أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - شكري بن عيسى - قرطاج الذاكرة والفضاء.. جدل السياسي والزماني والمكاني















المزيد.....


قرطاج الذاكرة والفضاء.. جدل السياسي والزماني والمكاني


شكري بن عيسى

الحوار المتمدن-العدد: 6224 - 2019 / 5 / 9 - 00:04
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    



ديباجة عامة
قرطاج هي جزء من تاريخنا الممتد على آلاف السنين، بل هي من أبرز العناوين على الإطلاق المرتبطة بتونس، ولها حفر عميق في الذاكرة والمخيال الجمعي، بل يكاد ذهننا وتفكيرنا ينغرس في أسطورتها التي لا تنمحي، في صورة للأمجاد والانتصارات والتأسيس، قبل الانتكاس والهزيمة والهدم؛ تمثّل نمطي يربط الماضي بالأشخاص (عليسة أو ديدون، حنبعل..)، وبالإحداث والتواريخ (814 ق. م. : تاريخ تأسيس قرطاج، 146 ق. م. : تاريخ انهيار قرطاج وحرقها..)، وخاصة بالأساطير (أسطورة أو خدعة جلد الثور الذي ابتدعته عليسة لترسم رقعة الإمبراطورية التي اسستها وطالت اساطيلها البحرية كل البحر المتوسط..)، دون نسيان تأثير الغيبيات والشعوذات (عملية اللعنة والنحس الذي وضع في المدينة حتى لا تخصب بعد حرقها وتينع من جديد..). تمثلات وصور راسخة استبدت ولازلت بوجداننا وعواطفنا وبالتالي بأسلوب ونمط تفكيرنا القاعدي حتى دون وعي منا (كما تراه الانتروبولوجيا وحتى علم النفس..)، لما لقوّة السرديات والقصص والميثولوجيا وما يرتبط بها من استثارة قوية للعواطف والمشاعر في استدعاء للخوف والأمل والرجاء والشوق، بقوّة تأثير تعلو عديد المؤثرات الاخرى في أغلب الاحيان بما فيها العقلاني الفكري والعلمي. ذاكرة مكتظة متزاحمة تكتسحنا بقوة وأحيانا بعنف وحينا بليونة ورومانسية وعاطفة، مشوّهة في أغلبها ومتناقضة ولكن يقع ترتيبها عند الشخص أو المجموعة في كل مرة وإضفاء معقولية وغائية عند الأحداث الراهنة والأزمات والتحولات المجتمعية والثقافية-الحضارية (التي تجذرت بعد الثورة التي اسقطت رأس النظام في 14 جانفي 2011)، سواء لتوظيفها سياسيا او ايديولوجيا او فكريا او لتفسير وفهم بعض السياقات الحالية أو للتبرير أو للانتشاء والسعادة والفخر او لتأسيس سرديات جديدة على صورها وتمثلاتها (في اغلبها مغالطات وتضليلات)، بما يرتبط بها من رهانات سياسية وثقافية وحضارية، وسيكون بالتتابع على حساب الحقيقة والمنطق النقدي والفلسفي في معظم الاحيان ان لم يكن كلها. ويمكن تنزيل اليوم الدراسي العلمي الموضوع تحت عنوان: "قرطاج:الذاكرة والفضاء" الذي نظمه المعهد العالي للعلوم الإنسانية (مخبر بحث "بحوث التنوير والحداثة والتنوع الثقافي" LMDC بالتعاون مع قسم علم الآثار بالمعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس) بالشراكة مع منظمة روزا لوكسومبورغ- الفرع الأكاديمي بتونس، المنعقد يوم الأحد 7 أفريل 2019، من خلال رحلة ميدانية في الموقع الأثري بقرطاج، في إطار برنامج بحثي انطلق منذ 2014 تحت عنوان: "الثورات العربية في إطار الانسية الجديدة" « Revolutions Arabes et Nouvel Humanisme » من أجل مراجعة مناهج التبليغ والتلقي في الجامعة، الجامعة خارج أسوارها الجامعة والمجتمع، -يمكن تنزيله- في هذا الإطار، أو ضمن هذه الإشكالية، بتعقيداتها التاريخية والجغرافية والسياسية والاقتصادية وارتباطاتها بالذاكرة وتمثلاتها الثقافية والفكرية والفلسفية، في صلة بالمكان: الفضاء،
فما هي العلاقة بين هذه المكونات المتداخلة بالنظر اليها من زوايا مختلفة فلسفية وقانونية واركيولوجية وتاريخية وأدبية.. لكنها متشابكة؟ وماذا يمكن أن نسجله من خلاصات لهذا اليوم البحثي الذي يقطع مع النماذج الكلاسيكية المنبرية أو الدراسية الاعتيادية؟ وماهي المكاسب البحثية والعملية والى اي حد حقق اليوم البحثي مبتغاه وأهدافه المضمونية والبيداغوجية وحقق رهاناته الأكاديمية؟ وفي علاقة بالفلسفة السياسية: مناهج تاريخ الأفكار السياسية ما هي أهم الاستخلاصات والإضافات الحاصلة؟
الرحلة من الموضعي المحدد إلى الممتد الفسيح، سواء في الزمان (نحو التاريخ) أو في المكان (نحو الجغرافيا) تعطي انشراحا نفسيا وبهجة، تتكثّف بفعل الالتقاء بالمجموعة، وتطلق العنان للتأمل واستحضار الصور وربطها، وتنشط المشاعر والذاكرة والفكر والحواس؛ هكذا كانت الرحلة التي ضمت نحو 100 شخص، في اتجاه الحي الأثري بقرطاج، حيث المكان لازال بعبقه ورونقه وجماله وسحره أيضا، خارج دائرة التلوّث البصري والهندسي والعمراني، فتشعر أنك تتحرر من حصر الانهج وقيد الطرقات واصطناعية المكان إلى "أصالة" الفضاء، فتتدفق الأفكار التي كانت حبيسة مجال العمارة الحديثة وتشهوهاتها، وتتوسّع الذاكرة ويسرح الخيال، وتتوارد الخواطر وتستثار الحدوس التي قد تكون منطلق أفكار وتصورات صميمة متفرّدة. والفضاء (أو بالأحرى الفضاءات) الذي أرست فيه سفينة رحلتنا، حملنا بين ذاكرة التاريخ والجغرافيا (I) قبل أن يحط بنا في ملعب السياسي بأفق الفلسفي (II) حيث كانت متعة وفرادة السفر إلى التاريخ في مركب الجغرافيا برغم بعض أعطال الذاكرة وأثقالها التي واجهها العقل المقاوم بالمعالجة(III).

‏(I) الفضاء: بين ذاكرة التاريخ وملامح الجغرافيا
لعلٌ هذا العنوان هو الاجمل الذي يمكن أن نستشفه من مداخلة الأستاذة ليلى العجيمي السبعي، من المعهد الوطني للتراث بتونس، التي كانت على أطراف المتحف الأثري بقرطاج، وهي ترسم أهم الأحداث التاريخية في هضبة بيرصة، من خلال المكان الجغرافي وتفرعاته وتموجاته وارتفاعاته وانخفاضاته انحناءاته وانكساراته وتعرجاته، وأشكاله ومحاوره ومساحاته، وتستخرج التاريخي من الطبقات المنغرسة، التي تبين اللحظات الأقدم كلما عرجنا إلى الأسفل، وكأن التاريخ مثل الفكرة لا يمكن اكتمالها إلا بالوصول إلى عمق مداها، أو لنقل بالأحرى أنّ الفكرة من التاريخ تستمد هيكلتها واكتمالها من تراكم المحاولات والتأملات العميقة. والأركيولوجيا تستدعي النبش والتنقيب والتمحيص لتخترق الظاهر، وتحدد هندسة الفضاء، الذي يرسم أو به يكتمل الحدث التاريخي، وهكذا بنفس النظرة ابتدع هابرماس نظريته الفلسفية في أركيولوجيا الفضاء العمومي التي وضعها في 1960، مسطرا أسس وملامح وهيكلة وتفاعلات هذا الفضاء السياسي التفاعلي، مستدعيا العمومية في التفكير من التاريخ من خلال كانط (مقالة: إجابة على سؤال ما الأنوار - 1784) والفضاء من الجغرافيا بكل هندساتها وأشكالها. الأستاذة ليلى العجيمي لم تكن متحفظة ولا منتظرة وألقت بنا في "قلب الذاكرة"، مستقصية إلى أوسع مدى حدودها، مستدعية الحركة والتنقل للمرور من مكان إلى آخر، ولم يتسع الحقيقة المكان للأحداث التاريخية، التي كانت مزدحمة جدا، وأثبتت أن الذاكرة لا تحد، أو بالأحرى ابعد من أن يطالها البصر والإدراك والأحاسيس، وبين التأسيس في 814 ق. م. مع عليسة عبرت بنا إلى حد السقوط والانهيار في 146 ق. م. وصولا إلى ما بعد الهدم والحرق، الحرق الذي مثل حدثا مؤلما في وجداننا العميق ولم يكد يمح، بعد تلك الكلمات العنيفة « Delenda est Carthago »: يجب حرق قرطاج لـ: Caton l Ancien، التي تنفذت في الواقع وبقيت جرحا غائرا في ذاكرتنا، ولكن لا تزال تشهد عليه الأحجار التي تحمل آثار الحرق، ولكن أيضا عملية بث اللعنات ووضع الأسحار التي دست في كل مكان لمنع "إعادة الروح" والحياة والتأسيس بعد الخراب الكامل، والمخيلة هذه المرة للحاضر القريب استدعتها المحاضرة لتشبيه ما حصل في قرطاج بما حصل في "هيروشيما"، والمحاضرة العجيمي لم تقف عند تاريخ الهدم والحرق واللعنة بل تخطت ذلك إلى إعادة البناء في عهد سيزار، بعد أن عرجت على أوجه الحياة الدينية والاجتماعية والسياسية عموما، مراوحة بين التاريخي من خلال استدعاء الجغرافي في المكان، بهضبة بيرصا التي تبقى أخصب من كل حرق باستيعابها وولادتها كل ذلك الكم من الأحداث الكبرى بما فيها الدراماتيكية، فظهرت أوسع بمساحتها المحددة من التاريخ الذي ابتلعته بل صنعته على ركحها ومربضها المثير، بعد أن خلناها أضيق من ذلك بكثير. ولئن مثلت هذه المداخلة المفتاحية للأستاذة العجيمي تأطيرا لعلاقة الجغرافي بالتاريخي، فان مداخلة الأستاذ سمير القيزاني، من جامعة المنار تونس، تحت عنوان "الحي السكني الروماني" فصلت في جغرافيا العمراني وهندسته، في "الحي الروماني" في القرن الأول الميلادي، من خلال الولوج الى عمق المنازل وغرفها وتركيبتها وخصوصياتها، في علاقة بثقافة الرومان آنذاك وخاصة الارستقراطية التي قطنت الحيّ، فعكست الحياة الخاصة معمار الحي والمنازل، في اتصال مع حياة الرومان المرتبطة بمعاني التسلية والصيد والسباحة واللعب، فكانت المنازل والحي متوافقين من هذا المعطى حيث القيمة المركزية لقاعات الاستقبال والحمامات. أما مداخلة الأستاذ جلال المبروك عن جامعة تونس المنار فقد تطرقت للجانب الديني في مداخلة تحت عنوان "الحياة الدينية في مدينة قرطاج خلال العهدين القرطاجي والبوني"، قبل الانتقال إلى الحقبة الإسلامية في استدعاء لأحداث كبرى حول الفتح الإسلامي وما تلاه، أولها المتعلقة بالخليفة عمر بن عبد العزيز حين ارسل رجال دين لتعليم الاسلام حيث لم يتقبل السكان الدين بشكل جيد مشيرا ان شعب افريقية لا يتقبلوا الغريب فارتدوا لباس افريقية، في إشارة لصعوبة تقبل الوافد وشبه استحالة فرض الأمور بالقوة، وتفاصيل كثيرة في الخصوص اتى عليها المحاضر المتخصص في الاركيولوجيا محمد الغضبان عن جامعة تونس المنار، في محاضرة تحت عنوان "قرطاج خلال الحضور العربي الإسلامي / فضاء مستقل بشكل مغاير.

(II) الفضاء: في ملعب السياسي بأفق فكري فلسفي
السياسي كان دوما مرتبطا بالواقع منشدا لمشاكله، وهو في عمقه فن ادارة أو تدبير الحيّ (المدينة)، ولكن ظلّ بأفق نظري فكري يبحث عن الحلول والمعايير والقيم و"ما يجب أن يكون"، فالشأن السياسي ارتباطه بالواقع وممارسته من خلال الفضاء، سواء في المؤسسات الحديثة أو في الساحات العامة قديما، وحتى حديثا، لم يثنه عن شغل النظريات الفكرية والفلسفية بالبحث في كيفية تجاوز الازمات وفي البحث الدائم عن "الأفضل"، وربما هذا ما كان منطلق ومرتكز اليوم الدراسي الذي يتنزل في مقاربة نظرية أصيلة في اطار مشروع ببرنامج حمل عنوان: "الثورات العربية والنزعة الإنسية الجديدة"، فتحا لأفق معرفي تنظيري جديد على أساس مكاسب الثورات والانتفاضات العربية، لترسيخها في القيم الثقافية والوعي في اتجاه تعديل مسارها وتحصينها من الانتكاسات والمطبات والألغام التي تواجهها، ولعلّ هذا هو جوهر الفكر السياسي والفلسفة السياسية، التي تتوزع بين الوصفي التشخيصي المستنبط للقواعد المحددة للنماذج، والتنظيري المستشرف لنماذج والمبتكر لنظريات، أو في الحد الادنى الباحث في افق معرفي أرحب ينير الطريق، وهو المرتكز الذي يستوعب اليوم الدراسي، الذي وضع تحت عنوان "قرطاج:الذاكرة والفضاء" كمنطلق للمشروع الرابع في البرنامج البحثي الشامل المنطلق منذ قرابة الخمس سنوات. والحقيقة ان كان المشروع علمي أكاديمي فلا يمكن فصله عن السياسي نظرية وأفقا ومنطلقا باعتبار ارتباطه بالثورات، وأيّ أساس أوسع من تحرر الشعوب من الدكتاتورية والهيمنة والتسلّط وتطلها لاستعادة سيادتها وحقوقها عبر انتفاضاتها، التي كسرت كل النظريات القائمة واخترقت الحقل المعرفي الكلاسيكي لتستدعي تفكرا وتدبرا مستحدثا، قد يكون المشروع البحثي الحالي ما ينشد ملامسته بشكل أو بآخر، وفي هذا الإطار العام تتنزل مداخلة الأستاذ محسن الخوني التي افتتحت اليوم الدراسي تقديما وتأطيرا بيدغوجيا ومنهجيا ومضمونيا له، وهو إذ يضع الفعالية العلمية في سياق المشروع المذكور مركزا على أهمية الزاوية والمنظور (الذاكرة والفضاء)، وتعدد المقاربات والاختصاصات (التاريخ والاركيولوجيا والأدب..) فهو لم يفصل عمقه ومرجعيته ومقاربته الفلسفية عن الأمر، والمرجعية طغى عليها الفلسفي مركزا عن أهمية ومحورية السؤال والمفهمة التي أسس لها سقراط، غير بعيد عن المكان الذي نقف فوقه في الفضاء الموازي في أثينا خلال الحقبة القرطاجية، والمفهمة والمساءلة في الصدد لا يمكن ان تنفصل عن الماضي والتاريخ، وفي علاقة بالذاكرة بمرتكزها الفضائي، وإعادة تشكيل الذاكرة وهيكلتها وعلاجها وبناءها هو ما استوقف المحاضر أستاذ الفلسفة الاجتماعية والسياسية بجامعة تونس المنار ورئيس مخبر بحث "بحوث في التنوير والحداثة والتنوع الثقافي" ومدير المعهد العالي للعلوم الانسانية بتونس، حتى تتخلص من كل ما علق مما هو غير سليم، وتتنقى مما أصابها من تشوهات وعاهات، وتعيد التأسيس على السليم، وهو ما يتطلب احياء وتنشيطا ودراسة وتمحيصا ورجوعا للتاريخ، والفضاء بما هو جغرافيا هو أسلم منطلق وأرضية للغرض، ما يبرر اختيار العنوان الذي وضع تحته اليوم الدراسي، فالفضاء والتاريخ هو عودة للمنطلقات من أجل تأسيس سليم، واستحضار الحقيقة بمقولة أفلاطون "المعرفة تذكر والجهل نسيان"، وليس أصدق من التاريخ ليمدنا بالمعرفة الصحيحة الصلبة من وجهة نظر المتدخل، ولكن تحت رقابة ومساءلة ومفهمة الفلسفي النقدي، مع استدعاء للسردي القصصي لتنشيط الخيال الضروري لكل ابداع ومساهمة في إعادة البناء وهندسة الذاكرة، من اجل غايات منهجية جوهرية مرتبطة بأسس التفكير، ولكن أيضا من اجل غايات عملية محايثة، فالفلسفة السياسية عند مدَرّسها والباحث فيها والمساهم انتاجاتها على امتداد عشرات السنين لا يمكن أن تبقى حبيسة المفاهيم، وتنعزل عن المؤسسات التي تمارس عبرها السياسة، وهو ما يسوّغ ضرورة الالتصاق بالواقع وفضائه، والممارسة المتصلة به، وهو ما يظهر جدلية النظرية والممارسة فهما وتنظيرا ونقدا وتحليلا وتنزيلا.. ولعلّ مداخة الأستاذ محمد الطاهر عن جامعة تونس حول "الصراعات السياسية والفضاء العام في قرطاج بين 241 ق م و 146 ق م"، كانت محاولة مباشرة للإجابة عن الإشكالية المركزية التي طرحها الأستاذ الخوني، في علاقة تحليلية بدستور قرطاج الذي اثني عليه أرسطو، إذ حسب المتدخل محمد الطاهر السياسة تداخل وجدلية بين المعيار القانوني الأعلى: الدستور والنفوذ الشخصي والمصلحة العامة، تغلب عليها الصراعات في عديد المواقع، التي تبرز للعلن بل يكون مجالها الفضاء العام، والارتباط يظهر هنا وثيقا بين السياسة ومعاييرها ورهاناتها ومصالحها والفضاء، إلى حدّ أنّ هذا الفضاء صار حلبة لهذا الصراع السياسي حسب ما توصّل إليه المتدخّل، الذي إذ يتبنى وجهة النظر التي تعتبر التنافس السياسي صحيا وظاهرة ايجابية، إلا انه اعتبر ما حصل في قرطاج في القرن الثاني ق. م. سلبيا، باعتباره انعكاسا للمصالح الفردية والصراع على النفوذ والزعامة والانفراد بالسلطة، ولغايات أنانية من اجل المغانم والامتيازات، في تقاطع لمصالح الدولة مع مصالح العائلات المتنفذة، والساحة العامة هي من يدفع فيها بالعامة والفقراء الذين علا صوتهم، واستغلوا حرية التعبير احد ابرز ركائز هذا الدستور، للثلب والتشويه والإشاعات والمحاكمات العلنية، وجسّد ذلك اكبر انحراف بهذا الدستور، فانخرم التوازن الدقيق بين مستوجبات الصالح العام وحرية التعبير في دولة ديمقراطية، حيث تدخل على الخط الديمغاجويا لتحول الحرية إلى افراط يصعب معه ضمان الصالح العام وضمان حقوق الغير وعدم تحول هذا الحق إلى أداة لتصفية الخصوم، ما أدى إلى مزيد تمزق الدولة وتدهور اوضاعها. أيضا مداخلة الأستاذة هاجر السعداوي، عن جامعة تونس المنار، كانت محاولة أخرى للإجابة عن الإشكالية التي طرحها الأستاذ الخوني في المجال السياسي، ولكن من خلال مجال آخر شديد الاتصال بالسياسي: الاقتصادي-النقدي، والمحاضرة الموسومة: "دار السكة بقرطاج خلال العهدين البوني والروماني"، فككت برشاقة خفايا العملة القرطاجنية، وبينت كيف لهذه الاقراص المعدنية سواء من الذهب أو الفضة أو النحاس، أو الممزوجة في أحيان أخرى، من شديد الارتباط بالفضاء والذاكرة، من خلال لعبة السلطة والنفوذ، فصورة العملة تزداد بريقا ارتباطا بالذهب سنوات الخصوبة والرفاه، وتفقد الضياء بدخول الفضة او النحاس عليها سنوات القحط والجدب، ليصبح النحاس زمن الهزائم والانتكاسات هو الطاغي، فتعكس العملة بشعاع ضيائها او خفوته ازدهار الاقتصاد او انكماشه في علاقة بفضاء الإمبراطورية، توسعا وانحسارا، أيضا هذه العملة التي تختزل رموز القوة والخصوبة في الفضاء من خلال صورة المرأة (التانيت) رمز الخصوبة أو الحصان رمز القوة او النخلة، ثم إن العملة هي اكبر عاكس للقوة الاقتصادية خارجيا، فقرطاج انطلقت في ضرب العملة حين كانت قوة اقتصادية، لدعم نفوذها الخارجي وللدعاية والبروباغندا السياسية، حيث كان للعملة القرطاجنية دور دبلوماسي دعائي جبار، من خلال تداوله في عدة بلدان افريقية، وهذا يعيدنا اليوم إلى واقع الاقتصاديات التي تبرز حالتها من خلال العملة قوة أو تقهقرا، ويحيلنا إلى أهمية العملة والنقد في ارتباط بالسيادة الوطنية، حيث أصبح الاختراق الخارجي مباشرا عبر الصناديق المالية الدولية، التي صارت تمنح القروض مقابل تدخل سافر في سيادة الدول عبر فرض سياسات ليبرالية في اغلبها مناهضة لمصالح الدول والشعوب واستقرارها، وخير دليل ما يحصل من انهيار اقتصادي وشيك اليوم في تونس من خلال سياسات صندوق النقد الدولي التدميرية المسقطة.

‏III- فضاء المقاومة في معالجة أعطال الذاكرة
الرحلة في اليوم الدراسي، تساوقا مع موضوعها الخصوصي، خرجت عن مشقة الدرس الكلاسيكي، ومستوجبات المنهج الصارم، فكان غيثها البيداغوجي فضلا عن المضموني مقدّر، من خلال:
- الرحلة بما تعنية من تنقل في الزمان والمكان وخروج عن الحصر والضيق الخانق،
- الطريقة غير الشكلية،
- المحايثة والملاصقة في الفضاء،
- الذكرى الجميلة الراسخة،
- الذاكرة الجغرافية الزمنية،
- تداخل الأساتذة مع الطلاب،
- التفاعلية الحينية،
- الدرس المفتوح واللقاء المفتوح،
- حميمية اللقاء،
- تنوع المداخلات،
- تنوع الجمهور المتلقي بين الاختصاصات والمستويات،
- تنوع المرجعيات الأكاديمية، والاختصاصات المرتبطة بالمحاضرين والمحاضرات،
طريقة الاستماع بالسماعة الالكترونية التي لا تفرض التواجد في المساحة المغلقة والمكان المحدد،
- الحرية في التنقل عند مواكبة المحاضرة
- ارتباط المحاضرة بالفضاء والعودة للتاريخ من بوابة الجغرافيا والمكان،
- تعدد الأبعاد والجوانب بين التاريخي والاركيولوجي والأدبي والفلسفي والقانوني،
- المرح يعطي حافزية للاستيعاب والتفاعلية،
...
غير ان استقصاء دروب الذاكرة والغوص في عمقها، لم يكن دون مخاطر، برغم فضاء المرح ومناخ المتعة الذي احتوى الرحلة، فالاعطاب والأعطال على حد قول الفيلسوف اللبناني (الغير بعيد عن صور وصيدا) علي حرب، ألقت بأثقالها، وتجلت مهيمنة على جزء من المجال والبعض من خرائطه، فكانت بعض المحاضرات طويلة في الوقت (فاقت النصف ساعة برغم ما دون في ورقة "كلمة اليوم الدراسي" التي حددت المداخلات بـ: 15 دقيقة) بسرد مملّ لأحداث مزدحمة، وذكر لأسماء كثيرة، وغرقت في القصصي السردي، وخلى بعضها حتى من منطق الفضاء والجغرافيا والخارطة، وفيها ما لم يتخلص حتى من المنطق الخرافي والأسطوري والحكواتي، وكانت في جزء غير علمية، وخلت في عدة مستويات من اتباع المنهج العلمي في عرض الإشكالية وطرح الرهانات والراهنية المستوجبين، وفي تأسيس الأحكام والتقييمات باطلاقية وفي عدم تنسيبها.
غير أنّ المداخلة الختامية للأستاذ محمد صالح من جامعة أكسفورد، تحت عنوان "قرطاج من؟ رؤى متنازعة حول الذاكرة والمكان"، حررت بحق الذاكرة من هذه الأعطال، وعالجت العطب العارض أو أطلقت العلاج على الأقل، واستدعت العقل المقاوم للخرافة والتطابق والسرد، في مقاربة نقدية تشريحية غاصت في مربعات الجغرافيا ونفذت لثنايا التاريخ، من أجل التأسيس لسردية وطنية تنشد الاقلاع، تستثمر في المخيالي الحكواتي، دون أن تقع في قبضته، وتحايث الراهن باستنارة من الماضي، وتخترق جغرافيا العالم بارتكاز على فضاء قرطاج، وبرغم أنّ مرجعيتها أدبية، فقد أجابت إلى حد مهم على سؤالا جوهريا بقي معلقا طرح على هامش النقاش من الأستاذ الورتاني، حول ضرورة رؤية ومقاربة تاريخية من الهامش تقطع مع المركزيات التقليدية، فكان الحديث عن الرواية التاريخية لفوزي ملاح: "عليسة الملكة المتشردة" "Elissa la Reine vagabande "، الصادرة سنة 1988، حيث انتقال الذات المتكلمة من المنتصر: الرومان إلى الذات الفاعلة نفسها وهي عليسة، التي تروي قصة رحلتها من صور لقرطاج، وهذا في حد ذاته منعرج ذو اعتبار، بتغيير زاوية التأريخ وتخليص الرواية من كتابة المنتصر "العدو"، حيث فرجيل في "الإلياذة والأوديسة" يسعى للمحافظة على نقاوة الفكرة الرومانية والعرق الروماني، ومن يكدر هذا الصفاء لا بد أن يقصى لذلك عليسة كانت قصتها مقصاة، في حين بالنسبة لفوزي ملاح يعيد بالضبط العكس، وهو من احد ابرز مهام الأدب ما بعد الكولونيالي، حيث الهامش يرد على المركز، وملاح يقوم بهذا الدور، إضافة إلى مهمة أخرى يقوم بها هذا الأدب، هو البحث عن مفهوم الحكاية مفهوم الادب وكل القصة مخترعة لتبيان أن قصة فرجيل في أساسها مخترعة، والخاتمة كانت في صلب موضوع اليوم الدراسي، وبالعودة للحالة الاستعمارية الاستيطانية، حيث هناك تشابك من وجهة نظر المحاضر تشابك في الذاكرات حين يكون الفضاء ذو تاريخ متعدد، أين تتشابك الذاكرات، كما هو الحال للمتوسط، ووحدة الفضاء المتنازع عليه يجعل من صراع السرديات صراع حول الفضاء في حد ذاته حول المكان، وفي حالة ما بعد الاستعمار يصبح الهامش يرد على المركز كما تم عرضه، مفهوم آخر تم بيانه وهو الإنقاذ النصي، لتقديم حل لغياب الوثيقة التاريخية، فإذا كان هناك حدث مشكك فيه تاريخيا يمكن كتابة رواية وذكر الأسماء، خاصة وان المستعمر عادة لمسح الذاكرة يقوم بتغيير الأسماء ومحو الأصل، فيصبح الفضاء عبر الانقاذ النصي فضاء لتسجيل الحقائق "المطموسة" أو حدود متنازع عليها أو منسية، خالصا إلى ضرورة اعادة الكتابة في حد ذاتها..

ولا يمكن الحقيقة الحديث عن معالجة اعطاب الذاكرة، دون استدعاء مقولة الفلسفة بوصفها تطهير: "كاترسيس" والتعريج على عيادة دولوز، دولوز وفلاسفة الاختلاف لما بعد الحداثة، حيث صار التركيز أكثر على الاختلاف والتفاصيل، بدل الصور المترامية، والمشاهد الكاملة، وسقطت مع ليوتار السرديات الكبرى، ومع دولوز سقطت الذاكرة البعيدة، حيث الفضاء المقاوم فضاء صقيل غير مخدّب، لفلسفة دولوزية قلبت الافلاطونية وقارعت الجوهر الأرسطي وقوضت الاوديب الفرويدي، ورفضت المحاكاة والتقليد لتؤسس للإبداع والصيرورة والريزوم والجذمور حيث لا يوجد الشجرة والجذر والذاكرة، بل التدفق والحيوات وخطوط الإفلات من ماكنة السلطة وتدجين الليبرالية عبر صورها النمطية، والذاكرات التي ترسخها بدل الواقع، وهكذا يعلمنا دولوز المقاومة بما هي رفض التماثل والابتذال والكليشي والجاهز، إلى القوة الحيوية للصيرورة بما هي التكرار والعود الأبدي، ولكن بمفهوم مختلف عن التكرار والعود الاعتيادي، "فلا شيء يتكرر على حاله بالدرجة نفسها، وما يتكرر ويعود هو أن لا شيء يتكرر ويعود، فوحده الاختلاف هو ما يتكرر، لتصبح الصيرورة الاختلاف الأزلي الذي يعود أبدا" [دولوز: نيشة والفلسفة 1962].

* باحث في القانون وفي فلسفة التنوير والحداثة وكاتب إعلامي تونسي



#شكري_بن_عيسى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جدلية الفضاء العمومي والفلسفة في ندوة اكاديمية بتونس.. بين ا ...
- بعد ان -قتلته- الاشاعة بأسابيع.. جلبار نقاش يعود بترجمة -كري ...


المزيد.....




- -جزيرة النعيم- في اليمن.. كيف تنقذ سقطرى أشجار دم الأخوين ال ...
- مدير مستشفى كمال عدوان لـCNN: نقل ما لا يقل عن 65 جثة للمستش ...
- ضحايا الهجمات الإسرائيلية على قطاع غزة تتخطى حاجز الـ44 ألف ...
- ميركل.. ترامب -معجب كل الإعجاب- بشخص بوتين وسألني عنه
- حسابات عربية موثقة على منصة إكس تروج لبيع مقاطع تتضمن انتهاك ...
- الجيش الإسرائيلي: اعتراض مسيرة أطلقت من لبنان في الجليل الغر ...
- البنتاغون يقر بإمكانية تبادل الضربات النووية في حالة واحدة
- الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل أحد عسكرييه بمعارك جنوب لبنان
- -أغلى موزة في العالم-.. ملياردير صيني يشتري العمل الفني الأك ...
- ملكة و-زير رجال-!


المزيد.....

- الانسان في فجر الحضارة / مالك ابوعليا
- مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات ... / مالك ابوعليا
- مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا ... / أبو الحسن سلام
- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - شكري بن عيسى - قرطاج الذاكرة والفضاء.. جدل السياسي والزماني والمكاني