|
حين تعمى المشاعر وينهض الوحش القابع في الاعماق قراءة في رواية -العمى- لجوزيه ساراماغو
عبدالله مهتدي
الحوار المتمدن-العدد: 6158 - 2019 / 2 / 27 - 22:36
المحور:
الادب والفن
حين تعمى المشاعر وينهض الوحش القابع في الأعماق عن رواية العمى لجوزيه ساراماغو 1- لا تغني هذه المحاولة في القبض على المعنى عن قراءة الرواية،وسبر أغوار هذا المتخيل السردي الذي يحفر عميقا في كينونة الذات والوجود ،فقد تكون هذه القراءة قد زادت الالتباس التباسا،قد حفرت على الهامش،قد أساءت النية،وذلك هو المبتغى وهو المرام، مادام وكما قال عبد الفتاح كيليطو:"أن تقرأ معناه أن تسيء الفهم". 2- يرى كونديرا أن الرواية هي سيرة الكائن المنسي،أما رواية "العمى" لجوزي ساراماغو الكاتب البرتغالي القليل الصخب،هي بالضبط سيرة الكائن الهش الذي يسكن أعماقنا،هذا الكائن الذي ينتظر شرارة القداحة كي يشهر بشاعته وسطوته وقذارته،على أن المسافة بين الهشاشة والنسيان قد تكون نفسها المسافة ما بين الإبصار والعمى،فهل استطاعت رواية "العمى" أن تدخل القارئ في لعبة اكتشاف الذات؟هل تحولت لعبة العمى نفسها إلى كاشف لأعطاب البشر ولعاهاتهم؟ وهل العمى هو عمى البصيرة لا عمى البصر كما في القول المأثور،عمى المشاعر والأحاسيس؟ 3- تبتدئ الرواية بسرد حالة سائق سيارة أصابه عمى أبيض ،فجائي،وهو يقود سيارته في الطريق العام،بعدها ستنتقل العدوى كالنار في الهشيم ،من عيادة طبيب العيون لتصبح المدينة كلها مملكة عميان،استعمل جوزيه ساراماغو العمى كاستعارة،كمجاز ،ليدفع من خلاله الإنسان إلى الكشف عن الوحش الكامن فيه،إلى الإعلان عن صفات التوحش المضمرة والتي تنتظر شروط التخصيب اللازمة كي تتسلل من حالة الكمون،تتشابك مسارات السرد لتأخذ القارئ بكثير من الدهشة والألم إلى سبر أغوار مصائر حيوات تتعرى أمام خبلها،عتهها،قذارتها،لتصدح الرواية بتلك الصرخة المدوية:" إذا كنا غير قادرين على العيش ككائنات بشرية،فدعونا على الأقل نفعل كل ما بوسعنا كي لا نعيش كالحيوانات " 4- مسخ جوزيه ساراماغو لا يشبه مسخ كافكا،إنه مسخ جماعي فادح ورهيب،فالعمى الأبيض أصبح حالة عامة،ما دفع الحكومة إلى تجميع "المرضى"،والمحتمل أن يكونوا "مرضى"، في مشفى للمجانين ،تحت حراسة جنود أعطيت لهم أوامر صارمة كي يطلقوا النار على كل من يحاول كسر الحواجز،سيحشر العميان كالحيوانات ، مجبرين على دفن موتاهم وإلا قتلتهم نتانة الجثث المتفسخة، فهناك..سيتصارعون على كل شيء من أجل البقاء،المراحيض،الطعام،الأسرة،الغرف...وستفتح الحكومة ملاجئ عديدة حين يكثر عدد العميان، في المصانع المحجوزة،والكنائس المهملة،والمخازن الفارغة،والملاعب،فالعمى يتناسل كالوباء ،وكل حادثة عمى مفاجئ قد تؤدي إلى كوارث،لكن الكارثة الحقيقية هي عمى المشاعر،هذا التوحش المطاطي الذي حول البشر إلى كائنات تتقاتل فيما بينها مقابل لقمة طعام، وعرى على القذارة التي تسكن الدواخل. 5- وحدها زوجة طبيب العيون من بقي في مأمن من العمى الأبيض،تصنعت العمى لترافق زوجها،ثم وجدت نفسها عامل خلاص للمجموعة التي كانت تقودها في رحلة الوجع والتيه،حيث القذارة احتلت جميع الأمكنة،والناس أصبحوا يسبحون وسط الغائط، حيث انبتقت سلطة القوة والغلبة لتحتكر الطعام،فمن يريد أن يأكل عليه أن يدفع ما يملك من نقود،لعصابة اللصوص العميان التي تشكلت في مشفى المجانين،هؤلاء الذين تحولوا إلى قتلة ،يفرضون قوانينهم،وحين استولوا على ممتلكات المجموعات الأخرى،فرضوا عليهم تقديم نسائهم لحفلات اغتصاب جماعي بشعة، فالجسد مقابل الطعام،سيكون بمثابة "ثمن العار" الذي سيؤدي إلى نشوب حرب ضارية بين المعسكرين، لن تضع أوزارها إلا حين سيندلع حريق هائل يسوي المشفى مع الأرض،سيخرج العميان ليجدوا المدينة تغوص في عمى معمم،كأنها صورة مكبرة عن مشفى المجانين . 6- تقول الرواية على لسان أحد شخصياتها :بدون الأعين تبدو المشاعر شيئا مختلفا "،لكن ألا تبدو الأعين الحقيقية هي المشاعر التي لا تعمى، وسط هذه المتاهة من الظلمة البيضاء؟؟؟؟ هذه المتاهة التي أصبح الناس فيها يحلمون بأنهم صاروا حجارة،أشباح هائمة في الطرقات ،ممددة أياديها في الفراغ ، لا ماء ،لا كهرباء،لا طعام،لا حياة،لا شيء سوى أجساد هائمة في مملكة الظلام ،وسط القاذورات والعفن وجثث العميان التي تنهشها الكلاب ولن تجد وقتها الكافي كي تتفسخ..ففي مملكة العميان تفقد الأمكنة حضورها ،يصبح الزمن مجرد خط رتيب،وحتى الأسماء تصبح عديمة الصلاحية ، تماما مثلما عبر عن ذلك كاتب ما في الرواية حين سألوه عن اسمه قال : "لا يحتاج العميان إلى اسم ،فأنا هو صوتي وكل ما عداه لا يهم ".ولعل ذلك هو الدافع كي تقدم لنا الرواية شخصياتها بلا أسماء،وأن تكتفي بصفات محددة: الطبيب ، زوجة الطبيب ، الكهل دو العين المعصوبة ، الطفل الأحول ، الأعمى الأول ، الفتاة ذو النظارة السوداء ، مساعد الصيدلي ، السفاح المسلح، عاملة الفندق ، المرأة التي تعاني من الأرق..... 7- تحتفي رواية " العمى " بالمرأة من حيث الدور التي قامت به على طول مسار السرد ، فزوجة الطبيب وحدها بقيت خارج دائرة العمى الأبيض ، لتعيد صنع الحياة، لتؤسس للأمل في الخلاص من الجحيم، لتحتضن الضوء الذي به سيرى العميان في دواخلهم الشر الكامن في الإنسان،ويحاولوا انتزاعه كي يروا،فالمرأة هي التي حثت مجموعتها على أهمية التنظيم من أجل البقاء على شرط الحياة ، وهي التي قتلت السفاح المسلح قائد مجموعة اللصوص العميان الذين استحوذوا على كل شيء،فجعلت حدا لغطرستهم،وشجعت الباقين على المقاومة ، وهي التي قدمت جسدها لطقس اغتصاب جماعي مقابل أن يأكل الرجال ، وهي التي أشعلت الحريق في مشفى المجانين ، وهي التي لم تنسى أهمية القراءة حتى في أحلك الظروف فكانت تقرأ لمجموعتها ،تسمعها "موسيقى الكلمات" ، وهي التي لخصت بكلمات شفافة ، نافذة ، حكاية العميان حين برأوا من عماهم الأبيض، إذ قالت : "لا أعتقد أننا عمينا ، بل أعتقد أننا عميان ، عميان يرون ، بشر عميان يستطيعون أن يروا ، لكنهم لا يرون " حقا إننا لا نرى ،لا نستطيع أن نرى كلما تركنا "مشاعر " التوحش تتمدد في دواخلنا لتعلن عن شيخوخة الوحش الكامن في الأعماق.
#عبدالله_مهتدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كخيط الريح
-
خارج السياق
-
الظل
-
سقوط
-
هدنة ما
-
مجرد أسئلة حول حملة المقاطعة
-
دلالات الأسود في أعمال فاطمة إسبر الفنية
-
لا أحد
-
رسالة قصيرة إلى عهد التميمي
-
الأطرش
-
على حين غرة
-
شذرات-(أسرار خبيئة)
-
كلما حبل المكان بي ،أنجبتني الهوامش
-
خسرت نزالك مع حادث الموت ،وربحت نفسك
-
في حضرة لعشير
-
ليس دونك من بلاد
-
عن -الحب في زمن الشيميو- لزهير التيجاني-محاولة في التأمل-
-
شعرية الحب وتشظي الذات في رواية-لم تكن صحراء- للكاتبة المغرب
...
-
قراءة في منتوج فايسبوكي/-شيء من السياسة//وحتى لا ننسى-
-
لآسفي..أدمنت هذيان الليل
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|