|
ينابيع الرماد
فراس جركس
الحوار المتمدن-العدد: 6172 - 2019 / 3 / 14 - 05:22
المحور:
الادب والفن
أشهرتُ الحروف المعمّدة برائحة آلهة آمنتُ بها - قبضة آجرٍّ وبراق: فاتحة النور آخر ما يسطّرون، قلب الليل معراج الدعاء، متّكَؤ الكمال أول الكلام، زمرّدة تفوح من وسط الروح، كثافة في الجلّنار، والهجع الأخير من شمس الأصيل. فليتقدّس اسمك الأغلى، و ترابك الأعلى، وفضاؤك المفطور سلاماً بين يدي يسوع؛ والمحبرة التي حزمت ذلك الفضاء كما يحزم النازحون رائحة الوطن. وليتقدّس الوجع الذي يريقه انهيار الأماني على عتبات انهيار النهار. و أي وجع يُهرق النفس أكثر من هذيان يحصد أسيجة الأسرار ؟ سأتلو البنفسج بحبر الجذور. سألفظ شوكاً يتزاحم في ذاكرة ممتدة أعمق من حجر الحكمة، وأبعد من واحات السراب، وأعلى من مروءة الفرسان.
لستِ قدماً عابرةً على محيط الساعة لستِ سيفاً فيسلخني لحاءً عن قامة الضوء لكنكِ ثورة الطميّ على وجه النهر وصاعقة تذبح فيّ الماء ولا تخدش الفخار! فبأي وشاح أهبط الوديان ؟ بأي صوت أجتاز حمّى العاصفة؟ بأي صلاة أُصَلّبُ أو أكبّر؟ فوق ضريح شمعة كانت الشاهدة والشهيدة.
قبل أن تُشهَري من عذوبة طعنة مضرّجة باللهاث، كان طفلٌ يستنشق من فوح التراب المبلّل رائحة مائه في ثديين ينتظران على باب الخزف، ويرسمهما براعماً في معبده المتدلي من قوس قزح. كان يصغي حين يسكب الليل نبيذه العذب في أقداح الشعراء، لحفيف موجته الضبابية، السجينة بشعرها الكثيف كغابات الظلام:
يمتطي الزمن الرياح وأنت كسيح المطالع منذور للجراح مأخوذ بالفواجع تتأبط الكفاح تعقر خيلك والجذور تعصر الثرى والصخور ولا يرشح المدى إلا عويل الصدى والزوابع!
كان طفلاً، يعدّ النجوم ــ يُخطئ ويُعيد كما يُخطئ العشّاق بالقبل ــ على عتبتيّ انحسار الوقت المنثور حوله كالحصى، و الرهان على شمس النبوءة.
ربّاااه، شجرة الأرز التي لم يكن يغطيه ظلها، ارتدت طرحة العرس، وما زال يلمّ الحصى بعينين تسطّران الأفق، وبقلب للتحرّي! ويوماً ما، قذفته حكمة اللغة من الجبال إلى البحر، حيث المدينة التي ما زالت شرايينها ممتدة كشرايين ورقة تين، رغم صيحات المعابد التي شطرتها يوماً إلى نصفين. هناك، كان مطلع الصيف قد نفض عن الزهرة أكمامها، وخلع الحدود عن حدودها حتى الزر الأخير. وهناك، تحرّكت الشفاه السماوية بحروف الكلمة الأولى ...
بعد لقاءات كشرارات البرق، كبوح الكفّ للكفّ لحظات الوداع، وَقَعَ ضياعٌ هامت به الريح على وقْعِ تراتيل صلاة الغائب. ثم كان ظلم الذي جبل الصلصال بذاكرة بلا قلب، وبقلب مفطوم عن الصبر. هكذا توالى الليل والنهار، كنصٍّ مدوّن على رقيم بلا نقاط أو فواصل. هكذا أصبحت الفصول فصلاً تجمّع في يوم بلغ من العمر عتيّاً. ماذا أروي؟ خمس مرات أكملت الأرض دورتها الكبرى، وبين عذوبة النهر و ملوحة البحر برزخ لا يلتقيان! فسلام على كبرياء همزة كانت على الألف فصارت تزحف على السطر! خمس مرات جرّت أوراق الأشجار جثثها إلى مثواها الأخير، قبل أن تهلّ ليلة القدر بلا موعد، فظنّ أن الحمّى انحسرت عن صبح جرى دون تعرّج وشقّ هلوسات العتمة كما انشقّ البحر يوماً ومن بعده القمر. لكن النكهة التي فاحت من قََدَْر ليلة القدر، تآخت مع تشبُّثِ التراب بالماء قبيل خروج المارد من الزجاجة. فما إن جاب أسفار قطرة النور التي لم تُغمد ريشة بأريجها الحقيقي، حتى أكمَلتْ سرد الشمس إلى آخرها، و أيقن أن حروفه المغموسة بمحبرة المدائح لا يؤذن لها إلا رفع المراثي. فلقد سفحت الغربان ريشها بمائدة المسيح. والطفلة التي لم تُعمّد بالماء في طفولتها، عمّدها آخر مهرّجيّ السماء بوجوههم المغزولة من جلود الحرباوات، في صباها. في لحظة ليست محايدة تمادى الثلج في عينيكِ امتدّ لشلالك الذهبي وامتدّ مكوث ليلك إلى أقصاه أبعد من سفر التكوين أعلى من سقف كربلاء وما علاه فكيف لا تعلق سجينة البئر بدرجة سلّم دَبِقة؟
إيه... كأنه قدر محتّم، أن تبقى نقطة الخمر مسجّاة، فما إن استنهضها حتى تسربلت ذبيحة تحت السطر!
ماذا أقول لقلبي يا معذبتي النار ساكنةٌ في كل أوردتي أتاك يخفق في كفيّك مبتهلاً فعاد مع كفنٍ ترثي له شفتي
وحيداً في المقهى، يرشف قهوته الملوثة بقيء الوعد المنكوث به. و يا خيبة الأرض لو نكثت الشمس بوعدها. يا خيبة المؤمنين لو نكثت الجنّة بوعدها. ويا خيبة الله لو نكث الإنسان بوعده. خرج يتأبّطه التيه، كأنه يفتّش عنها أو عن نفسه، و في ساعة متأخرة من تلك الليلة، حملته أجنحة الصدفة للوقوف أمامها وجهاً لوجهٍ، على رصيف يخفق حتى مطلع الفجر. و دون أن تُخلخل سكينة الهواء المحصور بينهما أية قافلة أو حتى عربة صغيرة، ودون أن تنحلّ حلقة واحدة من السلسلة المزرودة على أقدام الصمت الصاخب، انقطع عقد العتاب بمديةٍ حجريّة، وتناثر العقيق المحلوج من دم البنفسج وقشّ السنابل. أدركتْ أن السؤال يختنق على شفتيه من هول الطعنة التي تطؤ الفراغ بحوافرها الثقيلة ككبائر المعاصي، وأيقن أن الجواب يرتجف على شفتيها قبل أن يُعلّق كمشنوق بحبل سرته. وجهٌ لوجه. فاض الإنسان بالإنسان. أرخت رأسها و قلبها الراسخ في قلبه - رسوخ الطفولة بالذاكرة - على صدره، محيطةً به كما تحيط المياه بالجزيرة، وأحاط بها بإيمانٍ صوفيّ الحواس، و بجوارح الغريق المعتصم بحبل نجاة. أسرى بها وأسرت به، يطويان ما يتلوه الماء في جريانه، و يطويان الفضاء سماء إثر سماء.
اخترقت صخور سجني رقصت حول دائرة الوجود ثملت على ضفة الكوثر لكنني لم أنسلخ عن التراب نار الألوهية كالثلج دم الإنسان زوابع من لظى و أنا القابض على الضفتيّن أُجدل كالضفيرة وانهمر مطراً وصواعقاً من القطبين إلى خطّ الاستواء.
فتح جعبته كما يفتح الفجر أبواب الصحارى، استلّ قلبه بعقيدة المؤمن بأن العالم مُختزلٌ بحجر الأوبّال الأسود أو حجر الفيروز. نفض عن رئتيه الشهيق، حدّق بالذاكرة الرميمة، و بالقلب المكوّر على رحاب الياسمين. لم تنكسر القوس، لم ينقطع الوتر، ولم ترتجف يد الرامي إذ رمى، لكن البرق الذي يشطر الظلمة نصفين، يولد توأماً مع المقتل! هكذا التقيا، شاب وفتاة، هكذا افترقا، رجل وامرأة. وهكذا استنفذ النهر آخر قطرة من خزّان صوته، وهكذا ارتدّ الصدى: وردةٌ تفتّحت في كأس. وردةٌ فتحت معاقل نسغها للزبد، وردةٌ أسلمت وجهها لخيال الماء. وردةٌ كثرت ظلالها. وردةٌ استدرجتها صهوات الرحى المحبوكة بتقاسيم النشاز. وردةٌ لفتحها أناشيد غبار تدثّرت بالغار. وردةٌ طافت عارية حول أنصاب زناة الردّة. وردةٌ غرّرت بها النكرات المُعتمّات بأنوار المعارف. وردةٌ أغوتها كُسيرات العنقود المدحرجة على أغصانها، كُسيرةً كُسيرةً. وردةٌ رقصت على فحيح اللحى المثقلة بنعال تقذف بها الشمس. وردةٌ سكرت بالمائدة السوداء وبالأساطير المسطّرة بالدم. وردة ٌ قطفت الحجارة من صدر الليل و أقامت حدّ الزانية الثيب على سماء الناصرة. وردةٌ ركلت الوجه المتّكئ عليه نفير الضحى. وردةٌ استلقت على ظهرها. وردةٌ تقاسمتها أظافر الغجر. وردةٌ خيّم فوقها العنكبوت. وردةٌ ماتت ولم تمت.
للشهيق رئة الأرض، للزفير جناحا نسر، وما بينهما هاوية تلجم الجهات في العمق، وتكتشف الأبعد في ينابيع الرماد. يا يسوع: أما ندمت وأنت على خشبتي الصليب؟ ماذا أروي ...؟ و من يروي قابضاً على السماء و حالماً برفعها إلى العينين اللتين ستعيدان للفردوس خضرتها، وحين عرج للمنتهى، هامت الهاوية بغابات الزمرّد، وهامت غابات الزمرّد بالهاوية؟ من يروي راشف الرحيق من الحريق ليرفعه يوماً بدنّ كفه إلى شفتي حبيبته، فتكسّر الدنّ على الدرجة الأولى وسال الرحيق مضرّجاً بخيبة الدنّان؟ ومن ...؟ لن أروي أكثر، كي٧ لا تجفل أسراب الأبجدية، فلا تغيث ملهوفاً إن استجداها.
#فراس_جركس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أنطون سعادة يُغتال مرتين
-
ويسألونك عن الدواعش
-
على أرصفة الصحافة الصفراء
-
داعش وأخواتها/ تقاطعات مصالح على حساب الدم السوري
-
سوريا على مذبح النبوءات
-
قطعان الأسد لا تمنح شرعية
-
من ثورة الكرامة إلى حروب خط الصدع
المزيد.....
-
دراسة تحليلية لتحديات -العمل الشعبي الفلسطيني في أوروبا- في
...
-
مكانة اللغة العربية وفرص العمل بها في العالم..
-
اختيار فيلم فلسطيني بالقائمة الطويلة لترشيحات جوائز الأوسكار
...
-
كيف تحافظ العائلات المغتربة على اللغة العربية لأبنائها في بل
...
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
الإبداع القصصي بين كتابة الواقع، وواقع الكتابة، نماذج قصصية
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|