|
الصراطُ متساقطاً: الفصل المفقود 2
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 6128 - 2019 / 1 / 28 - 20:01
المحور:
الادب والفن
ثلاثة أعوام، إذاً، مضت على رحيل امرأة الرسام. وإنها مَن قادت خطواته إلى مراكش كي يلقى، بدَوره، قدرَهُ. حطمت هيَ نبوغها الأدبيّ، بالانغماس في علاقات مشبوهة، قبل أن تقبض عليها أنامل خادمتها المغربية، الشبيهة ببراثن الوحش. كذلك كان الأمر معه، بأن شقّ طريقه بعيداً عن عالمه الشعريّ؛ شقه، عبرَ علاقة لا تقل شذوذاً واستعباداً. بيد أنه كان أسعد حالاً من حاميته، التي سرعان ما تحطمت صحتها النفسية والعضوية، وذلك نتيجة الوصفات المشئومة لتلك الخادمة الشريرة. في عشية وفاة المدام، كان قد أنتزع ربيبتها، " الشريفة "، من الأسر في قصر الأميرة. فعل ذلك بطلبٍ من زوج المرأة المحتضرة، وكأنما هذا كان يبغي نقل صورة الفتاة البهية معها إلى القبر. هكذا سارت بهما السيارة في الطريق من المدينة الحمراء إلى شقيقتها الأصغر، البيضاء. " الشريفة "، كانت حالما استقرت في مقعد السيارة بجانبه قد بدت لعينيه طفلة بريئة. وكادت أن تجهش في البكاء، حينَ سألها ما إذا كانت الأميرة قد أحسنت معاملتها. مظهر البراءة، المتداخل مع نوع من البدائية أيضاً، سرعان ما تبيّن أنه قناعٌ يخفي خلفه امرأةً ماكرة، مجربة ومحنكة. شقة غرامياته، ثمة في ضاحية الصويرة، شهدت المرة تلو الأخرى انطلاق لسان طفلة الشيطان بأسرار لا يُمكن إلا أن تثير تقزز الإنسان السويّ. ولكنه، وهوَ الشخص المعرَّف مذاك الوقت بالمسلك الشاذ، كان يستمع إليها بدافع الإثارة لا أكثر. مع ذلك، لم يكن يصم أذنيه عن قصص معاناتها وأسرتها في ظل أبٍ ظالم، شبه معتوه. وكان يُقارن في ذهنه أقوال البنت مع ما سبقَ أن سمعه من والدتها، وذلك في أوان علاقته السرية مع هذه الأخيرة: " نفيسة "، شكت آنذاك مراراً من شكوك الرجل ببنوة أولادهما الثلاثة، والذين كانوا قد تناقصوا على أثر موت أوسطهم بمرض غامض. " لا ينادي الواحد منهم إلا بولد الحرام "، قالتها ذات مرة فيما كانت تلقي رأسها على صدره زارعةً فيه غابة سوداء من شعرها الناعم. في ذلك الوقت، فكّرَ أنها تختلق القصص المحزنة بغيَة تبرير خيانتها لأبي أولادها ـ كما هوَ دأب الكثير من النسوة أمثالها.
*** عليه كان أن يشعر بالارتياح لاحقاً، حينَ تطابقت تقريباً قصصُ الأم وابنتها. كون عذاب الطفل أكثر إيلاماً، فإنه كان يحس بتعاطف كبير مع عشيقته الصغيرة وبالأخص لما تتحول نوبة من بكائها إلى الهستريا. كان يود صادقاً لو في وسعه تحريرها من ذكرياتها الأليمة، بأن يقص عليها أيضاً نتفاً من حكايات طفولته وصباه. من ضمن ذلك، حكاية أخته الوحيدة، غير الشقيقة، التي حدبت عليه منذ صغره وكانت بمثابة الأم الثانية. لم ينتبه لنفسه في إحدى المرات، لما ندّت عنه هذه الكلمات: " في حياتي كلها، لم أحب من النساء سوى آناستاسيا.. " " أليسَ من الخطيئة، أن يعشق شخصٌ أخته؟ "، سألته فجأة. وكانا لا يتحادثان سوى بالفرنسية غالباً، مع مفردات باللهجة الدارجة للضرورة. فلما قالت له ذلك، شاءَ أن يختبر ردة فعلها بسؤال مماثل: " ألم يحدث لك نفس الشيء؟ ". ثم استطردَ، مستوعباً نظرتها المستنكرة: " لا تكذبي، فإن أمك أخبرتني بكل ما كان يجري تحت سقف بيتكم " " ولماذا ستفضح نفسها، وأسرتها، أمام رجل غريب؟ "، تساءلت بارتياب. هذا السؤال، الذي باغته حقاً، كان إلى ذلك ينم عن كبر عقل الفتاة ونضوجها المبكر. ويتذكرها حينئذٍ، وكانت مستلقية فوق الزربية على بطنها، رافعة رأسها إليه مثل قطة متوثبة للقفز على فريسة سهلة. مع كون سيرة أمها، الشائنة، معروفة لها ولا شك، إلا أنه فضّل أن يجيبَ باقتضاب: " لأننا كنا زملاء عمل، وصديقين أيضاً " " هل كنتَ تفعل معها ما تفعله معي؟ " " أجيبي على سؤالي، أولاً! " " هل كنتَ تفعل معها، ما تفعله معي؟ "، كررت بعناد. قال لها، كاذباً بالطبع ولسببٍ ما: " لا، كان لدي صديقة أخرى مغربية " " مع أنني لا أصدقك، إلا أن والدي لم يذكر مرة اسمك قط. كان يكن كراهية شديدة لزميلكم، زكرياء، ويتهم الأم بأنها عشيقته " " كان من المفترض أن تتجه غيرته وشكوكه نحو مخدومها، مسيو جاك؟ " " وهل يجرؤ على تسمية الكَاوري؟ "، قالتها باللهجة الدارجة وببساطة أثارت ضحكه. قال لها مداعباً على الرغم من الحديث الجديّ: " أنا أيضاً كَاوري، ولعله لم يكن يجسر على اتهامي! ". ضحكت لقوله، ثم ما لبثت أن أراحت رأسها فوق يديها: " ألا تغضب مني، لو أخبرتك بما قاله عنك ذات مرة؟ "، سألته بنبرة حذرة دونَ أن تنظر إليه. رد من فوره، مستعملاً المفردة المغربية: " زامل؛ أليسَ كذلك؟ " " بلى، أسمح ليَّ "، قالتها معتذرة بنفس اللهجة. وهيَ ذي تستطرد، وكما لو على سبيل تخفيف وطأة ذلك الوصف المشنوع: " كان كذلك رأيه في مسيو جاك، ولكنه لم يكن يتفوه به سوى في حالة الغضب الشديد " " وأنتِ؟ ما رأيك بالمسيو جاك؟ " " كان يقول، أن المسيو يضاجع امرأته كأنها غلامٌ ولذلك لم يمكنهما إنجاب طفل! "، تابعت الكلام وكأنها لم تسمع سؤاله. عندئذٍ أعاد سؤاله بصيغة أخرى، مباشرة: " ولكن زكرياء، بالرغم من أنه معروف كزامل، أنجبَ ابنة جميلة..؟ ". رفعت رأسها ثانيةً إلى ناحيته، وطفقت تتأمل في عينيه بغموض. بقيت صامتة لحظات، ثم ما عتمت أن أجابت بجرأة أقرب للغضب: " لعلني ابنتك أنت، فمن يدري؟ " " أنا؟ إنك تضحكينني! على أي حال، أطمئنك يا حمقاء بأنني حضرتُ للمغرب أول مرة وكان عمرك يناهز العامين " " زكرياء لا يُمكنه أنه يكون أبي؛ أتعرف لِمَ؟ " " هل لأنه ضاجعك مرةً ما؟ " " لا، أيها الكَاوري الشرير! "، قالتها بغضب وقد صارت بالفعل أقرب إلى قطة مُثارة تُحفّز مخالبها للانقضاض. ثم أضافت بلهجة متعالية وهيَ تتنفس بصعوبة: " لأنك تعلم، تماماً مثل الجميع، بأنّ مسيو جاك هوَ والدي الحق ".
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الصراطُ متساقطاً: الفصل المفقود 1
-
المزحة
-
تورغينيف وعصره: القسم الأخير
-
الصراطُ متساقطاً: بقية فصل الختام
-
الصراطُ متساقطاً: تتمة فصل الختام
-
الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 14
-
عصيرُ الحصرم ( سيرة أُخرى ): 71
-
الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 13
-
الشرفة
-
الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 12
-
الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 11
-
الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 10
-
الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 9
-
الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 8
-
إحسان عبد القدوس؛ الصورة النمطية للكاتب/ 2
-
إحسان عبد القدوس؛ الصورة النمطية للكاتب
-
الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 7
-
الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 6
-
الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 5
-
الصراطُ متساقطاً: فصل الختام 4
المزيد.....
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|