|
التدمير المنهجي للزراعة في العالم من العراق إلى الهند
ثائر دوري
الحوار المتمدن-العدد: 1524 - 2006 / 4 / 18 - 12:06
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
ترتبط الحضارة الإنسانية أشد ارتباط بالزراعة ، فالإنسان المتحضر عاش كمزارع لآلاف السنين بينما لم يبلغ عمر عصر التصنيع حتى الآن سوى مائتي عام . و ما زال ثلاثة أرباع البشر يعيشون على الزراعة . و الزراعة قبل أن تكون مصدر رزق هي طريقة حياة و ثقافة و حضارة و لعل الكلمة الإنكليزية agriculture) ) التي تربط الزراعة بالثقافة موفقة تماماً في التعبير عما نعنيه. و لشدة اقتران الإنسان بالعمل الزراعي و لزمن يبلغ آلاف السنين فقد طور ثقافات و حضارات و رموز تماثل بين الإنسان و الأرض . و في المركز من كل ذلك يحتل موضوع البذور دوراً محورياً سواء على صعيد الرمز أم على صعيد الواقع . فعلى صعيد الرمز البذور هي رشيم الحياة ، فالزواج هو بذر للبذور للمحافظة على النوع ، و على صعيد الواقع فإن جمع البذور و الاحتفاظ بها للموسم القادم هو محور العمل الزراعي ، كما أن انتظار إنتاشها و نموها هو جزء من حياة المزارع . و كل حضارة زراعية طورت كما كبيراً من الرموز حول البذور ، كما طورت حلقة معقدة لحفظها و تبادلها و استنباط الأنماط الجيدة و القيام بعمليات تهجين و بالنتيجة استطاعت كل حضارة إنتاج بذور متأقلمة مع مناخها و نوعية غذائها و احتياجاتها . لكن مجال البذور يتعرض اليوم لهجمة شرسة من الشركات الاحتكارية ، التي تسعى للسيطرة على هذا المجال الحيوي الذي هو مفتاح حلقة الغذاء . ويتم تغليف محاولات الهيمنة كالعادة بدعاوي القضاء على الجوع و استخدام العلم لخير البشرية و تقدمها . لكن النتيجة النهائية لكل ذلك هو فقدان البلدان سيطرتها على حلقة إنتاج الغذاء و فقدان المزارعين لاستقلالهم و تحولهم من منتجين إلى مستهلكين و ازدياد الجوع و الفقر و البؤس ، كما تبين التجربة الهندية . و تتراوح أساليب الترويج لسيطرة شركات البذور الاحتكارية من الضخ الإعلامي كما ذكرنا ، إلى فرض القوانين المجحفة عبر السلطات الفاسدة التابعة ، كما في حالة الهند و أغلب دول العالم . و هذا ذبح بطريقة ناعمة يترك الضحايا يموتون ببطء دون أن يعرفوا اليد التي تمسك السكين التي تذبحهم . و في الحالة الثالثة ، الحالة العراقية يتم فرض سيطرة هذه الشركات بالقوة العسكرية الخشنة و هذه الطريقة على قسوتها هي الطريقة الأفضل لنمو الوعي فهي تترك المصالح الاقتصادية للشركات عارية من ايديولوجيا العلم و لا تسمح لها بالاختباء وراء السلطات المحلية ، كما في الحالة الهندية . بل تحضر الشركات الإحتكارية برفقة الدبابة و الجندي الأمريكي ، و بالتالي يرى العراقي عدوه عاريا مجردا من أي غطاء ايديولوجي زائف . الحرب لحظة أزمة كبيرة ، بل محنة كبيرة ، تعري أخلاقيات المجتمع و الأنظمة و الأفراد . فكل ما يحاولون إخفائه من سلوكياتهم و طريقة تفكيرهم و نظرتهم للآخر تظهر واضحة جلية بدون رتوش . الحرب لحظة كشف هائلة يظهر فيها كل شيء على حقيقته . و هذه ميزة لا تقدر بثمن خاصة في نظام عالمي مثل النظام العالمي الذي نعيش في ظله . نظام يقوم على الكذب و الدجل ويتبنى سياسة قلب الحقائق سياسة رسمية فيتحول القاتل إلى ضحية و الضحية إلى قاتل ، و يطلب من الضحية أن تقدم اعتذارها لقاتلها لأنها اضطرته لقتلها . و يسهر على سياسة الدجل و الكذب الرسمية هذه "ميديا " هائلة قادرة على قلب الحقائق و إظهار الأبيض أسودا و الأسود أبيضاً بطرق تقترب من الإعجاز . إن النظام القائم يرتكز على التضليل الإعلامي و غسل أدمغة البشر ، و في اللحظة التي تنزاح الغباشة عن عيون الناس في شرق العالم و غربه سينهار هذا النظام حتماً . هذه هي بعض خطورة الغزو و القوة الخشنة ، ففي الحرب تنهار كل الأكاذيب و يظهر النظام عارياً لأنه مجبر على التصرف على حقيقته ، فالغزو الذي يصطدم بمقاومة فعالة لا يترك فرصة للمحتل ليقوم بطلاء وجهه و إخفاء أنيابه ، فيظهر دموياً احتكاريا ، فتراه يضيق على الحريات و هو الذي كان يرفع شعار الحرية و الديمقراطية ، و يكمم أفواه وسائل الإعلام و هو الذي كان يرفع شعار السماوات المفتوحة ، و ينتهك حقوق الإنسان التي كان يدعي الدفاع عنها . و في حالة الاحتلال يتصرف المحتل بعنجهية فلا يحاول أن يمرر قراراته المسمومة مغلفة بورق سولوفان مزوق ، كما هي عادته ، لأن ظروف المجابهة المباشرة المحتدمة لا تسمح له بهذا الترف و لأنه لا يوجد حكومات من أبناء البلد تأخذ على عاتقها تسويق هذه القرارات . و لعل ما حدث و يحدث بالعراق دليل عما نتحدث عنه . إن موضوع الاحتلال الأمريكي للعراق موضوع كبير لن يستنفذ اليوم و لا غداً بل ربما ستبقى البشرية تدرس هذه التجربة لعقود و تستخلص الشعوب العبر منها . و هنا سنلقي الضوء ، فقط،على جانب واحد من هذه التجربة و هو ما فعله المحتل بالجانب الزراعي و هو أمر سبقنا الكثيرون لفعله . و ما سنذكره قد يبدو مكرراً في بعض جوانبه إلا أن التكرار مفيد في ظروف كالتي نعيش بها ، حيث أن النسيان هو سلاح القتلة الأساسي على حد ما تذهب إليه الحكمة الصهيونية ( الكبار سيموتون و الصغار سينسون ) قدمت و تقدم المقاومة العراقية خدمة هائلة لوعي البشرية فهي قد عرت النظام الإمبريالي الأمريكي و أظهرته على حقيقته نظاماً عنصرياً ، دموياً ، إبادياً ، احتكارياً .......... رغم أن كثيرا من السياسيين و المثقفين الوطنيين كانوا يعرفون هذه الحقائق نتيجة متابعتهم للوضع العالمي ، و الأمريكي تحديدا ، إلا أن ذلك لم يكن قد تسرب إلى عامة الناس في أنحاء العالم ، فقد كان للنموذج الأمريكي الذي تروج له ميديا ضخمة ، كما ذكرنا ، على انه نموذج للحرية و الديمقراطية و العدالة و الانطلاق الشخصي نحو النجاح بدون عقبات . كان له تأثيره المبهر على الناس في كل أرجاء المعمورة بمن فيهم العرب و المسلمون . لكن العدوان الأمريكي على العراق و ما تلاه المقاومة الفعالة على الأرض التي سببت استطالة زمن الحرب جرد هذا النظام من كل ما يتستر به . فبان المجتمع الأمريكي محكوم بأقلية تحتكر السلطة و الثروة و لا تتورع عن فعل أي شيء في سبيل الحفاظ على مكاسبها . و ظهرت كذبة الديمقراطية و حقوق الإنسان الأمريكيين من خلال صور أبو غريب ، و صورة الرجل الموصول بأسلاك الكهرباء و رأسه مغطى حتى أن هذه الصورة صارت عنواناً للعدوان الأمريكي على العراق ، كما كانت صورة الطفلة المحترقة بالنابالم عنوان الحرب الأمريكية على فيتنام ( على ما يذكر الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر ) إن العراق هو الحالة القصوى الكاشفة لجوهر الإمبريالية و إلى جانبها سنشير إلى التجربة الهندية في مجال الزراعة و الكوارث التي سببتها لها الاحتكارات الزراعية العالمية ، و لعل الهند مثال نموذجي فهي تقدم اليوم على أنها بقعة العولمة المضيئة إذ تحولت بفضل بيل غيتس و أمثاله إلى قلعة من قلاع المعلوماتية ، فهي تسرق فرص العمل من الأمريكان ذاتهم ، كما يقال ، مع إيراد سنوي يبلغ حوالي سبعة مليارات . فالهند تقدم على أنها تجربة ناجحة للعولمة و على الفرص التي تمنحها للشعوب . بينما يتم غض النظر عن الخراب الذي يصيب القطاع الزراعي بسبب العولمة ذاتها ، و الذي يقدر مناهضو العولمة خسائره بخمس و عشرين مليار دولار سنوياً إضافة إلى حالات الانتحار التي يبلغ عددها خمس و عشرون ألفا وسط المزارعين بسبب الإفلاس تحت ظروف المنافسة غير المتكافئة التي يوضع بها الفلاحون ، و بعد كل ذلك أم قبله لست أدري !! هناك الخراب البيئي و المجاعة و تدمير الاقتصاد الريفي ، الذي هو عماد الهند على مر العصور ، و استنفاذ مياه الشفة من أجل صناعة الكوكاكولا. حيث يتم استخدام تسعة ليترات ماء من أجل إنتاج ليتر كوكا كولا . و يستهلك أحد معامل شركة كوكاكولا في الهند مليون ليتر من الماء يومياً في حين تنقل نساء قبائل بلاشيمادا، في مقاطعة بالاغات في كيرالا مياه الشفة على رؤوسهن من أماكن بعيدة " لم تكتف شركة كوكا كولا بسرقة مياه عامّة الناس، بل قامت بتلويث القليل المتبقّي منها، من خلال تصريف المياه الملوّثة داخل حفر أنشأتها داخل منشآتها لطمر النفايات الصلبة فيها. فيما مضى، كانت الشركة تضع نفاياتها في الخارج، الأمر الذي كان يؤدّي مع حلول الأمطار إلى اندثارها داخل السّواقي والمجاري والآبار، ممّا كان يشكّل خطراً هائلا على الصحّة العامّة. لم يعد الأمر كذلك اليوم، لكنّ ذلك لا ينفي واقع تلوّث ينابيع المياه. إضافة الى ذلك، تستخدم الشركات الذرة لتصنيع مشروب غنيّ بالسكّر، علماً أنّ 30 بالمئة من منتوج الذرة يستخدم كمادّة أوليّة في تصنيع غذاء للماشية والفروكتوز. كما أنّ النسبة نفسها مخصّصة للاستهلاك، وانّ احتكارها من قبل تلك الشركات يؤدّي، في الحقيقة، الى حرمان الفقراء من منتوج أساسي ورخيص" ففي جايبور، عاصمة راجاستان، وبعد فتح مصنع كوكا كولا في العام 1999، انخفض مستوى المياه الجوفيّة من اثني عشر مترا في العمق الى سبعة وثلاثين متراً. وفي مهديغانج، المتواجدة على بعد عشرين كيلومترا من مدينة فارانازي المقدّسة (بيناريس)، غارت المياه بعمق اثني عشر مترا (5). هذا هو النظام القائم يستنفذ و سائل العيش من ماء و طعام لإنتاج مشروب لا قيمة حياتية او غذائية له بل يعتبر ضاراً من الناحية الصحية !!!
أسطورة العلم ضد الخرافة منذ عصر الأنوار حل "العلم " مكان الدين في منظومة الفكر الغربية الحديثة . فاستبدل الإنسان المعاصر الإيمان بـ "العلم" ، الذي ينظر إليه كقوة خارقة قادرة على فعل كل شيء، مكان الإيمان بالله في المجتمعات السابقة للرأسمالية . أن لا تؤمن بـ "العلم" في المجتمعات الغربية فهذا يعني أنك ملحد ، لأن "العلم" له صفات كصفات الآلهة فهو الذي سيغير الكون و يقضي على الجوع و يحل كل مشاكل البشرية من الموت إلى آلام الولادة إلى المجاعة و المرض ..........الخ . و يقدم هذا "العلم" ، الذي يقرن غالبا بصفة "حديث" و هي كلمة يخر لها الإنسان المعاصر ساجداً ، يقدم " العلم الحديث" في كل مجالات الحياة على أنه نقيض لكل الممارسات السابقة له التي توصف بالخرافية أو المتخلفة أو القروسطوية ( مشتقة من الإنتماء إلى القرون الوسطى ) أو بوصف جامع مانع مختصر " غير علمية "و بالتالي فما إن يدخل "العلم" ، الذي يقدم أيضاً كنزيه و محايد ، ما إن يدخل إلى قطاع ما فعلى كل الممارسات الأخرى أن تتنحى جانباً . ينطبق هذا على الطب و الزراعة و تربية الحيوانات ........الخ . و من يتشبث بما تعلمه بالخبرة و التجربة ، خبرة أجيال متعاقبة و تجاربها ،خاصة في مسائل وثيقة الصلة بحياتها ، يصنف كمتخلف ، معاد للتقدم ، لا يفهم روح العصر . و تصبح إزاحته أمراً ضرورياً لخير البشرية و لتقدمها و لو تمت هذه الإزاحة قتلاً بالتجويع أو بطائرات الشبح . و يطلق على هذا الأمر صفة "أضرار جانبية " ، حتى أنهم صاغوا منها نظرية متكاملة أسموها " نظرية الأضرار الهامشية " لكن هل الحقيقة كذلك ؟ و هل هذه الممارسات هي علمية بحتة ؟ و هل هذه الثنائية علم حديث مقابل خرافة قرون وسطوية صحيحة ؟ و هل هناك علم بالمطلق نزيه محايد مجرد عن الأغراض الدنيوية ؟ و هل خبرة مئات الأجيال المتراكمة خلال قرون طويلة لا قيمة لها ؟ في خمسينيات القرن العشرين عاد أحد أبناء الملاكين الكبار ( الإقطاعيين ) في الريف السوري إلى الوطن بعد دراسة الهندسة الزراعية في أوربا . عاد متحمساً لتطبيق ما تعلمه من فنون زراعية حديثة على الأرض التي بحوزة أبيه . و كان الوالد متعاوناً جداً و يشعر بالضعف أمام فكرة "العلم " فلم يقف حجر عثرة في طريق ولده المهندس الزراعي المتعلم . أعطاه الأرض ليزرعها و تركه يطبق أساليبه العلمية الحديثة التي تعلمها في أوربا ، من البذار إلى طرق الري و الفلاحة و التعشيب . لكن النتيجة عند جني المحصول كانت فشلاً تاماً إذ أن الأرض لم تنتج شيئاً يستحق الذكر . فقال الأب كلمته الشهيرة التي صارت مثلاً : - جمعناها بالجهل و أضعتموها بالعلم . و القصة التي يذكرها نعوم تشومسكي (6)عن مأساة الزراعة في هايتي مشابهة لهذه القصة . فقد أجبرت الولايات المتحدة هايتي على الاستعانة بخبراء زراعة أمريكيين لتطبيق " آخر التطورات في الزراعة العلمية " رغم أنه في عام 1929 كان فلاحو هايتي ينتجون القطن بنجاح اكبر من الأمريكان . فكانت النتيجة دماراً حاق بمحاصيل الفلاحين بعد تطبيق "الأساليب العلمية الحديثة " و الأسباب في ذلك كما يقول تشومسكي : (( لأن القائمين على المشروع لم يرغبوا بدراسة التقنيات التي يستخدمها السكان المحليين الذين طوروا طرائق صالحة عملياً عبر قرون مما مكنهم من زراعة القطن بنجاح فاق نجاح المزارع التي تزرع " علمياً " ))
و يتابع تشومسكي متحدثاً عن قصة الولايات المتحدة مع خنازير هاييتي . في عام 1978 خشي خبراء الولايات المتحدة من انتقال حمى الخنازير من الدومينيكان المجاورة لهاييتي . و مع أن العدوى كانت موجودة في هاييتي إلا أن قليلاً من الخنازير قد مات لأنها مقاومة للأمراض . فبدأ الخبراء بإبادة خنازير هاييتي لاستبدالها بخنازير من الولايات المتحدة الأمريكية مقاومة للحمى . و سبب هذا الأمر خسائر بقيمة 600 مليون دولار هي القيمة المباشرة للخنازير المبادة . و ترنح الاقتصاد الريفي الذي يعتمد على تربية الخنازير . ثم أرسلت هيئة المعونة الأمريكية خنازير من ولاية "ايوا" و هي لم تكن منيعة ضد الأمراض كما حال الخنازير الهايتية الأصلية . كما أنها كانت بحاجة إلى علف بقيمة 2560 دولار سنوياً . و بالنتيجة وصف أحد الهايتيين هذا المشروع للتزود بالخنازير بالقول : (( لا يمكن أقلمة هذه الخنازير في هاييتي ..إذ سرعان ما سيطلبون منا تركيب مولد كهربائي و مكيف هواء من أجلها )) و تتكرر نفس القصة في ليبريا مع الأرز هذه المرة . فقد طور شعب الكبيل مئات الأصناف من الرز تطابق بدقة التفاصيل الصغيرة في النظام البيئي لكل منطقة من البلد . فاقترح الخبراء الأمريكان استبدال هذه الأصناف بصنف أمريكي يحتاج إلى كيماويات مشتقة من البترول غالية التكلفة و تعطي إنتاجاً أقل !!! و إن " الروح العلمية "أو العلم ليسا بحياديين . بل إن العلم منغمس في شبكة مصالح اقتصادية لأفراد و لدول . و حتى إن افترضنا تجرده عن المصالح فإن احتقار خبرة الشعوب و الأجيال و وسمها بالتخلف هو موقف غير علمي بالأساس فلآلاف السنين عاشت الشعوب في بيئات تكيفت مع أرضها و مناخها فزرعت و أكلت و لبست بشكل يتوافق مع بيئتها و بالتالي فإن كل ممارساتها و عاداتها هادفة و ذات غاية محددة . فهي أقلمت نباتات تتناسب مع مناخها و تربتها و دجنت حيوانات تستطيع العيش في أرضها ....الخ . فالتدخل الفظ الذي يحتقر خبرة و ثقافة الشعوب بدعوى العلم يخفي مصالح شركات أو دول أو يعبر عن رؤية قاصرة أحادية الجانب للحياة . و غالباً ما يفضي إلى كوارث
تحويل المنتجين إلى متسولين نرجو أن نتأمل هذه الآلية المصممة عن سبق إصرار و تخطيط لتحويل المنتجين المكتفين ذاتياً إلى متسولين للقروض و المساعدات . في العام 2004 بلغت خسائر مالي من مردود تصدير القطن 43 مليون دولار بينما يبلغ الدعم المالي الذي تقدمه واشنطن لهذه الدولة 38 مليون دولار. أي أن خسائر مالي من تصدير القطن بسبب انحدار أسعاره عالمياً بسبب فائض الإنتاج المصطنع و الأسعار المنخفضة بشكل مصطنع ، أيضاً ، هي أكبر من المساعدات التي تقدمها الولايات المتحدة مع شروط سياسية مجحفة تنال من سيادة الدولة. و هنا يبرز السؤال هل خسارة مالي ظاهرة اقتصادية بسبب قوانين السوق البحتة أم بتخطيط مسبق ؟ يشرح الكاتبان " *توم امادو سيك وفرنسيس كرن" في مقال " معركة من أجل القطن الإفريقي المنشور في لوموند الفرنسية(1) كيفية تخسير الدول المنتجة للقطن في سوق القطن العالمية . يقولان : ((منذ العام 2001، وجهت اربع بلدان من الساحل وهي من الأكثر فقرا في العالم (التشاد، بوركينا فاسو، مالي وبينين) الى منظمة التجارة العالمية طلبا لالغاء الدعم الواسع الذي توفره الولايات المتحدة كما الاتحاد الأوروبي إلى منتجي القطن لديهما . يذكرون أن المانحين الدوليين يفرضون عليهم التزاما دقيقا بالمعايير الاقتصادية المطلوبة (خصخصة شركات القطن، فتح الأسواق) لذا فهم يطالبون في المقابل بوضع حد للتدابير الغشاشة من قبل الدول الصناعية. وكانت هذه المبادرات الناتجة عن ثلاثة أعوام من العمل المشترك بين المنتجين والصناعيين والمنظمات غير الحكومية،أحد الأسباب وراء فشل المؤتمر الوزاري لمنظمة التجارة العالمية في كانكون (المكسيك) خلال شهر ايلول/سبتمبر 2005)) فالولايات المتحدة تقدم الدعم بشكل مباشر للمنتجين (3،5 مليارات دولار) أو من خلال مساعدات على التصدير (1،5 مليار دولار). وتشكل هذه المبالغ نصف المبالغ المخصصة في العالم لدعم القطن. من شأن المساعدات التي تقدمها الولايات المتحدة، وبنسبة أقل الاتحاد الأوروبي إلى المنتجين الاسبان واليونانيين، ان تغذي فائضا في الانتاج العالمي مما يتسبب في تراجع الاسعار. ففي العام 2005، هبط السعر العالمي إلى ما دون الخمسة وخمسين سنتا لليبرة الواحدة. ففي حدود الخمسة وستين سنتل لليبرة الواحدة يتوقف المنتجون الأفارقة عن تحقيق الأرباح وتبدأ خسارتهم ما دون هذا السعر وهم مضطرون لتقليص المساحات المزروعة عامي 2005-2006. بينما استمر الضغط على دول غرب أفريقيا للامتثال لقوانين السوق و التوقف عن دعم المزارعين طوال التسعينات، بذل منتجو القطن الأفارقة جهودا جبارة للتأقلم مع متطلبات السوق العالمية. فتحت ضغط الأطراف المانحة، وأولها البنك الدولي، اضطروا إلى إطلاق خصخصة شركات القطاف كالـ"شركة المالية لتطوير النسيج" التي كانت تؤمن لهم أسعار الحدّ الأدنى وتأمين مواد الإنتاج وشراء المعدات . وقد أدى هذا المسار إلى تفكيك شبكة الإنتاج وتعريض الفلاحين للمخاطر. و بالنتيجة أصبح مصدر الرزق لما بين 15 و20 مليون شخص في أفريقيا الغربية ، يعيشون من القطن بصورة مباشرة أو غير مباشرة مهددا، و أصبحت دولهم مضطرة لتسول المساعدات من أمريكا كي تعبد الطرقات و تبني المدارس و تدفع رواتب الموظفين . و نفس المسار السابق يطبق الآن في العراق لكن بصورة أكثر وضوحاً ، و على طريقة العلاج بالصدمة . فقد وجه المستشارون الأمريكيون انتقادهم لطريقة الدولة العراقية ( قبل الاحتلال الأمريكي ) في إدارة القطاع الزراعي الذي اعتمد على تقديم البذور و المحروقات بأسعار رخيصة للفلاحين إضافة إلى إمدادهم بالجرارات و الحصادات و من ثم شراء المحاصيل منهم بأسعار مجزية مما ضمن للفلاحين العراقيين قبل الاحتلال حياة مستقرة . فبحجة تحقيق التنافسية في السوق لتطوير قطاع الزراعة قرر المستشارون الأمريكان وقف كل هذا و تعليم المزارعين الاعتماد على أنفسهم ، حسب قولهم : (( .......ويقول المسؤولون في سلطة الاحتلال أنهم شعروا أن عليهم شراء القمح لأن الفلاحين العراقيين الذين يشكلون نصف القوى العاملة يتوقعون من الدولة أن تشتري منهم كما كانت تفعل منذ عقود طويلة بالنظام الاشتراكي السابق. ولكن المسؤولين كانوا يخشون أن القمح وهو من نوعية رديئة سوف يعطل آلات المطاحن ولن يمكن استخدامه لصناعة الخبز ولهذا أتلفوه!))(2) و لسد هذه الفجوة الغذائية يأتي الحل باستيراد قمح أمريكي و بالطبع فإن هذا القمح مدعوم من الدولة الفدرالية بقيمة 190 مليون دولار من ولايات كنساس وأوكلاهوما وتكساس في الولايات المتحدة الأمريكية!! (( في العراق القديم (يقصد السابق) كانت الدولة توفر البذور والمخصبات والمبيدات و أدوات الري و التراكتورات والمتطلبات الأخرى للفلاحين بسعر منخفض وهو عادة ثلث أو حتى ربع سعر السوق، وكانت تؤجر لهم دونمات الأراضي مجانا تقريبا مقابل (سنت واحد) في السنة! وكانت تشتري المحصول الرئيسي (الإستراتيجي) من القمح والشعير بسعر ثابت سواء كان المحصول صالحا للاستخدام أم لا. وكانت تطحن لهم الحبوب مجانا. وفي كل شهر تستلم كل عائلة سلة دقيق وسكر وشاي والمتطلبات الأخرى. ويناقش الآن مسؤولو سلطة الاحتلال ما إذا كان هذا الدعم سيستمر و إذا كان الأمر كذلك . إلى متى؟ ((
ولكن حقيقة أن سلطة الاحتلال استوردت القمح من أمريكا بعد أن دمرت محصول القمح العراقي أثار بعض التساؤلات حول صراع المصالح ، كما يسأل احمد حيدر الزبيدي عميد كلية الزراعة في بغداد ( هل جاءت الولايات المتحدة واستراليا لمساعدة العراق في تطوير زراعته أم لخلق منافسة؟)(2) و إذا كانت سياسة تحويل المنتجين إلى مستهلكين و من ثم متسولين سياسة رأسمالية متبعة في كل أنحاء العالم فإنها تشكل مسألة حياة أو موت بالنسبة للمشروع الأمريكي في العراق . فهذا المشروع يطمح إلى تحويل العراق إلى جمهورية "نفط "(( على غرار جمهوريات الموز )) كما هو الحال في باقي إمارات و ممالك الخليج العربي . و لسان حال الأمريكي يقول : كل ما عليكم القيام به هو إنتاج النفط و نحن نتكفل بإنتاج الطعام و الشراب و اللباس و التكنلوجيا و حتى الأفكار سنقدمها لكم مصنعة جاهزة ، فقط ، عليكم التحول إلى مستهلكين !!! إن البنية التحتية الفقيرة لدول الخليج العربي ، و الطبيعة المناخية الجافة ، و الجغرافية الصحراوية التي تفتقر إلى المياه و بالتالي تفتقر قبل عصر النفط إلى وجود زراعة مستقرة إلا في مناطق صغيرة ، إذ أن غالبية السكان كانت تعيش حياة البداوة . إن هذه الظروف قد ساعدت على تمرير المشروع الأمريكي القاضي تحويل البشر إلى مستهلكين فقط . فتحولت بسهولة بالغة شعوب الخليج العربي إلى شعوب مستهلكة لا تفعل سوى الأكل و الشرب و الاستلقاء أمام شاشات التلفزة لمراقبة الراقصات ........... لكن الوضع في العراق مختلف لأن الزراعة عمرها خمسة آلاف عام ، و في العراق أقدم نظام ري نهري عرفته البشرية و يمر من أراضيها نهرين عظيمين ، دجلة و الفرات ، و هناك سهول خصبة ، كما أن أكثر من نصف السكان يعملون بالزراعة . فلم يبق أمام الأمريكان من خيار سوى القضاء المنظم على الزراعة عبر فرض الشروط المجحفة على المنتجين ، بشكل يشبه ما يجري للقطن الأفريقي ، أي تطبيق ما يسمى بقوانين السوق و ما يسمى بالمنافسة الحرة على المزارعين ، و بالطبع فهذه المنافسة ليست حرة بالمرة ، فالولايات المتحدة تدعم مزارعيها بمليارات الدولارات ، كما رأينا . أو تحويل البقية الباقية منهم إلى مستهلكين بطريقة أخرى و ذلك عبر تدمير نظامهم الزراعي و إلحاقهم بشركات البذار الأمريكية و هذا ما سوف نتطرق إليه في ما يلي .
معركة البذور الكونية كما ذكرنا من قبل فإن الزراعة ليست مجرد وسيلة لإنتاج الرزق بل هي طريقة حياة و ثقافة متراكمة عبر آلاف السنين . كما أنها نظرة خاصة للكون،حيث يندمج الإنسان بالكون ، فقد وجد المزارع في دورة الفصول الأربع و ما يطرأ على النباتات من موت في الشتاء إلى تجدد و نمو في الربيع و من ثم نضج و حصاد في الصيف و بعده ذبول في الخريف . و جد بهذه الدورة تعبيراً رمزيا عن دورة حياته ، فصار يقول عن شبابه ربيع العمر و عن كهولته خريف العمر . و اخترع الإنسان المزارع مفهوم الزمن الدائري المقتبس من دورة الفصول . إن الإنسان المزراع مندمج اندماجاً تاما بالطبيعة فكل ما يفعله في حياته يمثله بمفردات العمل الزراعي فهو يدمج الأنثى بالأرض و الزواج و العمل الجنسي بالفلاحة ، و يقول الفلاحون في سوريا عن حبة القمح عندما تنتش بأنها قد " حبلت". و في المركز من كل هذا العامل الرمزي المندمج في الطبيعة هو البذار سواء عندما يقوم الرجل و المرأة بالجنس أو عندما يقوم الفلاح برمي البذار في الأرض . البذار هو مفتاح عملية التجدد على الصعيدين الرمزي و الواقعي . فهو يحتل مركزا محورياً في العملية الزراعية و خلال آلاف السنين كان الفلاحون يحتفظون بجزء من محصولهم كبذار للسنة القادمة . و كانوا يتبادلون خبراتهم حول البذور و يبادلون الأصناف الجيدة ، بكل حرية ، مع جيرانهم من الأفراد و الشعوب و هذا أدى إلى اصطفاء سلالات متأقلمة مع البيئة من ناحية المناخ و مقاومة الأمراض.........الخ لكن الاحتكارات مدت يدها إلى هذا القطاع و سيطرت عليه كما سيطرت على كل شيء آخر في العالم ، فاليوم تتحكم خمس شركات كبيرة بإنتاج البذور الزراعية ، و يتوقع أن لا يكون هناك أية بذور زراعية مهمة في العالم خارج سيطرتها بعد عشر سنوات، و يتنبأ بعض العلماء أن هذه البذور ستقتل المزارعين والبشر معاً، ولاسيما تلك التي عدّلت بوضع خاصية الانتحار فيها، بهدف الاحتكار وتحقيق الأرباح. و بما أن قانون الرأسمالية الأبدي الذي لا حياة لها بدونه هو الاستهلاك. لذلك يجب تحويل هذه الكتلة الكبيرة من المزارعين، ثلاثة أرباع البشرية، إلى مستهلكين. و لا يمكن أن يتم ذلك سوى بتخريب النظام المستقر لإنتاج و تبادل البذور المستقر منذ آلاف السنين . و بدأ تخريب هذا القطاع تحت يافطة حماية حقوق الملكية الفكرية .
حقوق الملكية الفكرية و احتكار الحياة جوزيف البرشت، فلاح عضوي من ألمانيا، لم ترضه البذور المتاحة تجاريا فعمل وطور تنويعات ايكولوجية من القمح خاصة به. ثم أخذ عشرة فلاحين من القرى المجاورة بذور قمحه. ففرضت غرامة على البرشت من قبل حكومته لأنه يتاجر في حبوب غير مرخصة. وتحدى البرشت العقوبة وقانون البذور لأنه يشعر بالقيد في ممارسته لمهنته بحرية كفلاح . و تقول الناشطة الهندية فانداشا (3) (( في اسكتلندا، هناك العديد من الفلاحين الذين يعملون على تنمية بذور البطاطس ويبيعون هذه البذور للآخرين. استطاعوا حتى بداية التسعينات، بحرية، بيع هذه المادة التناسلية لمشاتل البطاطس الأخرى، وللتجار، وللفلاحين. في التسعينات، بدأ حاملو حقوق أصحاب المشاتل إصدار تحذيرات لزراع البطاطس من خلال الجمعية البريطانية لأصحاب المشاتل وجعلوا بيع بذور البطاطس من الفلاحين إلى الفلاحين الآخرين غير قانوني. اضطر أصحاب مشاتل تنمية بذور البطاطس إلى تنمية نوعيات منها من خلال التعاقد مع صناعة البذور، التي كانت تعين السعر الذي سوف تشتري به منهم المحصول وحظرت على المربين بيع المحصول إلى أي احد آخر. وبعدها فورا بدأت الشركات تخفيض المساحات والأسعار. في 1994، بذور البطاطس التي كانت تشترى من الفلاح الاسكتلندي بـ 140 جنيه إسترليني أصبحت تباع بأكثر من ضعف هذا السعر إلى الفلاح الإنجليزي، بينما كلا المجموعتان من الفلاحين منعتا من التعامل بشكل مباشر مع بعضهما البعض. وقع أصحاب المشاتل الذين يربون بذور البطاطس عريضة شكوى يشتكون فيها من إمساك مجموعة قليلة من الشركات بخناقهم وتصرفهم كـ "كارتل". وبدأوا أيضا في البيع المباشر للبذور الغير المرخصة للفلاحين الإنجليز. ادعت صناعة البذور أنها خسرت 4 مليون جنيه إسترليني في مبيعات البذور من خلال البيع المباشر لبذور البطاطس الغير مرخصة بين الفلاحين. في فبراير 1995، قررت الجمعية البريطانية لمربي النبات السير في إجراءات رفع الدعوى أمام المحكمة العليا ضد فلاح من ابردينشاير. اجبر الفلاح على دفع 30 الف إسترليني كتعويض لتغطية حقوق ملكية ضاعت على صناعة البذور عن طريق التبادل المباشر من فلاح لفلاح. قوانين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي القائمة منعت بهذا الشكل الفلاحين من تبادل البذور الغير مرخصة بالإضافة إلى النوعيات المفروض عليها الحماية. أيضا في الولايات المتحدة، تم تجريم التبادل بين الفلاح والفلاح. دنيس وبيكي وينتربوير كانا فلاحين يمتلكان مزرعة مساحتها 500 ايكر في ايوا. منذ 1987، عائلة ويتتربوير كانت تحصل على نصيب محسوس من دخلها من مبيعات "الأجولة البنية" لمحاصيلهم إلى فلاحين آخرين يستخدمونها كبذور. بيع "الجوال البني" كان يحدث عندما يزرع الفلاح بذوره في حقله الخاص ثم يبيع الحصاد كبذور للفلاحين الآخرين. آزجرو (شركة تجارية لديها حماية متنوعة لبذورها من فول الصويا) رفعت قضية تقاضي بها عائلة ونتربوير على أساس أن حقوق ملكيتها قد انتهكت. دفعت عائلة الوينتربوير أنها قد تصرفت في حدود القانون حيث أنه طبقا لقانون تنوع النباتات فالفلاحون لديهم الحق في بيع البذور، على شرط أن يكون البائع والفلاح كلاهما من الفلاحين. لاحقا، في 1994، تم تعديل قانون تنوع النباتات، بحيث عدل امتياز الفلاحين في أن يحتفظوا بالبذور ويتبادلونها، وتم تأسيس احتكار مطلق لصناعة البذور عن طريق تجريم التبادل والبيع بين الفلاح والفلاح. )) يحدث هذا في المركز الرأسمالي و الأمر لا يختلف عن ذلك بالهند سوى انه يأخذ شكلاً أكثر فجاجة بسبب الفساد الإداري و غياب التشريعات التي تحمي المزارعين،و غياب القضاء النزيه . تقول الناشطة الهندية في مجال مناهضة العولمة فاندا شيفا : ((في 2004 طرح قانونان – قانون للبذور وقانون محلي لبراءات الاختراع اللذان قد يدمرا للأبد التنوع البيولوجي لبذورنا ومحاصيلنا، ويسرقا من فلاحينا كل حرياتهم، مؤسسين لديكتاتورية في مجال البذور........ لا يزال الفلاحون في الهند يوفرون 80% من البذور. النوعيات الأصلية للفلاحين هي الأساس الذي يبنى عليه الأمن الغذائي والإيكولوجي. الفلاحون في بيهار والبنغال قد ارتقوا بنوعيات من البذور مقاومة للفيضانات، والفلاحون في راجستان وأراض دكا شبه الجافة قد طوروا نوعيات مقاومة للجفاف، والفلاحون في الهيملايا قد طوروا نوعيات تقاوم الصقيع. نوعيات الحبوب، والدخن، وبذور الزيت، والقمح، والأرز، والخضراوات توفر الأساس المتنوع لأمننا الصحي والتغذية السليمة. هذا هو القطاع الذي يستهدفه قانون البذور. تلك البذور هي النوعيات الأصلية المختلفة التي أنتجها الفلاحون والتي تزرع محاصيل شتى – آلاف من نوعيات الأرز، ومئات من نوعيات القمح، وبذور الزيوت مثل الكتان، والسمسم، وجوز الأرض، والكاكاو، والحبوب بأنواعها ( gahat, narrangi, rajma, urad, moong, masur, tur)، والخضراوات والفواكه. صمم قانون البذور "ليحيط بـ" بالاقتصاد الذي يوفر للفلاحين حرية الاختيار بين تنويعات من البذور. )) و تتحدث هذه الناشطة عن التجربة الهندية في هذا المجال و التي لا تتطرق وسائل الإعلام العالمية المسيطرة إلى هذا الجانب الكارثي الناجم عن اندماج الهند في النظام العالمي في حين يتم التركيز على القصص المفرحة و الايجابية لهذا الاندماج ، كالحديث عن تحول الهند على قلعة من قلاع المعلوماتية بفضل انفتاحها على بيل غيتس بحيث أن ذلك در على الإقتصاد الهندي حوالي سبع مليارات دولار . لكن ضحايا هذه العولمة و خسائرها البشرية و البيئية و الاقتصادية يتم الصمت عليها . بل يعتبر الحديث عنها من المحرمات. تراجع فاندا شيفا بالتفصيل ماذا يحدث بالهند في هذا الجانب . تقول : ((أخذت البلد بأكملها في نزهة بإدخال قانون البذور لعام 2004 على أرضية الاحتياج إلى القانون لضمان جودة البذور. رغم أن قانون البذور لعام 1996 يمارس توا الوظيفة نفسها في اختبار وترخيص البذور. تم إعلان عشرين معملا كمعامل لاختبار وترخيص البذور المتداولة في ظل قانون 1996في ولايات مختلفة. تم تمييز تسع شركات عملاقة للبذور كوكالات لمنح الترخيص. بضغط من البنك الدولي بدأت سياسة البذور المتبعة من 1988 في تفكيك نظام القطاع العام للإمداد بالبذور الهائل الحجم، والذي كان يقدر بحوالي 20% من البذور التي كان يزرعها الفلاحون. 80% من البذور قبل العولمة كانت من تنويعات الفلاحين أنفسهم، التي كانت تدخر، ويتم تبادلها ويعاد إنتاجها بحرية وكانت تضمن أمننا الغذائي. لدى قانون البذور لعام 2004 غرضا واحدا وهو غرض واحد فقط يهدف إلى إيقاف إنتاج الفلاحين لبذورهم وادخارها وتبادلها فيما بينهم لإعادة إنتاجها. الغرامة المفروضة على تبادل ومقايضة البذور الغير مسجلة (وهي تقدر بالآلاف من أصناف الفلاحين) تصل إلى 25 ألف روبية. وبينما يجرم قانون 2004 الفلاحين الذين يستهلكون أصناف التنوع البيولوجي والأصناف التقليدية، يفشل هذا القانون في أن يفعل فعلا واحدا يجب أن يقوم به، وهو تنظيم ومساءلة صناعة البذور للقطاع الخاص عن البذور الفاشلة التي ينتجها والتلوث الجيني الذي ينتج عن الكائنات المعدلة وراثيا التي يقوم بطرحها في الأسواق. على سبيل المثال، فشل بذور الذرة في ولاية بيهار العام الماضي سبب خسارة أكثر من ألف فدان يملكهم المزارعون هناك، والفشل المستمر سنويا لبذور القطن الذي يكلف خسارة أكثر من بليون دولار للفلاحين الهنود. في قانون البذور الجديد يستطيع الفلاحون فقط طلب التعويض بناء على قانون حماية المستهلك. وهو اختيار بأية حال غير متاح للفلاحين حاليا . والسلطة المركزية على هذه الدرجة من الوحشية، تتصرف لمنع الفلاحين من تربية بذورهم الخاصة، ولا توفر ضمانا ولا علاجا لهم من البذور الغير مجربة والخطرة تلك التي تبيعها الشركات الكبرى المتعدية الجنسيات في السوق الهندي.)) و تتابع : (( حجة الجوع هي أكثر الحجج استخداماً للترويج للهندسة الوراثية ودفعها للصدارة, فالأغذية المعدّلة وراثياً تلبي حاجة جوع الشركات العملاقة للربح أكثر من إشباعها لجوع الفقراء للطعام, ففي الهند يواجه المزارعون مصاعب لدى استخدامهم بذور القطن المعدلة جينياً وقد أثرت زراعة هذه البذور على طبيعة التربة, وتركت آثاراً خطيرة على البيئة المزروعة فيها)) و تقارن هذه الباحثة بين ما حدث فيما أسمته الثورة الزراعية الأولى المتمثلة باستخدام المبيدات الحشرية و المخصبات الكيماوية حيث أن " الكارثة التي حصلت عام 1984، اثر الحادث الذي وقع في مصنع بوبال للكيماويات والذي أودى بحياة 5000 شخص في ليلة واحدة، وترك 60 ألف ضحية حتى اليوم. واعتبرت شيفا أن الثورة الجديدة المتمثلة بالهندسة الجينية، لا تقلّ خطورة، متحدثة عن بداية تجربة زراعة البذور المعدلة في الهند التي بدأت العام 1993، بالرغم من أن القوانين الهندية تمنعها. كما عرضت لتجربة شركة مونسنتو الاميركية التي بدأت العام 2002 في زرع ثلاثة أنواع من البذور المعدلة في أربع ولايات هندية، وعن فشل زراعة احد أنواع القطن المعدلة وتسبّبها بخسائر للمزارعين، وعن عودة تلك الشركة إلى "تجاربها" تحت أسماء أخرى بعد منعها ومقاضاتها وتحطيم مكاتبها من قبل المزارعين المتضررين. كما شكت من أن كل تلك الاحتجاجات والفضائح، تمّ التعتيم عليها، ولم تصل إلى الصحافة العالمية، التي ما انفكت تروّج للأغذية المعدلة. واتهمت شيفا مجلات علمية كبرى ومرموقة مثل مجلة "نيتشر" التي كانت تأخذ بياناتها عن تطوّر المزروعات المعدلة جينياً في الهند "ونجاحها" من الشركة نفسها، من دون أن تكلّف أحداً بالذهاب إلى الهند والتحقق من النتائج. وشككت شيفا بهذه التكنولوجيا التي وضع إنتاجها في السوق قبل أن تدرس كفاية تأثيرتها الجانبية على الصحة وعلى المحيط الحيوي. ونبّهت أن العديد من المشاكل الصحية اليوم التي لا يعرف مصدرها ناجمة عن استهلاك هذه المواد التي دخلت في كل شيء، والتي يمكن أن تهدّد كل ما هو حيّ. و يمكن إجمال ما حدث في التجربة الهندية : بتلويث البيئة بمنتجات معدلة وراثياً ، و بإفقار التنوع البيولوجي على نحو يهدد مستقبل البشرية كلها .... أما من الناحية الاقتصادية فقد بلغت خسائر الهند أكثر من 26 بليون دولار و أدى هذا إلى تزايد الفقر و الإملاق في الأرياف ، ففي عام واحد أقدم أكثر من 25 ألف فلاح على الانتحار للتخلص من الضغوط الوحشية وغير العادلة ، و من الأسعار والأسواق الظالمة. لم يكن مجرد عمل رمزي انتحار الفلاح الكوري "لي" في كانكون من اجل توضيح حقيقة أن " الـ WTO تقتل الفلاحين". أما في العراق المحتل فإن الأمور تتوقف عن أخذ شكلها الموارب ( و هذه فائدة هامة للاحتلال فالأمور تظهر واضحة وضوح الشمس ) . فضمن مائة قرار أصدرها بريمر مسؤول الاحتلال الأول قبل أن يغادر البلاد في حزيران 2004أصدر قانونا أطلق عليه القانون 81 "براءة الاختراع،التصميم الصناعي، سرية المعلومات، الدوائر المغلقة وأصناف النباتات" . لقد جاء هذا القرار ليعدل قانون براءة الاختراع الصادر في سنة 1970. وتنص الفقرة 15 ب: (( يُمنع الفلاحون من إعادة استخدام البذور الناتجة من زراعة الأصناف النباتية المحمية أو أي صنف مذكور.)) و خلاصة هذا القانون أن أي شخص يقوم بتطوير نوع نباتي فإن له الحق بملكية إختراعه. و بالتالي فإن أي تعديل جيني بسيط أو تهجين صنف نباتي يجريه شخص ما على صنف نباتي يصبح هذا الصنف ملكاً له . و بالتالي فإن مصير الفلاح الاسكتلندي الذي خرق قوانين الملكية الفكرية فحبسته حكومته سيبدو رحيما مقارنة بالفلاح العراقي الذي سيقتله الجيش الأمريكي إن فعل ذلك من أجل مصلحة الاحتكارات الكبرى ، التي باتت تسيطر بشكل شبه تام على سوق البذار العالمية . و لا أحد يضمن أن لا تمتد يد تلك الاحتكارات إلى المكونات الجينية للقمح و التمر العراقي ، مثلاً ، فتدعي ملكيتها أو أنها قامت بتطويرها. و قد حصلت قصص مشابهة فقد فوجأ الفلاحون الهنود أن أرز " بسمتي" الذي يزرعونه منذ مدة طويلة قد وضعت إحدى الشركات الأمريكية براءة اختراع عليه، كما تم تسريب بروتوبلازما بعض النباتات من مراكز الأبحاث إلى الشركات الاحتكارية كما حدث في عام 2001، حيث كُشف عن قيام علماء وراثة من الولايات المتحدة بالحصول على البذور الخاصة السلالة الأصلية للرز المشهور (ياسمين تايلاند)، (KDM 105 ) من المركز الفلبيني ل (CGIAR)- المعهد العالمي لأبحاث الرز (IRRI)(4) و بالتالي فإن الفلاح العراقي ، الذي يعتبر أقدم فلاح على وجه المعمورة ، سيعتبر مجرما يستوجب العقاب إذا قام بالاحتفاظ ببعض البذار من محصوله من أجل العام القادم . و حتى هذه الإمكانية قامت الشركات الاحتكارية بالقضاء عليها فطورت بذور لها إمكانية الانتحار الذاتي و بالتالي لا يمكن زرعها ثانية أو طورت أصناف عقيمة . إن هذا العبث المجرم بالطبيعة ليس له هدف سوى الربح و الاحتكار، و إضافة إلى جلبه الفقر و المهانة و الجوع لملايين المجتمعات الزراعية فهو يعرض الحياة البشرية برمتها للخطر لأن هذه المنتجات المنتحرة ذاتياً لا أحد يعرف تأثيرها على البشر ، و لا احد يضمن عدم اختلاطها بالأصناف الأخرى و ما هي النواتج التي ستنتج عنها .
كذبة التجارة الحرة تنشر الرأسمالية القائمة أوهاماً حول قدسية اقتصاد السوق و المنافسة الحرة بين المنتجين التي تؤدي لتطوير الإنتاج و تخفيض الأسعار و بالتالي يصب الأمر بمصلحة المستهلكين . لذلك صار اقتصاد السوق وصفة تضمن الدخول في جنة الحرية و الديمقراطية الغربية . فكلما كانت الأسواق مفتوحة كان البلد حراً و ديمقراطياً . و تصور الرأسمالية القائمة الأمر و كأن دول العالم تتجه نحو مزيد من انفتاح الأسواق . فتحض الدول الرأسمالية المسيطرة على النظام العالمي و على رأسها الولايات المتحدة . تحض دول العالم صباح مساء على فتح أسواقها و تطبيق قوانين السوق خاصة في المجال الزراعي عبر الكف عن تقديم المعونات للمزارعين عبر إمدادهم بالمحروقات و الأسمدة و البذار و شراء المحاصيل منهم . لكن الحقيقة أن هذه الدول تدعم مزارعيها و تمارس السلوك الذي تنهى الآخرين عنه فقد أظهر تقرير صادر حديثا من المعهد الدولي للسياسات الزراعية والتجارية، أن مستوى الإغراق في أربع سلع كبرى للولايات المتحدة، قد ازداد منذ 1995 عندما بدأت منظمة التجارة العالمية تنفيذ سلطتها، حتى رغم أن هدف المنظمة المعلن هو "تقليل الممارسات المشوهة فى التجارة". فبينما كانت التكلفة الكاملة للقمح في الولايات المتحدة عام 2001 هى 6.24 دولار للإردب، بينما أسعار التصدير هي 3.5 دولار للإردب. بالنسبة لفول الصويا، التكلفة الكاملة كانت 6.98 دولار للإردب، بينما أسعار التصدير هي 4.93 دولار للإردب. بالنسبة للذرة، التكلفة الكاملة كانت 3.47 دولارا للإردب، بينما أسعار التصدير هي 2.28 دولار للإردب، بإغراق قدره 57%. كان إنتاج الأرز يتكلف 18.66 دولار للإردب وكان الإردب يباع دوليا بـ 14.55 دولار. من 1995 حتى 2001 قفز الإغراق من 23% إلى 44% في حالة القمح، ومن 9% إلى 29% لفول الصويا، ومن 11% إلى 33% للذرة، ومن 17% إلى 57% في حالة القطن. بينما تدعي اتفاقية منظمة التجارة العالمية للتجارة في الزراعة أنها حققت تقليلا في الدعم المالي الذي تقدمه الدول الغنية لمزارعيها، زادت فاتورة المزارع البالغة 248.6 بليون دولار من الدعم المالي للمزارع بمبلغ 83 بليون دولار. هذه الزيادة الكبيرة تهدد سبل رزق فلاحي العالم الثالث. طبقا للبنك الدولي، فإن أسعار القطن الأمريكي المنخفضة بسبب الدعم الكبير كلفت البلدان الأفريقية 250 مليون دولار سنويا. إن حرية التجارة المزعومة طريق باتجاه واحد هدفه القضاء على ما تبقى من صناعة و زراعة بلدان العالم الثالث لتحويلها إلى بلدان متسولة للمساعدات .
المراجع : 1- معركة من أجل القطن الافريقي *توم امادو سيك وفرنسيس كرنTom AMADOU SECK et Francis KERN – لوموند 2- الخطة الامريكية في تخريب الزراعة العراقية- ترجمة دورية العراق-اريانا يونجونك تشا 3- بذر بذور الديكتاتورية-قانون البذور وقانون البراءات في الهند-فاندانا شيفا منشور في؛ 14 فبراير 2005. 4- تقرير مشترك صادر من قبل "فوكس أون ذ?لوبل ساوث أند رَين"http://www.grain.org/articles/?id=6- تشرين اول 2004- ترجمة: عزام محمد مكي-جامعة مانجستر- بريطانيا-الحوار المتمدن 5- نساء كيرالا في مواجهة شركة كوكاكولا- فاندانا شيفا – 6- الغزو مستمر نعو م تشومسكي – ترجمة مي النبهان – دار المدى 1996
#ثائر_دوري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حكاية الذئب الأمريكي الذي يجب أن يغير طبعه
-
قديم بملابس جديدة . جديد بملابس قديمة
-
العطب الأخلاقي للحضارة المعاصرة
-
صورة بالأشعة السينية للنظام العالمي القائم
-
معادلة حلبجة الجديدة
-
الحروب الإبادية كطريقة حياة في االعصور الحديثة
-
مضيق هرمز
-
شرارة واحدة كافية لتشعل السهل
-
عرض لكتاب - التنصير الأمريكي في بلاد الشام -1834 – 1914 -
-
الوجوه المتعددة للمثقف الكولونيالي في رواية (( موسم الهجرة إ
...
-
الفقراء فئران تجارب أغنياء الحضارة المعاصرة !!
-
في العالم المعاصر الصحة تعني المرض
-
جحيم بغداد اليومي
-
الإعلام بين السل و انفلونزا الطيور
-
صدام الهويات المصطنع
-
العالم يتمرد
-
لشو الحكي خلص الكلام
-
من مطبعة نابليون إلى انتخابات رايس
-
تقديس الداعين إلى نموذج الحضارة الغربي على طول الخط
-
بوش قصف لويزيانا بالقنابل
المزيد.....
-
بدولار واحد فقط.. قرية إيطالية تُغري الأمريكيين المستائين من
...
-
عوامل مغرية شجعت هؤلاء الأمريكيين على الانتقال إلى أوروبا بش
...
-
فُقد بالإمارات.. إسرائيل تعلن العثور على جثة المواطن الإسرائ
...
-
واتسآب يطلق خاصية تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص
-
بعد العثور على جثته.. إسرائيل تندد بمقتل إسرائيلي في الإمارا
...
-
إسرائيل تعلن العثور على جثة الحاخام المختفي في الإمارات
-
هكذا يحوّل الاحتلال القدس إلى بيئة طاردة للفلسطينيين
-
هآرتس: كاهانا مسيحهم ونتنياهو حماره
-
-مخدرات-.. تفاصيل جديدة بشأن مهاجم السفارة الإسرائيلية في ال
...
-
كيف تحوّلت تايوان إلى وجهة تستقطب عشاق تجارب المغامرات؟
المزيد.....
-
النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف
...
/ زهير الخويلدي
-
قضايا جيوستراتيجية
/ مرزوق الحلالي
-
ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال
...
/ حسين عجيب
-
الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر )
/ حسين عجيب
-
التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي
...
/ محمود الصباغ
-
هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل
/ حسين عجيب
-
الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر
/ أيمن زهري
-
المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع
/ عادل عبدالله
-
الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية
/ زهير الخويلدي
-
ما المقصود بفلسفة الذهن؟
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|