حسين عجيب
الحوار المتمدن-العدد: 1527 - 2006 / 4 / 21 - 09:57
المحور:
الادب والفن
باستثناء لقاء عابر مع رشيد الضعيف, تمنيّت لو أنه لم يحدث, لحسن الحظ لم ألتقي بأي من مشاهير الدرجات الأولى والثانية حتى اليوم. مع أن نصف أبناء جيلي ووسطي السياسي_الثقافي يتحدثون بلا هوادة عن علاقتهم الشخصية والحميمة برياض الصالح الحسين وبعد اليوم سيتحدثون بنفس الحماس عن محمد الماغوط.
عدا الاثنين وبعدهم بمسافة كان الثالث محمود درويش, الذي استطعت أن أقرأ لأحدهم قصيدة كاملة بدون ملل أو شرود وتجاوز أسطر ومقاطع لأنهي واجبا ثقيلا, تفرضه صفة المثقف و المتابع أو المهتم بالشعر. دخلت الثلاثين قبل أن أتخلّص من أثر الكتب المدرسية وأساتذة "العربي" الذي يتلخّص بكراهية الشعر والشعراء.
كلمة"الادّعاء" بقيت ملاصقة للشعر والشعراء وواصفة لهم, حتى قرأت لأول مرة رياض الصالح الحسين بعد أعوام من دخولي الجامعة, صدمني وغيّر توقعاتي, وأحببت ذلك النمط من الكتابة, وما زلت غير معني بشرعية انتسابه إلى الشعر أو النثر. ويعجبني مصطلح "قصيدة النثر" الشائع الآن.
*
أيام التشرد في دمشق, أطلق علينا بعض الأصدقاء الخبثاء صفة"الماغوطيون", قبل أن نقرأ كلمة للشاعر محمد الماغوط, أنا وصديقي وزميلي في التشرد الطويل عماد,
كان جريئا ومغامرا وسريع البديهة, وكنت خجولا ومريضا وبطيء الفهم. وكنا صديقان ورفيقان من نوع نادر, يحميني من غفلتي وسهولة الاعتداء عليّ, وأحميه من اندفاعاته الطائشة صوب المدهش والجديد, في غابة الثورة والعسكر.
هرب عماد إلى اللاذقية ولحقته بعد سنة,مرّت مياه كثيرة تحت الجسر, حلمي بالكفاح المسلّح تحوّل إلى مشروع استئصال كليتي اليسرى بسلام, وحلمه بقيادة شاحنة تجوب الصحراء تحوّل إلى مشروع يومي لتأمين ثمن الكحول. بسرعة وبدون اتفاق أو تفكير وضعتنا فريدة السعيدة تحت عباءتها, حتى مطلع التسعينات,
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي واحتلال ثم تحرير الكويت, راح عالمي كلّه ينهار.
وجدت محمد الماغوط أمامي, غضبه ودماره أحدث حالة طنين في نفسي.
وأظنه يمثّل في حياته وفي كتابته أكثر"دور العدمي السوري الأول".
*
بلا ماء بلا كهرباء بلا مواصلات, كانت بيت ياشوط في ستينات وسبعينات القرن الماضي, أول ما قرأته عدا كتب الدين, مجلة الشرطة, هناك تعرفّت بمحمد الماغوط الكاتب الفرد. على النقيض من الشعر الذي أعرفه وأنفر منه, كانت كتابات الماغوط الساخرة من الدولة والمجتمع, تحدث التأثير المعاكس للكتب التراثية, أحببت ذلك بشكل غامض, كتابة الشعور والتجربة, بأقل قدر من الادعاء, سأعرف لا حقا.
لا اختلف مع التوصيف الذي يضع تجربة الماغوط في الدور الريادي والمكرّس لقصيدة النثر, لكن أختلف مع تحويله إلى أسطورة حيا وميتا, وإن كنت لست بوارد قراءة نقدية وافية للدور الماغوطي في الشعر والمسرح والمقالة, لنقص في المقدرة والإطلاع, وهذه الانطباعات خلاصة تجربتي كقارئ ومعجب قديم, يستند على ذاكرته الثقافية وذائقته الشخصية بالدرجة الأولى.
*
في الشعر كما في المسرح, لم يقطع الماغوط مع الخطاب الرسمي ولا مع البلاغة الموروثة, اختار الحل الأدبي والفكري بشكل مبدع ومتميز"في السخرية", وذلك غطّى على تواضع الفكر الماغوطي وحوّل الأنظار عن قصوره المعرفي. وكم هو المبدع ونحن قراؤه بحاجة لمن ينقل عبارته المتميّزة في رثاء السياب: عد إلى قبرك أيها المغفّل..., إلى مستوى أعمق تقال في كتابة الماغوط بشكل ينقل حالة السخرية إلى خبرة ومعرفة, يمكنها الوصول إلى قارئ متطلّب لا يكتفي بالمتعة المتحققة في أسلوب السخرية والمبالغة. لأن ذلك لم يحصل وأقلّه بالنسبة لي, لم تصلني كتابات حول التجربة الماغوطية تتجاوز المديح السهل, كانت هذه الاجتهادات التي تعترف بريادة الشاعر ودوره المؤثر, لكنها لا تكتفي بذلك.
*
يقوم الخطاب الرسمي السوري والعربي عموما على ثلاثة محاور أساسية أ_ العدو الخارجي أولا وممارسته في الداخل"تطهير الحياة والثقافة" من المختلف ب_ في الداخل أو النحن غياب وتغييب للفرد إلا كملحق بخلفيته العائلية والطائفية والعرقية والجنسية والفكرية, موقع الفرد ودوره محددان بالوراثة ج_ هيمنة الأيديولوجيات على الثقافة بكافة مظاهرها, توجد عناصر وملامح أخرى للثقافة الرسمية لكنها تأتي تاليا لتضيف وتعزّز ما سلف.
تشكّل السخرية حلقة وصل مفصلية بين السائد والجديد أو بين الأيديولوجي والمعرفي, هي من جهة درجة ابتعاد عن النظام الأبوي, بمخالفتها لجميع أشكال التعزيز المباشرة للنظام كالولاء والمديح وبقية صيغ الصفّ الواحد, ومن جهة مقابلة تضفي على النظام صفة الديمومة والإطلاق, بإهمالها للتعبيرات المختلفة في الثقافة وفي المجتمع, والإهمال هو أكثر الطرق نجاعة في محو الظاهرة, كممارسة وسلوك أو فكر وإبداع. ذلك ما مارسه الماغوط طيلة وجوده في سوريا, سواء أكان ذلك صادرا عن عدميته المعلنة أو بشكل مقصود أو بسبب غياب النقد, قد يفسّر موقع" الكاتب المدلّل" الذي احتله الماغوط طويلا وفوق شرط المعارضة أو الموالاة, وقبل ذلك شبه الإجماع على تحصيل المتعة من قراءة الماغوط, والتغافل عن الخبرة والفائدة, في صيغة المبدع الأمي, ذلك الحل الذي تعشقه الثقافة الشفاهية.
*
ما سبق, لا ينفي ولا ينكر الدور الهام والمؤثر, الذي أثاره الشاعر أولا والكاتب ثانيا, وقد قيل وكتب حوله الكثير, وليس لدي ما أضيفه بهذا الصدد, سوى التأكيد على تميّزه وجدارته بلقب الشاعر, والإشارة السريعة إلى المنجز الماغوطي وألخّصه حسب تجربتي الشخصية بالنقاط:أ_ إبداع قصيدة نثر بدون مرجعيات ثقافية, وحسب إطلاعي لا يشاركه بهذا المنجز سوى أنسي الحاج بالتزامن ب_ فتح الباب أمام الجانب السلبي في شخصية الشاعر والإنسان(المهزوم والفاشل والهامشي والمهمل,..) وهو ما يشكّل الخطوة الأولى في ثقافة الحياة ج_ كسر مألوف الطاعة حيث موقف السخرية من الذات الفردية والمشتركة, خطوة أ بعد وأعمق من التوصيف السلبي للمشهد المرفوض, ولو تمّ عبر موقف عدمي د_ جرأة محمد الماغوط في قول ما يحب وما يكره, يشاركه فيها آخرون كثر, لكنها تبقى في الوضع المحزن للثقافة والفكر العربيين, منجز إنساني وربما إبداعي. ويبقى المنجز الجمالي للشاعر والكاتب فوق مقدرتي الحالية نقديا, وهو يستحق دراسات تفصيلية ومتأنية أكثر, وما زلت أعتقد أن النقد أعمق صيغ الاحترام, لا يحيا الفكر والإبداع سوى في ارتقائه المعرفي عبر الحوار المفتوح.
وداعا محمد الماغوط, القبر يتسّع للجميع, على خلاف الوطن الذي يضيق أكثر وأكثر.
وهنا سأكرر رجائي اليائس, في "نحن لا نتبادل الكلام" ولم يصل وأنت بيننا:
بعدما يتعوّد السوريون
التسامح والتفكير الهادئ
سوف توضع سنية الصالح مع الماغوط
إلى جانب رياض الصالح الحسين
في الكتاب المدرسي.
*
....الموت في ثقافة الموت|الحاضر المفقود
ما من قوة في هذا العالم
تجعلني أحب ما لا أحب
وأكره ما لا أكره
ما دام هنالك
تبغ وثقاب وأرصفة...
كتب الماغوط عن الحياة وغرق في تفاصيلها, وأكمل من بعده رياض الصالح الحسين, بدوره كتب كثيرا عن الحياة وانتشر في التفاصيل أكثر, الاثنان ربما(من يدري) لم يعبئا بما بعد الموت. لا يعنيني ما بعد الموت أكثر مما يعنيني خارج المجرّة.
والأسئلة التي أثارها عندي موت الماغوط ليست بأقل من تلك التي أثارتها حياته وكتابته.
لماذا لم يكرّم الماغوط بشكل فعلي_حيّا_ لا في بلده ولا خارجها؟ أليس في نقد كتابة الماغوط, عبر إبراز نقاط الجدّة كما خطوط الضعف, التكريم الأهم والأعمق, والحقيقي فقط؟
لماذا يقتصر الأدب الحديث(هم يسمّونه كذلك) على ما كتب منذ خمسين سنة, ويزاود البعض على الأدب الأموي؟!
السؤال عن علاقة الثقافة بالإعلام ثم الإعلان, ألا يستدعي السؤال عن علاقة المعرفة بالسلطة والمال؟
ألم تتحول المجتمعات العربية إلى جزر متناحرة وتجهل بعضها البعض مقدار جهلها لسكان الأسكيمو؟ من يسمع خرافات وأساطير(شعوب اللاذقية) عن بعضهم, يظن الكلام عن أجناس تعيش في كواكب ومجرّات أخرى! ليس في هذا مبالغة.
ما علاقة موت الشاعر بذلك؟
بعد تحوّل جميع المجتمعات العربية إلى انقلابية بالمعنى الحرفي, أي الرغبة في قلب الأوضاع القائمة بالعنف وبأقصر الطرق وأسرعها وعلى الصعيدين الفردي والجمعي, تم إهمال الحاضر بالجملة, واستبدلت الحياة الفعلية كما هي عليه بالأوهام والشعارات والأخيلة الطفالية. وبعد ذلك حصل الجوع بل الشره للاعتراف بالقيمة الشخصية, كما تظهره تعبيرات الشعور بالمرارة والضياع وفقدان الجدوى والمعنى والأمل.
كما أعتقد, لهذه الأسباب, أحببنا الماغوط جميعا. إن لم يكن أكثرنا غربة ومرارة, فهو أكثرنا تعبيرا عنها بوضوح عاري.
*
هل أكتب عن الماغوط أم أكتب عن نفسي؟ هذا وذاك.
لا يمكننا أن نعرف ما لم نختبره بأنفسنا, لهذا السبب أحاول أن أتخيّل الماغوط بيننا, وأضع نفسي مكانه, كم من الغضب والمرارة حتى وصل إلى جرأته التي نعرف؟
القتلة قادرون على التضحية أكثر, هذا ما أظنّه وأعتقده, وهو ما يبرر نزقي تجاه الشاعر المتفرّد.
جلّ ما أخشاه أن يكون الله أميا... كتب الماغوط الذي تجاوز بموهبته الفريدة كل الثنائيات البائدة: المؤمن_ الكافر, البطل_ التافه, الوطني_ الخائن, المبدع_ الأمي, يمكن التعداد بلا توقف.
وداعا محمد الماغوط
سوريا تعرّضت لليتم ثلاث مرّات
يوم انفصلت عن أوربا الأم
ويوم تساقطت أنياب حسين في حظائر الأيديولوجيا
ويوم مات الماغوط.
أشرب الآن نخب محمد الماغوط, أبي, الذي حاولت قتله بمختلف الطرق والأشكال
وفشلت.
أنت أيضا أيها المغفّل
عد إلى قبرك
زمانك ومكانك
أفضل مما تركت.
#حسين_عجيب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟