بشير الوندي
الحوار المتمدن-العدد: 6166 - 2019 / 3 / 7 - 02:24
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
مباحث في الاستخبارات (155)
الاستخبارات كعلم متاح
بشير الوندي
------------
مدخل
------------
لاشك ان الانطباع الذهني الاول الذي يرتسم امام المتلقي لمفردة الاستخبارات هو في ارتباطها بالاسرار , وهي فكرة تستحليها اجهزة الاستخبارات القمعية والنظم الدكتاتورية او اجهزة الاستخبارات في الدول التي يطغى عليها الفساد , ذلك ان السرية كلما تعمقت فإنها تتيح الكسل والفساد المالي والاداري وعدم تحمل المسؤولية والتجاوز على حقوق الانسان وبالتالي فإنها , اي السرية , مالم تحدد بشكل واضح ومالم تختصر , فإنها تؤدي الى الخلل الامني والى الخراب , لذا فان مبحثنا هذا يسعى الى اعطاء تصورات واضحة عن حدود الاسرار .
----------------------------------
ثنائية الاسرار والاستقرار
----------------------------------
هناك تباين حقيقي في مجال التعامل مع مفردات العمل الاستحباري وعلم الاستخيارات من بلد لآخر , فهنالك بلدان تتعامل مع اية مفردة استخبارية بمنتهى الحساسية سواء في الاعلام او في الشارع , بينما نرى ان هنالك دول تتداول اخبار ومفردات الاجهزة الاستخبارية كما لو كانت تتعامل مع اخبار في الفن والمسرح.
الا ان الملاحظة الملفتة هنا , هو تزامن الاخفاق الاستخباري في الدول التي تعتمد التكتم وتجهيل علم الاستخبارات واحتكاره بيد السلطة , بينما نرى ان اي بلد فيه نجاح استخباري يمتاز بوجود هذا العلم واتاحته بلا حساسية .
ان السبب الجوهري في هذا التباين بين الدول في التعاطي مع الاستخبارات يكمن في طبيعة النظام السياسي الحاكم , فالانظمة الدكتاتورية تعتبر الاجهزة الامنية والاستخبارية هي سوطها الذي تؤدب بها شعبها وهي عينها على خباياه وحارسها ضد كل من يؤمن بتداول السلطة , ولذا فإن كل مايخص الاجهزة الاستخبارية من مبانيها الى شخوصها الى موازناتها المالية الى عملياتها , تعتبرها كلها طي الكتمان والسرية المطلقة , ولاشك ان مثل هكذا دول تكون ذات امن هش وتكون عرضة للهزات .
اما الدول التي تتميز بإستقرار نظامها السياسي والتي تؤمن بالديموقراطية وبتداول السلطة , فإنها تتتعامل مع الدوائر الاستخبارية بإعتبارها دوائر خاضعة للرقابتين الحكومية والشعبية بلا حساسيات , فنرى ان الصحافة فيها تكتب عن نجاحات واخفاقات الاجهزة الاستخبارية , وترى فيها تسابق المؤلفات والابحاث والدراسات في مجال الاستخبارات , بل وتطوير ونوع من الخصخصة لبعض تلك الاجهزة , ويصل الامر الى نشر وكشف اسرار الجهاز لكل دورة زمنية تنقضي من عمره, خلافاً للدول المتخلفة حيث لا تكشف الاسرار حتى يسقط النظام فترى الوثائق في الشوارع بأيدي المواطنين , وهو ما حدث في العراق والدول العربية , فلا كشف لأي نشاط استخباري سابق الا في حال سقوط الانظمة حتى اصبح المواطن لايفرق بين علم الاستخبارات وبين المعلومات لان الاثنين سر وحرام.
ومن هنا نرى ان الدول المتقدمة الراسخة في انظمتها السياسية تكون مستقرة امنياً لأن الجهاز الاستخباري فيها غير قمعي ومراقب من قبل الاجهزة الرقابية ويخضع لمعايير النجاح والفشل الوظيفي وليس الولائي , ومن ثم تراه يسعى الى استتباب الامن ومن ثم ترى ان هذا النوع من البلدان مستقر امنياً.
--------------------
لائحة الاسرار
--------------------
في بلداننا تطول لائحة الاسرار لتشبه معلقات الشعراء الجاهليين , فهي تشمل بيت الرئيس ومطبخ الرئيس وعائلة الرئيس وميزانية الرئيس وتلفون الرئيس وسيارات الرئيس وزوجة الرئيس وتجارة الرئيس واموال الرئيس واصدقاء الرئيس , وتكبر الدائرة لتشمل كل افراد عائلته وحاشيته وقيادات حزبه , فقوائم الممنوعات تصل الى كل منفذ والويل لمن يحمل كاميرا امام بين صديق ابن الرئيس !!!, اما في الدول ذات الديموقراطيات الراسخة فمن الممكن ان تأخذ صورة امام بيت الرئيس وتسب الرئيس وتفضح الرئيس وتنتقد الرئيس وتصرخ بوجه الرئيس دون ان تشعر انك قد هتكت ايّة اسرار .
ان الاسرار الحقيقية في العمل الاستخباري هي الخطط والآليات والبرامج السرية والقرارات الامنية والعمليات الخاصة , اما النتائج التي ينتج عنها العمل الاستخباري فكثيراً ماتتعرض الى التشريح والنقد العلني من قبل الاعلام دون خوف , لأن الجهاز الاستخباري بالنتيجة جهاز حكومي موازنته ومرتبات افراده مدفوعة من دافعي الضرائب وموازنات الدولة .
ان الاشكالية هنا تتعلق في الخلط والتشويش في تفسير الاسرار , وفي تعريف الاجهزة الاستخبارية , فنحن نخلط بين الاسرار وبين التستر بغطاء الاسرار , فمن حق الناس ان تعرف اموال الرئيس وعدد حماياته واجور سفره ومخصصاته وعائلته لأنها أموال عامة , فمابالك بدوائر حكومية تنفق موازنات هائلة كالاستخبارات , هنا يكون معيار الرقابة وهنا يعمل الجهاز كخلية نحل من اجل النجاح وضبط الامن وابعاد الخطر , لأن نجاحاته ستكون مبررة لمصروفاته.
ان الاسرار الحقيقية في الاستخبارات تتركز في المعلومات عن العدو كرقم هاتف ابو بكر البغدادي حيث يعتبر سراً مهماً لايجب ان يشعر احد ان الجهاز الاستخباري يعرفه كي يستطيع مراقبته , وكذا محل اختفاءه او خط تمويل داعش او وكر او مثابة او اسماء مجموعة او خطة لهم او كدس عتاد او مصنع متفجرات او ارتباطاتهم الخارجية او ملف فساد مسؤول كبير تحت المراقبة او احداثيات العدو او ملفات عصابات المخدرات او زعامات الفساد المالي التي تحت المراقبة او ملفات مصادرنا ومخبرينا , اما حياة الرئيس والوزير فيجب ان تكون تحت المجهر لانه موظف حكومي يعمل لدى المواطن.
------------------------
الاسرار والجمود
------------------------
ان احتكار علم الاستخبارات يجعله غير قابل للتطوير , فعلم الفيزياء النووية متاح ويدرس لأي شخص يذهب لجامعات الغرب لكن السر في الصواريخ النووية فقط , وكذا الأمر في الاستخبارات كعلم , ففي الدول المتقدمة اذاما واجهت الاستخبارات مشكلة خاصة في مجال التكنلوجيا الاستخبارية او في دراسة جيوسياسية لبلد العدو فإنها تدفع بالقضية الى الجامعات للحصول على اجوبة او ابحاث او نتائج , كما ان الكثير من الجهد الاستخباري مخصخص لاسيما في مجال الهكرز والمراقبة التكنلوجية , بل ان اغلب قادة الاجهزة عند التقاعد يكتبون مذكراتهم وادق التفاصيل السرية , وهو الامر الذي ليس واردا لدى اي قائد استخباري عربي الا مرتين او ثلاثه دفاعا عن النفس فقط , كما في حالة صلاح نصر او سواها .
وفي احصاءآت عالمية عن الدول العشر الاكثر نشراً عن الاستخبارات منذ عام 1986 والى الآن فانها خلوٌ من اي بلد عربي وتقع الولايات المتحدة الامريكية في مقدمتها .
ان اغلب الكتب عندنا عبارة عن قصص جواسيس تصلح سناريو لفلم مصري او مسلسل عربي , واتذكر ان احد اصدقائي اشترى اربعة مجلدات لموسوعة عن المخابرات لمؤلف عربي وقد ظننت انه قد وقع على كنز معلوماتي قيم واذا به خال من اية معلومات ويحوي على قصص اشبه بمغامرات خيالية , فالمكتبة العربيه شحيحه جدا في هذا المجال وما يكتب في الشوون الامنية او العسكرية او الاستخبارية محدود التداول ومحدود التنوع.
ان الكثير من رسائل الاركان في الكليات العربية تحجب اذا كانت تحمل موضوعاً استخبارياً , بينما يُحتفى فيها في الغرب حيث تنشر وتناقش وتثرى مما يساعد في تقدم علوم الاستخبارات.
ولقد زاحمت شبكه النت ووسائل التواصل الجهد الاستخباري كثيراً ووضعت اجهزة الاستخبارات في مازق بسبب سرعة تبادل المعلومات وانتشارها والحجم الهائل من المعلومات المتبادلة وجعلت من السهل ايصال اية معلومة من المواطن الى الرئيس او القائد , وهنا طرح الغرب الكثير من الاسئلة والاستفسارات للحصول على دراسات لفك الاشتباك بين وسائل التواصل والجهد الاستخباري من خلال التفريق بين الاستخبارات كمعلومات وكعلم .
ولو قارنا اي جهاز استخباري عربي مع الاجهزة الغربية لأصيب القاريء بالصدمة مما يراه من كشف للاسرار في الجانب الغربي عن التعتيم في الجانب العربي , لأن القاريء العربي قد عُبِّيء ليعتبر اي حديث عن الاستخبارات هو من الاسرار .
فعلى سبيل المثال ترى أن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (Central Intelligence Agency) لها موقع إلكتروني تنشر عليه وثائقها المرفوع عنها السرية، فضلا عن بعض الكتب مثل كتاب (علم نفس التحليل الاستخباراتي) , كما تصدر وكالة الاستخبارات الأمريكية مجلة فصلية بعنوان (دراسات في الاستخبارات – Studies In Intelligence) تنشر خلالها دراسات تاريخية عن عمليات استخبارية في الحربين العالميتين الأولى والثانية وحرب فيتنام ومكافحة حروب العصابات وغيرها، والعديد من المقالات في الشأن الاستخباراتي ، عدا عن تقديمها لملخصات عن أهم الكتب الجديدة الصادرة في مجال الاستخبارات داخل أميركا وخارجها، والتي تتناول كل ماهو جديدفي علم وعالم الاستخبارات.
أما قادة أجهزة الاستخبارات في الغرب عموما , فانهم يسارعون الى كتابة مذكراتهم التي تحوي الكثير من الاسرار والتحليلات كما في كتاب مدير وكالة الاستخبارات السابق “جورج تينت” (في قلب العاصفة- السنوات التي قضيتها في السي آي إيه) او كتاب فن التجسس لمسؤول العمليات السرية بمركز مكافحة الإرهاب التابع للسي أي إيه “هنري كرامبتون” وغيرهم , كما ان الاستخبارات تدرس كعلم في الجامعات الأمريكية والغربية حيث يدرسون أصول التحليل الاستخباراتي ونظريات الاستخبارات، ومكافحة التجسس والتخريب والإرهاب، والأمن القومي، والمشاكل التي تعتري منظومة إدارة الأجهزة الاستخبارية من قبيل التسييس وتجاوز السلم الوظيفي والتخطيط والميزانية والبرامج، والتعامل مع وسائل الإعلام، وغير ذلك كما تقدم الاجهزة الاستخبارية منح لبعض منتسبيها للدراسة في الجامعات في مجال الفكر السياسي والعسكري والتاريخ وغير ذلك , كما تقوم الجامعات الرصينة بإصدار العديد من الدراسات الاكاديمية في علوم الاستخبارات .
اما في الانظمة الشرقية فنرى الصورة معكوسة تماما حيث ان التفوه بجملة استخبارية او كتابة مقال نقدي عن الاستخبارات تكون عواقبه وخيمة ويتهم كاتبه بالجهل ويُسئل بكل بساطة من انت حتى تتكلم في الاسرار ؟ وكأن علم الاستخبارات حكر على مجاميع الاستخبارات فقط حيث يتم ترسيخ المعادلة التي ترى ان أغلب الدول غير الديمقراطية تمنع علم الاستخبارات من التداول وتجعله ملك الدولة , اما في الدول المتقدمة يعتبر علما كسائر العلوم وهو الامر الذي يفسر شحة الكتب التي تتناول هذا العلم في مكتباتنا , واغلب ما يؤلف عن مفاهيم امنية وعسكرية يبقى محدود التداول او يدرس فقط في الكليات والمعاهد العسكرية والشرطوية .
------------------------
هتك هالة الاسرار
------------------------
ان ماندعو اليه ليس هتك اسرار الاجهزة الاستخبارية المعلوماتية وانما ان نرسخ مبدأين مهمين هما :
1- التفريق بين العلم والمعلومة , فان كانت هنالك بعض جوانب المعلومات الاستخبارية لابد ان تكون سرية كي لاننبه العدو اليها , فإن الاستخبارات كعلم لابد من اتاحته للجميع .
2- ان اتاحة علم الاستخبارات للجميع اعلامياً واكاديمياً سيثري هذا العلم ويطور المنظومة الاستخبارية .
3- ان هيمنة غطاء السرية والتشدد فيه يثير الريبة وقد يخفي تحته الكثير من الفشل والفساد بينما توفر الشفافية الكثير من سبل التطوير الاداري والرقابة المالية .
4- ان السرية الشديدة المبالغ فيها تؤدي الى استخدام الاجهزة الاستخبارية كأجهزة قمعية تقوم بمهام لاعلاقة لها بها لصالح نخب وجهات خاصة , بينما الشفافية تجعل الاجهزة الاستخبارية تتبارى في دفع المخاطر عن البلاد وفي استتباب الامن كمهمة اساسية ووحيدة لها وليست مطيّة لحزب او حاكم .
--------------
خلاصة
--------------
الاستخبارات علم ومعلومات , فما كان علماً فلابد من اتاحته للجميع وهو امر سيؤدي الى تطور الاجهزة الاستخبارية , اما ماكان من عمليات ومعلومات , فلابد من حصر الاسرار في اضيق جانب وان لاتكون السرية على حساب الشفافية كي يكون الجهاز الاستخباري قابلاً للمحاسبة والمراقبة وان لايقاد في مغامرات الصراع على السلطة , والله الموفق.
#بشير_الوندي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟