|
إغتراب
ناهده محمد علي
الحوار المتمدن-العدد: 6135 - 2019 / 2 / 4 - 12:42
المحور:
الادب والفن
الزمان نهاية الثمانينات ، الموقع وسط عاصمة عربية عريقة . كنت في العشرين من عمري أعيش في بيت كبير ضمن عائلة كبيرة مكونة من أربع أخوات وثلاثة أخوة . كان بيتنا جميلاً تفوح منه رائحة ورد الياسمين ورائحة طبخات أمي الرائعة . كانت أمي في حركة دائمة ترفض أن يساعدها أحد وكانت قوية الإرادة وإكتسبت هذا منها ، غير أني لم أكن أحب الطبخ أبداً ، وكانت أمي تسخر مني وتعتقد بأني سأكون ربة بيت فاشلة . وكنت فتاة عنيدة أفخر بتفوقي دائماً ، وأذكر أني سمعت أمي وهي تردد دائماً بأن لي عقل ولد وليس بنت ، أنت لا تحبين الملابس الملونة ولا اللعب مع البنات ومع أنك جميلة لكن خُطابك سيكونون قلة . كنت أغرق بالضحك لسماع كلامها وأهرب إلى غرفتي . كان طموحي أن أنهي دراستي الثانوية وأذهب للدراسة في الخارج ، وكنت أعتقد أن كل ما في بلدي هو متخلف ، وكنت أود القفز عالياً إلى السماء وأن أكون شيئاً مختلفاً . وحينما ظهرت نتائج إمتحانات البكلوريا وجدت صعوبة كبيرة بإقناع والديَّ وإخوتي . قبل أن أُسافر لم أستطع أن أنظر في عيون أمي ، كانت تكتم دموعها فقلت لها سيتغير كل شيء بعد أن أعود . ربما الأثاث ومحتويات المنزل ، وربما لون الجدران ووجوهكم وأيضاً لون شعر أمي ، لكني أريد أن يبقى شيئاً واحداً يربطني بالمنزل وبذكرياتي به وبكم . كان هذا الشيء هو وعاء زجاجي صغير كانت تضع به أمي ( الملَبس ) وقطع الحلوى وكنت أجده دائماً على طاولة الطعام ، كان يشبه ثمرة الأناناس الكبيرة ، تعودت أن ألتقط قطعة حلوى صغيرة منه قبل أن أخرج كل يوم . قد يكون شيئاً جنونياً لكني كنت أريد شيئا يربطني بذكرياتي حينما أعود . بعد أن سافرت عشت أياماً موحشة في شقتي الصغيرة ، كانت أمي هي الشيء الوحيد الذي لم أستطع أن أنزعه من حياتي . كنت أشعر أحياناً بأني لا زلت طفلة تحتاج إلى حضن أمها وكنت أخجل من شعوري هذا وأعلم أن الأيام ستعلمني القسوة ، وأعلم بأنه لا مجال للعودة وقد إخترت الغربة ، تصورت أن هذا العالم يستحق أن أتعرف عليه وأن أتعلم فيه المزيد وأن أقرأ بلغات مختلفة ، لكني كنت أشعر أن هذا لن يمنحني السعادة . كان هذا يدور بخاطري وأنا أنتظر سيارة الأجرة ، كان الثلج الأبيض يدمي يدي وقدماي رغم إرتدائي للقفازات ، وكان يخرج من أنفي وفمي بخار ساخن سرعان ما يتجمد . وصلت إلى البيت أخيراً وإستلقيت على الأريكة الصوفية وفتحت التلفاز كان يؤلمني سماع الأخبار عن بلدي وكل شيء فيه آخذ بالإنهيار . أغمضت عيني وقررت أن يكون العالم وطني ، أن أعمل وأنتقل من بلد إلى بلد ، وقررت أن أقطع حبل ذكرياتي ، وأن أفكر دائماً باليوم والغد وأن أتعرف على أناس كثيرين ، إلا أني كنت أتساءل مع نفسي ، هل سأكون سعيدة مع كل هؤلاء ، وهل سأشعر بالطمأنينة . كل نجاح كنت أحققه كنت أعود سريعاً بعده كطفلة خائفة ويراودني منظر بيتي القديم ووجه أمي ، وأتساءل دائماً من أنا ، وأين أنا . مرت سنوات طويلة وجمعت أصدقاء كثيرين لكني لم أشعر أبداً بأنهم عائلتي ، وكنت أعود دائماً وحيدة وأخشى الظلام كما كنت صغيرة ، لذا أُبقي أنوار الشقة مضاءة ليلاً . لم يكن يُسكت مخاوفي شيء فبيني وبين يد أمي الدافئة قارات ومحيطات . عدت ذات يوم من نهار طويل ووقفت أنتظر مرور الأوتوبيس في شارع خلا من المارة إلا من بعض السكارى وبعض العشاق المتعانقين ، كنت أسمع أحدهم يتقيأ في الحديقة التي خلفي ، وقفت بعد حين إمرأة عجوز تنتظر معي . نظرت إليها ، كل الأمهات متشابهات ثم أدرت وجهي نحو الجهة الأخرى ، أسرعت فالأوتوبيس قادم ، جلست على الكرسي في الداخل وأخذت أفرك يدي ببعضهما ، سألنا السائق ، هل تريدون أن أفتح جهاز التدفئة ، قلت نعم من فضلك . عدت إلى البيت ودخلت المطبخ لكي أتناول فطيرة صغيرة وكوب من الحليب الحار ، إستلقيت وأخذت أرتب قراراتي ، بعد شهر سأكمل دراستي وسأذهب إلى بلد عربي دافيء . كنت سعيدة بعملي لكن إحساسي بالغربة لازمني كما كنت أيام دراستي . لم أستطع أن أكون كأي فتاة أُوربية تمارس شبابها بشكل طبيعي . كانت محاذير أمي تلاحقني أينما ذهبت . بعد سنوات من العمل قررت العودة إلى الوطن ، كنت أعلم أن أمي لم تعد هناك ، لكني قررت التوجه إليه . تنفست رائحة الوطن . لم يستقبلني أحد . كانت الطرق متعرجة ومحفورة ولم يكن سهلاً المرور فوقها ، تساءلت لِمَ كل هذه الحفر ، ولماذا تتدلى أسلاك الكهرباء في الشارع كخيوط العنكبوت ، أهي آخر مظاهر فسادنا الإقتصادي وربما قتال الشوارع . أخيراً طرقتُ بابنا القديم . حدقن أخواتي بوجهي لن يعرفنني ، إحتضنتني أختي الكبيرة ، ثم جاءت أختي الأخرى باكية وحزينة ، قالت تأخرت كثيراً أرادت رؤيتك قبل موتها ، قلت لها لم أعلم ، قالت تعالي لأريك غرفتها ، قلت لا أستطيع أنا متعبة الآن ، قالت أخرى أُنظري إلى هذه القارورة ، هل تذكرك بشيء ، ثم قالت أمي إحتفظت بها لسنين طويلة ثم أوصتنا أن نحافظ عليها من الكسر ، هل تذكرتِ . قلت ما هذه لا أذكر شيئاً ، قالت أنظري جيداً قلت إنها جميلة وقديمة ولكن ماذا تعني . نظرت إليّ أختي بحزن وقالت ، تلك كانت إتفاقاً بينك وبين أمي على العودة لنا ، قلت نعم تذكرت ، لقد مرت سنوات طويلة وصنعت لنفسي ذكريات جديدة . أجابتني أنت لست أنت ، قلت لها نعم لست أنا الصغيرة التي خرجت من عندكم ، قالت لِمَ عُدت ، قلت مع نفسي أنهم لا يريدونني ويجب أن أعود من حيث أتيت ، لقد بقيت سنيناً بلا وطن وسأنهي حياتي كذلك . كانت ملاحظتي الأولى على هيئة أخواتي هو أن ملابسهن كانت تشبة ملابس جدتي ، ملابس مضفاضة وسوداء طويلة إلى الكاحل ، وهكذا كان غطاء الرأس . بعد يومين طلبت سيارة أجرة وتجولت في المدينة ، وجدتها لا تشبه المدينة التي خرجت منها ، وجوه الناس عابسة ، كل شيء هنا بثمن ، الكل لا يحمي الكل ، كل ما كان لم يعد كائناً ، وجوه المارة ، عفة الموظفين ، شهامة ولطف سائقي الأجرة ، رائحة النظافة في الشوارع . أحسست بغربة لم أشعر بها من قبل ، الكل كان ينظر إلى ملابسي بإستهجان مع أنها كانت محتشمة ، تعمدت أن لا أنظر بعيون المارة فأنا أنثى ، عدت سريعاً إلى البيت ، وقررت أن أعد حقيبتي . عند المساء أحسست بألم في معدتي ولا أدري إن كان بسبب الطعام أو الماء ، لم يطلب لي أحد الإسعاف وأعطتني أختي حبة دواء وقالت خذي هذا لقد تعودنا على هذه الآلام . نمت في غرفة أمي لمدة يومين وحينما صحوت سمعت صراخاً عند الباب وكان إبن أخي يتشاجر مع أحد أولاد الجيران ، كل منهما يهدد الآخر حتى تشابكا بالأيدي ، تراكض الجميع لوقف المعركة ، بقيت واقفة وأنا مذهولة ، قلت ما سبب كل هذا قال إبن أخي إستعار مني الموترسكل وكسره . إبتسمت ساخرة وعدت إلى الغرفة . في اليوم التالي ناداني أخي الكبير لكي نعقد جلسة أُسرية لحل مشكلة الإرث . وجدت الجميع في حالة غضب وتبرم لم أفهم سببه . كان كل واحد منهم يتهم الآخر بإغتصاب بعض الأمتار ، وكان البعض الآخر يريد واجهة البيت ، وأصبح الكل ينادي بأنه قد ظُلِم . وقفت بينهم غاضبة وقلت : ما الذي تفعلونه بربكم ، أنتم لستم بالأخوة وأنا لا أريد شيئاً . وقررت بعدها أن أعود من حيث أتيت . أعددت حقيبتي وفي صباح اليوم التالي كانت تنتظرني سيارة إجرة ، خرجت أختي الكبرى دامعة مع إناء ماء وسكبته على الأرض علني أعود ذات يوم . لم أشعر بالمسافة أو الطريق ولم أستعد أنفاسي إلا وأنا على كرسي الطائرة ، وكان سؤالاً واحداً يتردد في رأسي من أنا وأين أنا ، ولم أجد له جواباً إلى اليوم .
#ناهده_محمد_علي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لماذا يتناول أبناؤنا المخدرات
-
هل يحتمي الرجل بالقوانين في ممارسة العنف ضد المرأة
-
البصرة ثغر العراق الباسم أم الباكي
-
موت وردة الأقحوان البيضاء
-
العرب من تجارة النفط إلى تجارة البشر
-
مشاكل أبناء المهجر
-
الهبوط نحو الأسفل
-
قيمة الذات العربية - بمناسبة اليوم العالمي للطفل
-
نصب الحرية المظلم
-
أطفال التوحد هم نتاج صراعاتنا
-
قراءة نقدية للمجموعة القصصية ( غسل العار ) للقاصة صبيحة شبر
-
حين بكى البابا على فقراء المسلمين .
-
الإرجوحة
-
لونوا العالم بالبرتقالي
-
حين ضاعت المرأة العراقية على طاولة الصراع البرلماني
-
الأطفال وقود النزاعات
-
لماذا نقتل أطفالنا
-
الجذور التحتية للقاعدة وداعش
-
أمهات الدواعش
-
واقع المرأة العربية المعاصرة
المزيد.....
-
مسيرة حافلة بالعطاء الفكري والثقافي.. رحيل المفكر البحريني م
...
-
رحيل المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري
-
وفاة الممثل الأميركي هدسون جوزيف ميك عن عمر 16 عاما إثر حادث
...
-
وفاة ريتشارد بيري منتج العديد من الأغاني الناجحة عن عمر يناه
...
-
تعليقات جارحة وقبلة حميمة تجاوزت النص.. لهذه الأسباب رفعت بل
...
-
تنبؤات بابا فانغا: صراع مدمر وكوارث تهدد البشرية.. فهل يكون
...
-
محكمة الرباط تقضي بعدم الاختصاص في دعوى إيقاف مؤتمر -كُتاب ا
...
-
الفيلم الفلسطيني -خطوات-.. عن دور الفن في العلاج النفسي لضحا
...
-
روى النضال الفلسطيني في -أزواد-.. أحمد أبو سليم: أدب المقاوم
...
-
كازاخستان.. الحكومة تأمر بإجراء تحقيق وتشدد الرقابة على الحا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|