بشير الوندي
الحوار المتمدن-العدد: 6218 - 2019 / 5 / 2 - 14:16
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
مباحث في الاستخبارات (162)
التجنيد الثأري ( الانتقامي )
بشير الوندي
-------------
مدخل
-------------
التجنيد الثأري الانتقامي هو تجنيد ينمو في البيئة الظالمة التي يشعر فيها الفرد او الجماعة بالحاجة الى الانتقام , وهنا يأتي دور الاجهزة الاستخبارية والتنظيمات الارهابية لتتلقف هؤلاء الناقمين من اجل تجنيدهم لأغراضها وإفهامهم بأن وطنهم هو من دمر احلامهم وانه لابد من الانتقام , ويعتبر هذا النوع من التجنيد من انواع التجنيد التي يمكن ان تكون جماعية لمجتمع او فئة او طائفة , او ان يكون فردياً .
-----------------------
تجنيد غير مكلف
-----------------------
التجنيد الانتقامي او الثأري هو تجنيد رخيص الثمن وقليل الجهد , فالمستهدف بالتجنيد سواء كان فرداً او مجتمعاً يكاد يكون جاهزاً ودافعه متوفراً ولايحتاج الا الى اثارة وتوجيه ولحظة حاسمة , وهنا مكمن الخطر , لأن تهيئة المستهدفين بالتجنيد الثأري الانتقامي تكاد تكون في معظمها من صنع الانظمة الطاردة للطاقات والتي لاتعزز فكرة وشعور الفرد بالمواطنة مما يجعله فريسة الانتقام الاعمى حتى لو كان على حساب الوطن ومن ثم الغوص في مستنقع الخيانة.
كما ان ميزانية هذا النوع من التجنيد هي ميزانية صغيرة نسبياً , فحكومة المواطن او المواطنين المستهدفين هي التي تتولى ظلمهم وتمزيق طموحاتهم وتقديمهم لقمة سائغة للاجهزة المخابراتية او للتنظيمات الارهابية , وما على الاجهزة الاستخبارية المعادية سوى ان تكون واعية للمظلوميات ولتلقف نتاجاتها من شباب محطمين لديهم الدافع للانتقام لتوفر لديهم الفرصة المناسبة لتنفيس غضبهم .
-------------------------
كلمة السر : الظلم
-------------------------
إنّ الدول التي تحكمها انظمة مستبدة هي أنظمة تفرخ الناقمين والشاعرين بالظلم والتي تسلب منهم روح الوطنية ومن ثم يفقد فيها البعض احد اهم الدروع التي تحصنهم من الخيانة .
فلو وضعنا ميزاناً للتجنيد الثأري وسعينا لتجنيد شخص من مواطني كوريا الجنوبية واخر من كوريا الشمالية , فسيكون المواطن الشمالي أسرع إستجابة واكثر تفاعلاً واندفاعاً للثأر والانتقام من دكتاتور بلده ومؤسساته القمعية .
ولايفق الامر على الانظمة المستبدة , فالفساد في حال ضعف الرقابة هو الآخر مبعث على توليد افراد وجماعات من الناقمين طالبي الثأر والانتقام , فالاداء الخاطيء للأجهزة الامنية يسبب حالات الظلم والسخط المطلوبين من قبل تنظيمات الارهاب والاجهزة المخابراتية المعادية .
فعندما يحدث تفجير في منطقة ما , تعمد الاجهزة الامنية الى حملة اعتقالات واسعة تعتقل فيها شباب بمختلف الاعمار وتزج بهم في المعتقلات , وبعدها يأتي ضابط فاسد مرتشي يطالب ذويهم بالرشوة لإطلاق سراحهم وتذهب العائلة للاقتراض او بيع ما تملك لإطلاق الإبن الذي يخرج غاضباً كارها للحكومة وناقماً من كل شيء وتواقاً لأي عمل يشعر فيه متنفساً لغضبه وفورة انتقامه , ويصبح بذلك لقمة سائغة للتجنيد الانتقامي من قبل الاجهزة الاستخبارية او من قبل التنظيمات الارهابية التي تتلخص مهمتها بتأجيج شعلة الغضب في داخله , ولعل تلك القصص تتكرر دوماً في بلداننا وهي مشاريع جاهزة للتجنيد, فالظلم يولد التجنيد الثأري الإنتقامي ورد الفعل العنيف يسبب كره الدولة وفساد الأجهزة الأمنية يدفع الشباب الى صف العدو .
كما ان ما جرى من اعتقالات لقوات الاحتلال في سجن بوكا جنوب العراق , كان بمثابة عملية جمع الشباب المقهورين مع كبار المتشددين من عناصر القاعدة في زنزانة واحدة ليصبح بوكا مفرخة للارهابيين المتشددين.
ان الشعور بالظلم والتهميش هو شعور خطير مالم يجري تداركه , لأنه اذا ما تضخّم فإنه يضعف الشعور بقيمة المواطنة والوطن ويمهد الطريق واسعاً للاجهزة المخابراتية لتتلقف اولئك الناقمين ولتكون بديلاً عن الوطن فتكون هي الصدر الحنون لاسيما اذا لم تتوفر للمظلومين فرصة التغيير داخل وطنهم بسبب تواطؤ الحاكم واجهزته القمعية وفساد المؤسسات القانونية وشدة البطش بغياب الحريات.
-------------------
انتزاع الانتماء
-------------------
ان القصص التي توضح قدرة الظلم على التغلب على الشعور بالإنتماء للوطن لاتحصى , فلعل فترة حكم النظام البعثي اكبر شاهد على ذلك , فصدام تسببب في تغيير ولاء الكثير من العراقيين عن وطنهم , ولذلك اسباب موضوعية كثيرة مادتها الظلم , فأن يعتقل شخص هو وعائلته بشكل وحشي ويقذف خارج الحدود ويأخذون اولاده ممن اتموا السبعة عشر عام , وبعد سنوات يعدم اولادة في السجون وتصادر امواله فيصبح من تاجر الى فقير في بلد اخر , فلنا ان نتخيل اين سيكون حب الوطن من كل تلك الامواج المتلاطمة من القهر والضيم ؟ وهل يبقى شي للوطن في قلبه ؟ ...ولاتنتهي القصة عند هذا الحد , فعندما يعود الى بلاده بعد سقوط النظام يرى انه غير مرحب به , والدولة لا تعطيه حقوقه , ودوائرها تريد منه قرار اعدام اولادة معززاً بوثيقة تقول ان اولاده قد تمت اذابة جثثهم بالتيزاب , وكأننا في سويسرا , ثم يصطدم بأن املاكه لا تعاد اليه لأن العصابات تهدده والمسلحون يمتنعون عن تنفيذ القرار ...فعن أيِّ وطن نتكلم هنا مع هؤلاء ماخلا ماهو مرسوم في قصائد الشعراء الحالمة.
ثم اين تجد الوطن حين تهجم داعش على بلدك وينزوي ابناء المسؤولين والتجار والسياسيين والمراجع , ولايتصدى لداعش الا ابن الفقير والكاسب ليقاتل ويعطي دمه , ثم ينتهي زهو زوجته وابناءه بإبنهم الشهيد ليصطدموا بحرمانهم من ابسط الحقوق وتسرق رواتب ابنائهم فيما يهتف القادة بالعدالة وفرحه النصر ؟ فأين الوطن من هذا؟.
او ان ضابطاً مخلصاً يعمل بجد وبيد نظيفة ويرى ضابطاً آخر يسرق ويرتشي ويترقى ويتقدم بالرتب والمناصب وهو يراوح مكانه ..فأين الوطن من هذا ؟ وحين يصبح الشرف سُبّةً والإخلاص عيب و الإستقامة خطأ وغباءاً فأين الوطن هنا؟
ولانعني هنا ان الظلم مبرر للخيانة , لكن الاجهزة الاستخبارية المعادية تعتمد في التجنيد الانتقامي الثأري الى تعميق الشعور بالمظلومية والى تضبيب الرؤية لدى المظلوم لتجعله يجمع السلطة الحاكمة والشعب المستسلم والوطن في خانة واحدة ممن يجعل المستهدف بالتجنيد ناقماً من كل هؤلاء دفعة واحدة .
ان تزاوج الظلم مع اليأس من التغيير يولدان افراد وجماعات تتقطع جذورها من الوطنية ويسهل انتشالها من قبل الدوائر المخابراتية , ومن هنا فإن الظلم وفقدان العدالة والخوف والطبقية والفساد والتعدي وفقدان الضوابط والقوانين والفقر والجهل وغيرها من انواع المظالم كلها تؤدي الى الانهيار .
وحين تنهار تلك القيم سيفكر الفرد بالانتقام من السلطة ويكون جاهزاً للعمل ضمن اي مجموعة للوصول للثأر, سواء يثأر لنفسه او لعائلته او لخساراته المتتالية , ليزدهي حينها العمل الاستخباري في تلقف الغاضبين الناقمين وبلورة انتقامهم بما يخدم اغراضها .
---------------------------
استمرارية التحفيز
---------------------------
ان الاجهزة الاستخبارية الحكومية والارهابية تبحث دوماً عن الحوافز الانتقامية لتوظفها اياً كانت تلك الحوافز الثأرية , فالشباب يحتاجون الى الحافز سواء كان حافز الثأر لرسول الله( ص ) او الثأر للوالد القتيل او للتهميش او للظلم , ومن اجل ذلك تدعم الدوائر الاستخبارية كافة الاقلام والقنوات التي تبث التفرقة الدينية والمذهبية .
كما تقوم تلك الاجهزة الاستخبارية والجماعات الارهابية بكل مامن شأنه لتعميق الشعور بالظلم من خلال اختلاق بربوغاندا موجهة للجماعات التي تشعر بالتهميش لكي تديم شعورها بالمظلومية ,
ولايقف استثمار الراغبين بالثأر على الاجهزة الاستخبارية الحكومية المعادية وانما يتعداه الى التنظيمات الارهابية , فحين يقتل داعشي يبقى في ذهن إبنه الإنتقام مما يجعل داعش تستفيد مرة ثانية من حس الانتقام في الابن وتزيد من اعوانها ومقاتليها , عدا عن ان داعش ساهمت في تعميق مشاعر الطائفية في العراق من خلال ضرب مناطق مدنية شيعية فقط وفي ذات الوقت تهييج عشائر سنية تحت يافطة المظلومية والتهميش , وهي ورقة رابحة ادت الى رفد داعش بآلاف من المغيبين ومن البعثيين وعناصر اجهزة صدام القمعية ليقوي تنظيمه بقوة التجنيد الثأري الانتقامي.
ويستخدم التجنيد الثأري بكثرة في أماكن الصراع والحروب والدكتاتوريات والفجوات الاجتماعية والدينية والقومية , لأن بث التفرقة تبني ارضية دائمة للتجنيد الثأري والانتقامي.
ففي العراق مثلاً , لم يستغرق الأمر كثيرا لكي تجند اجهزة الاستخبارات أحداً ضد النظام السابق , وهو ماحصل حيث توغلت الاجهزة الاستخبارية الاجنبية في كافة التجمعات العراقية , ولم تفلت منها سوى الجماعات التي وجدت متنفساً في تحويل الظلم الى طاقة للنضال الوطني ضد ارهاب السلطة , حين عملت كافة الشرائح الاثنية ضد النظام شيعة وسنة وكرد ضد الطاغية كردِّ فعل وثأر لكرامة او لمظلمة وإعتقال وإعدام وجوع وإهانة .
كما ان الاتحاد السوفيتي بإحتلاله لأفغانستان أعطى فرصة ذهبية للاستخبارات الامريكية بتجنيد العشرات للثأر من الكافر الذي يحتل بلد مسلم , فذهب الشباب حتى اصبحوا لاحقا يقتلون الشعب الافغاني ويعذبوه اكثر من الجيش الاحمر.
والى الان يسير الكثيرون في درب التجنيد الثأري , فالبعثي يجند ابنه حالياً ويعبئه ضد كل ماهو عراقي , والكردي يعبيء ابنه لكره المركز والمتشدد يعبيء ابنه ضد الجميع , وكلهم انما يقدمون خدمة هائلة لدوائر الاستخبارات لتجنيد ابنائهم.
وحتى ان صنع الانتحاريين من قبل بعض دوائر الاستخبارات يأتي ضمن الطرق العنيفة للتهييج والتجنيد الثأري وهو أمر عملت عليه التنظيمات الارهابية كثيراً .
ان الاستنتاج الابرز هنا ان المجتمعات التي تصطبغ بالظلم والتهميش واضطهاد الاقليات وغياب العدالة والتكافؤ هي من المجتمعات التي يزدهر فيها التجنيد الانتقاني الثأري , على عكس المجتمعات التي تسود فيها العدالة والخدمات والمساواة فإنها مجتمعات متماسكة امام هذا النوع من التجنيد.
----------
خلاصة
----------
التجنيد الثأري او الانتقامي هو تجنيد يتميز بالفرادة , فهو الوحيد الذي تجهد فيه دولة وحكومة الفرد او الجماعة المستهدفة الى تهيئة اسباب ودوافع التجنيد لديه او لديهم لتضعهم لقمة سائغة ليصبحوا قنابل موقوتة بالضد من بلدانهم على طبق من ذهب الى الدوائر الاستخبارية او الى التنظيمات الارهابية تحت شعار تأريخي مفاده ان الظلم إن دام دمّر , ومن هنا فإن تجفيف منابع هذا النوع لايمكن ان يتحقق الا من خلال العدالة الاجتماعية وسيادة القانون وتكافؤ الفرص , وبما انها اهداف تعد حالمة ورومانسية في بلداننا المتخلفة , فيبدو ان هذا النوع من التجنيد آخذٌ في الازدهار , والله الموفق
#بشير_الوندي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟