عبدالله البقالي
الحوار المتمدن-العدد: 1526 - 2006 / 4 / 20 - 09:13
المحور:
الادب والفن
ما كرهت في طفولتي شيئا كخبز الشعير . بل لم يكن الأمر مجرد كراهية , كان شيئا أكثر قوة. فقد اعتقدت طويلا أن مسألة الوسامة و بياض البشرة مردها الى الخبز الأبيض . و ان السواد و بشاعة الصورة مردها الى خبز الشعير، وأن الافراط في تناول هذا الخبز يفضي حتما الى التهلكة
هكذا نشأ موقفي المتصلب من هذا الخبز , موقف لم أكن أعي أني من خلاله كنت أكشف الوضعية الاقتصادية الهشة للأسرة الشئ الذي كان يغضب الوالدة , بل ويدفعها الى أعلى درجات الغضب فلا ترى من غير تغيير موقفي سبيلا لاعادة الامور الى حالها
في البدء كانت تحاول ذلك بهدوء . تحاورني , تحاول افهامي أن حشو المعدة بخبز الشعير أفضل من تركها فارغة أو المبيت معصب البطن . وحين لم تكن تجد صدى لمساعيها، كانت تنظر الي بحنق ثم تصرخ في : ليتك عشت عام ّالبون ّ و لو ليوم واحد " لكن لا بأس ستعرف عنه كل شيئ عندما تكبر , الا أني أتساءل عن جدوى ما يملأون به مسامعكم في المدارس ان كانوا لا يحدثونكم عن أحداث مهمة كعام البون
تصمت للحظات ثم تضيف : وحتى لو فعلوا فلن يكون ذلك ابدا بقتامة ما عشناه.
يشدني التقديم مثلما يحدث عادة و وعندما تأكدت من استعدادي للاستماع أضافت : في تلك الايام أمحلت السماء فقحلت الأرض , طال الانتظار , امتدت الأيادي لما كان مخزونا فنفذ . وفي لحظة تغير كل شئ , وبدا و كأن الحياة حنت لبدايتها جارفة في نكوصها كل ما تم تحصيله عبر مسارها الطويل. تصور, أطنان الذهب و أموال المعمور ما عادت تساوي شيئا أمام رغيف يملأ البطن , و أراض لا يحدها البصر قويضت بحفنة من حبوب الشعير. لذلك كم غني زاد غنى...ا وكم فقير زاد فقرا
تصمت من جديد , تحني رأسها ثم تشير به محركة محاولة رسم حجم المعانات التي عاشتها ثم تضيف :آه يا ولد لو رأيت هيام الناس في البراري و الفلاة باحثين عن أي شئ يخرج من صلب الأرض .ولو رأيت البشر الذي كان يعلو وجوههم وهم يعودون فرحين حتى ولو كانوا محملين بجذور مرة لا تستساغ . لكنها كانت تتحول الى أرغفة تضمن الاستمرار . ولو رأيت حسرة من ضاق بهم الأفق حين لم يجدوا شيئا يملأون به أفواه أطفالهم ، فاحتاروا ولم يعرفوا أيضعون حدا لعذابهم بشنق أنفسهم أم يعطلون ذاكرتهم و يهيمون على وجه الأرض متناسين أن لهم أطفالا جياعا ينتظرون عودتهم .
تتوقف عن الحكي , يهيمن صمت طويل ثقيل مفعم بالحزن والألم , يتباطأ الزمن راسما مسارا تمتد سكته على قلوب المغلوبين البائسين الذين يمتص صرخاتهم هدير حركات دواليبه العملاقة .
تتضخم خلايا الوجدان لتطل على العالم من خلال مجهر دقيق يرصد النوايا و الأحاسيس في أرحامها.
ينبثق شعور بخوف مريع . خوف من كل شئ . من الأيام و الناس. ,من الطبيعة و الحياة و الموت . فضاء الغرفة نفسه كان يبدو حابلا بالتواطؤ، ينطق بتهديد صارخ ترصده الجوارح المصدومة بكونه يستطيع أن ينتفض ضد سكونه ويرسل جنودا صاعقة متعطشة لشئ ما , لكن هذا الشئ سيكون حتما كالفقد , كالهلاك , كالدمار
جنود, بل أرواح ستنبثق من لا شئ , لكنها في تحولها ستستعير أجساد الآباء الذين قتلهم الغم ووجوه الأطفال الذين انتهت بهم أحابيل وجشع السادة الى فائضين عن الوجود لا يستحقون لقمة من مخزوناتهم المكدسة.
ترعبني الصور , أبحث عن ملاذ , عن شئ ينتزعني من أعماقي . أنظر الى جنباتي مدركا أن لا مخرج من الورطة . التقت عيناي بعينيها . قرأت بوضوح رجاءها . ارتدت دعوتها خيبة بعد أن اصطدمت باعتذاري . ارتفعت كلماتها بنبرة مغايرة : هيا تقدم الى المائدة فأنا متعبة أريد أن أستريح .
يضيق المجال .ادفع الكلمات في حلقي فلا أستطيع , أحاول من جديد . أجهش بالبكاء فتطاوعني الكلمات و أصرخ : ولكنه يقتل يا أمي .
كأسير مهان كنت أزحف اتجاه المائدة , أمد يدا مرتعشة دون ان أحدد لها وجهة . تصطدم به , ملمسه الخشن , تضاريسه المتذبذبة , لونه المتعفن , شذرات التبن التي تلمع بفعل انعكاس الضياء . أقتطع شدقا , أمرره بالصحن, ألقمه فمي , أمضغه ممتزجا بالمرق والدموع المالحة .أدكه بأسناني كأنما كنت أريد أن أفنيه و أتخلص منه الى الأبد .أدفعه اتجاه حلقي , تكبر الممانعة , أمضغ من جديد وأحاول ابتلاعه . تنسد المسالك لتصير لبنة لا ممر يخترقها .أتصنع الانشغال بالمضغ . تنفتح الذاكرة , يلوح لي "حمور " كلب سائق الحافلة التي تربط القرية بالمدينة , حمور في سباته المأجور الممتد من مغادرة الحافلة صباحا الى حين عودتها مساء حيث يستيقظ فجأة و يبدأ في النباح , ثم يعدو بكل قواه ليختفي خلف منعرجات الطريق الغربية ااقرية و ليظهر بعد ذلك من جديد متقدما الناقلة مشكلا ما بشبه طلعة موكب .وليحوم حولها حين تتوقف بسرعة مذهلة . ترحاب كان سائق الحافلة ذو الشارب الطويل يسر له , فيتجه صحبة حمور بعد أن يترجل الى بائعة الخبز حيث يشتري رغيفا أو رغيفين أبيضين .يقطعهما و يلقي بهما الى حمور قطعة قطعة .
يلتقط حمور القطع مبرزا مهارته في التقاط الأشياء . يتجمع الأطفال مشكلين حلقة , متابعين بانتباه طقوس وجبات حمور , وكان يحدث أن يرفع عينيه و هو يضغط بفكيه القويتين قطعة من الخبز فتلتقي عيناه بعيون المتحلقين فيبدو و كأنه يقول : آسف من أجلكم يا صغار , لكن لا تغتروا , فليست كل الكلاب تحصل على خبز أبيض مثلي .
يرتفع صوت الوالدة منتزعا اياي من شرودي : لن تبارح المائدة قبل أن تنهي حصتك من الطعام .
حكم عن أي جرم ؟..مجرد قضاء ؟..ولماذا لا يروق لهذا القضاء سوى أن يتخذ هذا اللون القاتم في حين أن بوسعه أن يكون أفضل دون أن يتطلب ذلك تضحيات و لا رسوما ولا استنزافا للطاقات ولا أي شئ آخر ؟؟؟.
يتقوى الرفض داخلي . أبصق لقمة استعصى علي بلعها فيبدأ الجلد .
بقوة كانت تزجرني , وباصرار رهيب كانت تحاول استئصال جذور كنه مزعج من داخلي .لكني بنفس الاصرار كنت أستميت, أقاوم ,شئ واحد كان يتغير في , لون جلدي ..
أركن الى الزاوية , أنتحب , أبحث عن ذنب لا يغتفر ارتكبته , عن سبب يشفع للوالدة ما فعلت بي .
استدرت جهتها . بقيت مصعوقا . قرأت بوضوح هزيمتها , و أهم من ذلك الدمعة التي لم تفلح في اخفائها .اقتربت مني , رجتني أن أكف عن البكاء على غير عادتها . تحدثت بوضوح تلك المرة . اعترفت أن ليس بمقدورها أن تشتري الدقيق لتصنع الخبز الأبيض .تحدثت عن أشياء أخرى , عن الحياة , عن تكاليف العيش الباهضة .هدأ روعي فجنحت الى المصالحة , لكن شيئا مهما تغير داخلي تلك اللحظة , اذ ما عادت الدنيا واحة مستوية كما كنت أراها من قبل , بل صارت فيها ممرات يسمح للبعص باجتيازها و يمنع الاخرون من اخرتاقها. و الناس ما عادوا سواسية كما كنت أراهم من قبل. بل صاروا نوعين . نوع يعيش بالخبز الأبيض , ونوع لا يقوى على ذلك .
عدت الى المائدة من غير اكراه . التهمت كل حصتي من خبز الشعير و كأني بذلك كنت احاول ان التهم ما تراءى لي من صور وفوارق
#عبدالله_البقالي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟