|
الإنسانُ وغائيّة التّكامل الوجودي (الجزء الأول)
أكرم جلال كريم
(Dr. Akram Jalal)
الحوار المتمدن-العدد: 6175 - 2019 / 3 / 17 - 19:56
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الإنسانُ وغائيّة التّكامل الوجودي (الجزء الأول)
إنّ الإنسان كانَ وَلَم يَزل دائم السؤال والبّحث في المنهج الفكري الإبستومولوجي أو ما يُطلق عَليه بالرؤية الكَونيّة، فيسأل عن السّر والحِكمَة مِن وَراء خَلقِه ، وعَن الغايَة التي مِن أجلِها خُلق ولِمَ خُلق، وَكَيف أنّ الله قد سَخّر هذا الكَون الفَسيح والذي تَعجَز عَن وَصفه الكلمات وتتوقف عن الغَورَ في أسرارهِ العُقول لِما يَحويه من دقّة وَعَظَمَة وإبداع ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ۗ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ ﴾ [لقمان: 20. ثُم أنّ الله خَلَقَ الإنسانَ وَجَعَله القُطب والمَركز والمحور في هذا الوجودَ العَظيم، فَكانَ السَببَ الذي مِن أجله خَلق كلّ شيء ولأجله سَخّر كل شيئ، وقد أشار القرآن الكريم الى هذه الحقيقة حينما أسماه خليفة الله ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ [البقرة : 30]. إنّ مُفردة الخَليفة التي جاءت في الآية القرآنية إنّما هيَ إشارَة الى الإنسان الخليفة وهو الإنسان الكلّي أو الإنسان النّوع، ليَكونَ المحور والمركز والوسيط في هذا الوجود، فَجَعَلَه الله نبياً وإماماً وجعله خليلاً وكليماً وحبيباً، فهو خليفة الله في العوالم جميعاً. والله جل جلاله الذي هو واجب الوجود لذاته وهو الوجود المُطلق الكامل والجامع لمُنتَهى ومطلق الصّفات الكماليّة ، والذي مِن كَماله المُطلق تَتَجَلّى صفاته وَتَنعكس أسماؤه في أشرف مخلوقاته ، كلٌ حَسَب دَرَجَته وَمَرتَبَته ، وأنّ الأعلى مَرتَبة والأشرف كمالاً والأكثر تَجَليّاً وَحَملاً لصفات الله وأسمائه الحسنى هو الإنسان الكلّي الذي هو مَظهَرٌ لأسماء الله وصفاته وجماله والذي تَجَسّد في شَخص النبيّ المُصطفى محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في قوله تعالى ﴿ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ ﴾ [النجم: 9]. من هنا يَتّضح أن سرّ خَلق الإنسان مُرتَبطٌ بغائية التّكامل الوجودي وأنّ الله أرادَ له أن يَطوي مَراحل السُمُو في مَدراج الوجود لِيَصل الى أعلى مَراتب الكمال، وهذه الغائية جاءت في قول الله عز وجل: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنْسَ إلاّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 59]، فالآية الكريمة أوضَحَت عُمق وَحَقيقة الهَدَف مِن خَلقِ اللهُ الإنسانَ، فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) في قول الله {إلاّ لِيَعْبُدُونِ} (قال) أي: إلاّ ليعرفون1. لذا فَإنّ أعلى مَراتِبَ العبادة هيَ تلك التي أساسها المَعرفة والتي من خلالها يَرتَقي الإنسان وَيَصل أعلى مراتب الكَمال بل ويكون القُطب والمحور في هذا الوجود، فَمَراتب الكمال لا تُنال إلّا لِمَن عَرَفَ الله حَقّ مَعرفته فَعَبَده حَقّ عبادته. لَقَد بَدَأ اللهُ خَلق الإنسان الأول من عنصري الماء ﴿ فَلْيَنْظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِق﴾ [الطارق: 5، 6]، والتراب ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ﴾ [الروم: 20]، ثُمّ صَيّر الماء والتُراب طيناً ﴿وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ﴾ [السجدة: 7]، ثُمّ أنتَزَع مِنَ الطين سُلالة ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ﴾ [المؤمنون: 12]، ثم تحول هذا الطين الى طين لازب ﴿فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَم مَّنْ خَلَقْنَا ۚ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ﴾ [الصافات: 11]، ثم الى صلصال من حمأ مسنون ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ﴾ [الحجر: 26]، أي تغيَّر لونُه وصار مُنتناً، ثمّ من صلصال كالفخار ﴿خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّار﴾ [الرحمن: 14]، ثم مرحلة التصوير أو التسوية ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [الحجر: 29]، وفي آية أخرى ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ ﴾ [الأعراف: 11]، وبعدها تبدأ مرحلة نَفخ الروح ﴿ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ﴾ [السجدة: 9]، فصيَّره اللهُ تعالى بقدرته إنساناً سويَّاً. كانَ هذا خَلق الإنسان الأول، خَلق آدم وحوّاء عليهما السلام وبعدها بدأت عَمليّة التكاثر عن طريق التَناسل مِن خِلال التّلاقح بين المادّة الذّكرية (الحويمن) والمادّة الأُنثوية (البُويضة)، كما وَضّحَها القرآن الكريم في العديد من الأيات: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۖ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ﴾ [السجدة: 7-8 ]، والماء المهين هي إشارة الى نطفةُ الرجل التي تنعقد في رَحِم المرأة كَما أوضَحَتها الآية القُرآنية، ثم تتوالى باقي الأطوار التكاملية للأنسان، والآية التالية تُبَيّن مَراحل التّكامل الجَنيني داخل رَحِم الأم: ﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ [المؤمنون: 14]. وتُعَدّ مَرحلة نَفخ الرّوح من المَراحل التي يَتمّ من خلالها إيجاد حالة التّمايز والأفضلية البَشَريّة على غيره من المّخلوقات، فبالإضافة الى عَظَمَة النشأة الإلهية وأطوار التكوين الإنساني وَكَيف أنّ الله جلّ وَعَلا قَد أحسَنَ وأبدع في الخلق فَقد تَكَرّم بأن أعطى الإنسانَ فكراً وعَقلاً وَنَفساً إنسانية يَستَطيع أن يَسعى مُستعيناً بهم ليَصل الى مَصاف الملائكة بل وأعلى، وفي المقابل فإنه قد أُودِعَ غَرائزَ وشَهَوات ونَزَعات إنْ لَم يُروّضَها ويُحكِمَ السّيطرة عَليها فإنّها سَتَسير به نَحو مسالك الذلّ والإنحدار والخسران المبين. لَقَد أودع اللهُ في هذا الإنسانَ الطيني النشأة رُوحاً إلهية (أو ما يُطلَق عليه بالنَّفخة الربّانية)، تُمَكّنه من طيّ مَراتب الرّقي والكّمال. لَقَد خَلق اللهُ الإنسانَ عِبرَ هذه الأطوار بأحسن تَقويم وَجَعَل لهذا التّمازج الطينيّ الرّوحي قُدرة تُمَكّنَه من الحَرَكة والسّير نَحو بلوغ أعلى منازل الكمال الوجودي، لَقد خَلَقَنا وَصَوّرَنا من أجل غاية عظيمة وحكمة كريمة وهي التكامل ونَيل مَرتَبة خلافة الله في أرضه ولنكون تجلياً لأسماء الله وصفاته.
1. تفسير ابن كثير: 4/ 255، شرح أصول الكافي للمازندراني: 4/ 208.
#أكرم_جلال_كريم (هاشتاغ)
Dr._Akram_Jalal#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
النفس ووسائط الفيض الألهي (الجزء الأول)
-
النفس ووسائط الفيض الإلهي (الجزء الثاني)
-
سُفُنُ الأمان بين الفَلسَفة والعرفان ( الجزء الثاني)
-
سُفُنُ الأمان بين الفَلسَفة والعرفان ( الجزء الثالث)
المزيد.....
-
إسرائيل تُعلن تأخير الإفراج عن فلسطينيين مسجونين لديها بسبب
...
-
الخط الزمني للملاحقات الأمنية بحق المبادرة المصرية للحقوق ال
...
-
الخارجية الروسية: مولدوفا تستخدم الطاقة سلاحا ضد بريدنيستروف
...
-
الإفراج عن الأسير الإسرائيلي غادي موزيس وتسليمه للصليب الأحم
...
-
الأسيرة الإسرائيلية المفرج عنها أغام بيرغر تلتقي والديها
-
-حماس- لإسرائيل: أعطونا آليات لرفع الأنقاض حتى نعطيكم رفات م
...
-
-الدوما- الروسي: بحث اغتيال بوتين جريمة بحد ذاته
-
ترامب يصدر أمرا تنفيذيا يستهدف الأجانب والطلاب الذين احتجوا
...
-
خبير: حرب الغرب ضد روسيا فشلت وخلّفت حتى الآن مليون قتيل في
...
-
الملك السعودي وولي عهده يهنئان الشرع بمناسبة تنصيبه رئيسا لس
...
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|