|
عمر البشير.. يقتل.. يسجن .. ويطالب بإنتخابات !!؟
فاطمة رضا
الحوار المتمدن-العدد: 6137 - 2019 / 2 / 6 - 07:53
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
- سمعناه مؤخرآ يدعوا الى الإنتخابات والصناديق ويتهم أحرار السودان بأنهم ماركسيون(خوارج). الصناديق لا تصنع تغييراً مع "هولاكو السودان"، ولا يمكن أن تفعل ذلك في مجتمع يعيش خارج مسارات الحداثة بالمجمل. إذ تكفي السيطرة على مفاتيح المجتمع للاستحواذ على العملية السياسية برمتها. ولكي تكون هناك عملية سياسية تصلح لأن تمثل قنطرة للتحول السياسي، أو مناخاً للفعل السياسي البحت في الخرطوم، لابد أن تختفي ادوات القمع(الجيش) وأن يتحول الأمر برمته إلى لعبة أشبه باليانصيب. وبدلاً من المفاتيح الحالية وهم الشخصيات الاجتماعية المهيمنة، على سبيل المثال فكلنا مع الديمقراطية والانتخابات ولكننا ضدة كشعار فضفاض، من المفترض أن تتأكد الفردانية المفضية إلى الاختيار الحر، بحيث يبدو المواطن الفرد هو الوحدة التصويتية الحرة التي يصعب إختطافها بالطرق التقليدية. في بلد مثل السودان، وبغض النظر عن سائر كوابح العملية السياسية، تتجلى الأسرة والعشيرة كوحدة تصويتية متجانسة، بحيث يصعب أن تجد تمايزاً في الاختيار السياسي لأفراد أسرة مكونة من خمسين شخصاً، مثلاً. هذه الظاهرة تحول التصويت من (فعل سياسي) إلى (فعل اجتماعي). وحتى هذا الفعل الاجتماعي هو غير مستقل، أي أن هذه الوحدات التصويتية الضخمة يمكن اختطافها عبر قوى هيمنة ونفوذ واستحواذ متمثلة بمشائخ القبائل وكبار الشخصيات الاجتماعية والتي هي قابلة لبيع الضمير.
بدورها تبيع هذه القوى المحلية الصغرى مكتسبها، سلة التفاح هذه، لأصحاب القوة الأكبر في المنطقة الأعلى من الهرم. هنا نحصل على تعريف معجمي للحاكم المطلق "البطريارك"، ذلك الذي تنتهي إليه خيوط كل شيء، ذلك الذي تصدر عنه خيوط كل شيء. هل من المناسب أن نتذكر أن النظام البطرياركي هو جزء من الماضي البشري السحيق؟
دعونا نتخفف من هذا الحديث ونعود مرة أخرى إلى هذه الحقائق : يوجد في البرلمان السوداني 190 شيخاً قبليآ، يكسبون عملية التصويت قبل تدشينها وقبل أن تبدأ، أي عند هذه الواقعية الضخمة يعتقد النظام السوداني أن اللعبة انتهت على المدى المتوسّط والطويل. وحتى عندما فكّر في إلغاء المادة 57 من الدستور، المتعلقة بتحديد فترة الرئاسة، فإن عمر البشير إعتقد لوهلة أنه يقدم على هذه الخطوة الفاصلة بعد أن استكمل تحصيناته على نحو يمكن تسويقه خارجياً ويصفحه ضد الاقتحام داخلياً. ومهما كانت المعارضة التي سيواجهها بينما هو ينصرف لإجراء تخريبات حقيقية في المستقبل السياسي السوداني فإنه سيتعامل معها بلغة سياسية صالحة للتسويق دولياً خصومي هم أولئك اتباع الصادق المهدي. لم يتنبه رجالات النظام السوداني إلى تجليات السياسة، ففي الأخير سيفسر بائعي الطماطم في مزارع السودان كساد بضاعتهم بأنها انتكاسة سياسية لنظام البشير. وقد يكون من المؤكد أن بائع الطماطم هذا ليس من مؤيدي الصادق المهدي.
هذه الواقعية السحرية كانت واحداً من أهم عوامل الإحباط وفقدان الأمل لدى الجماهير. الجماهير بدورها أكملت مصفوفة الوعي العام. لقد عملت المعارضة من جهة، والإعلام من جهة اخرى، فضلاً عما استطاع المواطن البسيط أن يستلهمه من تجارب الأمم والشعوب عبر شاشات التلفاز والراديو، أن تلخص عجزها وعوزها بمقولة سياسية. المعارضة السودانية والجيل الجديد من الشباب السوداني، تمكنوا من صياغة جملة سياسية مكثفة ودالة. استطاعت هذه الجملة السياسية، عبر حركة موجية عالية الكثافة، أن تهدم ساقي البشير إلى الأبد "إرحل". دعونا نستعرض هذه القصة من كتاب ذكاء المشاعر لعالم النفس الأمريكي دانيال غولمان، ينهار جسر فتسقط السيارات والعربات في البحر. تحاول فرق الإنقاذ التقاط رجل وامرأته من سيارتهما فيصر الزوجان على الدفع بابنهما الرضيع من شباك السيارة ناحية فريق الإنقاذ. تغرق السيارة في البحر، ويكبُر الرضيع بلا أبوين . تساءل علماء النفس، الذين اطلعوا على هذه الحادثة، كثيراً حول الغريزة اللاوعية، والأكثر تحكماً، للجنس البشري: الحياة، أم التناسل. يرجح كثيرون أن أهم غريزة لدى النوع البشري هي التناسل واستمرار السلالة في المستقبل. يمكننا هنا الاعتقاد بأن الثورة السودانية خربت مشروع استمرار سلالة البشير في المستقبل السياسي السوداني هو او اخوته قد حسمت النتائج جميعها. وحتى بالنسبة للبشير، الذي هوى من على الجسر مع أعمدة مشروعه، فقد حسِم المستقبل السياسي لأسرته، على النحو الذي رآه وتحقق منه، وبقي أمامه خيار وحيد، أن ينجوا جميعاً. إنها هوة سحيقة. أعني تلك التي تفصل قصة الهيمنة عن قصة النجاة. وفيما يبدو، فهي أكثر فداحة من مجرد السقوط عن الجسر. البشير يدرك ذلك جيداً الآن، لكنه يدركه بسيكولوجية المقامر المعاند! يعترف بالهزيمة بالتقسيط الممل.
لماذا حدث كل هذا لجسر البشير المتين؟ في دراسة علمية نشرت في كلية الهندسة، جامعة كامبريدج، قبل ثلاثة أعوام توصل الباحث، وهو عضو هيئة تدريس في الجامعة، إلى نتيجة مفادها أن الأنظمة السياسية، والمجتمعات، تنهار بنفس آلية انهيار المباني والمنشآت. فقد صنع البشير دولته الخاصة، لكنها تلك الدولة المؤسسة على التناقضات المستعصية، بالتعبير الماركسي، أو تلك البنية التي تتمتع عناصرها الداخلية بطاقة كمون غير كافية لحفظ قوامها بالنسبة لمتغيرات الزمن، بالتعبير الفيزيائي الصرف. إذ بدا أن نظام البشير كان يستحوذ، لكنه لم يكن ينتصر، كان يخطف مكاسب عاجلة، لكنه كان يترك خلفه بحيرات ضخمة من الكراهية، أو على الأقل الإحساس بالغبن. في تقرير قديم لقناة الدويتشه فيللا الألمانية: لقد كسب البشير حرب دارفور لكنه خسر الناس في الجنوب. أسس البشير دولته الخاصة في وسط حديقة الديناصورات، سماهم المخربين وهي تسمية وتحدد بدرجة واضحة، ملامح دولة البشير، أو جزيرته. جزيرة الألدرادو، أرض الكنز، المحاطة بالسم من كل جانب الثعابين . يروي حسن الترابي: قلت لحسن البشير الشعب تعبان فرد البشير: الشعب له الله. يفضل البشير بأن يترك للذين يعيشون خارج جزيرته تميمة إيمانية وهي الله على أن يعيش هو وشبكاته في الجزيرة بلا تمائم ولا يقينات سوى امتلاك عناصر السيطرة والتحكم والتأكد من ذلك كل صباح.
وفي لقطة تاريخية مهيبة خرجت الوحوش من مكامنها، يسوقها دافع شديد الضخامة بوضع حد لـ احتقار العالم لها، بتعبير نيويورك تايمز في وصفها للثوار في السودان . كانت دولة البشير المستقلة، المؤسسة على هيئة شبكات غير متناهية من العلاقات والمصالح والجرافات، بالكاد تتسع لمليوني نسمة. بينما يعيش حوالي 28 مليونا خارج خيرات هذه الدولة. بعيداً عن مكاسبها وخساراتها، عن قوانينها وعلاقاتها، عن سواقيها وضواحيها. هذه الدولة هي مشروع البشير الذي عكف عليه ثلث قرن من الزمن وأراد أن يسلمها كجزيرة صغيرة يعيش عليها أبناؤه وعشيرته بنفس الطريقة، على أن يتعايشوا مع الوحوش الواقعة على الحدود بآليات عمل أبيهم عمر، ولا يمنعهم ذلك من ابتكار وسائل تعايش جديدة، عند الضرورة، يمكن استخدامها على هيئة كوابح ضد يقظة الوحوش ، مثلاً ما إن يحرك الوحش ذيله سنبادر إلى إعلان تحويل النظام السياسي إلى نظام برلماني، بحكم محلي واسع الصلاحيات. سيأتي الدور بعد ذلك على الحديث حول كيف سنجعل من هذا الطريق الجديد مسلكاً آمناً . يقول البشير لأتباعه عليكم أن تجيدوا مثل هذه المناورات، انهكوا الوحوش ولا ترتطموا بِها أوهموها ولا تقولوا لها لا أبداً، لكي تتمكنوا من خلق هدوء يليق بنوعية الحياة على الألدرادو . كان من الممكن أن يستمر مشروع البشير في الحياة، أن تقاوم جزيرته عوامل الفناء، أن يستمر أولاده في المستقبل في ما لو وجدت الوحوش الواقعة على الحافة أمرين حاسمين: مقداراً كافياً من اللذة، وتفسيرات غير سياسية لمشاكلها اليومية العويصة. وهو ما لم يحدث، نظراً لاستحواذ الجزيرة على كل ممكنات العيش السعيد . ويا للمصادفة! لقد صنع نظام البشير بالفعل، السودان الجميل. لكنه ذلك السودان الذي لم يكن يتسع لأكثر من مليونين من السكان! كان النموذج المصري والتونسي مليئاًَ بعناصر الإلهام. انتهت اللعبة، قررت الملايين الكثيرة أن تخرب، وتجرف، جزيرة النخبة وأن تطردها إلى خارج الحدود. هذه ليست مسرحية من فصل واحد، ولا هو مشهد بلا كلمات، كما هي أحداث واحدة من أشهر مسرحيات بيرتولت بريشت. إنها قصة الثورة في السودان، وحسب. بناءً على هذه الصورة، التي أحب أن أتخيلها هكذا، فقد تأسست لدي قناعة عميقة بأن المشروع السياسي للبشير قد انتهى تماما، وأن جزيرته قد جرى تخريبها على نحو مريع. البشير يدرك هذا تماماً الآن، وتدركه أسرته. لذلك تبدو فكرة الاستمرار في مواجهة الأطوال الموجية العالية للثورة ضرباً من العبث. لن يعود البشير من من الولاية الشمالية بحثاً عن جزيرة الألدرادو، التي خربتها الكارثة والطوفان الخرطومي لكنه قد يعود لكي يلعب فصلاً قصيراً، ومحسوباً، مدفوعاً بنفسية مقامر قديم ومعاند لا يعترف بخساراته الكبيرة متأخراًُ ويتقبلها بصعوبة بالغة. وفي الغالب لا يتخيلها إلا بعد أن يعمد مالك الكازينو إلى إطفاء النور، وتغطية طاولة القمار بملاءة بيضاء مخططة، لكن هذه النفسية المقامرة لم تحجب عن نظام البشير رؤية الجزيرة وهي تتفكك، والجسر وهو يهبط إلى قاع المحيط. وبلغة نفسية، بعيداً عن لغة التحليل السياسي الفقيرة، فإن البشير يقاوم الآن بلا دوافع بعد سقوط مشروعه الكبير. يناور ضد غريزته اللاواعية. أعني تلك الغريزة التي تبحث دائماً عن سكنٍ آمن للسلالة. حتى وهو يفكر بالعودة من المنفى القهري فيما بعد، فإنه سيتساءل بألم قابض ولكن من أجل ماذا؟ لقد انتهى كل شيء، كل شيء سيقول البشير لنفسه، بينما يطلق أتباعه النار في الهواء ابتهاجاً بانتصاراته وعودة جيشه من اليمن لقمع الابرياء غير مدركين ان هذه الرصاصات هي سنفونيات رحيل البشير .
د.فاطمة رضا أستاذ الإجتماع السياسي - كلية القانون - جامعة كامبريدج .
#فاطمة_رضا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العلمانية الإسلامية والإسلام العلماني
-
كيف يصبح المراهق صاحب قرار؟
المزيد.....
-
حزب النهج الديمقراطي العمالي يثمن قرار الجنائية الدولية ويدع
...
-
صدامات بين الشرطة والمتظاهرين في عاصمة جورجيا
-
بلاغ قطاع التعليم العالي لحزب التقدم والاشتراكية
-
فيولا ديفيس.. -ممثلة الفقراء- التي يكرّمها مهرجان البحر الأح
...
-
الرئيس الفنزويلي يعلن تأسيس حركة شبابية مناهضة للفاشية
-
على طريق الشعب: دفاعاً عن الحقوق والحريات الدستورية
-
الشرطة الألمانية تعتقل متظاهرين خلال مسيرة داعمة لغزة ولبنان
...
-
مئات المتظاهرين بهولندا يطالبون باعتقال نتنياهو وغالانت
-
مادورو يعلن تأسيس حركة شبابية مناهضة للفاشية
-
الجزء الثاني: « تلفزيون للبيع»
المزيد.....
-
ثورة تشرين
/ مظاهر ريسان
-
كراسات شيوعية (إيطاليا،سبتمبر 1920: وإحتلال المصانع) دائرة ل
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي
/ الحزب الشيوعي السوداني
-
كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها
/ تاج السر عثمان
-
غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا
...
/ علي أسعد وطفة
-
يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي
/ محمد دوير
-
احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها
/ فارس كمال نظمي و مازن حاتم
-
أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة-
/ دلير زنكنة
-
ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت
...
/ سعيد العليمى
-
عفرين تقاوم عفرين تنتصر - ملفّ طريق الثورة
/ حزب الكادحين
المزيد.....
|