|
تاجر موغادور: الفصل الرابع/ 3
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 6134 - 2019 / 2 / 3 - 02:20
المحور:
الادب والفن
كان أمير جزيرة بوطان، شبه الأسير في جزيرة كريت، يقارن بين مكانيّ الموطن والمنفى، آخذاً بعين الاعتبار ما يسبق اسم كليهما: هذه الجزيرة، المعزولة في بحر إيجة والملتخّة طوال معظم أيام السنة بفعل الرياح، كانت تحيط روحه بأمواج الكآبة. في المقابل كان مسقط رأسه، بوطان، أشبه بالجزيرة السعيدة؛ هيَ الملتف عليها نهر دجلة من جهات ثلاث، بينما الرابعة تربطها بالأرض، الممتدة حتى شواطئ الصين عبرَ ما صار يُعرف ب " طريق الحرير " على لسان القناصل والتجار والرحالة. هكذا كان يفكّر، في ذلك اليوم الشتويّ، حينَ أعلموه بوصول تاجر كرديّ دمشقيّ إلى مدخل القصر الصغير بغيَة التشرف بالمثول بين يديه. فيما بعد، لما ارتاح الأمير " بدرخان " للتاجر الضيف ووثق به، فإنه أسرّ له ساخراً: " ما ينفكّ الحجاب يستعملون لهجة التبجيل والتفخيم، مع علمهم بأنها لم تعد مناسبة لوضع سيّدهم، الحالي! ". التاجر، رأى عندئذٍ أن من واجبه التخفيف عن أميره: " في النهاية، لا بد أن تنتصر إرادة الخير؛ لأنها إرادة إلهية "، قالها بيقين على الرغم من مناسبة المجاملة. وإنما في هذه اللحظة أمسك الأميرُ بخيط الحديث، المفضي في آخره إلى تغيير خطط التاجر بشأن أعماله، ومن ثم سيقلب مجرى حياته بأسرها. لقد ابتدأ الأمير بالقول، يخالج نبرته بعض الحزن: " إن الباب العالي عمد لعزلي في هذه الجزيرة، وفق سياسة تقليدية تقضي بإبعاد الحكّام المغضوب عليهم إلى مناطق نائية بعيدة عن أوطانهم. السكان النصارى هنا، لحُسن الحظ، على جانب كبير من العطف واللطف معنا. ذلك لكونهم يطمحون إلى يوم الخلاص من سيطرة الأتراك، مثلنا سواءً بسواء. غير أنّ بحراً أكبر من مشاعر أولئك الناس، يُبعدني عن الوطن بُعد الحقيقة عن الأماني. في النتيجة، أمضي يوماً بعد يوم إلى حافة جرف اليأس، مدفوعاً بتقدم العُمر، طالما أن يديّ مغلولتان ولا طائل من حياتي في هذه الجزيرة سوى أسباب العيش، المقدّرة لأي راعي أغنام فيها ". غبّ إنهاء الأمير لحديثه الحزين، طفق التاجر صامتاً لا يدري كيفَ يُمكن أن يواسيه.. أو بالأحرى، متهيباً من فعل ذلك. لاحظ الآخرُ حيرة ضيفه، فأخرجه منها بالقول: " أنتَ عائدٌ من اسطنبول إلى الشام، ومرور مركبك في الجزيرة لا يثير شبهة أحد ". ثم أردفَ يسأله بنبرة مبيّتة: " وكما أعلمتني، أن المركب سيعاود الإبحار إلى بيروت مساءً؟ " " نعم يا أميري، وإني طوع أمركم بأي شيء يُطلب مني " أجابَ الضيف بلهجة قوية، مفعمة بالاستعداد لتقديم ما يمليه عليه الواجب. وقد سرّ الأمير لفطنة الشاب، حتى لقد انقشعت نوعاً علامات الهم عن ملامحه المهيبة، المذكّرة برسم الأسد. ولكنه لم يُبادر من فوره للكلام، بل مضى ببصره عبرَ النافذة العريضة للصالة، وصولاً إلى الأفق الأبيض، الملتحم فيه حدُّ البحر ذي اللون الأزرق، المائل إلى الرماديّ بفعل السحب. تابع الضيف نظرة أميره، مفتتناً بالأخص لمشهد الجزيرة، المترائية من علو بخضرة أشجارها المثمرة ونصاعة منازلها البيض. في الأثناء، كانت تحتدم مجادلة مرهقة في نفسه: " أظنها رسالة سرية، سيبعثها معي إلى أحدٍ ممن يثق فيهم، ثمة ببيروت أو ربما دمشق نفسها. في هذه الحالة، فإنه ولاشك يعتمد أيضاً على ثقته فيّ. ولكن، ما القصد من زيارتي لهذا الرجل الأسير، المحتفظ بكبريائه وجلاله، لو لم يكن وضع نفسي رهن إشارته؟ ". كأنما الأميرُ قد أدرك بدَوره ما يجول في خاطر مواطنه، لما قال وكأنه يُجيب تساؤله: " قبل أن أطلب منك أيّ شيء، عليّ واجب تنبيهك إلى ما قد تجلبه عليك من خطر صداقةُ رجل في مثل وضعي " " وإنني لا أبالي بأي خطر في سبيلكم، حتى لو أن ذلك سيفقدني رأسي " " بوركتَ من شابٍ شهم، سليل أسرة العلم والمعرفة "، نطقها الأمير متهلل الوجه. ثم أمعن لحظاتٍ في التفكير، لتُحفَر بعضُ الأخاديد في الجانب الأسفل من جبينه، الظاهر من تحت العمامة. وما لبث أن استطرد يسأل الشاب: " زعيم كرد الشام، شمدين بك، ما هوَ حالُه اليوم؟ " " لقد وصل للسنّ، الذي يرتاح فيه الإنسان بعد رحلة حياة حافلة. الأولاد، وبالأخص سعيد باشا قائد عسكر العونية، هم من اقتسموا فيما بينهم وجاهة الأب وأعماله التجارية المتنوعة " قال الأمير متنهداً بعمق: " هذه هي حال الدنيا؛ وما نحن سوى بشرٌ فانون، يفعل بنا الزمنُ ما يشاء ". على الأثر، أنشد رباعية فارسية لعمر الخيام، تكتنز فلسفة من ذلك القبيل. ثم آبَ بعد وهلةٍ إلى سياق الحديث: " لقد خمنتُ، تقريباً، أن وضع زعيمكم سيكون كذلك. وإذاً، فأنتَ تنصح أن تتجه رسالتي إلى سعيد بك شمدين؟ " " لا يا سيّدي، ولا إلى أيّ من أولاد شمدين بك! "، ردّ الشابُ بنبرة شديدة نوعاً. تركه الأمير يواصل كلامه، بعدما أبدت قسماته شيئاً من الدهشة. قال الضيف، موضحاً، مخففاً من لهجته: " تذكرون ولا ريب زمنَ إبراهيم باشا المصري، وكنت من ناحيتي صبياً غراً بعدُ. بلى، كان الرجلُ آنذاك في أوج مجده وقد اجتاح نصف بلاد الشام، ويستعد لدخول دمشق. فوجه رسالة سرية لأعيانها كي يساعدوه على أخذها بالأمان. فماذا فعل عندئذٍ، شمدين بك؟ لقد سلّم الرسالة للوالي، وكان سبباً أيضاً في قطع رؤوس بقية الأعيان ممن لم يقتدوا بما فعله. بقية القصة، أنتم على اطلاع وافٍ عليها، كون جيوشه احتكت بحدود إمارتنا " " أجل، أذكرُ كل ذلك بالتأكيد. ولكنني كنتُ عاذره لشمدين بك، في حقيقة الأمر. إنه مثل الآخرين، كان يود تخليص قومه من ربقة الأتراك؛ بدليل عودته إلى صف المصريين بعد انتصاراتهم السريعة. القوى الكبرى، علاوة على أخطاء إبراهيم باشا، جعلت شمدين بك وبقية زعماء الشام ولبنان ينحازون في نهاية المطاف للباب العالي "، قالها المضيف وهوَ يزفر أنفاسه بكرَب. حالُ هذا الأخير، حزّ ولا مِراء في نفس الشاب. عقبَ فرصة تفكيرٍ، تجاسرَ على سؤال أميره عما يبتغيه، تحديداً، من رسالته المأمولة تلك.
*** استعاد " جانكو " وقائعَ مغامرته في الجزيرة اليونانية، والتي أفضت به إلى الرسو لاحقاً على سواحل المغرب الأقصى؛ أو بحر الظلمات وحدّ العالم، بحَسَب الجغرافيين المسلمين الأوائل. هذه الفكرة الأخيرة، طرحها على مضيفه، الرابي، بعدما أنفرد معه في حجرة المكتب. إذاك، كان نائب القنصل البريطاني قد غادر الدار بمعية أولئك المهاجمين وقائدهم. وإذاً قال للرابي، عطفاً على تلك الفكرة: " إن أفضل إنتاج العبقرية الإسلامية، من علوم وآداب وفنون، ما تفتأ مخطوطة ومتراكماً عليها الغبارُ في مكتبات الخواص والعوام. الأشنع من ذلك، أنّ ما يزيد عن ثلاثة قرون مرت على سيطرة آل عثمان، دونما أن يُنتج شيءٌ يُذكر في تلك المجالات. ولكن، من يرغب أصلاً في قراءة آثار الأقدمين ( أو المحدثين إن وجدت )، ما دام أغلب الخلق في جهل يعمهون؟ ". علّق المضيفُ بالقول: " بلى، وإنك تفتح عينيّ بكلامك على حالنا أيضاً، نحن أهل الدين اليهوديّ. لقد كنا، بالنسبة للثقافة الإسلامية، أشبه بركائزٍ لمبنىً منيفٍ. إلا أنّ البناء تصدّعَ من طبقاته العليا، مثلما تفسُد السمكة من رأسها. إن توصيفك بمحله، لناحية مسئولية العثمانيين عن هذا الركود، المقيم مذ بضعة قرون. أي في وقتٍ، كان في خلاله الغربُ يحقق أشياء مدهشة من اختراعات واكتشافات إلى تطور مذهل في الفنون والآداب ". ثم أومأ برأسه إلى ناحية رفوف الكتب، وكانت تشغل جدران حجرة المكتب الثلاثة، مستطرداً: " لن تجد بينها كتاباً واحداً بالعربية، إلا لو كان مخطوطاً. إذ بلغت السفاهة بمن يشغل وظيفة شيخ الإسلام، أي المستشار الدينيّ للباب العالي، أن يكفّر كل معرفة مصدرها الغرب، وذلك بدعوى أنها بدعٌ شيطانية تهدف لزعزعة الدين الحنيف " " إنني أغبطك، حقاً، على هذه المكتبة العامرة.. " " كيفَ تقول هذا، يا صديقي؟ "، كذلك تكلم الرابي مقاطعاً. ثم استمر، مكرراً ما سبقَ وقاله بحضور ذلك القنصل: " الدار، ستؤول إليك بشكل قانونيّ اعتباراً من الغد ". مضى في كلامه، قائلاً وهوَ يتنهد: " وبالطبع، مع هذه الحجرة بكل ما فيها من موجودات. لقد تسنى لي قراءة الكثير مما تحتويه هذه المكتبة، وربما أنقل بعضها إلى دار الأسرة في الملّاح ". > أواصل نشر تتمة الرواية؛ وهيَ الأولى ضمن " خماسية مراكش "
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الصراطُ متساقطاً: الفصل المفقود 5
-
الصراطُ متساقطاً: الفصل المفقود 4
-
الصراطُ متساقطاً: الفصل المفقود 3
-
الصراطُ متساقطاً: الفصل المفقود 2
-
الصراطُ متساقطاً: الفصل المفقود 1
-
المزحة
-
تورغينيف وعصره: القسم الأخير
-
الصراطُ متساقطاً: بقية فصل الختام
-
الصراطُ متساقطاً: تتمة فصل الختام
-
الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 14
-
عصيرُ الحصرم ( سيرة أُخرى ): 71
-
الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 13
-
الشرفة
-
الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 12
-
الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 11
-
الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 10
-
الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 9
-
الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 8
-
إحسان عبد القدوس؛ الصورة النمطية للكاتب/ 2
-
إحسان عبد القدوس؛ الصورة النمطية للكاتب
المزيد.....
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|