|
هاجيمي.. أسير الحلم والذّاكرة في رواية -جنوب الحدود غرب الشّمس- للروائي هاروكي موراكامي
ريتا عودة
الحوار المتمدن-العدد: 6149 - 2019 / 2 / 18 - 11:44
المحور:
الادب والفن
(هاجيمي) بطل رواية (جنوب الحود غرب الشّمس) هو طفل وحيد لوالديه، أحبّ فتاة تُدعى ( شيماميتو) وحيدة لوالدَيْها، عرجاء منذ كانا في الثانية عشرة من عمره. ثمّ، ذهب كلّ منهما الى مدرسة ثانوية أخرى وحيّ آخر فافترقا. تعرّف على عدّة فتيات عَبَرنَ حياته ك ( أزومي) التي خانها مع ابنة عمها فأدّى الى تحطيمها نفسيا لدرجة أنّ أطفال الحيّ أصبحوا يخافون من شكلها. ثمّ، تزوج من (يوكيكو) التي حاولت الانتحار بسبب علاقة حبّ فاشلة. زواجه منها كان هادئا واعتبرته هي سعيدا، أمّا هو فقد خانها في علاقات عابرة مع بعض النساء في فترات حملها بابنتيهما. كان يبحث عن حبيبته في الأخريات. ظلّ أسير الحلم والذاكرة. حين التقيا في الكوخ بعيدا عن ضجيج العَالَم أخبرها:
" لدي عائلة وعمل ولا شكاوى أيضا. يمكنك القول إنّني سعيد. لكن عرفت منذ قابلتك أن هناك شيئا مفقودا. السؤال المهم ما هو هذاالشيء المفقود. شيء ناقص فيَّ وفي حياتي. وذلك الشيء الذي فيَّ جائع دوما وعطشان. لا زوجتي ولا طفلتيَّ يمكنهما سدّ هذا الفراغ. في العالم كله ليس هنالك سوى شخص واحد يمكنه فعل ذلك. أنتِ، والآن فقط أُدرك كم كنتُ تافها وكيف كنت أجوع وأعطش طوال كل تلك السنوات. لا يمكنني العودة الى ذلك العَالَم.) ص. 201
ظلّ يحلم بحبيبته الأولى (شيماموتو) ويقارن بين كلّ امرأة تعبر حياته وبينها، الى أن التقيا وهو في ال 37 من عمره فاتخذ قراره أن يتخلّى عن زوجته وابنتَيه ويعيش مع حبيبته:
( أحبُّكِ، ولا شيء يمكن أن يُبدّل ذلك. مشاعر كهذه لا ينبغي أن أهملها أبدًا. فقدتُكِ مرات عديدة، وما كان عليَّ أن أترككِ. لقد علّمتني الشهور الأخيرة هذا. أحبُّكِ ولا أريد أن أترككِ) ص. 200 كانت شيماموتو قد قرأت عنه في الجريدة أنّه افتتح بارا فأتته بعد 25 سنة غياب. كانت دوما تأتي والمطر. ثمّ أختفت لمدّة ستة شهور. أخبرها عن غيابها: ( بعد أن ذهبتِ فكرت فيكِ مدة طويلة. كل يوم لمدة ستة أشهر من الصّباح وحتّى الليل. حاولت التوقف لكني لم أستطع. وتوصلت الى هذه النتيجة . لا يمكنني العيش من دونك، ولا أريد أن أفقدك مرّة أخرى. ) ص. 199
أقاما علاقة جنسية صاخبة في كوخ له لكنّها في الصباح اختفت من حياته. نهض فلم يعثر لها على أثر. ظلّت تفاصيل حياة (شيماموتو) غامضة. كلّ ما عرفه عنها هو أنّه كان لها ابنة وحيدة، نثرتْ رمادها، وهما معا، في النهر. أدركنا أنّها لم تكن سعيدة في حياتها كما بدت في الصورة رغم كونها كانت ترتدي دوما الملابس الفاخرة والحلى. وأخبرته أنّها مُقيّدة: ( عندما أستطيع القدوم لرؤيتك، سأفعل. لكن حين لا استطيع، معنى ذلك انّني لا أستطيع. لا أقدر على المجيء وقتما أشاء.)ص. 200 لكن، لماذا اختفت شيماميتو من حياته؟ بقي السؤال عالقا، في فكر هاجيمي وفي فكر القارئ الذي تُغادره الرواية ولا يقوى على مغادرتها فيصبح فجأة أحد أبطالها المُترتب عليه أن يجمع الاشارت التي تُفسّر سبب اختفاء شيماميتو. في الكوخ أخبرته شيماميتو: ( أنتَ الوحيد الذي أحببته في حياتي. لا أظنّ أنّك تُدرك كم أحبّك. لقد أحببتُكَ منذ أن كنتَ في الثانية عشرة. كلَّما حضنني شخص آخر، كنتُ أفكّر فيك. هذا سبب عدم رغبتي في رؤيتك مرّة أخرى...لكن لم أستطع البقاء بعيدة عنك...) ص. 202 من هم الأشخاص الآخرين الذين كانوا يحضنونها؟ لم تذكُر ابدا أنّها متزوجة. لمَ تخاصمت مع والدتها وافترقتا؟ من أين كانت تأتي بالنقود لترتدي أثمن الملابس والحلى، من أين حصلت على الخبرة الجنسية التي ظهرت من خلال ممارستها العلاقة الحميمة مع هاجيمي في الكوخ، من هو الرَجُل الذي سلَّمهُ مُغلّفا يحتوي على مبلغ كبير من المال كي لا يطاردها في الشوارع، حين لمحها مرّة فقامت باتصال هاتفي ظهر من بعده الرَجُل ودفع له المبلغ. حين عادت لهاجيمي أخبرته أنّه عندما طاردها في الشوارع لم تُدرك أنّه هو. كلّ هذه التفاصيل تأخنا الى استنتاج واحد هو أنّ شيماميتوالساحرة الجمال كانت على ما يبدو تعمل في الدعارة. هذا يُفسر ما قالته له في الكوخ ليلة قبل اختفائها: ( اذا أردتني ألاّ أذهب مرة أخرى، عليكَ قبولي كما أنا. كل شيْ. كلّ ما أحمله معي، كلّ ما يتعلّق بي...هل تفهم ذلك، هل تفهم ما معنى ذلك) ص. 201 أكانت تشير إلى اضطراره القبول بماضيها السيء؟! بعدما اعترف أحدهما للآخر بحبّه، وأخبرها أنّه قرر أن يترك كلّ شيء ويتبعها، بعدما مارسا علاقة جنسيّة صاخبة. قال لها: ( أريد أن أعرف كل شيْ عنكِ. ما نمط الحياة التي تعيشينها وأين تسكنين. هل أنتِ متزوجة أم لا. كل شيْ. لا مزيد من الأسرار، لأنّي غير قادر على تحمُّل أكثر من ذلك.). قالت: "غدا سأخبرك كلّ شيْ. لا تسأل حتّى ذلك الوقت.... اذا أخبرتك الآن، لن تستطيع العودة الى ما كنت عليه من قبل.")ص 209 اختفت شيماميتو من حياته وهو في قمّة حبّه لها واستعداده أن يتخلّى عن كلّ شيء لأجلها، لكي لا تشوّه صورتها في خياله، وإلأ ما معنى قولها: ( اذا أخبرتك الآن، لن تستطيع العودة الى ما كنت عليه من قبل؟) أجّلت شيماميتو موضوع اخباره عن ماضيها كي لا تفقده ولا تُفسد تلك اللحظات ولكي تحمل معها أجمل الذكريات منه. مضت شيماميتو غربَ الشمس، كالفلاح الذي حكت له عنه في الكوخ في لقائهما اليتيم:
( حاول أن تتخيّل التالي: أنت فلاح وتعيش وحيدا في تندرا سيبيريا. تحرث أرضك كل يوم، ولا ترى شيئا على مدّ البصر. الى الشمال أفق،والى الشرق أفق، والى الجنوب والغرب المزيد من الشيْ نفسه. كلّ صباح حين تُشرق الشّمس من الشرق، تذهب للعمل في حقلك. حين تُصبح عموديّة فوق رأسك تأخذ فترة راحة لتتناول الغذاء. عندما تغوص في الغرب، تذهب الى البيت وتنام) ص. 198 ( تصوّر أنّك هذا الفلاح.... ثمَّ، في يوم ما يموت شيْ في داخلك) ص. 198 شيئا فشيئا يتضح لي أنّ ما هذا الفلاح يحمل دلالات رمزيّة. ما هذا الفلاح إلاّ (شيماميتو) ذاتها ومصيرها كمصيره:
( يوما بعد يوم تراقب الشمس تشرق من الشرق، وتمخر السماء، ثمّ تغوص في الغرب، وأحيانا تنكسر فيك، وتموت. تُلقي بمحراثك جانبا، ورأسك فارغ تماما من الأفكار، تبدأ بالسير نحو الغَرب. تسير نحو أرض تمتدّ غرب الشمس. كشخص مسكون، تسير يوما بعد يوم، من دون طعام أو شراب، حتّى تنهار على الأرض وتموت.) ص. 199 هي شيماميتو التي كانت حياتها روتينيّة كحياة هذا الفلاح. هي التي رحلت بعيدا عن حبيبها. سارت غرب الشّمس. هي التي ستنهار وتموت بعيدا عن شمس حياتها: (هاجيمي). أمّا هاجيمي، ومعنى اسمه باليابانية: (بداية جديدة) فقد حاول أن يبدأ (حياة جديدة) بعدما أدرك أنّه كان يعيش في فراغ تأقلم معه لأجل زوجته التي يعتبرها والدها: (امرأة صالحة) ولأجل ابنَتَيْهِ. يخبر زوجته التي اكتشفت علاقته بحبيبته فساءت علاقته الزوجية بها: ( أكافح لأصبح شخصا آخر.. أتمسّك بحياة جديدة وشخصية جديدة.. هي محاولة لإعادة تكوين نفسي... أعتقد جادًا أن بإمكاني الهرب من نفسي... لكنّي أصل دوما الى طريق مسدود، أينما ذهبتُ أبقى نفسي. ما هو مفقود لا يتغيّر أبدًا... العناصر المفقودة نفسها تعذّبني بجوع لا يمكنني اشباعه أبدًا...مع ذلك إذا وُضعتُ في الموضع نفسه مرّة أخرى، فقد أقوم بالشيْ نفسه ثانية. قد أتسبّب بجرحك ثانية. لا أستطيع أن أعِدَ بشيء...."ص 232"... أعلم أنّي لا أريد أن أتركك. لا أدري حتّى إن كان هذا شيئا أستطيع اختياره... لكن هنالك شيء وراء ذلك يمكن رؤيته والإحساس به. لندعوه مشاعر أو إمكانيات، ينبع من مكان ما ويختلط بداخلي. شيء لا أستطيع اختياره أو أستطيع تقديم إجابة عنه) ص. 233 ما لم يتمكن هاجيمي من تفسيره هو الصراع بين العقل والقلب. العقل يُملي عليه أن يبدأ بداية جديدة مع زوجته أما القلب فهو أسير الذّاكرة والحلم. أخبر زوجته: ( يوكيكو، غدًا لنبدأ ثانية. اليوم تأخر الوقت. أريد أن أبدأ بالطريقة الصحيحة في يوم جديد جدا) ص. 235 ثمّ، يكرر ثيمة ( البداية الجديدة) أكثر من مرّة: (أريد أن أبدأ حياة جديدة غدا. ما رأيك؟) ص 236 (لقد بدأ اليوم الجديد..)ص 237 (كنتُ في غمرة أن أصبحَ شيئا جديدا..) ص 237 (البنتَيْن...كانتا في أمَسّ الحاجة إلى اليوم الجديد) ص. 238 (أضع يدي على جِسمَيْهِما الدافِئين لأعلن بداية يوم جديد.) ص. 238 مع قفلة الرواية نتساءل ونحن نتذّكر أنّ اسمه: هاجيمي، يعني في اليابانيّة "بداية جديدة" ترى هل سينجح في إلغاء مشاعره ليبدأ حياة جديدة كما وعد نفسه وزوجته أم انّه سيظلّ أسير الذّاكرة والحلم..! ( على مدى البصر يوجد الفراغ ببساطة... فراغ. كنتُ أعيش في الفراغ من قَبْل وأجبرتُ نفسي على التأقلم..... لا أحد سينسج أحلاما لي- لقد حان دوري كي أنسج الأحلام للآخرين..إذا كان لحياتي أيّ معنى، فهذا ما عليَّ فعله.) ص 236 هل سيحيا كروبوت عديم المشاعر، ينسج أحلام الآخرين ولا أحد ينسج أحلامه؟ وهو جالس في المطبخ يحلم ببداية جديدة، رأى المطر ينهمر على البحر. كان المطر دوما يأتي بشيماميتو. لم يستطع النهوض: ( خانتني قُوى جسدي كلّها، كما لو أنّ شخصا تسلل خلفي وسحب سلك الكهرباء من الحائط) ص 238 هذا الوهن الجسدي يشير إلى عدم قدرته على النهوض من مشكلته للبدء بداية جديدة. لذلك...حين انهمر المطر، الذي يتداعى في تفكيره مع شيماميتو، قفل الروائي الحكاية بجملة مفخّخة: (رأيتُ في كنف تلك العتمة، المطر ينهمر على البحر. ...الى أن أتى شخص ووضع يدًا بخفّة على كتفي، كانت أفكاري تدور حول البحر.) ص 238 على الأغلب هي زوجته التي وضعتْ يدها على كتفه ، لكنّه سيظلّ ينتظر عودة حبيبته ويظلّ يتوقّع عودتها. على الأرجح، اعتقد هاجيمي أنّها شيماميتو التي وضعت يدها على كتفه. لذلك، لم يذكُر الروائي من هو هذا الشخص، ليعزّز لدى القارئ فكرة الإنتظار التي لن تفارق ذلك العاشق. سيظل ينتظر عودة حبيبته رغم قراره أن يبدأ بداية جديدة وذلك لأنّه ما من إنسان عاطفي كهاجيمي يستطيع أن يجعل صوت العقل أقوى من صوت القلب.
______ بقلم: الشاعرة الفلسطينيّة ريتا عودة 18.2.2019
#ريتا_عودة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اختلاط الواقع المرير بالفانتازيا في رواية: (خان الشابندر)
-
((أنا النّخلة العراقيّة)) مع ترجمة للانجليزيّة
-
(( لا، لن أُنْسَى..!))
-
((لَنْ أَسْقُطَ مِنْ سِفْرِ الحَيَاة))
-
(( نسختُ من مملكتي كلّ الفرسان المُؤَجَلين))...ومضات
-
(( أسئلة ما قَبْلَ الانْفجار ))
-
(( أنا النَّخْلَة العِرَاقِيَّة ))
-
( مَنْ لِي سِوَاك...!َ ))
-
أحلام غير مؤجَّلة
-
(( أحلام غير مُؤَجَّلة))
-
(( لكَ المَدَى...))
-
((وُلدتُ محمّلة بالهَمِّ النّسَويّ))...مقابلة صحفيّة
-
(( مَنْ شَوَّهَ حُلُمَ الله..!))...ومضات
-
(( فوَّضتُ قلبي لكَ حبيبي...)) ...ومضات
-
(( رَجُلُ الحُلُم ))
-
(( يا أَيَّتُها الرُّوحُ العَاشِقَة...))...ومضات
-
(( لَعْنَةُ الطّائِرَاتِ))
-
أنتَ جُنوني...ومضات
-
فَخُّ الفِرَاق...ومضات وسرد تعبيري
-
((الفِرَاقُ الرَّجيم..2))
المزيد.....
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|