على الدرجة نفسها من الطيبة والانفتاح على الآخرين؛ وقد قاما بزيارتنا عدة مرات. يوماً، جاءت المرأة لوحدها. عند الباب، سألها ابني الصغير ذو الأعوام الأربعة: " أين والدك كنت، لماذا لم يحضر معك؟! ". ذات صباح، وفيما كنت أهم بمغادرة المنزل، لحظتُ تجمعاً لأناس أغراب أمام باب أولئك الجيران. ثم ما لبث أن اقترب مني جار ايراني، ليصدمني بخبر وفاة " آناليزا " بسكتة قلبية. لمحض الصدفة، كانت جارتنا الراحلة قد أبدت اعجابها ذات مرة بشتلة أزهار " بوكسيا "ـ زرعتها في حديقتي وأضحت بعد عامين في حجم شجيرة ـ متساءلة كيف حفظتها من البرد والصقيع. الشجيرة، ماتت في الشتاء نفسه، الذي شهد خريفه رحيل هذه الجارة الطيبة.
12 اضطررتُ للزوم المنزل، كي أبقى مع ابني الصغير، لأن مدرّسته أشتبهت بأن فيروس المعدة قد يكون منتشراً بين التلامذة. مثل هذه الحالة ليست جديدة، بالأخص لأن العديد من زملاء ابني هم من الصوماليين. قبل نحو ثلاثة أعوام، عاد بعض أولئك التلاميذ من عطلتهم الصيفية في الصومال ورؤوسهم يلعب فيها القمل. لحسن الحظ، أن مسؤولي المدرسة انتبهوا للأمر في الوقت المناسب فلم تنتقل العدوى إلى الأولاد الآخرين. ومع أن ابني يقضي الصيف ( وأحياناً عطلة رأس السنة أيضاً ) في المغرب، إلا أنه كان يرجع من هناك بلا أي مشكلة صحية. ذات مرة، وكان ابني ما يزال في الثالثة أو الرابعة من العمر، صدمني وأنا داخل إلى الحضانة مشهد بنت صومالية وهي تأكل التراب. برغم أنها من مواليد السويد، ولكن يبدو أن الأمر يتعلق بالجينات؛ كأن يكون والديها قد تعرضا لمجاعةٍ في هكذا بلدٍ تمزقه الحروب ويضربه الجفاف. آنذاك، تذكرت " روبيكا " بطلة رواية ماركيز ( مائة عام من العزلة )، التي كانت كلما تضايقت تعمد لأكل طلاء الجدران.
13 ثلج الربيع، الذي داهمنا على حين فجأة بعد نحو عشرة أيام مشمسة، يُشبه دباً أبيضَ، خرج من الغابة لكي يروّع القرويين ثم عاد أدراجه، تلاحقه اللعنات والطلقات النارية. في طريقي من المقهى إلى المنزل، كانت بقع الثلج مستلقية تحت الأشجار كما لو أنها أطيافٌ تكمن للعابرين بغيَة تذكيرهم بمن يرقدون تحت التراب. ولكنني كنتُ راضٍ اليوم عن الطقس، ورأيت الدربَ إلى المقهى قد جففته شمس النهار والنسيم الربيعيّ العذب. كل مرة أصدف فيها على الأرض علبةَ كولا فارغة، أو شيئاً من هذا القبيل، أرغبُ بتحييدها إلى جانب. ولكنني أمتنع عن ذلك، بسبب ذكرى قديمة: فالشيخ الدرع، وكان يسكن في مدخل زقاقنا الدمشقي، كان يوحي لجيرانه بغض النظر وفعل الخير. ففي أوان خروجه من المنزل وعودته إليه، كان كلما انتبه لكسرة زجاج، أو تنك، يزيحها جانباً بواسطة عصاه. أما لو كانت كسرة خبز، فإنه كان يرفعها إلى فمه فيقبلها ثم يرميها في أقرب حاوية زبالة.
14 ركبت مع ابني الصغير لمركز المدينة. بعد تجوال هنا وهناك، دخلنا إلى الغاليريان؛ وهوَ مجمع تجاري مع سلسلة مطاعم ومقاهي. قال لي هناك، أنه يريد أن يأكل سندويش sub way. ومع أنني أعرف عناده، فقد نصحته بأنها وجبة هزيلة ولا تشبّع. من ناحيتي، طلبت صحن شاورما على الطريقة التركية؛ وكل مرة أحلف ألا آكلها مجدداً ! ذلك أعادني إلى ذكرياتي الدمشقية، حيث الشاورما على أصولها. حتى أنك تحس بالجوع ولو أنك قد تناولت الطعام في منزلك، وذلك بسبب العبق الرائع، المنبعث من المطعم. هذا يقال أيضاً عن المطاعم الشعبية، المتخصصة بالفول والحمّص والفلافل والفتة، التي كان موعدنا معها ليلاً في الصالحية ( الشيخ محي الدين ). منذ منتصف الثمانينات، بدأت مطاعم الوجبات السريعة تغزو الشام، وكانت تقدم الهمبرغر والبيتزا. إلا أنني لم أستسغ الهمبرغر، بسبب إضافة البيض المقلي للسندويش. وبقيت فترة في السويد لا أقرب الهمبرغر، معتقداً أن شريحة الجبن الصفراء هي بيضة مقلية. كذلك الأمر مع البيتزا، نتيجة ذكرياتي معها في موسكو: كانت عبارة عن طبق صغير عليه القليل من الفطر ومزين بثلاثة أسماك صغيرة نيئة.
15 الوجيه بديع ديركي، صديق والدي الحميم، كتبت عنه عدة مرات فيما سبق. منزل أهله، الكائن بأسفل الزقاق على ناصية جادة أسد الدين، كان من أجمل دور الحارة ولقد كنت أعدّه جنة طفولتي. علاوة على الصداقة، كان والدي وشقيقة بديع الكبيرة أخوة رضاع. بديعة هذه، كانت زوجة الزعيم بكري قوطرش، الذي شغل مناصب عسكرية ودبلوماسية رفيعة في أربعينات وخمسينات القرن الماضي. وكان والدي قد عمل تحت إمرته، وذلك في فترة انضمامه للفوج الكردي في جيش الشرق الفرنسي وكانت قيادته آنذاك في مدينة الحسكة. بديع من ناحيته، كان ضابطاً في الجمارك، ثم تم تسريحه في زمن الوحدة المصرية. بعدئذٍ أستقر في رومانيا، لمزاولة التجارة. في أثناء فترة غيابه، والتي طالت لعقدين من الأعوام تقريباً، كان منزله في عهدة والدي. ولكن الرجل كان يعود بين حين وآخر، وفي كل مرة يجد حديقة منزله وهيَ تموج بالأزهار والورود بينما أشجارها مثقلة بالثمار. عند ذلك يحضر بقية أصدقائه؛ ومنهم ابن عمي أبو جومرد، عماد دقوري وعمه المحامي وآخرين. صاحب المنزل، كان في شبابه من أبطال المصارعة. وأتذكر كيف كنتُ أنظر إليه وهو بقميص الشيال، معجباً بعضلاته. فكان يلاحظ ذلك، فيقوم بترقيص عضلاته كي يضحكني.
16 الأكيدنيا، أو المشمش الهندي، شجرة ذات ثمر شهي وأوراق جميلة فضلاً عن جذعها الرشيق والصقيل. المشمش البلدي، يمكن أن تشاهد أشجاره في البساتين على شكل أيكة أو غابة صغيرة؛ مثلما الحال في غوطة دمشق. بينما الأكيدنيا، تزرع في المنازل الشامية وغالباً بشكل إفرادي. في بيتنا بحي ركن الدين، كانت الأكيدنيا هيَ الشجرة الأثيرة عند الأهل كباراً وصغاراً. والدي، بعد قطعه على التوالي لشجرتيّ تين وتفاح، أراد أن يلحق بهما الأكيدنيا؛ لولا تحذير الأم الصارم. الرجل العاشق للزهور والورود، كان يريد أن يتيح لحديقته الضوء وأشعة الشمس. في مراكش المغربية، أعتدت على الجلوس عصراً في مقهى بساحة غيليز plaza. في مقابل المقهى هنالك، كانت توجد فيللا يشرأب من وراء سورها المعدني هامتيّ شجرتيّ أكيدنيا. كنتُ أظل متمتعاً بمنظر الشجرتين، المعيد إليّ ذكرى أكيدنيا منزلنا الدمشقيّ، إلى أن تحل العتمة وتبدأ العين بالنظر إلى مواقع أخرى للجمال والفتنة.
17 لأول مرة، هنا في السويد، يهب عليّ هواءٌ ساخن وكأنني في بلد أفريقي شمالي وليسَ في بلد أوروبي شمالي. كذلك الأمر، بالنسبة لملابسي، والتي كانت مقتصرة على قميص تي شيرت فوق الجينز. في المقهى، الذي كان سابقاً مطعم وجبات سريعة، أجلس وراء اللابتوب فيما الرواد الآخرين يتبادلون الأحاديث. السوريون، تميزهم من أصواتهم العالية؛ بالأخص الفتيات والنساء، اللواتي يتكلمن بالهواتف الذكية وبطريقة جد غبية مزعجة. بما أن الشيء بالشيء يذكر، فإنني أقارن هذا المقهى السويدي الراقي مع جاره، المملوك لكرد تركيا. هنا، تتهادى النادلات كالحوريات، والابتسامة تزين وجه كل منهن. أما في ذلك المقهى، فإنك ترى نادلاته وهن عابسات، يتنقلن من طاولة إلى أخرى ليسحبن فنجان القهوة من أمام الزبون بطريقة فظة وكأنما يخاطبنه بالقول: " أتريد أن تستفيد من النت والكهرباء مقابل فنجانك، يا هذا؟! ".
18 الربيع، موعدنا مع الحشرات الطائرة؛ من الزنابير في الطرقات والحدائق إلى الناموس في المقاهي والمطاعم. كنت قادماً إلى المقهى، عندما أنقض عليّ دبور من شجرة على جانب الطريق، إلا أنني تجنبته. آخر مرة، واجهتُ فيها أحد أبناء جنس هذه الحشرة العدوانية، قبل حوالي ثلاث سنوات في صيف مراكش. إذ تسلل الدبور يومذاك إلى حجرتي عبر بابها، وكان الوقت ظهيرة حارة. كوني خضت أيضاً تجربة قديمة، مماثلة، فلم يكن مني إلا ترك الحجرة له والنزول للبيت التحتاني! وأتحدث عن مواجهة قديمة مع الدبور، وذلك في حجرتي ببيتنا في دمشق قبل نحو ثلاثة عقود. فمن نافذة الحجرة، دخل الأخ ومن ثم استهل مناوراته عند مستوى السقف. نهضت بثقة وبيدي كتابٌ كنت أقرأ فيه، لأستعمله في سحق الدبور المزعج. ولكن، ما أن أخطأت اصابته، إلا وهاجمني بشراسة حد أنه جعلني أصرخ دون وعي قبل أن أرمي نفسي خارج الحجرة.
19 في الأيام الربيعية، كانت بساتين الحارة أشبه بفتاة حسناء، تكتسي الملابس الكردية الجميلة والزاهية الألوان. المشمش، وهو بين أكثر الأشجار المثمرة حضوراً، كان يفتننا بأزهاره ويعدنا بغلة وفيرة من الثمار الشهية. المشمش بنوعه " الكلابي " خاصة، وأيضاً أشجار الرمان والخوخ والزعرور والزعبوب، كانت تنمو بشكل جماعي. على عكس التين، الذي تؤثر أشجاره العزلة في أماكن متفرقة من البساتين. الأهل، كانوا يتشددون مع أولادهم صيفاً، بشأن التجول في البساتين؛ وذلك خشية من الاختلاط بالصبية المنحرفين. أما في خلال الربيع، فإنهم كانوا يتساهلون معنا طالما أن حجتنا هي الدراسة في الهواء الطلق. وكنا شلة الزقاق بأعمار متقاربة، نجتاز بعدُ المرحلة الإعدادية. هكذا نمضي إلى البستان معاً، وكل منا يحمل ما تيسر من طعام وفاكهة. كذلك كنا نشعل الأعواد اليابسة، لنوقد تحت إبريق الشاي. وعادةً ما كان الصوت الجميل لأحدنا، ( الصديق الراحل سيفو دقوري )، يجود علينا بالقدود الحلبية. عندئذٍ، كان بعضنا يشارك بالغناء والبعض الآخر يتخيل نفسه مع الحبيب فوق النخل.
20 كان موعد ابني الصغير مع دراجته الجديدة. وقد عدت معه من المدرسة، وكان يقود دراجته بمهارة فضلاً عن الالتزام بقواعد المرور. خلال الطريق، وكالعادة في مناسبات مشابهة، راح ابني يسألني عن طفولتي. في عُمر ابني، كنت مع آخرين من لدّاتي في الزقاق نستأجر البسكليت عند بائع البسطة، " أبو صلاح ايدين "، وكان لديه إعاقة بسبب شلل نصفي. حين كان أحدنا يمضي أكثر من المسافة المحددة للدراجة، فإنه لدى عودته يترك الدراجة قبل الوصول لصاحبها ثم يركن للفرار كي لا تناله ضربة عصاه ! في سنّ أبكر، كنتُ محظوظاً بتواجدي اليومي مع أبي في منزل صديقه " بديع ديركي "، الوجيه الأعزب، وكان آنذاك يقيم في أوروبا. إذ أعتاد الرجل، أثناء زياراته للوطن، على جلب هدايا لأولاد شقيقته وبينها دراجات وسيارات صغيرة تُدفع بواسطة القدمين. كونهم أغنياء، فإن أولئك الأولاد كانوا يتركون أغلب الهدايا في منزل عمهم ولا يعودوا يلتفتون إليها؛ وهكذا تبقى من نصيبي.
21 عشرون سنة تقريباً، مضت على آخر مرة استعملت فيها دراجة عادية. آنذاك كنت أقيم في أوبسالا، وتمت سرقة دراجتي ليلاً لأنني تكاسلت عن ربطها بالحزام الخاص. اليوم، أخذت دراجة الخانم لكي أرافق ابننا إلى درس الرياضة في الملعب الكبير والذي يقع غير بعيد عن منطقتنا السكنية. في أوان امتلاكي لدراجة، أي قبل نحو عقدين، كنت استعملها طوال العام باستثناء أشهر الشتاء القاسية والمثلجة. كذلك أتذكّرُ أنهما مرتان، تعرضت فيهما لحادث طفيف. إحداهما، حينَ هممت باجتياز الطريق وإذا بالإشارة تتحول إلى الأحمر. ففقدت السيطرة على الفرامل ودخلت بعمود الإشارة نفسه، ليرتطم رأسي به ! المرة الأخرى، كنتُ في طريقي إلى البحيرة والوقت صيفاً. عند أحد مفترقات الطرق، أعطيت إشارة بيدي كي أنحرف إلى الجهة المطلوبة. خلفي، كان شاب مع صديقته وكلاهما على دراجته. إلا أن الفتاة لم تنتبه على ما يبدو لاشارتي، فواصلت طريقها مما أدى بي إلى محاولة تفادي الاصطدام بها. والنتيجة، أنني هويت على الأرض مع الدراجة. الفتاة الحسناء، انحنت عليّ لتقول لي ودمع العين يسبقها: " أأنتَ بخير؟ ".
22 الدرج في مدخل المنزل، كان مكاناً أثيراً لأولاد الزقاق يتزاحمون فيه خلال أوقات مختلفة من اليوم. أما درج منزل آل حوطيش، فإنه كان ملتقى نساء الجيران يشربن عنده القهوة عصراً ويتبادلن الأحاديث. منزلنا، كان محروماً من الدرج، لأن الباب الخارجي كان بمستوى الأرض. ولكن كان ثمة درج قصير في نهاية الدهليز، المتصل بين الباب والبيت الداخلي. بينما الحديقة كان لها درج طويل، يتصل بأرض الديار. أشهر أماكن تجمعنا في الطفولة، كان على درج منزل آل كرّي عيشة. أولادهم الثلاثة، كانوا من أقرب أصدقائي؛ بالأخص لأننا جيران أيضاً. في شهر رمضان، كنا نلتقي هناك قبل أذان المغرب وأحياناً في فترة السحور. صديقنا، ابن الشامية، كان آنذاك يقص علينا الحكايات والمغامرات من خياله الخصب، بما في ذلك قصص الجان والعفاريت. وكان لهذه القصص تأثير كبير علينا، فيما لو كان الوقت ليلاً. إذ كانت إضاءة الزقاق ضعيفة، حيث نتوهم عندئذٍ أي شخص آت من بعيد وكما لو أنه أحد الأشباح الشريرة.
23 منظر جميل، شكّله النهر المار بالقرب من مسكننا، المحاط بالخمائل والأشجار. عصراً، حينَ رافقت ابني من مدرسته، اقترحت عليه أن نكمل طريقنا إلى السوبر ماركت. كان الطقس رائعاً، دأبه منذ نحو عشرة أيام، مع سماء صافية وشمس متوهجة. الدرب بين المدرسة والسوبر ماركت، يستغرق حوالي عشر دقائق مشياً، ولكن ابني فضّل استخدام دراجته. كان يمضي بها ثم يعود إليّ، بينما أنا أسير على مهل عند ضفة النهر متأملاً جريان الماء والزبد يطفو على سطحه. في المنحدرات الصخرية، يصبح المجرى مثل الشلال ويصدر عنه هديرٌ مدوٍّ، يطغى على أصوات الطيور والهوام. زملاء المدرسة، كان بعضهم يتحادث مع ابني أو يودعه، وقد بدت السعادة على وجوههم في هذا اليوم الجميل. كان لا بد أن أستعيد ذكريات المدرسة الابتدائية، وكيف كنت صباحاً أركض في بعض الأحيان والدمع بعيني. ذلك كان، حين يصدر من الراديو الموسيقى الفيروزية لبرنامج " مرحباً يا صباح "، التي كانت تؤكد تأخري عن الاجتماع الصباحي، وبالتالي، قرب تعرضي لعصا الأستاذ. أما في وقت الخروج من المدرسة، فإن شعوري كان مشابهاً لمن رأى نفسه حراً بعد قضائه محكومية السجن.
24 كان الطقس رائعاً، ساعدنا يوماً على القيام بجولة على الأقدام بطول خمس كيلومترات تقريباً. معظم هذه المسافة، قضيتها وابني في السير بمحاذاة النهر. عند وصولنا لغابة بولونيا، الواقعة في مركز المدينة، فاجأني صغيري برغبته في زيارة المقبرة. تقع المقبرة على طرف الغابة، وقد اخترنا الإطلالة على صفها الأول، المتشكل من ممشى تحفه الأضرحة من جانبيه. وكعادة السويديين، لا يبرز من الضريح سوى الشاهدة، وتكون غالباً حجرية. أغلب الشواهد، حظيت بالنقوش المعبرة وبعضها زوّد بمنحوتات صغيرة لملائكة أو عصافير. القبور العائدة للقرون الماضية، ينتصب الصليب على معظمها، كما أنها لا تخلو من التماثيل الكبيرة. في آخر الممشى، استوقفني ضريحٌ لأحد الشبان وكان مطوقاً بحاجز من الحديد. عند ذلك تذكرتُ ضريح صديقي، سيفو، الذي رحل في ميعة الصبا قبل أربعين عاماً بالتمام وذلك بحادث سيارة. قبره أيضاً، أحيط بحاجز حديديّ وكان له باب يُفتح عند زيارات الأهل. سألني ابني، وقد انتبه لخلعي النظارة الشمسية كي أجفف دموعي: " هل تأثرت بابا؟ ". فأجبته بأن عينيّ تأثرتا من وهج الشمس.
25 منزلنا، هوَ المتبقي على حاله بين الأبنية الحديثة. بالإضافة لمنزل آل المللي في صدر الزقاق، حيث العطفة المؤدية لزقاق الكيكية والحارات العليا. ما زلت أستخدم مصطلح " أبنية حديثة "، على الرغم من مرور ثلاثين سنة على تشييدها في الزقاق بمكان المنازل العتيقة. هذه المنازل بدَورها، كانت قد شهدت من قبل تطوراً في عمارتها ولم تبقَ على نفس وضعيتها من زمن الأسلاف. ففي كل بيت قديم كان هناك اسطبل، بالإضافة إلى غرفة مونة. مع تطور وسائل المواصلات ودخول البرادات لكل بيت، تم تحويل حجرات الاسطبل والمونة إلى غرف نوم عادية. كذلك ورغبة بتأمين سكن للأولاد المتزوجين، عمد الأهل إلى بناء طابق علوي في العديد من منازل الزقاق. ظاهرة تأجير غرف للغرباء، وأحياناً البيت برمته، كانت معروفة في الحارة منذ أن وعيت الدنيا. كوننا نشأنا مع أولاد أولئك الغرباء، فلم نكن آنذاك نعرف معنى إشارة أهالينا لهم ب " بيت الشامية "، " بيت الحلبية "، " بيت الشركسية " الخ. ولكن نظراً لحساسية الناحية الدينية والمذهبية، فقد كان الأهل يطلقون التسميات على المستأجرين من مسيحيين وعلويين بلقب رب الأسرة ذكراً كان أو أنثى؛ " بيت أم وليد "، " بيت أبو نمر "، بيت " أم فريد ".. وهلمجرا.
26 الثلاثون من نيسان/ أبريل، هو احتفال شعبي قديم في السويد. إلا أن العطلة في غد اليوم التالي؛ عيد العمال العالمي. عادةً، يكون الجو صحواً ومشمساً في مثل هذه الأيام. في اليوم الوطني، يخرج السويديون إلى الشوارع والساحات، بالأخص فئة الشباب ممن يسهرون في الخارج حتى ساعة متأخرة ليلاً. ولكن الكثير من الأجانب، وبالأخص الكرد، يقضون هذا اليوم في تحضير اللافتات والأعلام من أجل عيد العمال في الغد ! أتذكر حضوري للسويد في منتصف نيسان من عام 1988، وكيف شاركتُ بمسيرة عيد العمال مع جماعتنا الكرد تحت ظلال الأعلام الحمراء وعلى وقع النشيد الأممي. في السنوات اللاحقة، رحتُ أمتع شبابي وعزوبتي في اليوم الوطني، حيث كنتُ أمضي مع الأصدقاء إلى حديقة المدينة ولا نعود سوى في منتصف الليل. أحياناً، كنا نتوجه إلى الديسكو لنقضي سهرة جميلة يتخللها الرقص. ذات مرة في الديسكو، انتبهتُ إلى فتاة سويدية بغاية الجمال، وأنها تجلس لا يتقدم منها أحد كي يطلبها للرقص. فتقدمت إلى طاولتها ودعوتها لرقصة ( سلو ). وإذا بها تنتصب أمامي بطول يقارب المترين. هكذا طوقتُ خصرها بيدي، لأراقصها وأنا محرجٌ بشدة، بينما أصدقائي ينظرون إليّ ضاحكين وشامتين.
27 عاصفة ثلجية، فاجأتنا ليلة الأمس وهيَ مستمرة خلال هذا النهار. بدَورها، بوغتت أزهار الربيع بالعاصفة وراحت تنحني أمامها حدّ أن رؤوسها التصقت بالحشائش. أتذكر أن الثلج هطل ذات مرة في منتصف شهر أيار/ مايس، ولكن ليس على شكل عاصفة. من سوء الحظ، أنه كان لدي موعد مهم في مركز المدينة، فاضطررت للذهاب وندف الثلج مثل وخز الدبابيس على صفحة وجهي. في الأوتوبيس، قدّر لي أن أجلس بقرب امرأة شابة من كرد تركيا. ولأنني أضفت عطراً ( Diesel ) إلى وجهي بعد الحلاقة، فإن الخانم راحت تلوح يدها معبرة عن التأفف من الرائحة. قلت لنفسي: " لعل هذه المرأة مريضة بالربو أو الحساسية، فوق ما ابتلاها الله بفلطحة الرأس والجسم! ". ولكن، إذا بها تخرج الموبايل من جيبها كي تستهل بجرمشة اللغة التركية كما كان يفعل باللحمة جارنا الجزار، أبو صياح. خاطبتها عندئذٍ في سري: " تشمئزين، إذاً، من رائحة العطر الفرنسي؟ ألا رحم الله البقرة، التي كانت تنام معكم في الحجرة وسمادها يُدفئ ليالي شتاءكم! ".
28 أحياناً، يكون في ذهن المرء أكلات كثيرة ويرغب بطبخ إحداها. ولكنه الطفل، مَن يرفض هذه الأكلة وتلك، لدرجة أن تحتار معه. وهذا جرى معي يوم أمس، عندما اشترت الخانم لحم خروف من المحل الشرقي ثم طلبت مني أن أختار أكلة سورية مناسبة للغداء. بعدما أحضرتُ الولد من مدرسته، وتوجهت أمه للعمل، قمت فوراً بوضع اللحمة على النار كي تسلق. على الأثر، بدأتُ " المساومة " مع ابني حول الطبخة المأمولة: اقترحتُ عليه البامية، فقال أنه لا يحبذها.. البازلاء بالمرق؛ ردّ بأنها أكره أكلة في الوجود.. وهكذا ! عند ذلك، قررت أن أحضّر " مفرّكة البطاطس ". قطعت البطاطس مربعات صغيرة وتركتها تُسلق في ماء اللحمة. ثم فرمت بصلة وقليتها بزيت الزيتون وأضفت عليها اللحمة. لما استوت البطاطس، أنزلت فوقها البصل واللحمة مع ملعقتين كبيرتين من دبس الطماطم؛ وخفضت درجة الحرارة. قبل رفع القدر بنحو خمس دقائق، أضفتُ الثوم والكزبرة. في الأثناء، كان الرز قد نضج على نار هادئة. من غرفته، سمعت ابني يتكلم مع والدته بالهاتف: " الأكلة السورية أعجبتني. ولكن رجاءً كلمي بابا ألا يجبرني على أكل الصحن كله! ".
29 في فترة الطفولة، حين كنتُ أقف في سفح قاسيون أو على تلة مقبرة خالد النقشبندي، كان يتبدى العمرانُ لعينيّ كثيفاً فقط في ناحية دمشق القديمة. بينما الأحياء خارج السور، كانت مثل بقع بيضاء وسط لوحة خضراء لا نهائية، يُشكّلها كلٌّ من الغوطة والريف. بساتين الحارة، كانت جزءاً من تلك اللوحة الخضراء، المزركشة أيضاً بشتى الألوان الربيعية. وكان ثمة درب قديم يربط البساتين بمركز المدينة ( طريق عين كرش )، أعتاد الآباء في زمنهم على اجتيازه مشياً أو على الدراجات وهم يتجهون إلى أعمالهم أو وظائفهم. هذا الدرب، المكتنف من جانبيه بسور ترابي، صار مسلكنا أيضاً وبالأخص في فترة الدراسة الإعدادية. عندما يطلقون سراحنا في المدرسة، كون أستاذ مادة معينة متغيباً، فإننا كنا نفضّل غالباً عدم العودة للمنزل. هكذا كان ذلك الدرب يشهد مرورنا على أرضيته المليئة بالحصى، ملقياً علينا ظلال أشجار الجوز العملاقة، فيما النسيم الربيعيّ ينعشنا بعبقٍ ريفيّ، عذب وحرّيف في آنٍ معاً. ولقد بلغَ من إغراء المشوار الممتع، حداً أننا صرنا نتغيب بأنفسنا عن المدرسة، غير عابئين بنتيجة طيشنا.
30 كم تغيرت الحارة، بالأخص في خلال العقود الثلاثة المنقضية. الأبنية الحديثة، أخذت مكان المنازل القديمة والتي عاشت فيها أجيال وأجيال. كذلك المحلات، صارت عصرية بمعظمها. باعة الخضار على زمننا، أمتلك كل منهم محلاً، وغالباً على ناصية جادة أسد الدين. كان من النادر أن ترى أحدهم، وهوَ يبيع على الأرض أو على بسطة. ذلك أن القرويين، القادمين من ريف دمشق، اعتادوا التجول في الأزقة على ظهور الدواب، محملين بالخضار والفاكهة. وكان أهالينا يقبلون على الشراء من أولئك القرويين، نظراً لحمولاتهم الطازجة ورخص أسعارها. مع ذلك، كان التسوّق من محلات الخضار ضرورياً، لأن القروي لا يمكنه أن يحمّل دابته سوى بنوع واحد من الثمار أو الخضار. وقد أشتهر بعض أصحاب تلك المحلات؛ مثل علي كَوشتو، شمّو، برو شورو. هذا الأخير، وبسبب تقاعسه عن التسوق مبكراً من سوق الجمعة، كانت تجارته كاسدة تقريباً. فيما بعد، حوّل فتحي آله رشي، ( أبو عنتر )، دكانَ جابر تركوين إلى محل لبيع الخضار. كونه شيوعياً متحمساً، زيّنَ أيو عنتر واجهة المحل بصور ماركس وخالد بكداش؛ مما تسبب أيضاً بكساد بضاعته.
31 في السنوات العشر الأخيرة، وبما أنّ رمضان كان يُصادف فصل الصيف، فإنني كنت أقضي الشهرَ غالباً في المغرب. في معظم تلك الأعوام، كان ابني الصغير يرافقني عادةً، ثم تلحقنا أمه؛ وذلك بسبب ارتباطها بالعمل في المستشفى. كون الحرارة مرتفعة جداً في مراكش، فقد دأبنا على تمضية جزءٍ كبير من شهر الصيام في مدينة الصويرة ( موغادور ). هذه المدينة، تتميّز بطقس غير مألوف عموماً.. إذ تكون في الشتاء دافئة، حتى أنه بالوسع السباحة في البحر يومياً.. بينما صيفُ المدينة، معتدل ورائع. بعد العصر، تهب رياح قوية، قارصة البرودة، لدرجة أن المرء عليه ارتداء سترة سميكة. ولكن، ما أن ينتهي رمضان إلا ونعود لمراكش كي نفكّر في وجهة استجمام أخرى: أغادير، أو الجديدة. الأخيرة، زرتها مرة واحدة قبل ثلاث سنوات. وأعجبتني " الجديدة " أكثر من أغادير، لأنها ما زالت محتفظة بقسمها الأثري القديم؛ بمساكنه وحصنه البحري وأسواره المنيعة. ابني، من ناحيته، يقول أنها أكثر مكان مبهج في العالم.
32 الطقس، كان ذات يوم مشمساً وماطراً في آنٍ واحد. توجهت للمدرسة كي أجلب ابني. ثم عدنا معاً؛ أحدنا ماشياً والآخر على دراجة. صغيري، كان قد قال لي في أثناء سيرنا إلى محطة الدراجات، الكائنة على طرف المدرسة: " أتعلم أنه وقت مناسب للصاعقة؟ ". ثم أردف القول: " أعتقد أن منظر الصاعقة هوَ الأكثر إثارة! " " نعم، بشرط أن تنزل في مكان بعيد عن الناس "، أجبته فيما كانت قطرات المطر تترنح فوق معطفي الربيعيّ. وإذا بالموبايل يرن، وعليّ كان أن أجيبَ الخانم: " نعم، أنا أتصلت. لا شيء مهم، فقط كنت أود أن أسألكِ عن مكان المظلة ثم تذكرت أنها رافقتكِ بالطريق إلى العمل ". حين وصلنا إلى مدخل مسكننا، هتفَ ابني مشيراً للسماء بيده: " آه، إنه قوس قزح؛ أجمل منظر يمكن أن يراه المرء! ".
33 في فترة الصبا، صرتُ مع غيري من أولاد الجيران نلازم عصراً مدخل الزقاق، المطل على جادة أسد الدين. وكان منزل عمتي الراحلة يقع على الجادة، حيث ارتبطت بصداقة متينة مع حفيدها؛ " حسون ". حينَ تزحف العتمة رويداً، كنا ندخل إلى دكان الحلاق، الملقب ب " جحا "، لقضاء الوقت في الاستماع لأحاديث من هم أكبر سناً. في مرحلة تالية، لما بدأ الوعي بالنضوج، أضحى المكان نفسه عند الجادة مخصصاً لشلة معينة من الأصدقاء يعتنقون الأفكار اليسارية. كنتُ وقريبي معهم، وغالباً ما كنا نخوض النقاشات السياسية. في رمضان، كان البعض منا يتباهى بإفطاره؛ كأن يدخن سيجارة أو يمضغ علكة. عند المساء، كان يمر بنا المؤمنون المتجهون لمسجد سعيد باشا، القريب. ذات مرة، لحظ " حسون " والدته مع بعض جاراتها وهن في الطريق إلى المسجد. فصرخ بها فجأة: " وين أم حسين؟ على التراويح ؟ ". فردت عليه بانزعاج: " أسكت يا ولد!! ".
34 بسبب ضيق مساحة دمشق القديمة، أختار الكرد المهاجرون بقعةً في سفح قاسيون تقع شرقي حي الصالحية. هذا الأخير، تأسس في عهد بني أيوب ولم يكن غريباً أن يشكل نواة الوجود الكردي في الشام. برغم مجاورتهم لجبل قاسيون، فإن أسلافنا أشادوا بيوتهم على طريقة الدك؛ أي خلط التراب مع التبن والحصى ومن ثم استخدام العجينة في قوالب مكعبة الحجم. كذلك استعملوا للأسقف فروع الأشجار بعد تشذيبها وصبغها بالقار. كون الأرض فسيحة ومجانية، شاء الكرديّ التباهي باستحواذ أكبر مساحة ممكنة لمنزله، ربما تفوق الألف متر مربع. في المقابل، كانت الغرف قليلة لساكني المنزل، بينما خصص للدواب أسطبلٌ يقع غالباً على طرف الحديقة. إلا أن وجهاء حي الأكراد، من ناحيتهم، أرادوا أن تكون منازلهم لا تقل رفعة عن بيوت أندادهم من أعيان دمشق. كما نراه إلى اليوم في قصر محمود باشا بوظو، الكائن جنوبي ساحة شمدين. وآل شمدين آغا بدَورهم، كان منزل جدهم الأول من أفخم بيوت الشام. كذلك يقال عن منازل آل أجليقين بك وآل زلفو آغا وآل زركلي آغا، وغيرهم من الوجهاء. بما أن الدولة استأجرت بعض تلك المنازل لتحويلها لمدرسة ابتدائية، فقد سُعدنا في طفولتنا بالمكوث فيها طيلة فترة الدراسة.
35 ثلاثة أمكنة طبيعية، على الأقل، كنا في طفولتنا نلقي عليها هالة من الأسطورة. هذه الأمكنة، يقع كل منها في أسفل وأعلى حي الأكراد ( ركن الدين ). " الغيضة "، كانت غابة صغيرة من شجر الحور، وكنا نعتقد أن من يتيه فيها يمكن أن يصل إلى غابات أفريقيا. أما " المغارة السوداء "، القائمة عند بداية جبل قاسيون من جهة حارتنا، فإن الشائع وقتذاك أن مجاهلها تفضي إلى الهند! " وادي سفيرة "، هوَ بدَوره كان يحظى باهتمامنا، حيث أن خيالنا اشتط لدرجة أن نتخيله نهاية الكرة الأرضية وأن ما بعده ليسَ سوى سديم. منظر الوادي، وكان في ذلك الزمن مجرد خلاء، ضافرَ في تشكيل صورته الأسطورية. لأنه كان يبدو من علٍ مكتَنَفاً بالضباب، يغلب عليه صمتٌ عميق فلا يسمع في أرجائه صوتٌ غير هسيس الريح، متردداً صداه ومتضاعفاً. وأتذكر أن جسدي اليانع كانت تنتابه القشعريرة، وذلك في كل مرة كنتُ أطل فيها مع أولاد الزقاق على الوادي. ذات مرة، رافقتُ عمي مع شقيقي الكبير إلى كوخ أحد رجال الحي وكان يقوم بمهمة حراسة الأراضي، التي أقتطعها بعض الأهالي من الوادي. فيما بعد، بدأ العمران يدب في المكان تدريجياً، فاستفاد أولئك المقتطعون ممن كانوا يتميزون ببعد نظر إزاء المستقبل.
36 أقرب أصدقاء الصبا، كان ابن جيراننا ويصغرني بعام واحد. لقبه، " أبو رمانة "، كان بسبب آثار العمليات الجراحية برأسه، والتي جعلته أشبه بأحد شوارع حي أبي رمانة، المعروفة بتعدد تفرعاتها. صديقنا، كان قد هوى في طفولته داخل بئر بمنزل جدته لأبيه في إحدى قرى جبال القلمون. ذلك الحي بدَوره، استمد اسمه على ما يقال من مقام أحد الأولياء وكان يستظل تحت شجرة رمان؛ فعُرف بالولي أبي رمانة. ويعد الحي أرقى الأماكن المأهولة في دمشق، وأكثرها عصرية. كون الشارع الرئيس في الحي يضم ثلاثة حدائق، السبكي والجاحظ والمدفع، فإن خطواتي صارت ترتاده منذ فترة المراهقة. وأتذكر واقعة جرت في منتصف السبعينات، عندما كنتُ مع صديقي نفسه، " أبو رمانة "، في حديقة السبكي. في ذلك الوقت، شهدت الشام نزوحَ عائلاتٍ لبنانية من المناطق المسيحية على أثر احتدام الحرب الأهلية. كنتُ جالساً مع صديقي بمقابل البركة، وكانت هناك بالقرب منا فتاة جميلة مع شقيقتها الصغيرة. عندما لاحظ صديقي لهجة الفتاة، سألها ما إذا كانت لبنانية. هكذا انفتح الحديث بينهما، وكانا على أتم انسجام. ولأن وعيي آنذاك كان قد تفتح على الفكر اليساري، فإنني تدخلتُ في الحديث لأشيد بالزعيم كمال جنبلاط. وإذا وجه البنت يتغير، ثم لزمت الصمت. وما لبثت أن استأذنت في الانصراف، دون أن ترد على صديقي والذي سألها ما لو ستعود في الغد إلى الحديقة كي يراها.
37 طريق السكة الحديدية، الواصل دمشق بمصايف وادي بردى، كان يسير تقريباً بموازاة النهر، تحفه من جانبيه الأشجار والصخور. " بابور الزبداني "؛ هكذا كنا في طفولتنا نسمي ذلك القطار، ثم أصبحنا نطلق عليه في مرحلة لاحقة " بابور عين الخضرة ". ذلك أننا كنا نقضي جانباً من العطلة الصيفية في الزبداني، بلدة جدتنا، فلما توفي آخر أخوال أبينا صارت زياراتنا نادرة للبلدة. كون صديق عمي من بلدة بسيمة، القريبة من منتزه عين الخضرة، فإنها أضحت وجهتنا صيفاً. غالباً ما كنا نستقل سيارة أحد خالينا، لنصل إلى الزبداني على دفعات. وأتذكرُ كما لو أنه حلم، وقوفَ سيارتنا ذات مرة ليلاً كي يمر موكب عرس. ومع أن وقوفنا لم يستغرق دقيقة واحدة، إلا أنني كنت مبهوراً بالمشهد وكما لو أنه كرنفال. هكذا شعور، كان ينتابني أثناء ركوبنا القطار القديم ونحن في الطريق إلى بسيمة. إذ أن المسافة لا تتجاوز نصف الساعة من دمشق؛ ومع ذلك، كنتُ أحس بأنها رحلة طويلة، ممتعة وشيقة، يسير فيها القطارُ على الوقع الرتيب لصوت عجلاته وصدى صافرته.
38 في أيام الابتدائية، حين كنا نخرج من المدرسة، كنت ترانا مندفعين مبتهجين وكأنما غادرنا السجن. كذلك كانت معارك الشوارع تحتدم أحياناً بين التلاميذ، كرد فعل على مخاصماتهم داخل جدران المدرسة والتي لم يتمكنوا من التمادي فيها خوفاً من العقاب. كنتُ في الصف الخامس، لما بدأت مشكلتي مع زميل عدواني في باحة المدرسة. كان ممن ندعوهم " أولاد البنايات "؛ أي الغرباء عن الحي، الذين استوطنوه بعد إشادة العمارات الحديثة على جانب شارع ابن النفيس. ولأنه يكبرني، فإنني استعنت بشلة الزقاق على تأديبه وكان بعضهم زملاء في الفصل. في اليوم التالي، إذا بي أفاجأ بالشقيق الكبير لذلك الولد، وكان يرصدني عند باب المدرسة. بعدما هددني، دفعني دفعة قوية طرحتني أرضاً. في الأيام التالية، صار الولد يمعن بمشاكستي في فترة الفرصة. عند ذلك، اضطررت لإبلاغ شقيقي الكبير؛ وكان معروفاً في الحي كقبضاي مرهوب الجانب. هكذا وقف أخي ينتظرني أثناء خروجي من المدرسة، فلما أعطيته الإشارة اللازمة، تقدم من الولد ثم صفعه بقوة على وجهه. " ولاه، ألا تعرف من أنا؟ "، قال له وهو يرفعه بيده من ياقة قميصه. وإذا المسكين يبلل سرواله من الرعب، ما جعلني أشفق عليه وأندم لاستنجادي بشقيقي الزكَرت.
39 في الصغر، كنتُ أصر على الأهل إيقاظي على السحور مع أنني لم أكن أصوم. من بين متع السحور، التي كانت " تسحرنا "، سماع صوت المسحّر وهو يتنقل مع طبلته، داعياً أربابَ البيوت كلٍّ باسمه. في ذلك الوقت، لم تكن إضاءة الحارة جيدة. إلا أن المنازل كانت تشتعل فجأة بالأنوار، وذلك بفضل مرور المسحّر. متعة أخرى للسحور، شكّلتها أنواعُ المأكولات الخاصّة به والتي تُحجب عن المائدة بعد انتهاء رمضان. من الأطباق اللذيذة، المفضلة لدي آنذاك، كانت عجوة التمر المذابة بالسمن البلدي. كوني أكره البيض، فإن أمي احتالت عليّ بعد انقضاء الشهر الفضيل بخلطه مع عجوة التمر. وقد قبلتُ الفكرة على مضض؛ فلما تمت تجربتها عملياً، فإنها لم تكن سيئة. في أحد الأيام، وكانت إحدى القريبات بزيارتنا وهيَ من عُمري تقريباً، لاحظتْ شكلَ خلطة البيض الغريب. عند ذلك، طلبت منها أن تمد يدها للطبق كي تجرب طعمه. بعدما مضغت اللقمة بصعوبة، قالت ضاحكةً فيما كانت تعود لمكانها: " نفس طعمة زيت الخروع! ".
40 مواقف طريفة، تحدث للطفل المصر على تقليد الكبار. من ذلك، أن يأخذ على عاتقه عبء الفرائض الدينية دون أن يكون مجبراً. من ناحيتي، نشأتُ في بيئة نقية خالية من التزمت والجهل. الوالد، برغم كونه لا دينياً، فإنه كان يصوم رمضان مجاملةً لأمي وجدتي. وقد رأيتني آنذاك منقاداً للعاطفة الدينية، بما أن أجواء شهر رمضان تشجع عليها. وأتذكر اتفاقي ذات يوم مع أولاد الزقاق على الذهاب للمسجد، دون أن أكونَ عارفاً بطقس الصلاة. ولكن لسبب ما، تأخرت في مرافقتهم. لما دخلت المسجد على الأثر، فوجئت بأن أصدقائي قد استهلوا الصلاة. وقفت متردداً للحظات. وحين نظروا بدَورهم نحوي، فإنني خاطبتهم متوسلاً: " علموني، علموني..! ". وإذا بهم ينفجرون معاً بالضحك. ما تسبب بغضب أحد الرجال هناك، حيث قام بطردنا جميعاً من القاعة. تلك، كانت آخر مرة أحاول فيها تعلم الصلاة.
41 من طرائف الطفولة، المرتبطة في ذاكرتي مع شهر رمضان، ما نشأ عند إصراري على الصيام كالكبار. فالمعروف، أن الأهل ينصحون الولد بالصيام نصف النهار فقط؛ أو ما يسمى " درجات المئذنة ". لقد اتفقَ أن رمضان حلّ صيفاً، وكنتُ لم أكمل بعد دزينة من أعوام عمري. أثناء العطلة الصيفية، كنا أولاد الزقاق نقضي النهار بالمغامرات في البساتين أو الجبل. وأتذكر، أنني قلت لوالدتي في أحد الأيام متباهياً، أنني قررت ورفاقي الصومَ حتى الغروب. للصدفة أيضاً، كان لدينا يومئذٍ مباراة كرة قدم في منطقة البدوي ( مساكن برزة حالياً ). بعد انتهاء المباراة، شعرنا جميعاً بعطش شديد ورحنا نحاول إلهائه بالحديث في خلال الطريق. لما وصلنا الزقاق، اندفعنا نحو سبيل الماء، وذلك كي نبلل وجوهنا. بقيت أتحدث مع بعضهم، إلا أن أتى دوري. ولكن بدلاً من غسل وجهي، قربت فمي من فم الصنبور، المتدفق بالمياه العذبة الباردة. في اللحظة تلك، تذكرتُ أنني صائم؛ إلا أنني واصلتُ عبّ الماء في جوفي. قلت بعدئذٍ لأصدقائي، متكلّفاً نبرة بريئة: " الله لا يعتبر الصائم مفطراً إذا نسيَ نفسه! ".
42 خلال فترة العيد، كانت بقعة الملاهي في الحارة تشهد توارد الشباب إلى ناحية منعزلة، تقع بمحاذاة النهر. هنالك كانوا يمارسون المقامرة، وغالباً بوساطة الزهر ( النرد ). أما نحن الأصغر سناً، فإننا كنا لا نعرف من المقامرة سوى لعبة تُدعى " الطبّة "؛ وهي أن يوزع الورقُ بحسب عدد اللاعبين، ثم يُطب على وجهه ومن يكون ورقه الأقوى يربح. كان همُّ أكثرنا الحصول على مبلغ مالي صغير، يمكنه من الذهاب إلى السينما. ذات يوم، لاحظتُ وأحد الأصدقاء أن ابن جيراننا، الصوالحة، قد جمع عدداً كبيراً من الدحاحل ( الكَلل ) بفضل مهارته باللعب مع الصغار، الذين من سنّه. عند ذلك، أغريناه بالمقامرة معنا؛ دون أن نعلمه بالطبع عن اتفاقنا. وزعنا الورق على ثلاثتنا، ثم لجأنا معه للحيلة: كل مرة كنا نلفت نظره لما يحصل في الحارة، ويقوم أحدنا خلسةً بكشف الورق. وهكذا كان المسكين يخسر المرة تلو الأخرى. بعد نحو ساعة، قمنا بإعادة بيع الدحاحل لأولاد الزقاق ثم توجهنا على الأثر إلى السينما.
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
واقع، حلم ثم كابوس
-
الصعلوك
-
مدوّنات: إخباريون وقناصل/ القسم الثاني
-
الحطّاب العجوز
-
تاجرُ موغادور: كلمة الختام من المحقق 7
-
تاجرُ موغادور: كلمة الختام من المحقق 6
-
تاجرُ موغادور: كلمة الختام من المحقق 5
-
تاجرُ موغادور: كلمة الختام من المحقق 4
-
تاجرُ موغادور: كلمة الختام من المحقق 3
-
تاجرُ موغادور: كلمة الختام من المحقق 2
-
تاجرُ موغادور: كلمة الختام من المحقق 1
-
تاجرُ موغادور: الفصل السابع 11
-
تاجرُ موغادور: الفصل السابع 10
-
تاجرُ موغادور: الفصل السابع 9
-
تاجرُ موغادور: الفصل السابع 8
-
تاجرُ موغادور: الفصل السابع 7
-
تاجرُ موغادور: الفصل السابع 6
-
تاجرُ موغادور: الفصل السابع 5
-
تاجرُ موغادور: الفصل السابع 4
-
تاجرُ موغادور: الفصل السابع 3
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|