|
تاريخ النار
عبد الغني سلامه
كاتب وباحث فلسطيني
(Abdel Ghani Salameh)
الحوار المتمدن-العدد: 6224 - 2019 / 5 / 9 - 12:37
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
طوال المليار الأول من عمر كوكبنا، ظلت النيازك تقصف الأرض بلا توقف، والبراكين تتفجر في كل مكان.. ومع كل هذا الجحيم، لم تشتعل نارا واحدة قط! والسبب غياب أهم عنصر لاشتعال النار (الأوكسجين).. بعد ذلك بدأت تتكون كميات معقولة من هذا الغاز الذي سيمنح الكوكب فرصة الحياة، وبتوفره بدأت النيرات تشتعل كلما ضربت الصواعق، أو هبت الريح.. وهذا ما ميز كوكب الأرض (الذي سيمتلئ بالحياة بعد ثلاثة مليار عام) عن كوكب الزهرة الذي يكاد يشتعل من شدة حرارته، ولكن دون نيران، ودون حياة..
منذ ذلك الزمن السحيق ارتبطت النار بالحياة، وكانت رفيقها الدائم طوال مسيرة تطورها.. بل كانت هي صانعة ذلك التطور..
قبل نحو نصف مليون عام اكتشف الإنسانُ القديم النار، وكان المخلوق الوحيد الذي عرف كيف يشعلها، ويتحكم بها.. لكنه احتاج آلاف السنين حتى أمكن له ذلك، ومنذ ذلك الوقت، لعبت النار دورا محوريا في تاريخ البشرية..
بالنار أمكن للإنسان أن يطهو طعامه، وهذا الأمر لم يقلل نسبة الوفيات من التسمم الغذائي وحسب، بل ونوّع مصادر طعامه، والأهم أنّ النار أنضجت البروتينات، وبالتالي زادت نسبة الاستفادة من الغذاء، مما ساهم في تطوير قدرات الدماغ، ثم تغيير شكل الفك، وبالتالي الوجه، ثم تقليص حجم الأمعاء، ثم تغيير بنية الجسد كله..
قبل اختراع الطهو كانت اللحوم قاسية، ويصعب مضغها وتحتاج ساعات طويلة لهضمها.. النار جعلتها لينة، وأسهل للهضم، وهذا منح الإنسان وقت فراغ أطول.. وكما غيرت النار شكل الإنسان، غيرت سلوكه، فلم تعد حياة البشر نهارية فقط، بل صارت تمتد إلى الليل، كما أن موقد النار وفّر فرصة التجمع حوله طلباً للدفء، وهذه كانت نواة المجتمعات الأولى.. وحتى بعد تشكل الحواضر المدنية ظلت البيوت تقترض من بعضها جذوة النار.. والتي صارت جذوة علاقات حب في بعض الأحيان..
النار أتاحت للإنسان فرص النجاة، وسط عالم يعج بالمخاطر والوحوش، فهي لم توفر له الحماية وحسب؛ بل حولته من الطريدة إلى الصياد..
فإضافة لحماية الإنسان من المفترسات، وحمايته من عصور الجليد، وتحسين نوعية طعامه، صار للنار دورا إضافيا، فحول الموقد يتجمع الناس، ويتبادلون أطراف الحديث، ويخططون للمستقبل.. وهكذا نشأ الكلام، وتطورت اللغات، وتطورت المجتمعات.
وبعد أن عرف الإنسان قدرات النار الرهيبة صار يفكر كيف يستفيد منها أكثر، وكانت أولى تطبيقاته صهر المعادن، لسـنِّ رماحه واستخدامها في صراعه ضد قوى الطبيعة، وضد بني جنسه.. وبعد عصر النحاس الذي لم يدم طويلا، صهر الإنسان القديم القصدير مع النحاس لإنتاج البرونز، ليودع مليوني عام من العصور الحجرية.. ويدشن عصرا جديدا..
وبعد البرونز، صهر الإنسان الحديد؛ في بيت النار صنع المنجل والفؤوس والمعاول، كما صنع السيوف والخناجر ورؤوس الرماح..
وكل الاختراعات التي قادته من الثورة الزراعية إلى الثورة الصناعية، ومن الآلة البخارية لماتور الديزل.. وصولا للكهرباء، مرت من بيت النار..
ومثلما اقترن تطور الحضارة بالحروب، اقترنت الحروب بالنار.. فلم تعد النار لصقل السيوف وحسب، بل صارت متفجرات وقذائف لهب، تدك حصون العدو دكا.. أهم وأعظم التغيرات التاريخية جاءت من خلال، وبعد الحروب، وتلك الحروب لم تكن ممكنة لولا النار..
وكما رافقت النار مسيرة تطور الصراعات البشرية، من نزاعات قبلية محدودة إلى حروب طاحنة بين جيوش جبارة.. رافقت النار مسيرة الحضارة الإنسانية، منذ أن كانت موقدا تتشكل فيه الأواني الفخارية، حتى صارت موقدا يمد المدن بالكهرباء.. ومنذ أن كانت موقدا يمد العائلة بالدفء، حتى صارت وقودا يمد الكوكب كله بالطاقة..
ومقابل النيران التي أشعلها العلماء في مختبراتهم لإطلاق التفاعلات الكيميائية، وإنارة شعلة المعرفة، أضرم المتعصبون والغوغاء النيران في عشرات المكتبات، خاصة مكتبتي الإسكندرية وبغداد، وأحرقوا ملايين الكتب، وبذلك أخّروا ركب التقدم الحضاري والعلمي ألف سنة على أقل تقدير.
النار، اليوم، ليست مجرد ولعة للسيجارة، ولا هي لإعداد القهوة فقط، أو لشيّ صينية الكفتة بالفرن.. أو لتحمير رغيف الخبز.. النار فعليا، توقَد في كل لحظة، وفي كل مكان على هذا الكوكب.. وكل الصناعات والاختراعات والأدوات التي تجعل حياتنا ممكنة تعتمد على شعلة النار.. الطاقة بكل أشكالها، التي تسيّر حياتنا كلها، وتيسّرها، والتي بدونها تصبح الحياة مستحيلة، هي وإن كانت طاقة كهربائية أو حتى نووية بدأت من شعلة نار..
تنقلاتنا من السيارة حتى القطار والطائرة والباخرة تعتمد على الطاقة، التي تشعلها شرارة نار.. حتى الصاروخ الذي ينطلق في الفضاء يعتمد على النيران التي تشتعل في ذيله.. وكل ما في الأمر أن الإنسان تمكّن من حصر النار، والتحكم بها، وتغيير أشكالها..
حتى العام 1666 كانت لندن مدينة عشوائية، تعمها الفوضى، تغمرها القذارة، والفئران، والمزابل.. عشرات آلاف البيوت الخشبية مكدسة فوق بعضها بشكل فوضوي، لا شوارع واسعة، ولا ميادين، ولا تخطيط، ولا بنية تحتية.. في ذلك العام المفصلي من تاريخ المدينة اشتعلت النيران في أحد البيوت، ولأن البيوت كانت متلاصقة امتدت النيران بسرعة فائقة حتى التهمت 80% من المدينة، فجعلتها كومة رماد.. وتلك الكارثة "الإنسانية" كانت فرصة ضرورية للمدينة لتنهض من جديد، على أسس حديثة..
ومثل لندن، مدنٌ كثيرة تدين للنار، والتي بفضلها أُعيد بناؤها من جديد.. بكين، روما، طوكيو، القاهرة، باريس، ميونخ.. فالنار، كما غيرت مسار التاريخ غير مرة، وغيرت شكل الحضارة، غيرت شكل مدننا.. وصولا للمدن الذكية.
ولكن، مثلما كانت النار ضرورية، بل وشرطاً لبدء الحياة واستمراها.. قد تكون النيران سببا لنهاية الحياة، ودمار كوكب الأرض.. حيث يمكن لمجنون أن يكبس زرا نوويا، فتتحول الأرض في لحظة إلى كوكب مشتعل بالجحيم.. وفي زمن ينتخب الناس مجانين مثل نتنياهو وترامب، ممن لديهم صلاحيات كبسة الزر النووي، سيظل مستقبل البشرية كله في خطر.. (ألم ينتخب الأمريكان ترومان مرتين؟!).
الحروب تندلع من شرارة، والسلام يعم بعد وقف إطلاق النار..
#عبد_الغني_سلامه (هاشتاغ)
Abdel_Ghani_Salameh#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عن تحديث الخطاب الديني
-
أسلحة المناخ
-
قصة مخطوطات قمران - مخطوطات البحر الميت
-
رجل اسمه خوسيه موخيكا
-
سفّاح نيوزيلندا
-
عقلية المؤامرة
-
نيجيريا، والفرص الإفريقية الضائعة
-
النوم سنة كاملة
-
عن الخلافة العثمانية
-
لعنة البترول، في فنزويلا والعراق
-
هل من حرب على الإسلام؟
-
إسرائيل، والصراع على هوية الدولة والمجتمع - دراسة بحثية
-
الثقافة السمعية
-
علوم زائفة
-
حُراس الفضيلة، وفستان رانيا يوسف
-
الغضب المقدس
-
المواطن المستقر
-
خوف الطغاة من الأغنيات
-
إعدام ميت
-
الأصوليّة الإسلامويّة الجديدة - تأملات في فكر وممارسات قوى ا
...
المزيد.....
-
الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي
...
-
-من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة
...
-
اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
-
تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد
...
-
صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية
...
-
الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد
...
-
هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
-
الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
-
إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما
...
-
كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|