بشير الوندي
الحوار المتمدن-العدد: 6223 - 2019 / 5 / 8 - 07:40
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
مدخل
------------
المقصود من الإيهام هو وقوع المجند في شباك الاستخبارات دون ان يعرف أنّه مجند لهم فيكون تجنيده من خلف ستار, وهو تجنيد يستغل طاقة الشخص وقدراته دون ان يعلم , ويتم الإفادة من ذلك لصالح الجهد الاستخباري المعادي .
------------------------------------------
طبيعة التجنيد من خلف الستار
------------------------------------------
إنّ الاستخبارات تعمل ضمن مخطط يشتمل على كل شيء , فقد تنقصها عنوان او اسم او خبر او معلومة او رقم هاتف او تقرير او رقم حساب او وثائق او مستمسكات او صورة او إيميل او تفاصيل بسيطة لإكمال ملف او هدف , فتقوم بتكليف من له القابلية على استحصال ماينقصها دون ان يدري الى اين سيكون نتاج جهده .
ويعتبر التجنيد الايهامي او التجنيد بالإحتيال او مايسمى بالتجنيد من وراء ستار من من أبشع أنواع التجنيد , فالمجندون بمعظمهم لايدرون بأنهم مجندون وهم يعملون بكل جد وإجتهاد في أعمال يرونها أعمالاً إنسانية او فكرية او وطنية دون ان يعلموا أنهم مجندون لصالح جهاز استخباري معادي لم يجد طريقاً لتجنيدهم الا من خلال الاعيب وحيل تستثير في المجندين الابداع والحماسة ليقوموا بأعمال تصب في خانة التجسس وجمع المعلومات وخدمة اعداء بلادهم ( وهم يحسبون انهم يحسنون صنعاً) .
ففي كل انواع التجنيد , فإن المجند يعرف انه مرتبط بجهة استخبارية محددة يعمل لحسابها ويستلم اموالاً لقاء واجبات محددة بأوامر تحدد ماهو مطلوب منه وماهية المعلومات والأعمال المطلوبة من قبل الاستخبارات المشغله له بشكل صحيح ودقيق كما يعلم انه جاسوس او متعاون او مصدر او مخبر لجهة ما ضد دولته او بلده ويدرك مخاطر مايقوم به وعواقبه وتكون له اسبابه التي اقتنع او اجبر على اساسها في القبول بالتجسس .
اما في حالة التجنيد الايهامي فإن العميل لايدري أنه عميل او أنه مجند لجهة إستخبارية , ويمارس عمله العلمي او الإجتماعي او البحثي او الإنساني او الدولي او التجاري او الإعلامي او إي عمل آخر دون إن يعلم انه يعمل لصالح جهاز إستخباري .
ويتم التجنيد الإيهامي من خلال واجهات تصنعها الاجهزة الاستخبارية كأن تكون قناة تلفزيونية او صحيفة او يكون مركز ابحاث او منظمة انسانية او منظمة دولية او شركة تجارية أو أية واجهة تختارها الاستخبارات سواء كانت تختارها لذاتها او لكي تكون واجهة لعمل آخر , فمثلما تعمل الاستخبارات من خلال واجهات متعددة للسرية والكتمان , فكذلك هي تعمل - من خلال التجنيد الايهامي - على اخفاء النوايا والأهداف والمتطلبات عن المجند الذي لايدري أنّ هنالك أيدٍ خفية من خلف الستار تطلب منه أعمالاً تحتاجها الاستخبارات او أنه يساعدها في التمويه من حيث لايعلم.
-----------------
تجنيد أمن
-----------------
بالطبع , فإن كل انواع التجنيد تتم بدوافع مختلفة تجعل المجند يرتضي بالخيانة لبلده , الا التجنيد الايهامي فهو بلا دافع تجسسي او تخريبي لعدم علم المجند بحقيقة الأمر المكلف به , فهو يعمل بدافع سياسي او اجتماعي او علمي او تجاري اوحتى خدمي او اممي.
وفي كثير من الاحيان يكون التجنيد الايهامي اكثر أماناً للمجند وللجهاز الاستخباري الذي استغفله , لأن طبيعة العمل قد لاتثير شكوك اجهزة مكافحة التجسس , فهو يعمل ضمن واجهة معقولة ومغطاة أمنيا , كما ان عدم علم العميل بأنه مجند يجعله يتعامل بشكل طبيعي لايثير الشكوك , بل ولا تكشفه حتى أجهزة كشف الكذب لأنه في ضميره لايعمل مع جهة استخبارية .
إن إبداع التجنيد الايهامي يتمثل في إيجاد غطاء مناسب للشخص وحمايته أمنياً وتكليفه بواجبات هو لا يعرف أهميتها , فصحفي يطلب منه ضمن نطاق مهنته ان يقوم بتحقيق صحفي عن مسألة ما لصالح جريدة او قناة , او مجموعة استقصائية تكلف بعمل احصائي او استبيانات معينة , او باحث يطلب منه بحثاً في نقطة معينة يحتاجها جهاز استخباري ما كي ينتفع من النتائج في اتخاذ قرار ما , والنتيجة ان كل هؤلاء الاشخاص هم في حقيقتهم مجندون بالإيهام دون ان يعلموا.
ويعتبر التجنيد الايهامي تجنيدا غير مباشر اَي إنه تجنيد بالواسطة , فهنالك من يستخدم الذكاء ليصل لما يريد من خلال جيش من المجندين من خلف ستار , وبما انه كجهاز استخباري يعلم بأماكن هؤلاء المجندين ويعرف طاقاتهم , فهو يعرف من يصلح للمهام المطلوبة .
-----------------------------------------
نماذج شائعة للتجنيد الايهامي
-----------------------------------------
ان نماذج التجنيد الايهامي لاحصر لها , الا ان هنالك نماذج تبدو متكررة وتحتاج الى تسليط الضوء عليها لأنها نماذج تبدو لاتزال مجدية لدى الدوائر الاستخبارية ولصعوبة رصدها , وماتواجهه اجهزة مكافحة التجسس من صعوبات تعيقها في التصدي لها تحت يافطة الحريات وحقوق الانسان.
فكثيرا ما يتم منح البعض من ذوي الخبرات والطاقات العلمية في الخارج من إقامة وتابعية لهذا البلد او ذاك مع راتب مجزٍ وتعيين وسكن للتدريس في جامعة او للعمل في صحيفة او مركز بحثي , وهو لايدري انه بذلك قد تم تجنيده واصبح له ملف استخباري , فالهدف الاستخباري من توظيفه يغطى بعوامل العمل والعلمية والخبرة او اَي غطاء اخر , والمجند هنا يتوهم أنه ضمن مؤسسه بحثية او مركز دارسات او جامعة او شركة عالمية او مؤسسة اعلامية حقيقية , فيكلف بأعمال لا يتصور انها تجسس , فيجهد نفسه حتماً دون ان يتخيل انها قد تضر بلده .
وتكثر حالات التجنيد الايهامي في منظمات المجتمع المدني المدعومة من جهات خارجية غير معروفة بالأساس , وقد يعرف رئيس المنظمة المعنية بالأمر لكن عناصر المنظمة يعملون تحت طابع انساني اجتماعي او فكري بحت .
كما تكثر تلك الحالات في الاوساط الصحفية والبحثية التي يقوم افرادها بتنفيذ تكليفات بأبحاث وتحقيقات وقياس لإتجاهات الرأي بل وصنع رأي عام تجاه بعض القضايا , وتتم كل تلك الاعمال دون ان يدري العاملون فيها (ماعدا رؤسائهم ) من ان مايتوصلون له من نتائج هو في حقيقته عمل استخباري منظم .
وعموماً , فإن عمليات التجنيد من خلف ستار وبالإيهام تنشط في الدول المتخلفة والعالم العربي من خلال مؤسسات المجتمع المدني والإعلام والتجارة والمشاريع الثقافية والاجتماعية والمؤتمرات التي تقام على أساس شعارات براقة , حيث يطلب منها دراسات مختلفة تركز على الإحصاءات والجداول التي تكون كلها رقمية تأخذ طريقها الى الجهات الاستخبارية المختصة بالنشاط الاستخباري العامل على التجنيد الإيهامي.
-------------------------------
حالات ايهامية خطيرة
-------------------------------
في بعض الاحيان يعلم المجند انه قد تم تجنيده ولكن الايهام في هذه الحالة يتمثل في انه يعتقد انه مجند لصالح بلد ما بينما هو في الحقيقة مجند لجهة اخرى لا يعرف انه مجند لها ابداً.
فالموساد قد تجند عميلاً لكنها تصور له انه مجند للCIA , فيتصور الشخص أنه مجند لأمريكا ويعمل مع الاستخبارات الامريكية وهو لا يعلم إنه يعمل لصالح الموساد , وهذا الامر يتم في بعض الاحيان بسبب جو عام او حاجز نفسي معين يجعل من الصعب ان يتصور او يقبل الشخص ان يعمل مع الموساد ويرتضي العمل مع سواها رغم انها بالآخر خيانة في الحالتين.
وفي بعض الأحيان يكون هنالك ضابط استخبارات في بلد ما لكنه فاسد ويعمل لصالح العدو او لصالح تنظيمات إرهابية , فيستغل وظيفته ويجند أناساً يتصورون انه ضابط نزيه وبالتالي سيعملون معه على اساس انهم يعملون لصالح بلدهم ولأجهزة البلد الاستخبارية لكنهم في الواقع يعملون للعدو.
ويشمل التجنيد الايهامي حالات الاستغلال الشخصي أيضاً, فقد تستغل معلومات المصدر لقضايا شخصية اوحزبية او صراعات سياسية بدل الجهد الاستخباري الاحترافي لصالح البلد وأمنه , فعندما ينحرف العمل الاستخباري الى صراع سياسي يصبح ضابط الاستخبارات هو ذاته مجند بالإيهام دون ان يدري.
كما انّ من ابشع صور التخريب وتسميم الاجواء السياسية في بلد ما هو ماتقوم الاستخبارات الاجنبية بدعم شخصيات سياسية في بلد الهدف لتأسيس أحزاب ودعمها , ولا يعلم عناصر الحزب بأنهم وسائل تخريب بلدهم وانهم مجندون بالإيهام , فيما لايعلم بالأمر على حقيقته سوى زعيم الحزب .
ويشتمل التجنيد الايهامي كذلك على أعمال الاحتيال على شخص ما من خلال استغلال ادواته الشخصية لاسيما مع الاشخاص المهمين او الذين يعملون في أماكن حساسة فتهدى له ساعة او بدلة مزوده باجهزة تصوير او اجهزة لاقطة او يتم اعطائه هاتف مزود بأجهزة تنصت , وهنا يعمل الشخص بشكل طبيعي واعتيادي دون ان يعلم بأنه يتجسس على مايدور حوله لصالح جهاز استخباري من خلال هدية من صديق او قريب له وقد يصل امر التجنيد الإيهامي الى حد التضحية بالمجند وقتله دون ان يدرك انه سائر الى حتفه , كما في محاولة اغتيال المرحوم ملا مصطفى البارزاني قبل خمسة عقود .
ففي 29 سبتمبر عام 1971 تعرض الملا مصطفى البارزاني لمحاولة اغتيال حيث وصل وفد من الحكومة العراقية بسيارتين برئاسة الشيخ عبدالجبار الأعظمي لمقابلة البارزاني في مقره بحاج عمران الواقعة بالقرب من الحدود العراقية الإيرانية , وبدأ الاجتماع بين البارزاني والوفد الحكومي في الساعة 4:45 دقيقة وفي الساعة الخامسة بعد الظهر حصل الإنفجار في غرفة الاجتماع ، وقد قتل من جراء ذلك الانفجار ثلاثة أفراد من أعضاء الوفد الحكومي بالإضافة إلى الشخص الذي كان يقدم الشاي للضيوف , وتبين ان احد رجال الدين ضمن الوفد الحكومي قد اهدي بدلة دينية فيها قنبلة موقوتة دون ان يدري .
----------------------------------
مكافحة التجنيد الايهامي
----------------------------------
كما قلنا , فإن الضحية الاساسية في معظم حالات التجنيد الايهامي هو المجند ذاته , فلو كانت الاجهزة الاستخبارية قادرة على اغراءه او الضغط عليه ليصبح جاسوساً لفعلت بدلاً عن اللف والدوران , الا ان معظم الحالات تستهدف أناساً تتم دغدغة مشاعرهم وإضهار الاهتمام بهم من اجل الايقاع بهم , ومن ثم فإن اجهزة مكافحة التجسس معنية في حالات التجنيد من خلف ستار هو في مراقبة تمويل منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الاعلامية ومراكز الدراسات والاحزاب والمنظمات الانسانية والقاء الضوء على حركتها المالية .
فكافة تلك المؤسسات هي اما ان تكون مؤسسات ربحية او لاربحية , فإن كانت ربحية فلابد من التأكد من انها تربح بالفعل وليست ممن تقدم كشوفات لأرباح وهمية لتبرير استمرارها , وان كانت مؤسسات لاربحية فلابد من تسليط الضوء على مموليها ومصادر اموالها , كما ان على اجهزة مكافحة التجسس ان تراقب العلاقات الخارجية لتك المؤسسات وكشف ارتباطاتها والتيقن من شفافية تلك العلاقات لاسيما علاقات زعماء ورؤساء تلك المؤسسات , لأن من غير المنطقي ان لايعلم رئيس المؤسسة بطبيعة علاقات وتمويلات المؤسسة التي يرأسها .
كما ان على اجهزة مكافحة التجسس ان تراقب نتاجات ومخرجات تلك المؤسسات والتيقن من ان كافة نتاجات واعمال تلك المؤسسات هي نتاجات مشروعة ومنشورة ولا تحتوي على مايمكن اعتباره اسراراً تضر أمن البلاد .
--------------
خلاصة
--------------
التجنيد الايهامي او الاحتيالي هو تجنيد ناعم يتم عادة تحت سمع وبصر اجهزة مكافحة التجسس ويتم دوماً تحت شعارات رنانة ومثيرة ومقبولة وغير منفرة , ومن ثم فإنه آفة خطيرة لابد من التنبه اليها لاسيما وانه بستهدف الطاقات النشطة والخبرات , اي انه تجنيد نوعي , ومن هنا فإن الاجهزة الاستخبارية تستعمله على نطاق واسع , كما ان اجهزة مكافحة التجسس تعاني منه ويسبب لها صداعاً اعلامياً لأن واجهات التجنيد الايهامي مفعمة بتعابير الحرية والديموقراطية وتتسلح بها ضد أية محاولات للرقابة والاختراق بإعتبار الامر يدخل في باب خنق الحريات وقمعها , فلابد من ان تكون المعالجات ذكية وسلسة استخبارياً بحيث لاتثير الضجة وان لاتقلص من مساحة الحريات , والله الموفق.
#بشير_الوندي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟