عيبان محمد السامعي
الحوار المتمدن-العدد: 6199 - 2019 / 4 / 12 - 14:16
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في الخليج والجزيرة العربية
الحديث عن السياسة بما هي هندسة للمجتمع والدولة, تنتظم من خلالها علاقات الأفراد والجماعات بالنظام السياسي. وحيث أن التنمية السياسية تمثل النظرية التي ترسم توجهات ومضامين الدولة, فإن السياسة لا يمكن أن تتحقق إلا بأدواتها القانونية.
إن ممارسة السياسة خارج شروطها وبغير أدواتها هو عمل اعتباطي وأشبه بمن يريد " تربيع الدائرة"!! بحسب تعبير الفيلسوف الكبير د. أبوبكر السقاف. فالسياسة لا تكون إلا مدنية فهي لا تتحقق إلا في فضاء من الحرية والحوار الديمقراطي وسيادة القانون والفصل الواضح بين السلطات . فلا حديث عن عمل سياسي في ظل ممارسة الاستبداد العسكري أو الجمع بين رئاسة الدولة كمسئولية مدنية ورئاسة المؤسسة العسكرية والأمنية (د. أبوبكر السقاف, دفاعاً عن الحرية والإنسان, 2010م).
إن تراجع وضعف العمل السياسي في البلد يأتي من "سيادة قانون القوة لا قوة القانون", وشيوع علاقات الاستحواذ والقوة وانتشار السلاح, وهو إلى ذلك يأتي من حضور طاغي للأشكال غير الرسمية ( العصبويات والسلطة المشيخية والمؤسسة العسكرية والفهم المبتسر للدين) وتدخلاتها التعسفية في الحياة السياسية, في مقابل حضور شكلي للأحزاب والتنظيمات السياسية, وتزييف للعمل الديمقراطي والممارسة المدنية.
ويواجه العمل السياسي في اليمن إشكالات من نوع آخر, مرتبط بالحالة الممارسية للسياسة, التي أتت كتعبير عن ثقافة ترى في السياسة مجالاً خصباً للمناورة والمراوغة و"الإقامة على الكذب", فضلاً عن ابتكار أساليب للتحايل على الدستور ومنظومة القوانين والقيم, وكذا التنصل عن الاتفاقات السياسية والتعاقديات الاجتماعية. إذ يتضح ذلك ـ وبجلاء ـ في اصطناع فجوة ما بين الدساتير والتشريعات كنصوص ومنظومة القيم كمكتسبات وطنية حقوقية إنسانية, وما بين آليات تطبيقها وتجسيدها على أرض الواقع. إن هذا الأمر لا يتم بشكل عفوي معزول, بل يأتي تلبية لحاجة سياسية للبعض تتمثل في تقويض قوة القانون ومشروعيته في أذهان الناس, من خلال خلق مساحة ذهنية لديهم من عدم جدواه, أو استخدامه في حالات أخرى كأداة لقهرهم أو ترويضهم وتدجينهم بدلاً من تحقيقه للديمقراطية والعدالة.
وليس بعيداً عن ذلك ممارسة حالة من الفساد المعمم, بهدف استكمال حلقات إحكام السيطرة وفرض الاستبداد كأسلوب لإخضاع قوى المجتمع, فالفساد في حقيقته صنو للاستبداد, والحكم المستبد هو حكم فاسد بالضرورة. وما يجدر التنويه إليه في هذا المطاف هو أن الفساد لا يقتصر على صورة أحادية ولا ينحصر فقط في أسلوب الإدارة والحكم, بل هو مؤسسة قائمة على حزمة من السلوكيات والأداءات الممنهجة وأنماط من التفكير والتعاطي مع حاجات الناس والمشروع الوطني.
وحيث تتحول السلطة من مجرد أداة أو آلية رشيدة ديمقراطية لإدارة شئون الناس ومواجهة احتياجاتهم المتزايدة بتنفيذ مشاريع تنموية استراتيجية ومرحلية وإشراكهم في تحديد أولوياتهم ورسم مسارات مستقبلهم, فإنها تستحيل إلى طغمة سلطوية "حكم عضوض" تستنزف الثروات الوطنية وتهدر الكرامة الإنسانية وتنزع عن الناس هوياتهم وتسلبهم إرادتهم, وتحول البلد إلى غنيمة تستحوذ عليها وتتعامل مع سكانها كقطيع وتركة تسعى إلى امتلاكها وتُوريثها..
إن أسلوب إدارة الدولة بالأزمات والحروب كنهج سائد منذ عقود, هو في حقيقة الأمر تعبير عن فشل ذريع لمنظومة الحكم وعجز كامل عن امتلاك هذه المنظومة رؤية وطنية وإستراتيجية تنموية, لذا فهي تجد في افتعال الأزمات وإشعال الحرائق حلاً سهلاً للهروب من الاستحقاقات الشعبية والمسئوليات الوطنية المترتبة عليها.
ليس ذلك فحسب بل إن الطبيعة العصبوية / الأحادية / الثأرية / الطفيلية / الهجينية تستخدم الحروب كوظيفة اقتصادية وسياسية, بحيث تُدّر لها المزيد من الثروات وتراكم الأموال والنفوذ وتحقق لها استمرارية البقاء في سدة الحكم, وذلك إما بإلباس تلك الحروب التي تشعلها بمشروعية وطنية من خلال تضليل الرأي العام بشعارات زائفة, أو من خلال الخلق المستمر لبؤر التوتر والاقتتال الأهلي ليتسنى لها أن تسود وفقاً لقاعدة "فرّق تسد", وتصبح بالتالي هي المرجعية التحكيمية للأطراف المتنازعة.
إن حالة التزاوج الهجيني وغير الشرعي بين المؤسستين المدنية والعسكرية في منظومة الحكم ــ وهي بالمناسبة حالة طبعت أنظمة الحكم طوال عقود وعهود متعاقبة ـ غالباً ما أفضت إلى نهج ثأري ديكتاتوري فردي أو شمولي في إدارة الدولة والمجتمع. فيتم التعامل مع الخصوم والقوى المنافسة للحكم بروح عدائية انتقامية, فلجأت السلطة المستبدة إلى استخدام العنف والتصفيات وأشكال من الإقصاء للآخر المختلف, ومعها غابت آمال الناس بإمكانية تحقيق نظام عادل, فيغرقون في سديم من الإحباط المعنوي والمادي, تبني هذه الحالة الإنكسارية بينهم وبين المجال العام وممارستهم لحقهم في السيادة الشعبية عوازل سميكة, وهو ما يسمح للطغمة المستبدة في أن تعزز من سطوتها وإحكام قبضتها..
وحيث أن الحكم الديكتاتوري يتخذ أشكال مختلفة لإخضاع المجتمع, تتراوح ما بين الأشكال الناعمة كالتسويغ, والإغراء, والإغواء, والتحايل, والخداع, والتضليل, والتدليس وممارسة الكذب, وصولاً إلى استخدام أشكال قهرية/ عنفية كالإقصاء, والنفي, والاعتقال التعسفي, والتعذيب, والمحاكمات الصورية, والتصفيات الجسدية وشن الحروب, فإن للاستبداد أسباب أخرى, منها ما يتعلق بطبيعة البنية الاجتماعية والعلاقات السائدة التي تتصف بأنها بنية بطركية, تسلطية تلحق المواطن الفرد بالجماعة, فتسحق هويته الكيانية المواطنية لصالح تعزيز حضور الهويات الصغرى المناهضة بالضرورة للهوية الوطنية الجامعة. وهناك أسباب تتعلق بالنظم الثقافية والتراكم التاريخي للتخلف الاجتماعي, فالثقافة العربية نشأت تاريخياً كثقافة أحادية, لا تقبل التعدد ولا ترغب بالآخر المختلف, وهي نظم تقوم على الخيال والتسليم والتبرير, فهي ترفض العقل, ولا تنزع إلى النقد والمراجعة مما تسهم في خلق القابلية للاستبداد والإذعان.
وتأتي حالة التزاوج الثانية, في صيغة تزاوج بين السلطة والقبيلة, فعلاقة الدولة بالقبيلة شهدت خلال العقود السابقة تحولات وتطورات عديدة, تبعاً لوضع الدولة وقدرتها في بسط سيطرتها الكاملة على أرجاء البلاد وجديتها في إنفاذ القانون وتعزيز سلطته. فوجود دولة قوية تتمتع بالشرعية السياسية والشعبية يمكّنها من أن تفرض سلطتها على المجتمع وتصبح هي المرجعية الوحيدة للناس, في حين لو أنها كانت بخلاف ذلك ـ كما هو وضعها حالياً ـ فإن هذا يخلق للجماعات القبيلية والمشيخية مجالاً مفتوحاً في ممارسة سلطتهم الاجتماعية والعرفية القسرية على السكان, وفرض الأعراف والثقافة القبلية التقليدية لتصبح هي القانون الساري. إن "الدول التي لا يسود فيها [القانون] تصبح الأعراف نافذة كما لو كانت قانوناً, أي تكتسب صفة الصورية الحاكمة في المجال القانوني, بينما يلغي القانون في الدول التي يسود فيها العرف [على القانون] (...) لذلك ينحط القانون إلى مستوى العرف, ويرتفع العرف إلى مستوى القانون من حيث تنفيذه فيغدو ظلماً فاجعاً يمس أكرم وأقدس مكونات الضمير ومعنى الحياة. ولذا يسود التشاؤم وعدم الإيمان بالتضامن وإمكان انتصار الخير والعدل في حياتنا. وهنا يكمن الفرق الحاسم بين سيادة [القانون], وسيادة الأعراف" (د. أبوبكر السقاف, مرجع سابق).
إن التطور اللاحق الذي شهدته علاقة الدولة بالقبيلة تمثل في " تمفصل القبيلة بالدولة, حيث لم تعد العلاقة بينهما علاقة تناقضية [ كما كان في مرحلة سابقة], بل باتت علاقة تكاملية. الأمر الذي تمخض عنه تولد نظام سياسي رعوي, يقوم على تقاسم السلطة السياسية بين الدولة والقبائل, وتنازل الدولة عن بعض وظائفها لصالح شيوخ القبائل, الذين تحولت علاقتهم بالنظام في ظل هذا التمفصل بين الدولة والقبيلة إلى علاقة التزام سياسي, وبالتالي باتت القبيلة تمارس بعض مهام الدولة, وتتصرف الدولة أحياناً كقبيلة, فهي دولة ضعيفة مسلوبة القدرة, فعلى الرغم من تواجدها في كثير من مناطق البلاد إلا أنها ضعيفة وخاضعة, وغير قادرة على فرض سيادة القانون." (د.عادل مجاهد الشرجبي وآخرون, القصر والديوان, الدور السياسي للقبيلة في اليمن,2009م). وهو ما ينتج الكثير من الظواهر, كحالات القتل, والاختطاف, وقطع الطريق, والاستيلاء على الممتلكات العامة, تستخدم بعضها كأداة ضغط للحصول على مكاسب وامتيازات غالباً ما تكون غير مشروعة.
وفيما يتمظهر الصنف الثالث لحالة التزاوج غير الشرعي الهجيني الذي ميز أنظمة الاستبداد والاستحواذ في الجمع بين ممارسة المسئولية الحكومية وممارسة التجارة, أو الجمع بين المسئولية الحكومية والزعامة القبلية والتجارة, فإن هذا يعد أخطرها؛ ليس لكونه يؤلف بين أكثر من سلطة وامتياز فحسب, بل لأنه يخلق مصالح طفيلية نفعية تستحوذ على ثروات الشعب, وتعمق من التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية, وتمنع الناس من التعامل المباشر مع الدولة, فالزعامات القبيلية تصبح هي الواسطة بين المجتمع المحلي ومؤسسات الدولة مما يتيح لهم لعب أدوار سياسية من خارج مؤسسات الدولة, كاللجان التحكيمية على سبيل المثال.(د.عادل الشرجبي, مرجع سابق) عندها يجري التقويض الشامل للدولة كمفهوم ومعنى رمزي يستحضره الناس حين تلم بهم الحاجة إلى كيان وطني يحتضنهم ويحقق لهم الأمان والعدالة. كما يجري تقويض أدوات الدولة أكانت أدوات سياسية, أم اقتصادية, أم اجتماعية, أم نظم إدارية وقوانين وثقافة تكرس من قيمة الهوية الجامعة, والانصياع للقانون, والالتزام باللوائح, وإعلاء من شأن قيم العمل والتحفيز للإنتاج والإبداع.
ويبرز تحدي آخر أمام تحقيق التنمية السياسية بمفهومها الشامل, ألا وهو تدني الوعي السياسي في الأوساط الشعبية, والفهم الزائف له في الأوساط النخبوية, فضلاً عن حالة عامة من فقدان الثقة بالعمل السياسي وجدوى أدواته مما ينتج غياباً للمبادرات الذاتية والديمقراطية التشاركية. ويعود سبب ذلك لعوامل كثيرة لعل أهمها: افتقاد النظام السياسي للشرعية الشعبية وعدم توفر حالة من الرضا العام, وتحايله على العملية الديمقراطية والسياسية, وكذا تقادم أدوات العمل السياسي واختلالات تعتور خطابات المنظومة السياسية, بالإضافة إلى التردي الاقتصادي الذي أصاب حياة المواطن وأجبره في كثير من الأحيان على أن يغادر مواقع كان يتواجد فيها بفعالية, إلا أنها أصبحت مع الأيام بفعل سوء الوضع المعيشي مواقع ثانوية هامشية بالنسبة لأولوياته, مقدماً في ذلك مهمة البحث عن لقمة العيش وتأمين أسرته من مخاطر الجوع.
كما لا يغيب عن بالنا تداعيات الثقافة العولمية, ووعودها الزائفة التي تهدف إلى تعميم ثقافة الاستهلاك التجاري, والانغماس في براثن الاستلاب والانهزامية والتحليق بعيداً عن الواقعية واستشعار المخاطر المحدقة.
وحديثنا عن أزمة المشاركة السياسية سيأخذ أبعاد أخرى, فعلى مستوى أدواتها غالباً ما انحصرت في المشاركة بالعملية الانتخابية ورغم ما يشوب هذه العملية من اختلالات وقصور, من حيث طبيعة النظام الانتخابي الذي لا يعكس حقيقية مستوى التمثيل الشعبي, ولا يحقق التنوع المطلوب في جوهر العملية السياسية إذ غالباً ما كانت العملية الانتخابية تعيد إنتاج شخوص السلطة بأساليب مختلفة اتساقاً مع حاجة النظام للاستفراد والاستئثار, ناهيك عن محدودية نسبة المقيدين في السجل الانتخابي من نسبة من يحق لهم التصويت.
أما ما يتصل بالمشاركة النوعية في العملية السياسية, فلا تزال المرأة اليمنية تحرم في كثير من الحالات من النشاط في المجال العام لأسباب اجتماعية وثقافية وسياسية يطول الحديث عنها, وفي الحالات القليلة التي تمارس المرأة حقها في المشاركة في العملية الانتخابية فإنها غالباً ما تحضر كصوت انتخابي لا أكثر من ذلك. وينسحب الوضع على فئات اجتماعية أخرى, فالشباب لا يزال يقود حالة نضالية من أجل أن يحظى بموقع يتناسب مع حجم تواجده ضمن الكتلة السكانية وفعاليته في الحياة. وعلى الرغم من أن السنوات الأخيرة شهدت حراكاً شبابياً واسعاً تجلى ذلك في تفجر ثورة عارمة في 11 فبراير من العام 2011م والتي أسقطت نظام الاستبداد والفساد, حيث كان الشباب يمثلون طليعتها الأولى ووقودها الأنقى, كما كان ولا يزال للشباب الدور الجوهري في تفجر الاحتجاجات الشعبية التي قادها الحراك السلمي الجنوبي وشملت المحافظات الجنوبية منذ يونيو 2007م وما سبق هذا التاريخ من إرهاصات سياسية واجتماعية.
ويجدر بنا في مختتم هذه التناولة العجلى, أن نتعرض لواقع الأحزاب والتنظيمات السياسية ودور منظمات المجتمع المدني في التنمية السياسية. فعلى الرغم من أن التعددية السياسية والحزبية وحرية العمل المدني مكفولة في الدستور والتشريعات المصاحبة, إلا أن هذه العملية لا تزال متخلفة عن السياق الاجتماعي واعتمالاته. فواقع الحال يقول بأن الأحزاب والتنظيمات السياسية تعاني من هشاشة في أبنيتها التنظيمية, وعدم مقدرتها على استيعاب حاجة قواعدها إلى التجديد ناهيك عن الحاجات المختلفة للمجتمع, وفيما تعاني من ضعف في تصورتها البرامجية, فإنها لا تزال حبيسة إشكالات في حياتها الداخلية تتعلق بغياب الديمقراطية الداخلية ومستوى الأداء السياسي والتنظيمي, وصلاتها بجماهيرها ووسائطها التواصلية مع الناس. في حين أن حال منظمات المجتمع المدني ليس بأفضل منها, فهي تفتقد للبناء المؤسسي والوظيفي, كما يفتقر القائمين عليها الكفاءة المطلوبة وتغلب على أنشطتها الجانب السياسي, ويغيب دورها في المجالات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية على أهميته. ويؤخذ على هذه المنظمات أن غاية ما تتوخاه هو العوائد المادية والحصول على المنح والدعم الخارجي, في حين أنها لا تمتلك رؤية حقيقية للتعامل مع حاجات المجتمع وأولوياته في التمكين الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.
#عيبان_محمد_السامعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟