رفيف رشيد
الحوار المتمدن-العدد: 1533 - 2006 / 4 / 27 - 09:43
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الاغتراب مصطلح شديد العمق و عريق الأصل, إذ يعود إلى تلك اللحظة التي
نزل فيها آدم من الجنة و اغترب في الأرض.
و منذ ذلك الحين بدأت الاغترابات, في كل الأزمنة و الأمكنة, فكثرت الهجرة.
و تكون حالة سفر أو رحيل الأفراد من بلدهم الأصلي إلى دولة أخرى
و السكن و العيش فيها لمدة
طويلة, قد تدوم سنوات أو العمر كله, لعدة أسباب كالحالة الإقتصادية للبلد الأصلي, أو
السياسية, أو الاجتماعية....
و قد يكون الفرد راغبا في السفر أو العيش في دولة أخرى مغتربا فيها عن بلده الأصلي, و
عن تقاليده و عاداته و أهله و ذكرياته... و ذلك لغاية في نفسه, إما لتحسين ظروف عيشه
الاقتصادية, أو لعدم ملاءمة الجو الاجتماعي... أي أنه في هذه الحالة يكون قد اختار نظام
و طريقة عيش أخرى غير طريقة و نظام عيش بلده الأصلي... (لكن حتى لو اختاردولة
قريبة من بلده الأصلي في التقاليد و اللغة... فلا بد أن هناك صعوبات التأقلم و التي تكون
داخل الدولة الواحدة, بين مدينة و أخرى. فما بالك بدولة أخرى).
لكن هناك حالات يضطر فيها الفرد إلى الاغتراب و العيش في دولة أخرى غير بلده
الأصلي, و ربما أن الأسباب السياسية تحتل المرتبة الأولى في هذه الحالة, من التسلط
السياسي, أو كثرة الحروب... أي أنه أجبر على مغادرة بلده, و على محاولته الاندماج في
بلد الاغتراب, أو بلد الإقامة..و من المعروف أن لكل فرد هويته الخاصة به, و أفكاره و ذكرياته
الثقافي و الاجتماعي و الاقتصادي... و الفرد المغترب يحمل معه كل هذه الخصوصيات إلى
مكان غربته, إلى الدولة التي اختار أن يسكن فيها, و هنا تطرح المشكلة في كيفية الحفاظ
على تلك الخصوصيات, و في نفس الوقت, محاولة التأقلم و الاندماج, و البدء من جديد في
بناء مستواه الاجتماعي و الثقافي, و في إقامة علاقات اجتماعية, و التعود على نمط عيش
قد يكون مختلف تماما عما كان فيه بلده الأصلي.
لكن إحساس الغربة أو الوحدة إحساس مؤلم, و قد يؤدي بالفرد إلى عدة صراعات و حالات
مرضية كالاكتئاب أو العصاب أو العنف (سواء الموجه نحو الخارج أو نحو الداخل, أي
نحو المجتمع أو نحو الفرد نفسه) و قد يساعد الشعور بالاغتراب الفرد على الابداع
كطريقة للتعبير عما يعانيه, بكيفية مباشرة أو غير مباشرة, كالرسم و الشعر والكتابة...
إلخ.
فالمشكلة بالنسبة للمهاجرين و المغتربين عن وطنهم, هي اندماجهم و تأقلمهم في بلد
الإقامة, و علاقة ذلك بصورة بلد الإقامة لديهم, و الفروق الموجودة بين تقاليدهم و
عاداتهم و مفاهيمهم الأصلية, و بين تقاليد و عادات و مفاهيم بلد الإقامة....
فكيف يرى و يتصور المغترب الجانب الثقافي و الاجتماعي لبلد الإقامة؟ و ما مدى
مساهمة هذا التصور أو الرؤية للجانبين الثقافي و الاجتماعي في اندماج الفرد في بلد
الإقامة؟ و هل عدم قبول الفرد المغترب لإحدى هذين المجالين يحول دون اندماجه بشكل
ناجح في بلد الإقامة؟ و تأثير قبول الفرد المغترب و مستوى اندماحه في بلد الإقامة على
الجانب النفسي و الاجتماعي للمغترب؟ و من الطبيعي أن تواجه الفرد المغترب بعض الصراعات
بين تقاليد و عادات بلده الأصلي و تقاليد و عادات بلد الإقامة, فكيف يتصرف
الفرد و يواجه تلك الصراعات؟ و علاقة ذلك بمدى اندماجه في بلد الإقامة؟
المفهوم اللفوي للاغتراب:
جاء في "لسان العرب" ل"ابن منظور" أن الكلمة العربية "غربة" تدل على معنى النوى
و البعد, فغريب أي بعيد عن وطنه, و الجمع غرباء, و الأنثى غريبة, و الغرباء هم الأباعد,
و اغترب فلان إذا تزوج من غير أقاربه. على هذا النحو فالكلمة العربية تدل على معنيين:
الأول يدل على الغربة المكانية و الثاني على الغربة الاجتماعية.
و تجمع معاجم اللغة العربية على اختلافها على أن كلمة "الغربة" أو "الاغتراب" تعني
النزوح عن الوطن, أو البعد أو الانفصال عن الآخر.
و في موسوعة "لالاند الفرنسية" تم تعريف الاغتراب بأنه ارتهان (انسلاب).
فيما يلي تعريف مصطلح الاغتراب كما جاء في عدد من الموسوعات و المعاجم و
القواميس اللغوية و التخصصية:
في المعنى الحقوقي و القديم: بيع أو تنازل عن حق إلى شخص آخر و هو "مجازا"
حال المنتسب إلى آخر (مولى, مملوك) إن الشخصانية جهد متواصل بحثا عن الأماكن
التي يمكن فيها لانتصار حاسم على الأشكال القمعية, و الارتهانية و الاقتصادية و
الاجتماعية و الفكرية. أن يؤدي إلى تحرير حقيقي للإنسان.المصطلح الأشمل للتدليل
على إضطرابات الذهن العميقة "انسلاب عقلي" إن حدود ما يسمى بهذه التسمية, غير
واضح المعالم أبدا, و بعض علماء الأمراض النفسية المعاصرين يتجنبون استعمال هذه
الكلمة.
أما في معجم المصطلحات الفلسفية فقد عرف الاغتراب على النحو التالي:
في اللغة العربية: أن تغترب يعني أن "تكون الآخر"
فلسفيا: يفيد عملية تحويل منتجات النشاط الإنساني و الاجتماعي إلى شيء مستقل
عن الإنسان و متحكم فيه.
عند هيجل: العالم هو الروح المطلق في حالة اغتراب
عند ماركس: الاغتراب يعني فقدان الإنسان لذاته, و هذا المعنى انتهى إليه ماركس
من خلال الفحص النقدي لوضع العامل في النظام الرأسمالي, فالعامل فيه مغترب عما
ينتجه لأن الإنتاج ليس لإشباع الحاجات الإنسانية و إنما لزيادة رأس المال.
و في قاموس العلوم السلوكية عرف "ولمان" الاغتراب بأنه يعني تدمير و انهيار
العمليات الوثيقة, و تمزق مشاعر الانتماء للجماعة الكبيرة, كما في تعميق الفجوة بين
الأجيال, أو زيادة الهوة الفاصلة بين الجماعات الاجتماعية عن بعضها البعض الآخر.
و في ذخيرة علوم النفس, أوضح كمال دسوقي إلى أن الاغتراب يشير إلى:
شعور بالوحدة و الغربة, و انعدام علاقات المحبة و الصداقة مع الآخرين من
الناس, و افتقاد هذه العلاقات خصوصا عندما تكون متوقعة.
حالة كون الأشخاص و المواقف المألوفة تبدو غريبة, ضرب من الإدراك الخاطئ
فيه نظهر المواقف و الأشخاص المعروفة من قبل و كأنها مستغربة أو غير مألوفة.
انفصال الفرد عن الذات الحقيقية بسبب الانشغال العقلي بالمجردات و
بضرورة مجارات رغبات الآخرين و ما تمليه النظم الاجتماعية. فاغتراب الإنسان المعاصر
عن الغير و عن النفس هو أحد الموضوعات المسيطرة على فكرة الوجوديين.
الاغتراب الذهني: مرض نفسي يحول دون سلوك المريض سلوكا سويا و كأنه
غريب عن مجتمعه, و لذلك يلجأ إلى عزلة عنه.
و أوضح "إبراهيم مدكور و آخرون (1975)" في معجم العلوم الاجتماعية أن الاغتراب
يقصد به ما يلي:
بوجه عام هو البعد عن الأهل و الوطن, و استعمل اللفظ حديثا في العلوم الاجتماعية
لدلالة قصد إليها "ماركس" و عدها من أفكاره, و تتلخص في أن المرء يمر أحيانا
بأوضاع يفقد فيها نفسه, و يصبح غريبا أمام نشاطه و أعماله, و يكاد يفقد إنسانيته كلها,
ففي حالة الاغتراب يستنكر الإنسان أعماله و يفقد شخصيته, و في ذلك ما قد يدفعه على
الثورة لكي يستعيد كيانه. فالاغتراب دافع من دوافع الثورات. و للاغتراب في رأي
"ماركس" صور شتى, منها الاغتراب السياسي و فيه يصبح الشخص تحت تأثير السلطة
الطاغية مجرد وسيلة و لعبة لقوة خارجة عنه. و الاغتراب الاجتماعي و فيه ينقسم
المجتمع إلى طوائف و طبقات, و تخضع الأغلبية إلى الأقلية. أما الاغتراب الاقتصادي ففيه
تسود الرأسمالية, و تستولي طبقة خاصة على وسائل الإنتاج جميعها.
تحتوي فكرة الاغتراب على أثر واضح للجدلية الهيجلية, و يظهر أن "فرويد" قد تأثر بها في بعض
آرائه و ذهب إلى أن الحضارة في مطالبها المتعددة قد لا يقوى الفرد على
تحقيقها و تنتهي به إلى ضرب من الاغتراب و كره الحياة التي يحياها.
و يتسق ما سبق مع ما أورده "جابر عبد الحميد و علاء الدين كنافي (1988)" حول
معجم علم النفس و الطب النفسي حول معنى الاغتراب بأنه: انهيار أي علاقات اجتماعية
أو بينية شخصية, و في الطب النفسي يشير المصطلح إلى الجفوة بين الفرد و نفسه, و
التباعد بينه و بين الآخرين, و ما يتضمنه ذلك من تباعد أو غربة للفرد من مشاعره
الخاصة التي تستبعد من الوعي خلال المناورات الدفاعية , و يشاهد الاغتراب في أوضح
صورة لدى مرضى الانفصام.
المعنى الاجتماعي للاغتراب:
إن الاصطلاحات اللاتينية الدالة على الاغتراب يمكن استخدامها بشكل عام في
مجال العلاقات الإنسانية بين الأشخاص, فقد استخدمت كلمة الاغتراب قديما للتعبير عن
الإحساس الذاتي بالغربة, أو الانسلاخ, سواء عن الذات أو عن الآخرين.
يمكن أن يدل على معاني "التسبب في فتور علاقة حميمة مع شخص ما, أو في حدوث .
المعنى السيكولوجي :
هناك استخدام تقليدي آخر للاغتراب Alienation يعود إلى إنجليزية العصر
الوسيط, بل و يمتد بجذوره إلى اللاتينية القديمة, حيث من الممكن ملاحظة أن كلمة
Alienation
في اللغة اللاتينية تدل على حالة فقدان الوعي و عجز أو فقدان القوى العقلية أو
الحواس.... و كما يلاحظ "إيريك فروم" في كتابه "المجتمع السوي" فإن المعنى القديم
للاغتراب قد استخدم للدلالة على الشخص "المجنون" و الذي تدل عليه الكلمة الفرنسية:.
Aliéné
أماالاغتراب النفسي فهو مفهوم عام و شامل يشير إلى الحالات التي تتعرض فيها وحدة
الشخصية للانشطار أو للضعف و الانهيار, و بتأثير العمليات الثقافية و الاجتماعية التي
تتم داخل المجتمع, مما يعني أن الاغتراب يشير إلى النمو المشوه للشخصية الإنسانية,
حيث تفتقد فيه الشخصية مقومات الإحساس المتكامل بالوجود و الديمومة. و تعد حالات
الاضطراب النفسي أو التناقضات صورة من صور الأزمة الاغترابية التي تعتري
الشخصية.
و يحدد مفهوم الاغتراب في الشخصية في الجوانب التالية:
حالات عدم التكيف التي تعانيها الشخصية, من عدم الثقة في النفس, و المخاوف
المرضية و القلق و الخوف الاجتماعي.
غياب الإحساس بالتماسك و التكامل الداخلي في الشخصية.
ضعف أحاسيس الشعور بالهوية و الانتماء و الشعور بالقيمة و الإحساس بالأمن.
و قد أوضح "إيريك فروم" في كتابه "المجتمع السوي" أن المعنى القديم للاغتراب فد
استخدم للدلالة على الشخص "المجنون", و الذي تدل عليه الكلمة الفرنسية
Aliéné و
يذكر "فروم" أن هذا المصطلح القديم يدل على الشخص السيكوباتي, أي الشخص
المغترب عن عقله. و لا تزال الكلمة الإنجليزية
Alienist
تستخدم إلى الآن للدلالة
على الطبيب الذي يعالج المرضى الذهانيين. و ينظر الباحثون إلى الاغتراب عن الذات
باعتباره اضطرابا نفسيا يتمثل في اضطراب الشخصية الفصامية, حيث يتسم الشخص
الفصامي بالعجز عن إقامة علاقات اجتماعية, و الافتقار إلى مشاعر الدفء و اللين و
الرقة مع الآخرين... فهناك تشابه بين اغتراب الذات و اضطراب الشخصية الفصامية, في
أنهما يشيران إلى صعوبة استمرارية العلاقات الاجتماعية مع الآخرين من أفراد المجتمع.
إن كل صور الاغتراب لا تعدو أن تكون وجوها ثنائية مرضية, أو شيزوفرينيا, إنه انفصام
الذات عن ذاتها لتغترب عنها كآخر, أو انفصام الذات لتغترب عنه, فالشيزوفرينيا إذن هي أم الاغتراب,
أو هي المرض, و أعراضه شتى مظاهر الاغتراب.
و تكشف أعمال "سيجموند فرويد" أنه كان مهتما بمفهوم اللاوعي و ما يمارسه من
سلب للوعي, و ذلك منذ اهتمامه بدراسة أسباب الهستيريا و طرق علاجها منذ عام 1893.
و باستخدام طريقة التداعي الحر توصل "فرويد" إلى أن اغتراب الشعور أو الوعي يحدث
إذا بدأت الأسباب التي تجعل تذكر بعض الحوادث و التجارب الشخصية السابقة أمرا صعبا,
و ذلك لأن معظم هذه التجارب مؤلم و مشين للنفس, و هذا هو سبب نسيانها, و الشيء
الملحوظ من ذلك هو أن "فرويد", و هو بصدد الحديث عن اغتراب الوعي كشف عن أمر
هام يتمثل في سلب المعرفة, إذ أن الوعي يغترب عن حقيقة التجارب الشخصية. و الأحداث
الماضية تتجه لسلب حرية اللاشعور من التداعي الحر.
أما فيما يتعلق باغتراب اللاشعور, فإن الرغبة المكبوتة تبدأ حياة جديدة شاذة في
اللاشعور, و تبقى هناك محتفظة بطاقتها, و تظل تبحث عن مخرج لانطلاق طاقتها
المحبوسة, و طالما أن عوامل القمع و الكبت ما زالت قائمة, فإن اللاشعور يظل مغتربا عن
الشعور. و باستمرار حالة اغتراب الانفصال هذه, و شدة الرغبة المكبوتة في اللاشعور,
تظهر الأعراض المرضية التي تنتاب المصابين, و من ثم ذهب "فرويد" إلى أن مهمة
الطبيب النفسي ليست مجرد دفع المريض إلى التنفيس و التفريغ عن الرغبات المكبوتة, بل
هي في المقام الأول سلب الانفصال القائم بين اللاوعي و الوعي , و الكشف عن الرغبات
المكبوتة لإعادتها مرة أخرى إلى دائرة الشعور.
و قد تركز اهتمام فرويد على مفهوم اللاوعي, كما تناول غربة الذات و الشعور و
اللاشعور, و غيرها من المفاهيم التي ترجمت وجهة نظره في الاغتراب بأنه "اضطراب
مرضي" و أوضح "فرويد" أن اغتراب اللاشعور يتأتى من أن الرغبة قد لا تنتهي بانتهاء
و تفريغ قوتها من الطاقة حتى تتحقق الفرصة الملائمة للظهور مرة أخرى في حالة ضعف
ا"لأنا", مثلا أثناء النوم.
وقد تحدث "فرويد" عن اغتراب كل من "الهو" ,و "الأنا" , و "الأنا الأعلى", موضحا
أن اغتراب "الهو", يقصد به سلب حريته, و ذلك لأن حرية "الهو" تعني وقوع "الأنا"
تحت ضغط "الأنا الأعلى" و الواقع الاجتماعي, أما اغتراب "الأنا", فهو ذو شقين:
أولهما يرتبط بسلب حريته في إصدار حكمه فيما يتعلق بالسماح للرغبات الغريزية
بالإشباع من ناحية, و سلب معرفته بالواقع و سلطة الماضي "الأنا الأعلى" في حالة
السماح لهذه الرغبات بالإشباع من ناحية أخرى. و من ثم يكون "الأنا" في وضع مغترب
دائما سواء بعلاقته "بالهو" أو ب "الأنا الأعلى". أما اغتراب "الأنا الأعلى", فيتمثل في
فقدان السيطرة على "الأنا", و هي الحالة التي تأتي بدورها نتيجة لسلب معرفة "الأنا"
بسلطة الماضي, أو بريادة "الهو" على "الأنا", و هذا هو الجانب السلبي لاغتراب "الأنا
الأعلى", أما الجانب الإيجابي فإنه يتمثل في اتسام سلطة "الأنا الأعلى" بمظهر الاعتماد,
و الذي يصاحبه عدم افتتان "الأنا" بالواقع الاجتماعي.
و يرى "فرويد" أن الاغتراب سمة متأصلة في وجود الذات في حياة الإنسان, إذ لا سبيل
مطلقا لتجاوز الاغتراب. و من وجهة نظر "فرويد", فإنه لا مجال لإشباع كل الدوافع
الغريزية, كما أنه من الصعب التوفيق بين الأهداف و المطالب و بين الغرائز و بعضها
البعض.
و على الرغم من أنه لا يوجد اتفاق تام بين الباحثين على معنى محدد لمفهوم
الاغتراب, فإن هناك اتفاقا بينهم على العديد من مظاهره و أبعاده, و التي توصلوا إليها من
خلال تحليل هذا المفهوم و إخضاعه للقياس, و كان من أبرز المحاولات محاولة "ملفن
سيمان" الذي أشار إلى 5 أبعاد لمفهوم الاغتراب هي: العجز و اللامعنى و اللامعيارية و
العزلة الاجتماعية و اغتراب الذات. كما جاء في دائرة المعارف البريطانية هذه الأبعاد
الخمسة بالإضافة إلى الغربة الثقافية. و عالج باحثون آخرون مظاهر أخرى على أنها حالة
من الاغتراب, كالانتحار و فقدان الانتماء و ازدياد الهوة بين الأجيال, و التمرد و تعاطي
المخدرات.
العجز:
يقصد به شعور الفرد باللاحول و اللاقوة و أنه لا يستطيع التأثير في المواقف الاجتماعية
التي يواجهها, و يعجز عن السيطرة على تصرفاته و أفعاله و رغباته, و بالتالي لا يستطيع
أن يقرر مصيره, فمصيره و إرادته ليسا بيديه بل تحددهما عوامل و قوى خارجة عن
إرادته الذاتية, كما لا يمكنه أن يؤثر في مجرى الأحداث أو صنع القرارات المصيرية
الحياتية , و بالتالي يعجز عن تحقيق ذاته, أو يشعر بحالة من الاستسلام و الخنوع.
اللامعنى:
و يقصد به مدى إدراك الفرد أو استجابته لما يدور حوله من أحداث و أمور عامة أو
خاصة, و يعرفه "سيمان" بأنه يعني توقع الفرد بأنه لن يستطيع التنبؤ بدرجة عالية من
الكفاءة بالنتائج المستقبلية للسلوك, فالفرد يغترب عندما لا يكون واضحا لديه ما يجب
عليه أن يؤمن به أو يثق فيه, و كذلك عندما لا يستطيع تحديد معنى لما يقوم به و ما يتخذه
من قرارات.
و يشير اللامعنى (فقدان المعنى) إلى شعور الفرد بأنه لا يمتلك مرشدا أو موجها للسلوك و
الاعتقاد. و ذهب "مزريخ" في تحليله لمفهوم الاغتراب إلى القول بأن اللامعنى توجد
حينما يكون الفرد غير واضح بالنسبة لما يجب أن يعتقد فيه. و حينما تكون المستويات
الدنيا المطلوبة من الوضوح في اتخاذ القرارات غير متوفرة.
و بوجه عام يرى الفرد المغترب وفقا لمفهوم اللامعنى, أن الحياة لا معنى لها, لكونها تسير
وفق منطق غير مفهوم و غير معقول, و بالتالي يفقد الإنسان واقعيته و يحيى في
اللامبالاة.
اللامعيارية ( الأنوميا):
و أخذ "سيمان" اللامعيارية من وصف "دور كايم" لحالة الأنومي التي تصيب المجتمع,
و هي حالة انهيار المعايير التي تنظم السلوك و توجهه, و قد ظهر مصطلح الأنومي في
اللغة الإنجليزية عام 1951 تقريبا.
و في ذلك يفسر "سيمان" إلى أن الأنومي يعني في الاستخدام الدارج, الموقف الذي
تتحطم فيه المعايير الاجتماعية المنظمة لسلوك الفرد, حيث تصبح هذه المعايير غير
مؤثرة, و لا تؤدي وظيفتها كقواعد للسلوك, فالأنومي لفظ اجتماعي يشير للحالة التي
تغرق فيها القيم العامة في خضم الرغبات الخاصة الباحثة عن الإشباع بأية وسيلة.
و اللامعيارية كما عرفها "سيمان" هي الحالة التي يتوقع فيها الفرد بدرجة كبيرة أن
أشكال السلوك التي كانت مرفوضة اجتماعيا غدت مقبولة تجاه أية أهداف, أي أن الأشياء
لم يعد لها ضوابط معيارية, ما كان خطأ أصبح صوابا, و ما كان صوابا أصبح ينظر إليه
باعتباره خطأ من منطلق إضفاء عليه صبغة الشرعية على المصلحة الذاتية للفرد, و
حجبها عن معايير و قواعد و قوانين المجتمع. و كذلك يشير مصطلح الأنومي إلى حالة
تجمع بين اللامعيارية و حالة الفراغ الخلقي المتمثل في عدم الثقة أو الشك في القواعد.
و قد استخدم "ميرتون" مفهوم الأنومي أنه يعني تصدعا في البناء الثقافي, يحدث خاصة
عندما يوجد انفصال حاد بين المعايير الثقافية و القدرات الاجتماعية و البنائية لأعضاء
الجماعة للعمل معا.
و حدد "بارسونز" أبعاد مفهوم الأنومي في كل من رفض التكامل العام مع النسق
الاجتماعي, و غياب الاتساق أو التوازن في إطار عملية التفاعل الاجتماعي.
العزلة الاجتماعية:
و يقصد بها شعور الفرد بالوحدة و الفراغ النفسي, و الافتقاد إلى العلاقات الاجتماعية
الحميمة, و البعد عن الآخرين حتى و إن وجد بينهم, كما قد يصاحب العزلة الشعور
بالرفض الاجتماعي و الانعزال عن الأهداف الثقافية للمجتمع, و الانفصال بين أهداف الفرد
و قيم المجتمع و معاييره.
و غالبا ما يستخدم مصطلح العزلة عند الحديث عن الاغتراب في وصف و تحليل دور
المفكر أو المثقف الذي يغلب عليه الشعور بالتجرد, و عدم الاندماج النفسي و الفكري
بالمعايير الشعبية للمجتمع, و يرى بعض الباحثين في ذلك نوعا من الانفصال عن المجتمع
و ثقافته. و يلاحظ أن هذا المعنى للاغتراب لا يشير إلى العزلة الاجتماعية التي تواجه
الفرد المثقف كنتيجة لانعدام التكيف الاجتماعي أو لضآلة الدفء العاطفي, أو لضعف
الاتصال الاجتماعي للفرد, و لعل أفضل أسلوب يوضح هذا المعنى للاغتراب هو أن ينظر
إليه من زاوية قيمة الجزاء أو الإرضاء, فالأشخاص الذين يحيون حياة عزلة و اغتراب لا
يرون قيمة كبيرة لكثير من الأهداف و المفاهيم التي يثمنها أفراد المجتمع, و يبرز هذا
الصنف في عدد من المؤشرات منها عدم مشاركة الأفراد المغتربين لبقية الناس في مجتمعهم
فيما يثير اهتمامهم من برامج تلفزيونية و إذاعية و نشاطات.
: الاغتراب عن الذات:
استمد "سيمان" مفهوم الاغتراب عن الذات من كتاب "ايريك فروم" المجتمع السليم
حيث يعتبر ما كتبه "فروم" من أكثر البحوث دقة و عمقا, و قد تناول موضوع الاغتراب
من زاوية نمو الشخصية و تطورها, و أوضح أن الاغتراب هو نمط من التجربة يرى الفرد
نفسه فيها كما لو كان غريبا عنه, فالفرد يصبح منفصلا عن نفسه.
و عرف "سيمان" الاغتراب عن الذات بأنه عدم قدرة الفرد على التواصل مع نفسه, و
شعوره بالانفصال عما يرغب في أن يكون عليه, حيث تسير حياة الفرد بلا أهداف, ويحيا
بكونه مستجيبا لما تقدم له الحياة دون تحقيق ما يريد من أهداف, و عدم القدرة على إيجاد
الأنشطة المكافئة ذاتيا.
و قد تعامل "فروم" مع مفهوم الاغتراب من الوجهة السيكولوجية مركزا على الفرد, و
ليس المجتمع كسبب للاغتراب. و في ضوء ذلك عرف الاغتراب بأنه: نمط من الخبرة من
خلالها يرى الفرد نفسه كمغترب, فهو يشعر أنه غريب عن نفسه, حيث لم ير ذاته أو
يخبرها كمركز لعالمه, أو كناشئ أو خالق لأفعاله, لكن أفعاله و مترتباتها تصبح لها
السيادة, إنه يطيعها و يخضع لها.
و في ضوء تصور "فروم" للاغتراب, فإن تفاعل الفرد مع مجتمعه يحدد مستوى اغترابه,
فالخبرة المتضمنة في هذا التفاعل تخلق الإحساس بالاغتراب, و يشعر الفرد بالاغتراب
عندما لا يستطيع التحكم في أفعاله, إنه يصبح سلبيا عندما يستسلم لأفعاله و نتائجها. و هذا
من شأنه أن يجعل الشخص يشعر أنه لا معنى لحياته, كما يشعر باغتراب الذات.
أما "هيدجر" فيعالج فكرة الوجود الزائف و الوجود الأصيل, حيث ربط بين مفهوم الغربة
و بين الوجود الزائف, و ميز بين الوجود الأصيل و الوجود الزائف. فالأول يعني وجود
يضع ذاته و يحدد اتجاهه من خلال القرارات و الاختيارات التي تنتمي إليه حقا و التي
يمارسها بحرية تامة و بوعي كامل, و أما الوجود الزائف, فهو الوجود الذي تتخلى عنه
مسؤوليته تجاه اختبار إمكانياته و تترك لغيره هذه المهمة, إنه وجود يخضع للمجهول, و
يعجز عن أن يقرر ذاته و مستقبله.
كما ميزت "هورني" بين نمطين للاغتراب عن الذات هما: الاغتراب عن الذات الفعلية و
الاغتراب عن الذات الحقيقية. و يشير الاغتراب عن الذات الفعلية إلى إزالة كافة ما كان
المرء عليه بما في ذلك ارتباط حياته الحالية بماضيه, و جوهر هذا الاغتراب هو البعد عن
مشاعر الفرد و معتقداته و فقدان الشعور بذاته ككل. أما الاغتراب عن الذات الحقيقية فيتمثل
في التوقف عن سيران الحياة في الفرد من خلال الطاقات النابعة من هذا المنبع أو
المصدر الذي تشير إليه "هورني" باعتباره جوهر وجودنا.
اللاهدف:
و يرتبط اللاهدف ارتباطا وثيقا باللامعنى, و يقصد به شعور المرء بأن حياته تمضي دون
وجود هدف أو غاية واضحة, و من ثم يفقد الهدف من وجوده و من عمله و نشاطه وفق
معنى الاستمرار في الحياة.
التمرد:
و يقصد به شعور الفرد بالبعد عن الواقع, و محاولته الخروج من المألوف و الشائع, و
عدم الانصياع للعادات و التقاليد السائدة, و الرفض و الكراهية و العداء لكل ما يحيط بالفرد من قيم و معايير,
و قد يكون التمرد على النفس, أو على المجتمع بما يحتويه من أنظمة و
مؤسسات, أو على موضوعات و قضايا أخرى.
أما حول علاقة الاغتراب بالعنف, توصل "أليس و زميله" في دراستهما إلى وجود
علاقة إيجابية بين الشعور بالاغتراب و العنف الذكري, حيث تزايد استخدام العنف و
العدوان نحو الزيجات من قبل الرجال أو الأزواج الذين يشعرون بالاغتراب.
كما تناول "علي وطفة" علاقة الاغتراب بالعنف و القمع, موضحا أن الاغتراب ليس نتيجة
فحسب, بل هو نتيجة و سبب في آن واحد. و ذلك لأن ممارسة القمع و الإرهاب ظاهرة
اغترابية في حد ذاتها, و على هذه الصورة, يكمن الاغتراب في أصل العنف و يكمن العنف
غي أصل الاغتراب, و تتداخل الظاهرتان في كينونة واحدة يتعانق فيها السبب بالنتيجة و
الشكل بالمضمون, و ينبني على ذلك أن تكون الشخصية الاغترابية شخصية قمعية, و
الشخصية القمعية شخصية اغترابية في آن واحد.
و على الرغم من أن معظم الدراسات تشير نتائجها إلى ارتباط الاغتراب إيجابيا بالعديد من
الاضطرابات و المتغيرات غير السوية, مثل: العنف, الإدمان, الانتحار... فقد كشفت بعض
الدراسات عن علاقة سلبية بين العنف و الاغتراب, و من هذه الدراسات على سبيل المثال
الدراسة التي قام بها "محمد خضر عبد المختار" 1998 حول "الاغتراب و التطرف نحو
العنف في المجتمع المصري", و أوضحت نتائجها أن هناك علاقة سلبية دالة إحصائيا بين
الاغتراب و العنف, و يعني ذلك انه عندما تزداد درجة مشاعر الاغتراب تنخفض درجة
العنف, و فحوى هذه العلاقة يدل على أن العنف محاولة للتغلب على الاغتراب, كما أن
مشاعر الخضوع و الاستسلام قد تقود الفرد للانفجار و محاولة قهر العبودية , فالتبلد و
اللامبالاة أقوى من العنف, فهذه المشاعر ميكانيزم للهروب من الهيمنة و الضعف, و هذا
السلوك المكبوت يولد و يفجر عنف الثورات و التمرد على الواقع عندما يواجه الفرد مزيد
من الإحباط.
و فسر "إريك إريكسون" الإرهاب في ضوء التفاعل بين التفسير الاجتماعي و التحليل
النفسي لسلوكيات الفرد, و أكد أن مفهوم الهوية و مفهوم الآخر و التطور النفسي
الاجتماعي لهذه الجوانب في بناء الشخصية, فأزمة الهوية عند الإنسان عندما يعاني من
الحيرة و عدم الوضوح و التصدع و التناقض, قد تؤدي بالفرد إلى التوحد مع جماعة أو
تنظيم دون مقدمات, و هذا ما يحدث في غالب الأحيان في حالات الجماعات الإرهابية أو
الجماعات الدينية المتطرفة, سعيا نحو تحقيق هوية اجتماعية كان الفرد يفتقدها, و كذلك
إيجاد نماذج السلطة التي كان يبحث عنها, و تجعله يشعر بالقوة و السيطرة
و قدم "فراكوتي و برونو" تفسيرا للإرهاب من خلال منظور طبي نفسي, و أوضحا أن
النظرية التحليلية للإرهاب تحوي في طياتها المسببات الاجتماعية و العوامل الشخصية
المرتبطة بالإرهاب, ففي حالة فقدان الاستقرار و المعايير و القيم, و رؤية الإنسان لها
كمواقف تزداد فيها الغربة بين مجموع الناس و المؤسسات, هنا تكون أهمية العزلة في
الاغتراب واضحة. حيث ينشأ الاغتراب نتيجة فقدان العلاقات الاجتماعية بين الأفراد و
بعضهم البعض, من ناحية, و كذلك نتيجة عدم مشاركة الأفراد في بناء المجتمع.
#رفيف_رشيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟